أرشيف المقالات

وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
الحمد لله العلي الأعلى، الذي قدّر فهدى، وخلق الذكر والأنثى، وابتلى بالفقر والغنى، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وصلى الله وسلم على خير من وطئ الثرى، وأمر ونهى، محمد وعلى آله وصحبه أولي التقى والنهى، وعلى السالكين دربهم إلى يوم الرجوع والعرض على رب الأرض والسماء.
أما بعد:


فاتقوا الله عباد الله حق التقوى ، وراقبوه في الخلوة والجلوة، وادعوه في السراء والضراء، ثم اعلموا رحمكم الله أنَّ الدنيا لا تخلو من رزية، ولا تسلم من بلية، فهي دار العناء والتعب، ودار المحن والابتلاء، وذلك سنُّة من سنن الله الكونية، أعني الابتلاء ، وفي ذلك يقول المولى جل وعلا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، وقال تعالى: {آلم .
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ .
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
[العنكبوت1-3].
 
فهاتان الآيتان من سورة العنكبوت التي يسميها بعض العلماء بسورة الابتلاء والامتحان؛ فقد ذكر الله فيها ابتلاء نوح بقومه، وابتلاء إبراهيم بقومه وما ردوا عليه، وابتلاء لوط بقومه، وابتلاءهم به، وابتلاء شعيب بقومه، وابتلاءهم به، ثم ذكر ما ابُتلي به عاد وثمود، وفرعون وهامان وجنودهم من الإيمان بموسى؛ فإن لله أرسله ابتلاء لهم؛ لينظر هل يؤمنون به أم لا؟ ثم ذكر ابتلاء رسوله صلى الله عليه وسلم بأنواع من المشركين والكفّار وأهل الكتاب، ثم أمر عباده المُبتلين بأعدائه أن يهاجروا من أرضهم إلى أرضه الواسعة، فيعبدوه فيها، ثم أمر عباده المبتلين بأعدائه أن يهاجروا من أرضهم إلى أرضه الواسعة فيعبدوه فيها، ثم نبههم بالنقلة الكبرى من دار الدنيا إلى دار الآخرة على نقلتهم الصغرى من أرض إلى أرض [1].
 
والابتلاء -يا عباد الله- قد يكون سببه اليهود والنصارى، أو غيرهم، وهذا لا غرابة فيه ولا عجب، ولكن الأغرب والأعجب أن يكون المتسبب في هذه البلايا والمحن أناس من بني جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، ويعيشون في أرضنا، ويسمون بأسمائنا، بل ويصلون في مساجدنا، وما أكثرهم لا كثرهم الله، وذلك من خلال طعنهم في نيات علمائنا، واحتقارهم، والحط من قدرهم، وتشويه سمعتهم، ووصفهم ببعض الأوصاف الرديئة التي هم منها براء.
 
وكذلك رفع التقارير عنهم، ورصد كل تحركاتهم، وذلك بغرض جمع حطام من المال رخيص، إضافة إلى ذلك أنهم يفعلون ذلك خدمة للعدو الأول والأخير للمسلمين، وهم اليهود والنصارى، وأذنابهم، وقد تكون تلك المعلومات التي جمعوها لا أساس لها من الصحة، فكم من عالم وطالب علم زج به في غياهيب السجون بدون جرم ارتكبه، أو ذنب اقترفه إلا أنه يدعو إلى الله، ويؤمن بما جاء عن الله، ولكن صدق الله القائل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
وذلك في سياق قصة أصحاب الأخدود الذين حرقوا بالنار ظلماً وعدواناً!

فيا أتباع الرسل! ويا دعاة الحق! ليكن شعاركم دائماً وأبداً ما كان يردده الأنبياء والرسل عندما ابتلوا وأُوذوا من قبل قومهم لمَّا كذبوهم، وشتموهم بشتى أنواع الشتائم، وسخروا منهم، وطعنوا في أعراضهم، ونفوهم من بلادهم، وسجنوهم، بل وحاولوا تصفيتهم بدنياً؛ كما أخبر الله في كتابه الكريم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
 
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}.
وهذا ما قاله بعض الأقوام لرسلهم؛ كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف:88]، وكما قال قوم لوط: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، وقال تعالى إِخباراً عن مشركي قريش: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:76].
 
ولم يزل ولن يزال أعداء الرسل إلى الآن وإلى ما شاء الله ينصبون العداء لأتباع الرسل من العلماء والدعاة إلى الله، وطلبة العلم ، ويدبرون ويحيكون ضدهم الأراجيف والأباطيل، ويتهمونهم بتهم منها بريئون، فكم من عالم مات سجيناً، وكم من طالب علم قضى وقتاً طويلاً في السجن، وكم من داعية نُفي من أرضه، وحظر عليه الرجوع إلى وطنه، وكم..
وكم..
 
أيها الناس! ولكن لتعلموا أن عاقبة الابتلاء محمودة، وجزاء الصابرين  بلا حساب، فإن هؤلاء الذين أوذوا في سبيل الله، وابتلوا في ذات الله، وصبروا على ذلك، وصدقوا في التوكل عليه، ولم ينقطعوا عن الدعوة إلى دين الله، ولم يتخلوا عنها، فإن الله مكَّن لهم في الأرض، وجعل عاقبة أمرهم الفوز والنصر، والغلبة والقهر والهلاك لمن عداهم؛ كما قال رب العزة والجلال: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}، وليس فقط إهلاك الظالمين المكذبين المعاندين، وإنما: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ}.
ولهذا أمثلة كثيرة في القرآن الكريم ؛ كما في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النــور:55].
 
وقوله: {اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
وقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ . وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافات171-173].
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المؤمنون: أما جزاء المعارضين للأوامر، المستكبرين عن قبول الحق، المكذبين للرسل، فإنهم خابوا وخسروا في الدنيا والآخرة؛ كما أخبر الله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}.
ثم قال سبحانه: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} أي في لونه وطعمه، ورائحته الخبيثة، وهو في غاية الحرارة.
 
وفي حديث جابر الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم:
«إن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قالوا: يا رسول الله! وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار أو عصارة أهل النار» (رواه مسلم)، وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَيُسْقَىٰ مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال: «يقرب إليه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» (رواه أحمد والترمذي)
يقول الله تعالى: {وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد:15]، ويقول: {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، {يَتَجَرَّعُهُ} من شدة العطش {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} فإنه إذا قرب إلى وجهه شواه، وإذا وصل إلى بطنه قطع ما أتى عليه من الأمعاء، ومع هذا {ويأتيه الموت من كل مكان} أي من أمامه وخلفه، وعن يمينه وشماله، ومن فوقه، ومن تحت أرجله، ومن سائر أعضاء جسده، ومع هذا كله: {وما هو بميت} وذلك أن الله قضى أن لا يموتوا؛ كما قال تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ .
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}
[فاطر36-37].
{وَمِنْ وَرَائِهِ} أي ومن وراء هذا الجبار العنيد، المكذب للرسل {عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي قوي شديد لا يعلم وصفه وشدته إلا الله تعالى.
فاللهَ اللهَ في التحلي بخلق الصبر ، فإنًّما يوفى الصابرين بغير حساب، والعاقبة الحميدة للصابرين.
والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا افرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر شفاء العليل صـ(409) ط: دار الكتب العلمية.
بيروت - لبنان.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