int(1302) array(0) { }

أرشيف المقالات

فاعلم.. البداية من هنا

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
فاعلم..
البداية من هنا


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
 
أما بعد:
فإن الناظرَ في حال مجتمعاتنا اليومَ، وخاصةً فئةَ الشباب، يرى ما يأسف له القلب، وتبكي منه العين، إلا ما رحم ربي!
 
لَهوٌ ومُجون، وانحطاط هممٍ، وانشغال بسفاسف الأمور!
 
حال أليم!
فلا همَّ للفتاة إلا زينتها، ورؤية الإعجاب في عيون الشباب، ومحادثتهم، ومواكبة آخر صيحات الموضة الغربية...
حتى فئة المحجبات منهن، ذلك الحجاب الذي لا يُسمِن ولا يغني؛ فالطرحة قصيرة لا تكاد تخفي شيئًا، والشعر نصفه ظاهر مع الأذنين، ولا بأس ببعض الحُليِّ والزينة؛ لتكتمل صورة الحجاب، الذي يحتاج لحجاب.
 
أمَّا الشباب:
فالخطب أكبر وأعظم؛ فأسمى أمانيهم كيف يوقعون هذه الفتاة في حبائلهم، وكيف يتحصل على تلك السيارة الرائعة، معازف، مخدرات، وربما خمور! لاهيًا ناسيًا لماذا خلق وماذا يريد؟ ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 44].
 
يومهم يمر بين النوم، والأكل، والمسلسلات التافهة، والأفلام الماجنة، والاستمتاع بملذات الدنيا حلالِها وحرامِها ﴿ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ ﴾ [محمد: 12].
 
وربما لو قمت بتذكيرهم بالحلال والحرام، لوجدتهم أعلمَ بالأحاديث والآيات منك، ويختمون دومًا كلامَك: "الله يهدينا"؛ فهم يعلمون الحلال والحرام، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتَّقى المشبَّهات استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يَرعى حول الحمى يُوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملِك حمًى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمُه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلَحت صلَح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب))[1].
 
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والإثم ما حاك في صدرِك، وكرهتَ أن يطلع عليه الناس))[2]، ففطرتهم وخلفيَّتُهم المسلمة تجعلهم يميزون تمامًا بين الصحيح والخطأ.
 
أما الطامة الكبرى التي بدأتُ ألاحظها من رسائل لكثير منهم: هي انتشار ظاهرة الإلحاد بينهم، سواء كان الأهل على علم أم لا، وسواء اعترف المجتمع بهذه الظاهرة أم لا، فإنها موجودة، ولا داعيَ لندفن رؤوسنا في الرمال، ونقول: هي فئة نادرة؛ لأن مَن يعايش الشباب - حاليًّا - ويلمس واقعهم، ويحتك بمجتمعهم، يعلم أنها ربما تتحول قريبًا لظاهرة منتشرة! والله المستعان.
 
تلك هي حياة شبابنا المسلم اليوم - إلا مَن رحم ربي - وذلك هو واقع أمتنا المؤلم!
 
أصل المشكلة:
وعندما تأمَّلت في هذا الحال وجدت أن أصل المشكلة في كل ما نعيشه الآن هو الجهل.
 
ليس الجهل بالأحكام والأدلة والبراهين، فكما ذكرت كثيرٌ من شبابنا يعلمونها ويحفظونها، ولكن المشكلة الأساسية هي "الجهل بالله".
 
الجهل بعظمته سبحانه، الجهل بربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، الجهل بقوته وقدرته وجبروته، الجهل برحمته وكرَمِه وإحسانه.
 
كم شابًّا من شبابنا يعرف الله عز وجل؟ كم فتاةً من فتياتنا تعرف معانيَ أسماء الله سبحانه وتعالى؟ كم منهم يعلم معنى اسم الله: العظيم، الحكيم، الجبار، الرقيب، المُهَيْمِن؟
 
كيف يُريد دعاتُنا انقياد وقبولَ الناس لدعوتهم، وهم لم يُعلموهم عن الله؟ كيف نريد طاعة لأوامر الله، وامتثالاً لأحكامه، وزجرًا عن نواهيه وهم لا يعرفون من هو الله؟
 
ما السبيل؟
قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]؛ أي: إنما يخشى الله الخشيةَ الكاملة العلماءُ بالله، الذين عرَفوا ربهم بأسمائه وصفاته، وعظيم حقه، وتبصروا في شريعته، وعرفوا ما عنده من النعيم لمَن اتَّقاه، والعذاب لمن خالفه وعصاه؛ فهم لكمال علمهم بالله هم أشدُّ الناس خشيةً لله، وأكمل الناس خوفًا من الله، وعلى رأسهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فهم أكمل الناس خشية لله سبحانه، وتعظيمًا له، ثم خلفاؤهم العلماء بالله وبدِينه، وهم على مراتبَ في ذلك متفاوتة، وليس معنى الآية أن غيرهم لا يخشى الله؛ فكل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة يخشى الله عز وجل، لكن خشية الله فيهم متفاوتة، فكلما كان المؤمن أبصرَ بالله، وأعلمَ به وبدينه - كان خوفُه لله أكثرَ، وكلما قلَّ العلم، وقلَّت البصيرة - قلَّ الخوف من الله، وقلَّتِ الخشية منه سبحانه؛ فالناس متفاوتون في هذا الباب تفاوتًا عظيمًا، حتى العلماء متفاوتون في خشيتهم لله - كما تقدم - فكلما زاد العلم زادت الخشية لله، وكلما نقص العلم نقصت الخشية لله[3].
 
