أرشيف المقالات

الناي السحرية

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للأستاذ بشير الشريقي المحامي حين قدم موزار (1756 - 1791) الناي السحرية للجمهور لم تلق ما تستحق من نجاح.
ويقال إن مدير الجوقة الموسيقية لأول مرة ظهرت فيها الناي السحرية، وبعد أن هدأت عاصفة التهليل، تسلل إلى موزار وكان يشرف على الإخراج، وقبل يده، فربت موزار على رأسه، لنا أن نذهب من ذلك إلى أن المدير قد فهم ما عنته الموسيقى، وان موزار أدرك أن المدير قد فهمها.
كلاهما لم يستطع وضعها في كلمات رواية غنائية وهي في الواقع لم تكن مثبتة في كلمات؛ وما كانت كلمات الرواية الغنائية لتحول دون إدراك المعاني الموسيقية لو لم يتساءل النظارة عن معاني تلك الكلمات.
لقد نجحت الناي السحرية بعد موت موزار؛ وسبب هذا النجاح ولا شك أن النظارة لم يعودوا يتساءلون عن معاني كلمات الرواية وأدركوا شيئا من معاني الموسيقى. كلمات الناي السحرية هي عناوين لموضوعات ضخمة، ونحن نمر خلالها بسرعة إلى موسيقى بابا كينو الواضحة، ولكنا سوف نضيع ذلك الوضوح إن نحن سعينا إليه عن طريق الكلمات أو نشدنا موضوع الرواية في هذه الكلمات.
إن حوادث الرواية ليس لها ارتباط بالكلمات بعضها ببعض، كما أن منطق الرواية كله في الموسيقى التي تخلق عالما تقع فيه الحوادث عفوا، عالما تصدر فيه النغمة عن أختها أو تنعكس عنها كما تنعكس قوى الطبيعة أو أفكار الرجل؛ هذا العالم هو الكون كما يراه موزار، والرواية بكاملها هي إيضاح لأيمانه الخاص.
وعلى هذا فهي بذاتها عمل ديني وان كانت سليمة مما نجده في الدين من مسائل مبهمة وورع جبان.
لقد عاش موزار في هذا العالم أشبه ما يكون بملك همه أن يضحك، ولكن بلا أذى ولا حقد، همه أن يضحك من شقاء بني الإنسان، وشر المصائب ما يضحك.
وكان يعطف حتى على الفجار (انهم أطفال خبثاء يمكن لمن عنده سر السحر أن يجعل منه أهل خير وصلاح) وفي الناي السحرية يعمل السحر، انه يعمل في الناي نفسها، وفي قيثار بابا كينو.
عند موزار سر الموسيقى، وقد بلغ من جهل العالم بحكمته أن حسبه مجرد شحاذ يعزف بأنغامه في الشوارع؛ وبعد جيل اصبح الناس يذكرونه كلما ذكروا الأنغام، وأصبح الشعب ينظر إليه كما ينظر إلى سوسن الحقل؛ ولا تز إلى اليوم اكثر من رواية غنائية عادية ذات أنغام وأسلوب بسيط قديم، يمكنك أن تتمتع بها على كل حال إذا لم تقف إزائها موقف المتهيب؛ يمكنك أن تنعم بها كما تنعم (بهملت) تلك الرواية المشجية؛ وهي مثل (هملت) تحوي معاني دقيقة بعيدة، معاني لا تدركها أفهامنا.
إن بابا كينو صورة مجازية؛ ولكنها من اعظم الصور في جميع روايات العالم؛ انه كل شخص كما كان (هملت)، وإذا كنا نملك مهارة معرفة أنفسنا وجد فيه كلا منافسه؛ وبكلمة أخرى انه ذلك العامل المستولي علينا والذي نحبه في أنفسنا ونحتقره في الآخرين؛ انه ذلك العامل الذي لا نعترف به للحظه، إلا وهو عامل الخوف والاعتزاز والكذب. قدم موزار اغانيه لسارسترو وبابا كينو، حتى إذا أخذا في الغناء أحسسنا كانا نشاركهما غناءهما، وأي غناء؟! غناء ليس فوق مقدرة فهمنا ولا سرورنا؛ غناء الملاك الذي تعلم لساننا الأرضي وادخل عليه الإصلاح أقام بذلك سماء على الأرض؛ سماء لا تبعد عنا ولا تصعب علينا؛ سماء من غابة مقفرة نقدر فيها أن نضحك بقدر ما نقدر ان نغني؛ سماء تضحك فيها الملائكة منا وتضحك معنا؛ وفي هذا الفردوس الذي خلقه لنا موزار سرعان ما يتحول جلال الموسيقى إلى هزل، وسرعان ما تعود الموسيقى إلى جلالها، وهذا التبدل يظهر دائما طبيعيا.
