أرشيف المقالات

مع القرآن (من لقمان إلى الأحقاف ) - جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
{جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} :
تعجب المشركون و مايزال ديدن أعداء الرسالات إلى يومنا : كيف يأتيهم منذر من بينهم , مثلهم , ليس ملاكاً ولا إلهاً.
و كأن المطلوب أن ينزل الله بذاته العلية  ليؤمنوا به سبحانه و هم بين معاينة العذاب و مشاهدة النعيم رأي العين, إذن لن يكون هذا اختباراً من الله و ستكون العبادة جبرية قهرية .
كل الرسل كانوا من البشر و كلهم قوبلوا بتكذيب الأكثرية و إيمان الأقلية و كل الرسل قوبلوا بنفس الشبهات المكررة التي أنتجتها عقول ناقصة و قلوب مريضة عبر التاريخ.
تعجب المشركون أن دعاهم الرسل لعبادة إله واحد و ترك الشركاء , و استهجنوا هذه الدعوة و سخروا منها و كأن العقيدة الشركية هي الأصل و أن الإله لا يصلح إلا إذا كان له شركاء !!! وهذا يدل على نقص العقول و خراب القلوب لا أكثر و أنهم فقط تعصبوا لميراث الآباء و استكبروا و أهملوا اعتقاد الحق و نصرته .
ثم كان حقدهم على الرسل واضح عبر التاريخ : كيف يختار الله من بينهم رسوله و يتركهم , و السؤال : كل الرسل تم اختيارهم من بين أقوامهم فهل كان المفترض أن يرسل الله كل أفراد الأمة حتى يتحقق لهم الإيمان و حتى لا يحقد بعضهم على المصطفين الأخيار؟
و الحقيقة المرة أن هؤلاء اختاروا طريق العذاب و ارتضوا بعداوة الله و أهله استكباراً و حسداً و إهمالاً و تكاسلاً و مباعدة عن الحق و كأنهم حازوا خزائن السموات و الأرض و أعطوا لأنفسهم الحق في إلقاء الشبهات و المشاركة في اختيار الرسل بل وأعطوا لأنفسهم الحكم على الرسالة وإلقاء الشبهات على كلمات الله تعالى , واغتروا بكثرتهم التي لن تغني عنهم شيئاً في دنيا و لا في آخرة.

 { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ * جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص 5-11]
قال السعدي في تفسيره:
{ {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } } أي: عجب هؤلاء المكذبون في أمر ليس محل عجب، أن جاءهم منذر منهم، ليتمكنوا من التلقي عنه، وليعرفوه حق المعرفة، ولأنه من قومهم، فلا تأخذهم النخوة القومية عن اتباعه، فهذا مما يوجب الشكر عليهم، وتمام الانقياد له.
ولكنهم عكسوا القضية، فتعجبوا تعجب إنكار وَقَالُوا من كفرهم وظلمهم: { { هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } }
وذنبه -عندهم- أنه { {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } } أى: كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء والأنداد، ويأمر بإخلاص العبادة للّه وحده.
{ إِنَّ هَذَا } الذي جاء به { {لَشَيْءٌ عُجَابٌ} } أي: يقضي منه العجب لبطلانه وفساده.
{ {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ } } المقبول قولهم، محرضين قومهم على التمسك بما هم عليه من الشرك.
{ {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } } أى: استمروا عليها، وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها وعلى عبادتها، ولا يردكم عنها راد، ولا يصدنكم عن عبادتها، صاد.
{ إِنَّ هَذَا } الذي جاء به محمد، من النهي عن عبادتها { لَشَيْءٌ يُرَادُ } أي: يقصد، أي: له قصد ونية غير صالحة في ذلك، وهذه شبهة لا تروج إلا على السفهاء، فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق، لا يرد قوله بالقدح في نيته، فنيته وعمله له، وإنما يرد بمقابلته بما يبطله ويفسده، من الحجج والبراهين، وهم قصدهم، أن محمدا، ما دعاكم إلى ما دعاكم، إلا ليرأس فيكم، ويكون معظما عندكم، متبوعا.
{ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} } القول الذي قاله، والدين الذي دعا إليه { { فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} } أي: في الوقت الأخير، فلا أدركنا عليه آباءنا، ولا آباؤنا أدركوا آباءهم عليه، فامضوا على الذي مضى عليه آباؤكم، فإنه الحق، وما هذا الذي دعا إليه محمد إلا اختلاق اختلقه، وكذب افتراه، وهذه أيضا شبهة من جنس شبهتهم الأولى، حيث ردوا الحق بما ليس بحجة لرد أدنى قول، وهو أنه قول مخالف لما عليه آباؤهم الضالون، فأين في هذا ما يدل على بطلانه؟.
{ {أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} } أي: ما الذي فضله علينا، حتى ينزل الذكر عليه من دوننا، ويخصه اللّه به؟ وهذه أيضا شبهة، أين البرهان فيها على رد ما قاله؟ وهل جميع الرسل إلا بهذا الوصف، يَمُنُّ اللّه عليهم برسالته، ويأمرهم بدعوة الخلق إلى اللّه، ولهذا، لما كانت هذه الأقوال الصادرة منهم لا يصلح شيء منها لرد ما جاء به الرسول، أخبر تعالى من أين صدرت، وأنهم { {فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} } ليس عندهم علم ولا بينة.
فلما وقعوا في الشك وارتضوا به، وجاءهم الحق الواضح، وكانوا جازمين بإقامتهم على شكهم، قالوا ما قالوا من تلك الأقوال لدفع الحق، لا عن بينة من أمرهم، وإنما ذلك من باب الائتفاك منهم.
ومن المعلوم، أن من هو بهذه الصفة يتكلم عن شك وعناد، إن قوله غير مقبول، ولا قادح أدنى قدح في الحق، وأنه يتوجه عليه الذم واللوم بمجرد كلامه، ولهذا توعدهم بالعذاب فقال: { {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } } أي: قالوا هذه الأقوال، وتجرأوا عليها، حيث كانوا ممتعين في الدنيا، لم يصبهم من عذاب اللّه شيء، فلو ذاقوا عذابه، لم يتجرأوا.
{ {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } } فيعطون منها من شاءوا، ويمنعون منها من شاءوا، حيث قالوا: { {أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} } أي: هذا فضله تعالى ورحمته، وليس ذلك بأيديهم حتى يتحجروا على اللّه.
{ {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } } بحيث يكونون قادرين على ما يريدون.
{ {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} } الموصلة لهم إلى السماء، فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه، فكيف يتكلمون، وهم أعجز خلق اللّه وأضعفهم بما تكلموا به؟! أم قصدهم التحزب والتجند، والتعاون على نصر الباطل وخذلان الحق؟ وهو الواقع فإن هذا المقصود لا يتم لهم، بل سعيهم خائب، وجندهم مهزوم، ولهذا قال: { {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ } }
#أبو_الهيثم
#مع_القرآن 


شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن