شريعة الكمال والخلود
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
تمهيد:
فكرت اللجنة القانونية والثقافية بالجامعة العربية في عدة مشروعات ثقافية وقانونية، يعود نفعها الجم وخيرها العظيم على الأمم العربية والإسلامية، بل إن هذا الخير يتجاوز هذه الأمم إلى سائر أمم العالم، ومنها أمم أوربة التي ضربت بسهم وافر في العلوم الإنسانية والمدنية والثقافية القانونية.
وكان من خير تلك المشروعات وأسدها وأعظمها نفعا وأبعدها أثراً ما أشارت به من إنشاء معهد للفقه الإسلامي يكون تابعا للجامعة العربية به إحياء تالد مجده، وبعث الدفين من كنوزه الثمينة وجواهره النفيسة، وفيه ينشأ الباحثون وتغرس فيهم ملكة الفقه والتشريع، والبحث والتحليل، فيخرجون علماء نافعين، وفقهاء باحثين، يجمعون وينظمون ويحسنون العرض والتبويب، ثم لا يلبثون أن يكونوا رجال ترجيح واجتهاد، وبذلك يحيون عهد سلافهم الأولين وأئمتهم المجتهدين.
فكرة - لعمر الحق - ما أجل خطرها، وما أعظم أثرها، ثلجت لها نفوس المؤمنين، وبهجت بها أفئدة المصلحين - قوى الله رجال الجامعة وأمدهم بروح منه، حتى يحققوا هذه الأمنية، فتنتصر الشريعة الإسلامية، وتتبوأ مكانها الرفيع بين شرائع الأمم الأخرى.
وإنهم بذلك العمل الجليل لجديرون.
وقد رأيت - بهذه المناسبة - أن أبين - فيما يأتي - كمال هذه الشريعة وخلودها، وأن أدفع ما وجه إليها من شبهات:
وفاء الشريعة الإسلامية بحاجات الأمم في كل عصر:
الشريعة الإسلامية أعدل الشرائع وأحكمها وأقواها أركانا وأرسخها دعائم، وأبقاها على تناسخ القرون والأحقاب، فهي باقية ما بقيت الحياة الدنيا، لا مبدل لها من دون الله ولا ناسخ، وهي يسر ورحمة، وحكمة ونعمة.
أساسها رعاية المصالح ودرء المفاسد، وغايتها إسعاد البشر في معاشهم ومعادهم. ولا غرو فهي قبس من نور هداية الله، ومشتقة من سنا وحيه، ووذيلة مجلوة انعكست فيها سمات الرسالة وإرشاد النبوة، ثم هي إلى ذلك مضمار لتصاول قرائح المجتهدين من العلماء، وميدان لذوي الأفكار الحرة المخلصة لله وللحق، استهدوا بهديه، وسعوا وفي يدهم مصباح هدايته، فعرفوا من كتاب الله وسنة رسوله وجوه المصالح العامة والحكم التشريعية السامية، وقواعد التشريع وأصوله العادلة، وبها حكموا على الحادثات الجزئية والمسائل الفرعية، فاستقام لهم من ذلك كله تشريع قيم، واستوى منه قانون سماوي، سداه جلب المصالح، ولحمته درء المفاسد - انتظم جميع ما يحتاج إليه الأفراد والأمم من عبادات ومعاملات، وأحكام مدنية وتجارية، وشئون جنائية، وأحكام سياسية واجتماعية: فقد نظم علاقة العبد بربه، وحدد علاقة الفرد بأسرته ومجتمعه، وبين علاقة المجتمع بالفرد، ووضع أساس النظم والعلاقات بين الأمم بعضها وبعض. ورائده في ذلك كله تحقيق العدل والمساواة بين الناس كافة، لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين ملك وسوقة، ولا بين ضعيف وقوي، لا مقصد له إلا إقرار الحق والمعدلة - ألا ترى إلى قوله جل شأنه: (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). وورد في النهاية في غريب الحديث: (لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها) أي لا طهرت.
ويقول صلوات الله وسلامه عليه: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). وفسر الميزان بالعدل في قوله تعالى: (الله أنزل الكتاب بالحق والميزان)، وفي قوله: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). هذا هو دستور التشريع الإسلامي.