ذلك هو عقل موزار الذي رماه الشعب بالطيش لسبب واحد هو انه وقد أوجد في سمائه مكانا لكل شي لم يوجد مكانا لمجد سليمان المتبذل، أو للعنف والبشاعة والبلادة، لا يوجد في الفن أبداً ما هو اعمق أو اجمل من أصول موسيقى سارسترو.
لقد بلغ من وضوح عقيدة موزار أنها تبدو وكأنها ليست بعقيدة وإنما هي مجرد بهاء، مثلها في ذلك مثل القديسين الحقيقيين الذين يبدو عليهم انهم ليسوا من أهل الصلاح بل من أهل الفتون. وهنالك من الناس من لا يجد في جمال موزار فنا، وسبب ذلك أن جماله جمال حق.
هم يحسبون انه احتال على هذا الجمال احتيالا؛ انهم ينشدون صرير الجهود، وينشدون الأنانية؛ لقد بلغ من نقاء جهوده ومن كثرتها أن حسبوها رخيصة لا ترضي إلا العوام. يصعب علينا أن نشاهد الناي السحرية تمثل تمثيلا مرضيا على مسرح اليوم، ولكنا برغم ذلك سنسر ولا ريب من أي تمثيل لهذه الرواية التي حوت روح الموسيقى، والتي يمكن للمرء أن يرى منها كيف تكون الناي السحرية؛ لقد بلغ من رقة موسيقاها ورقة أنغامها أنها تقدر أن تجدد موسيقى هذه الأيام المسرحية الغريبة. يمكننا أن نصف تامينو وبانينا كما نصف احسن صور في مجمع فني، وان نتخذ كلا منهما مثالا لأبطال الروايات الغنائية وبطلاتها في كل عصر ومصر، بلى قد لا تنتسب ثيابهما لعالم الحقيقة أو الفن، وقد تعرض نماذج مصطنعة ومنمقة، ولكن الموسيقى تلطف من ذلك وتساعد كل شخص على أن يقوم بدوره احسن قيام.
من الواضح أن موسيقى الناي السحرية تجلب السرور وتوافق أولئك الذين ينشدونها فإذا بهم كأنهم يقومون بعمل ديني اكثر مما لو كانوا يقومون بعمل مسرحي، وانك اكثر ما تشعر بذلك عند انسجام الأنغام حينما يتراءى لك أن ريح الفردوس تهب على جميع المغنين فيتمايلون لها تمايل الأزهار بالرغم من ثيابهم الكثيفة.
