أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
الاختيار الذي كسر قلبي معربة عن الإنجليزية بقلم الأستاذ عبد الحميد حمدي تتمة ما نشر في العدد الماضي وفي الحق كان هذا الخطاب أول ما شعرت به من عوامل الارتياح منذ أشهر طوال.
فلقد أخبرته فيه بما يحيط مركزي من حرج يدعو إلى اليأس.
خبرته بمبلغ حبي ابنتي حباً يحول بيني وبين اللحاق به ولكنني اعترفت له بأنني كنت شديدة الحماقة في تصرفي الذي أدى بعد الواحد منا عن الاخر، وقلت إنني أود على الأقل أن أتعزى في شقائي بمعرفتي أحواله ولقد كنت أعلم على كل حال أنه قد انتظرني وأنه لم يستبدل بي أحدا.
وطلبت منه أن يبعث برده على خطابي إلى شباك البريد. قضيت أسبوعين في عذاب متواصل تنتابني على التوالي عوامل الخوف والشعور بالجريمة واليأس والأمل إذ كنت اذهب كل يوم إلى دار البريد لأسال سؤالي المألوف: (هل جاءتني خطابات)؟ وأتلقى الجواب المألوف أيضاً: (لا، يا سيدتي) وأخيراً جاء الرد، فكان أشبه بالمعجزة أن أقرأ العنوان وكلمات (تيد) مكتوبة بخطه الذي ألفته زماناً طويلا فكان من أعز الأشياء على نفسي.
وكأنما كانت تلك الكلمات صوتاً خارجاً من القبر وقد استهلها بقوله (عزيزة نفسي) وقد قال لي في ذلك الخطاب أن شيئاً واحداً كان ثابتا في حياته التي اكتنفها الاضطراب، وأنه كان متنقلا من مكان إلى مكان وكان خطابي يتبعه حيثما ذهب.
وأنه قد عاد الآن إلى لندن، وسيغادرها بعد قليل ليبحر مرة أخرى إلى الشرق الأقصى.
وقد رجاني أن أذهب إليه، وأن لا أكلف نفسي أكثر من حمل طفلتي معي. وتبادلنا المراسلات شهراً كاملا محاولين أن نصل إلى حل لمشكلتنا.
وقد خيل إلي أنني بعثوري عليه مرة أخرى أستطيع أن أتجمل حظي في الحياة.
ولكني لم ألبث أن أدركت أن هذا الوضع الذي أريد وضع الأمور فيه غير عادل ولا مقبول، فهناك في لندن يقيم الرج الذي أشتاق لقاءه وهو ينتظرني ويرجوني أن أذهب أليه.
فلم أضيع الحياة الوحيدة الصالحة لي احتفاظاً بعقد زواج مجرد من الحب؟ ومع ذلك لم أكن لأستطيع التفكير في هجر ابنتي (سو) وكنت أعلم أنني إذا حاولت أخذها من (روني) فإنه يقدم على كل مستحيل للحيلولة دون ذلك. وهناك إلى جانب ذلك شعوري الشخصي بروح العدل والأنصاف لا يسمح لي بأن آخذ الشيء الوحيد الذي يعيش من أجله في هذا العالم وما كانت القسوة لتبلغ بي إلى حد أن آخذ (تيد) ولا أترك (لروني) شيئاً.
كذلك لم أكن لأسمح لنفسي بأن أعرض (سو) للحياة في مركز حربي ببلاد نائية حتى لو استطعت أن أخرج بها من هذه البلاد. احتفظت بخطابات (تيد) وكنت أكرر قراءتها المرة بعد الأخرى باحثة عن حل لهذا الأشكال، وكنت في كل يوم أعتزم أن أحرق هذه الخطابات، ولكنها كانت جميلة جداً وكان حرقها في نظري أشبه بالتخلص من الحب الذي كنت متعطشة إليه، بعد أن أصبح بين يدي.
فكان احتفاظي بهذه الخطابات هو الغلطة الكبيرة الثالثة التي ارتكبتها.
فقد كنت أدرك جيداً الخطر من وجودها عندي، وكنت في خوف دائم من أن يعثر (روني) عليها ولو أنها كانت محفوظة في صندوقي المقفل. وفي يوم من الأيام انحنيت فوق الصندوق أبحث عن شيء من القصاصات لأجعل منها ملابس لعرائس (سو) وكانت (سو) إلى جانبي فمالت إلى نصفها داخل الصندوق وقالت بلهجة الطفولة العذبة (ورق). ولم تسترع هذه الكلمة نظري بادئ الامر، ولكن بعد بضع دقائق كانت (سو) جالسة على الأرض تعبث ببعض الأوراق عندما دخل روني الغرفة. فأغلقت الصندوق مسرعة وقد دق قلبي دقاته العنيفة وهو يقول: - لقد عدت لأخبرك أنني لن أحضر الغداء اليوم هنا. ثم حمل (سو) بين يديه وقبلها، وهو يقول: - كيف حال ابنتي الصغيرة.
.
أترسمين؟ ألا فدعي أباك يرى ما عملت) وعلى حين فجأة وفي ثورة جنونية عرفت ما كان في يدها، فصحت في حماقة بالغة: - لا.
.
أريد أن أقول.
.
إنها لا شئ.
.
هاتها لي) فنظر روني إلي نظرة غريبة.
.
ثم أنزل (سو) إلى الأرض فاستمرت ترقص وهي متعلقة بساقيه، ونظر إلى الخطاب الذي أخذه من ابنته، فحاولت أن أختطفه من يده ولكنه أمسك بيدي ورفع يدي على رأسي، وكان لون وجهينا قد استحال إلى صفرة الموت وثقل تنفسنا، وقال في إيجاز: - لقد اشتبهت في شيء من هذا القبيل منذ عهد بعيد ثم ترك يدي وبدأ يقرأ الخطاب، فانحنيت على الصندوق وخبأت وجهي بكفي واندفعت في بكاء عنيف، علماً بأن ما وجدت كان الخاتمة والبداية.
فقد كان علمه بما بيني وبين (تيد) عذاباً لي وراحة في وقت واحد.
فمعناه مواجهة الحقيقة ثم الاستقرار على أمر ثم قال وقد تجهم وجهه وتقلصت شفتاه واشتعلت عيناه بنار الجرح الذي أصابه: - حسناً، ولعل الخير في أن تذهبي، ألا ترين ذلك؟ فضممت (سو) بين ساعدي وضغطت جسمها الصغير الدافئ إلى صدرى، وقلت في لهجة منقطعة بالتنهد: - لا أستطيع أن أتركها وأبتعد عنها. فعانقتني الطفلة وهي تقول بلهجة الطفولة المرحة: - لا تبكى يا أمي.
.
لا تبكي.
.
وانظري (سو) فهي تحبك لا تبكي.
فانتزع روني الطفلة مني وقال بلهجة مخيفة: - لابد من أن تفارقيها، فإنك لن تأخذيها معك ولن تبقي هنا معها.