العل مبدؤه وغايته، والحق قوامه وشرعته - سن ذلك سيد الخليقة ومصلح البشر خاتم الأنبياء والمرسلين، ثم سار على سنته خلفاؤه الراشدون، فقد جاء في كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبى موسى الأشعري: وآسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك). فليت شعري - إذا كانت شريعة الإسلام قد بلغت المدى في الحرص على العدالة والمساواة، ووصلت الغاية في الاستمساك بالحق والاعتصام بحبله المتين، ولها من الأصول الراقية والقواعد السليمة والمبادئ السامية ما يعتمد عليه في وضع الأحكام عند عدم النص - ما الذي حدا الولاة على تنكب أحكامها، والحكم أن يبحثوا عن قانون غير قانونها حتى تجرءوا في عصور مختلفة، وفي عصرنا هذا على مخالفة الشرع؟! زعموا أن لهم في ذلك حجتين - نقول ذلك فرضا وتوسعا وإلا فهما في الحقيقة وهمان أو شبهتان داحضتان: حجتهم أو شبهتهم الأولى: توهموا أن الشريعة ناقصة لا تقوم بمصالح الناس ولا بسياسة الأمم وحاجاتها، ولا تساير تطور الزمان، ولا تفي بمختلف الأحوال وما جد من ضروب المعاملات - فطوعت لهم أنفسهم تعدى حدود الله ومخالفته في كثير من أحكامه وأوامره، وهو خطأ عظيم وضلال مبين، فإن الله تعالى أوجب على الحكام القيام بالقسط في كل شيء مع التزام ما بينه من كليات الشريعة وأصولها ومبادئها - فحكمه كما يقول ابن القيم دائر مع الحق، والحق دائر مع حكمه أين كان، وبأي دليل صحيح كان، فأي تشريع يقر العدل ويجري مع الحق هو من الشريعة غير خارج عن نطاقها. على أن سعة أصول الشريعة الإسلامية وتعددها، وسمو قواعدها، ورجوع علمائها إلى الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب وسد الذرائع عند الاجتهاد واستنباط الأحكام، ثم بحوث المجتهدين في الفقه الإسلامي وتوسعهم في البحث، وما أمرنا به من الاجتهاد عند عدم النص، ومن ترك التقليد - كل أولئك يهدم هذه الشبهة من أساسها، فلا يكون هناك نقص في الشريعة، وإنما النقص في أداء هذا الواجب. وإن في الشريعة الإسلامية من بحوث المجتهدين السالفين في المسائل المدنية والجنائية والمعاملات ما يدحض هذه الشبهة. فمن ذلك أنهم أجازوا الحبس في التهم والضرب فيها - غير أنهم قسموا المدعي عليه في دعوى الجناية والأفعال المحرمة كدعوى القتل وقطع الطريق والسرقة ثلاثة أقسام: فإن المتهم إما أن يكون بريئا ليس من أهل تلك التهمة، أو فاجرا من أهلها، أو مجهول الحال. فإن كان بريئا لقرائن شاهدة لم تجز عقوبته اتفاقاً.
وإن كان مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور - فهذا يحبس حتى تنكشف حاله عند عامة علماء الإسلام. وإن كان معروفا بالفجور فحبسه أولى من حبس المجهول، ويسوغ ضرب هذا النوع من المتهمين عند كثير من العلماء، وقيل لا يضرب المتهم. أضف إلى ذلك ما حفلت به كتب الفقه من تعدد آراء الفقهاء واختلافهم في المسائل الاجتهادية حتى في العبادات، مما يدل على خصب الشريعة الإسلامية وتقبلها لاختلاف الرأي فيما يصح فيه الاجتهاد. فهل الشريعة الحرة التي فيها رغب وسعة، والتي تجود بمثل هذه الآراء، ويترعرع في أحضانها وفي ظل مبادئها وقواعدها وأصولها أئمة الاجتهاد وأعلام الفقه والتشريع - ترمي بالنقص، وهي تصلح أن تكون مرجعا للحكام يأخذون منها ما يناسب الأحوال في كل عصر ومكان!! ومما يدحض أيضاً شبهة نقص الشريعة اتساع باب التعزيز والعقوبات فيها: فإن المعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه حد ولا كفارة فيه كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف، ونوع فيه كفارة ولا حد فيه كالقربان في الإحرام وفي نهار رمضان؛ ونوع لا كفارة فيه ولا حد كالنظر إلى الأجنبية واليمين الغموس عند الإمامين أبي حنيفة وأحمد. فالنوع الأول لا تعزيز فيه لوجوب الحد، وفي الثاني قولان للفقهاء - أما الثالث ففيه التعزيز وجوبا عند الأكثرين، وجوازاً عند الشافعي. والتعزيز يختلف باختلاف الجرائم، وبحسب حال المذنب نفسه، ولذلك قد يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس أو بالضرب أو بالنفي عن الوطن، وقد يكون بالقتل.
وللفقهاء أقوال أربعة في صفة التعزيز وقدره، وقد بسطنا القول في ذلك في العدد 648 من الرسالة.
ومن هذه الأقوال أن التعزيز موكول إلى اجتهاد ولي الأمر يقدره وفق المصلحة وعلى حسب الجريمة. وبعد فماذا ترى فيما سقته لك من النصوص والمذاهب والآراء الفقهية في العقوبات التي تدخل في باب التعزيز، وفي غير العقوبات من الأحكام الاجتهادية الأخرى؟ ولا ريب أن كل منصف يحكم بكمال الشريعة وسعتها، وأنه لا عذر لمن يترك شريعة الإسلام إلى غيرها من القوانين. وبطلت بذلك دعوى الجاهلين أو الخراصين وهي أن الشريعة لا تستطيع أن تمد الحاكمين في العصر الحاضر - وبخاصة في القانون الجنائي - بالأحكام الصالحة، فإن للمشرعين المحدثين مجالا أي مجال في الرجوع إلى آراء أئمة الإسلام واختيار الصالح لنا منها، أو في استنباط أحكام جديدة فيما يدخل في باب التعزيز على أن نحافظ على أصول شريعتنا ونراعي مقاصدها وننزل على المحكم من نصوصها ن وبذلك تستطيع الأقطار الإسلامية أن تضع قانونها الجنائي أو أي قانون آخر على أساس من الشرع قويم. (للبحث بقية) حسن أحمد الخطيب