وا إسلاماه!
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
للأستاذ علي احمد باكثير
بقلم الأستاذ لبيب السعيد
بعد أن ردت مصر الصليبيين في المنصورة المجيدة لم ينالوا من الإسلام خيراً، خرجت إلى (عين جالوت) ترد التتارهم الآخرين؛ ووقف سلطان مصر المظفر قطز على رأس جيشه يثخن بيده في أعدائه الطغاة، بيد أن هؤلاء مكروا مكراً كاد يرديه لولا أن برز فارس مسلم ملثم رد عليهم مكرهم وتلقى المكروه من دون السلطان ثم هتف وهو يعاني الموت: (صن نفسك يا سلطان المسلمين، ها قد سبقتك إلى الجنة).
لم يكن هذا الفارس سوى جلنار: زوجة السلطان وحبيبته. وقد جعل السلطان يقبلها ويقول لها في ذهول وجزع: (وا زوجاه! وا حبيبتاه!) فنادته وهي تجود بروحها: (لا تقل وا حبيبتاه قل: وا إسلاماه!). وانطلق السلطان إلى المعمعة يصرخ: (وا إسلاماه!).
ورجاله معه يرددونها ويلقون في قلوب الذين كفروا الرعب، ولا يزالون يجاهدونهم ويغلظون عليهم حتى يجيئهم النصر ويشفي الله صدور المؤمنين. تلك هي القولة التاريخية التي اتخذها صديقنا الأستاذ علي باكثير عنواناً لروايته الجميلة. كانت جلنار وقطز رقيقين في جملة الرقيق أيام آل أيوب، ولكن لهنا قصة حافلة بالعبر، فهما سلالة بيت بعيد النسب في المجد، فأما هي فأبنت السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، وأما هو فابن عمتها.
وقد نزلت افجع الأحداث بآلها فبادوا جميعاً في ظروف تموج الهول، وسلم هذان من الموت ليباعا في الأسواق وليذوقا ضروباً من الهوان.
وفرق الدهر المشت بينهما أمداً ثم جمعتهما الأقدار أخيراً ليكونا سلطاني المسلمين وليكتبا في تاريخ الإسلام صفحة جد نضيرة. تجلو الرواية أياما مجيدة لسلف المسلمين.
وفصولها جميعاً تنطوي على رسالات سامية، فهنا معرض خلق وبطولة باهرين، وهناك حديث وطنية وتضحية مثاليتين، وهنا دعوة قوية إلى الاستمساك بالحق والحماسة له، وثم حوافز للمجد وزراية على الضعف والضعفاء.
ولكنك على كثرة ما تواجهك هذه المعاني لا تحس أن الكاتب تكلفها، بل تدرك أنها - مع علو نمطها - ليست الشيء الذي وضعت له الرواية وتلك لا ريب من خصائص القصة الفنية الناجحة. ولقد عرض المؤلف أشخاصاً يتعذر على القارئ نسيانهم لوفرة ما لذوا شعوره وناجوا ضميره.
فكيف ينسى مثلاً (ممدود) أبو قطز وصهر جلال الدين ووليه الحميم ومستشاره الحصيف الأمين؟ وكيف ينسى (سلامة الهندي) الخادم الوفي الذي حمل الطفلين: قطزا وجلنارا - وكان اسماهما في طفولتهما محمودا وجهادا - إلى الهند يوم أغرق نساء بيت (خوارزم شاه) في اليم تفادياً من ذل الإسار، والذي قاسى ما قاسى ابتغاء الوفاء، والذي مات هماً بالغلامين إذ بيعا في أسواق النخاسة وجزعاً عليهما من تفرق الشمل؟ وكيف ينسى (غانم المقدسي) السري الصالح وزوجته البارة؟ و (الحاج علي الفراش) الخادم الخير الذي لا تمنعه ضآلة منزلته من إسداء الجميل؟ و (ابن الزعيم) المحسن البار والوطني المسلم المجاهد؟ فأما (الشيخ عز الدين بن عبد السلام) العالم الذي لا يشتري بدينه ثمناً قليلاً، والسياسي الخالص العقيدة، والمجاهد الصادق البأس، والزعيم الذي يجد الناس في زعامته أنواراً وآمالاً، فما ألطف وما أجل وما أنفع ما جرى به عنه قلم المؤلف في روايته.