إذهبي إليه إن كنت تعنين به فوق ما تعنين بأهلك! إنك تحبينه، فلن تبقي هنا تخادعينني فقلت متوسلة: - أرجوكيا روني.

أرجوك أن تفهم! - فأجاب في ثبات: - أني فاهم.

لقد كنت تحبينه دائماً.

ولم تحبيني قط! فاذهبي إليه.

ولكنك لن تأخذي (سو) أبداً. فقلت باكية: إن لي فيها النصف.
فقال: - إنها لن تعرف لها أباً غيري.

وسأقف معك أمام أية محكمة في البلاد يا (بام) وسأبرهن على أنك أم غير صالحة لكفالة ابنتك.
وسأعمل الآن على كل شيء لإبعادها عنك. فتدلت شفة (سو) واضطربت وانحدرت الدموع على وجنتيها الصغيرتين.
فامسك روني بها ولكنها مدت إلي يديها الصغيرتين وهي تبكي وتقول: - لا تبكي يا أمي.

أرجوك لا تبكي.
وإني لأستيقظ في بعض الليالي فأتخيلها أمامي وأسمع كلماتها الأخيرة لي: (لا تبكي يا أمي!) ولعل هذا هو السبب الذي لا يعينني على البكاء. حمل (روني) ابنته إلى الغرفة الثانية، وسمعته يكلمها في رقة وهو يلفها في معطفها المصنوع من الصوف الأحمر ويلبسها قبعتها الجميلة ويداعبها ويسألها هل تحبه وتحب الخروج معه. ثم سمعتها تتحدث فرحة مبتهجة.

والحق أنهما سيعيشان عيشة سعيدة، فلقد كان أباً صالحاً جداً وكانت الطفلة تحبه حباً مفرطا.

فهما يستطيعان أن يعيشا من غيري. ووضع (روني) (سو) في الردهة ثم عاد فوقف بباب غرفتي وقال: - سأعطيك ورقة طلاقك ولكني سآخذ (سو) معي اليوم.
فاسحبي من البنك أي مبلغ من المال شئت، وخذي أي شيء أخر تريدينه. أي شيء آخر أريده؟ وأي شيء يمكن أن أريده غير ابنتي؟ فشعرت بأن قلبي قد جمد في صدري وقلت باكية: - ألا تريد حتى أن أبقى هنا! ولقد كنت حتى تلك اللحظة مستعدة للبقاء معه إذا هو قبل ذلك.
فهز رأسه وقال: لم يعد ذلك الآن بممكن، فمن الخير (لسو) أن تعيش بعيدة عن أم لا تستطيع حتى أن تخلص لزوجها. وسمعت صوت خطاهما يجتازان الردهة، ثم سمعت صوت إغلاق الباب وصوت تحرك السيارة، ثم وثبت إلى النافذة كمن أصيب بفاجعة مفاجئة وأزاحت الستار، فرأيت وجه ابنتي الصغير ملتصقاً بالزجاج الخلفي وقد تفرطح أنفها وهي ترسل لي بيدها قبلة في الهواء قبل أن تبتعدا عن نظري. فاستولى الخبل على نفسي وأسرعت إلى آلة التليفون وطلبت لندن ثم بدأت أعد حقائبي، وكان كل ما أخذته مما يتصل بابنتي التي لا أحب شيئاً في الوجود حبي لها حذاء من أحذيتها الصغير وصورتها الفوتوغرافية.