ولكن الناي السحرية مفتقرة إلى عالم متجانس في النظر كما هو متجانس في السمع حتى تظهر بمظهر كامل مرض، ولهذا فنحن أحوج ما نكون لفترة إصلاح تتناول كل عاداتنا المسرحية؛ نضرب لذلك مثلا سارسترو، انه يعيش بين مناظر مصرية، على حين إن هذا العالم المصري لا يناسب الموسيقى وهو يعني لدينا أعاجيب القاعة المصرية، ولكن هنالك عالما مفردا يناسب الموسيقى كل المناسبة، عالما تستطيع أن تمر فيه من العبث إلى الجمال مرورا طبيعيا؛ وفيه تكاد تكون جميع الصور متناسبة وواضحة، ذلك العالم هو العالم الصيني كما عرفناه في الفن الصيني حيث يوجد في هذا الفن الخيال الروحي والهزل البهي؛ حيث يوجد في هذا الفن مزيج من طفولة وقداسة يوحي إلى العين ما تحويه موسيقى موزار إلى الأذن؛ وفي الفن الصيني فقط يقدر بابا كينو أن يكون قديسا: في ذلك العالم فقط تعيش روح موزار بضحكتها وحكمتها، وكأنها في بيتها؛ في هذا العالم تساوت الأزهار وجميع الحيوانات في الخطر مع جنس الإنسان، في هذا العالم يظهر الأفعى والثعبان وكأن كلا منهما مصنوع من ورق مقوى؛ في هذا العالم لا يظهر السحر انه مجرد تعاويذ؛ في هذا العالم يمكن للمرء أن يقع على مناظر طبيعية وصور جميلة؛ وفيه لا يكون سارسترو ساحرا مسرحيا بل كاهنا كنسيا. في الحق إن الفن الصيني هو عالم الناي السحرية حيث تتدلى الأجراس الفضية من كل شجرة مزهرة، وتزدحم الحدائق بالبلابل الساحرة؛ هو عالم الحماسة والتأمل، حيث يجلس الحكيم في السرادق في ضوء القمر، ويبتسم ابتسام عاشق، وحيث يبتسم العشاق كالحكماء.
.
حيث يوحي كل شي للعين ما توحيه موسيقى موزار للأذن.
وفي العالم الصيني يمكننا أن نتجنب كل تشدق في الغزل الشهواني اعتاد أن يلفظ به المسرح الحديث؛ كما يمكننا أن نخضع أنانية أوربا الثقيلة للشرق المنكر لذاته. لقد تمرس موزار بالألم، ولكنه لم ينغمس في؛ انه يعني بجمال العالم اكثر مما يعنى بجمال نفسه؛ عنده أن الشر من عمل الشياطين الذين تقدر الموسيقى على طرد أرواحهم. لقد كان موزار اورفيوس هذا العالم الذي يستطيع إن نحن أصغينا إليه أن يذلل الحيوانية الكامنة فينا جميعا؛ ومع ذلك فان أقصى وقاره ومنتهى سر جماله إنما هو في رحمته التي وسعت كل شي؛ وهو حين يترحم علينا أو على نفسه لا يأخذه البكاء، بليطلب إلينا أن نجفف دموعنا وان نكون من الصالحين، وان نصغي لنايه السحرية. وهذا الحنان الذي ينبعث من أصواته خلال الناي السحرية يبعث في الناي السحرية جمالاً وهزة وعجبا، لا يمكن أن تبعثها أية عاطفة إنسانية.
سارسترو ليس بساحر، إن هو إلا قسيس، لأن فيه حكمة الرحمة المحببة، ولأنه خصص مكانا في فردوسه لبابا كينو ابن الطبيعة يلهو فيه مع صاحبته بابا كينا.
مرت ببابا كينو وهو في فردوس سارسترو الموحش لحظة فكر فيها أن يشنق نفسه، لأنه لم يجد من يشاطره الحب، ولكنه لا يكاد يضع حبل المشنقة على عنقه حتى تسمع في الموسيقى قهقهة تنبئك انه يتململ من حبل المشنقة؛ ولكن سرعان ما تقدم إليه بابا كيناوسرعان ما يعود إلى الفردوس انسه، ويأخذ الاثنان في غناء دورهما في نهاية الرواية. نحن على يقين بان عدالة الناي السحرية قضت ببراءة ملكة الليل؛ والزنجي البشع وجميع معاونيه؛ لم يعاقب منهم احد؛ لقد شقوا لغير ما سبب؛ فجاءوا نادمين مستغفرين؛ وهكذا تنتصر الناي السحرية على شرورهم وشقاواتهم، فتدق الأجراس الفضية من كل شجرة؛ وتغني البلابل غناء يخلب الألباب، ويبتسم الحكماء والمحبون ابتسامة الأطفال، فتدخل ابتساماتهم دخولا طبيعيا في دين موزار المقدس؛ هذا الدين المهيب الذي تالف فيه الابتسام والعبوس، ولم يتنافرا تنافرهما على الأرض. بشير الشريقي المحامي

شارك الخبر

المرئيات-١