إن القارئ كلما حكى المؤلف عن عز الدين شيئاً لتحويه موجات روحية، وإن نفسه لتسمو وتسمو. وفي الرواية صفحات أخرى كثيرة كأنها لعذوبتها فيوض من الشعر كتبها المؤلف بأسلوب مسيطر ينتزع للرواية منزلة طيبة بين الآثار الأدبية. فطفولة (جهاد) الحلوة ومعابثة أبيها إياها وطموح (محمود) وبطولته وغرامه بتدمير التتار وهو بعد في طفولته يجتاز الحياة على جسور من الأوهام والأحلام، والحب الأكيد بين الطفلين، ومناجاة جلال الدين لأبيه حين أخطأ جلال وقسا على بلد إسلامي.
.
هذه كلها فيها جمال مؤثر ورقة تلفت القلوب، وفيها دقة وحذق تساوقان علم النفس مساوقة ملحوظة. والحب الذي كان بين قطز وجلنار، الحب العظيم الذي كأن السماء كانت ترعاه، والذي نعما به وشقيا، هو في كل مراحله من أمتع ما في الرواية وأكثره استهواء للب وهزاً للعواطف. حدث المؤلف عن الحبيبين في فترة من أيامهما قال: (وحليت الدنيا في عينيهما فصارت رياضاً وأنهاراً ووروداً وأزهاراً وطيوفاً من ضياء الشفق البهيج، وروحات من نسيم الفجر العليل يتقلبان في أيام كلها أصيل وليالي كلها سحر. ومن مثل هذا النسق العالي كانت كتابة (باكثير) عن ذلك الحب الفائق، ومن مثله كان وصفه للطبيعة في بعض جنبات روايته. بقي أن نعتب على مؤلفنا الموهوب ما حشد به روايته من أسماء كثيرة لأناس في العهد الأيوبي لم تكن الرواية - في رأينا - بحاجة إلى ذكرهم. ونحن نستميح صديقنا المؤلف في أن نسأله: ما هذه الحيدة عن الطابع الأدبي الخالص في بعض أنحاء الرواية حين يسوق أحداث التاريخ غير مدبجة بيراع الأديب فلا هي خفيفة ولا هي محبوبة بل هي مجهدة للقارئ مزعجة إياه.
لقد قال مثلاً في أحد المواضع: (فلما كان يوم السبت لست بيقين من ذي العقدة سنة 657 حصل كيت وكيت) فانظر كيف يثقل هذا على من يقرأ قصة أدبية محضاً.
إن اللمحات بله العبارات الأدبية - وخاصة إذا كانت من أديب تمرّس بالقصة وتوفر عليها مثل مؤلفنا البارع - كانت كفيلة جداً بأن تشق لنا مسالك التاريخ في الحدود التي تناسب روايته بوصفها أثراً أدبياً لا كتاباً تاريخياً.
إن القصة الفنية كاللوحة - كم هو معلوم - والرسام يرسم الصورة للشيء القديم فيجعلنا بفنه ندرك تاريخ هذا الشيء، دون أن يضع عليه اسم يوم أو شهر أو سنة.
ألا وإن الفطرة الفنية الذواقة على نقيض العقلية العلمية لا تحفل كثيراً بالتواريخ ولا تعني بالأسماء إلا بقدر.
وأظن إن الأستاذ المؤلف إذا عني بتقديم روايته لمسابقة وزارة المعارف في الموعد الذي ضرب للمتسابقين أعجل عن بث مواهبه الفنية في تلك الأجزاء.
ولو فعل لكانت روايته يقيناً من أرفع الآثار الفنية لدينا. وبعد فلا بد أن نقرر أن المؤلف كان في جل روايته نافذ القوة، وأنه - فيما خلا المواضع المشحونة بالتاريخ لغير داع فني - بلغ فيما عرضه أقص ما يبلغه مؤلف في نفس قارئه من الانفعال والأثر القوي. لبيب السعيد