وترك صورتي الفوتوغرافية وقائمة مشوشة مما يلزمها من طعام، وحمام، ودواء إذا أصابها برد. وكتبت في أخر القائمة بخط مضطرب: (وغطها في الليل) وكان من عادة الطفلة أن تتقلب ليلا فيجئ رأسها مكان رجليها وتنفض الغطاء عن جسمها، وكان نوم (روني) عميقاً، فليساعده الله في أن يعمل لها كل ما كنت أعمله أنا. ودق جرس التليفون دقاً شديداً وأخيراً سمعت صوت (تيد) المحبوب الذي كدت أنساه، فلما سمع بأنني قد أصبحت آخر الأمر له ابتهج وصاح. - لا تشحني شيئاً في القطار، إنك ستركبين الطائرة يا حبيبتي؟ وسأرسل لك المال بالتلغراف.

آه.

يا بام.

سأعد الدقائق عداً!. فلأسرع.

نعم فلأسرع.
.
لمغادرة البيت ولأنهب الطرقات في إحدى سيارات الأجرة.

ولأمض لا أتلفت ورائي إلى لعب ابنتي المبعثرة في أرض الغرفة.
ولأنظر إلى الأمام.
.
إلى تيد!.
.
تيد: الذي يستطيع حبه أن يعيدني (الفتاة) التي كنت من قبل.
.
جميلة محبوبة! آه.
.
يا تيد.
.
تيد.
.
إنك ستنسيني كل هذه السنوات.

ستنسينيها نسياناً تاماً فلا يصحبني شيئ منها!. ولقد حاول (تيد) فعلا أن ينسيني أيام المتاعب.
ومن حسن الحظ أننا أبحرنا في الحال، فالبحر، والبلاد الجديدة وليالي شهر العسل في المناطق الاستوائية كل ذلك كان حلماً ساحراً.
وشفاهه العاطشة وساعداه القويتان الضاغطان، واجتمعنا معاً ناسين العالم كله، وهو يريني هذه الأراضي الجديدة التي يقيم فيها.
.
هذه هي السعادة، هذه هي الجنة.
. ولكن الطلاق من (روني) والزواج في اطمئنان من الرجل الذي أحببته.

لم يكن كله ليمحو عن رأسي ذكرى هاتين السنتين التين عشتهما أما لطفلة صغيرة.

لا أدري أين هي الآنومع من هي، وماذا هي فاعلة؟ وهل لا تزال تصلي الصلاة التي علمتها؟ وهل أوصيت في القائمة التي تركتها بأن تستحم مرتين في اليوم؟ ومن الذي يتولى أمر استحمامها بينما يكون (روني) في عمله بعيداً عن البيت؟ أهي خادمة؟ إن قلبي ليرتجف رعباً عندما أتصور إحدى الخادمات تزجر ابنتي في خشونة وعنف.
والآن تكاد (سو) تبلغ السنة الثالثة من عمرها.

أو هي تقرب من السنة الرابعة.

ومن الذي يغطيها في الليل؟ وغالبا ما أستيقظ في الليل على حين فجأة وقد خيل إلي أنني سمعت تنفسها المرتجف الذي يدلني على أنها تشعر بقسوة البرد. وما زلت أتوهم مثل هذه الأوهام، وإن كانت ابنتي أشرفت الآن على السنة السادسة من عمرها.

فهي على أهبة الذهاب إلى المدرسة.
.
على أن (تيد) الذي كان يشعر باضطراب نفسي، لم يكن ليبتعد عني كثيراً فهو دائماً إلى جانبي يحاول أن يواسيني ويهدئ من روعي.
.
وعلى الرغم من أنني، من أجله أحاول أن أنسى، فإنني لا أستطيع النسيان ولا تزال سعادتنا يضللها شبح آلامي وعذاب نفسي. ليس في الوجود شيء كامل.
وليس فيها شيء كافي لإقناع النفس.
فكما كنت من قبل أشتاق إلى (تيد) أنا الآن أشتاق إلى (سو)، وكما كان رأسي يداعبه الأمل في أن أجتمع (بتيد) ها هو ذا رأسي يداعبه الأمل في أن أجتمع يوما بابنتي.

وحيثما ذهبنا، وبخاصة الآن بعد أن عدنا إلى إنجلترا، تصفحت وجوه الأطفال، أبحث عن طفلة براقة العينين، راقصة الساقين، يداعب الهواء حلقات شعرها الجميل.
وقد تكون في مكان يبعد أميالا عديدة عن مقامي، وقد تكون على مقربة مني تمر بي في الطريق. لقد كتبت علي أن لا أعرف شيئاً من أمرها، ولعلي لن أعرف منه شيئاً أبداً.

وكل ما أستطع أن أفعله هو أن أصلي من أجلها وأن أدعو الله (أن يحفظها.

وأن يغطيها في الليل) عبد الحميد حمدي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١