أرشيف المقالات

(1) مفهوم القناعة - القناعة مفهومها منافعها الطريق إليها - إبراهيم بن محمد الحقيل

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.


أما بعد: فيزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رزقوا إذا قلت فيهم القناعة.
وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم، ولا مساكن تكنّهُم؛ إذ يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم، ولا تبصر من هم تحتهم؛ فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد، فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبدًا.

ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبدًا؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال؛ ذلك أن أي إنسان إن كَمُلت له أشياء قصُرَت عنه أشياء، وإن علا بأمور سَفُلَت به أمور، ويأبى الله- تعالى- الكمال المطلق لأحد من خلقه كائنا من كان؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم العظيمة، والمنح الجليلة التي يغبط عليها صاحبها.
ولأهمية هذا الموضوع- ولا سيما مع تكالب كثير من الناس على المادّيات، وانغماسهم في كثير من الشهوات- أحببت أن أذكر نفسي وإخواني؛ والذكرى تنفع المؤمنين.
 
مفهوم القناعة:
توجد علاقة متينة بين القناعة وبين الزهد والرضى، ولذلك عرف بعض أهل اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي .
قال ابن فارس: "قَنع قناعةً: إذا رضي وسميت قناعة؛ لأنه يقبل على الشيء الذي له راضيًا .
وأما الزهد فهو: ضد الرغبة والحرص على الدنيا ، والزهادة في الأشياء ضد الرغبة وذكر ابن فارس أن مادة (زهد) أصل يدل على قلة الشيء، قال: والزهيد: الشيء القليل.
عرف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الزهد بقوله: "ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة ، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله- عزَّ وجلَّ-.
ونحا فريق من أهل الاصطلاح إلى تقسيم القناعة، وجعل أعلى مراتبها الزهد كما هو صنيع الماوردي؛ حيث قال: "والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن يقتنع بالبلغة من دنياه ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه؛ وهذا أعلى منازل أهل القناع.
ثم ذكر قول مالك ابن دينار: "أزهدُ الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بلْغته".

الوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة.
وهذا أوسط حال المقتنع، وذكر فيه قول بعضهم: "من رضي بالمقدور قنع بالميسور".

الوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سنح، فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيرًا، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيرا.
وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة، فأما الرغبة: فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت، وأما الرهبة، فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت" أهـ.

وبناء على تقسيم الماوردي فإن المنزلة الأولى هي أعلى منازل القناعة وهي الزهد أيضا، والمنزلة الثالثة هي التي عليها أكثر الذي عرفوا القناعة وهي مقصود رسالتنا تلك.
وعلى هذا المعنى فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن يضرب المسلم في الأرض يطلب رزقه، ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومرغوب.
وإنما الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم العامل من مهنته، وأن ينافق المسؤول من أجل منصبه، وأن يتنازل الداعية عق دعوته أو يميِّع مبدأه رغبة في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يذلّ المرء نفسه لغير الله- تعالى- لحصول مرغوب.

وليس القانع ذلك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رُتَب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى.

وفي المقابل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين؛ ولكن القناعة تأبى أن تَلجَ هذه الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه؛ حتى يمنع حق الله فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرط في الفرائض! من أجلها، ويرتكب المحرمات من ربًا ورشوة وكسب خبيث حفاظا عليها أو تنمية لها.
وكم من صاحب مال وفير، وخير عظيم، رُزق القناعة! فلا غشّ في تجارته، ولا منع أجَراءه حقوقهم، ولا أذل نفسه من أجل مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق الله فيه فرضًا وندبًا، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتناب للمحرمات.
إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.
وكم من مستور يجد كفافًا؛ ملأ الطمع قلبه حتى لم يرضه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا بملك درهمًا ولا فلسًا.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١