البداية والأساس:
إذا أردت أيها الداعية والمربي أن تعلِّم الناس الخشيةَ والانقياد والقبول والاتباع فابدأ بتعرفيهم بالله الذي خلقهم، ورزقهم، وملكهم ...، اصنع أساسًا متينًا راسخًا قادرًا على حمل البنيان بقوَّة وثباتٍ.
 
قال ابن القيم رحمه الله: "مَن أراد علوَّ بنيانه، فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه، وشدة الاعتناء به؛ فإن علوَّ البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه.
 
فالأعمال والدرجات بنيان، وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقًا حمَل البنيان واعتلى عليه، وإذا تهدَّم شيءٌ مِن البنيان سهُل تداركه، وإذا كان الأساس غيرَ وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت، وإذا تهدَّم شيءٌ مِن الأساس سقط البنيان أو كاد.
 
فالعارف همته تصحيح الأساس وإحكامه، والجاهل يرفع في البناء مِن غير أساس، فلا يلبَثُ بنيانه أن يسقط؛ قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ [التوبة: 109].
 
فالأساس لبناءِ الأعمال كالقوة لبدن الإنسان، فإذا كانت القوة قوية حملَت البدن، ودفعت عنه كثيرًا من الآفات، وإذا كانت القوة ضعيفة ضعُف حملُها للبدن، وكانت الآفات إليه أسرعَ شيء.
 
فاحمل بنيانك على قوة أساس الإيمان، فإذا تشعَّث شيء من أعالي البناء وسطحه كان تداركه أسهلَ عليك من خراب الأساس.
 
وهذا الأساس أمران: صحة المعرفة بالله وأمره، وأسمائه وصفاته.
 
والثاني: تجريد الانقياد له، ولرسوله دون ما سواه.
 
فهذا أوثق أساس أسَّس العبد عليه بنيانه، وبحسبه يعتلي البنيان ما شاء"[4].
وقد دلَّت كثير من آيات الله عز وجل على هذا الأساس المتين، بل لا تكاد تخلو آية من آياته من ذكر لأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، مما يدل دلالة واضحة على أهمية العلم به، والضرورة الماسة لمعرفته؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12].


أخبر تعالى أنه خلق الخلق من السموات السبع ومن فيهن، والأرَضين السبع ومن فيهن، وما بينهن، وأنزل الأمر، وهو الشرائع والأحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله؛ لتذكير العباد ووعظهم، وكذلك الأوامر الكونية والقدرية التي يدبِّر بها الخلق؛ كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد، ويعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها، وإحاطة علمه بجميع الأشياء، فإذا عرفوه بأوصافه المقدسة، وأسمائه الحسنى، وعبدوه وأحبوه وقاموا بحقه، فهذه الغاية المقصودة من الخلق والأمر، [وهي] معرفة الله وعبادته، فقام بذلك الموفقون من عباد الله الصالحين، وأعرض عن ذلك الظالمون المعرضون"[5].
 
وقال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
 
والعبادة - كما عرفها ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله -: هي اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة.
 
في الآية الأولى: "خَلَقَ لتعلَموا"
وفي الآية الثانية: "خَلَقَ لتعمَلوا "[6].
 
فالتوحيد "علم وعمل"، فإذا تم العلمُ صلَح العمل.
 
أول الطريق:
فيا أيها الدعاة والداعيات، يا أيها المربون والمربيات، ضَعُوا أساسًا سليمًا، ثم ابنُوا عليه، ابدَؤوا بالأصل، ثم أتبِعُوه بالفروع؛ فإنكم إن أصلحتم الأصل استقام الفرع تِباعًا، وإن ظل الأصل معوجًّا فمهما فعلتم وحاولتم فلن يستقيم فرعه.
 
واعلَمْ أن حال هذه الأمة - وخصوصًا شبابها - لن يستقيم إلا بمعرفتهم لخالقهم، وبارئهم، وفاطرهم، ورازقهم، ومعرفتهم بأسماء الله عز وجل الحسنى، وصفاته العلى، ونعوت كماله وجلاله وعظمته، ومشاهدة آلائه ونِعَمه وإحسانه، وأنه المعبود بحق دون سواه؛ قال ابن القيم: "مَن عرف الله بأسمائِه وصفاته أحبَّه لا محاله"[7].
 
فمتى كان العبد عارفًا بالله أحبه، وصار قائمًا بعبوديته، ممتثلاً لأوامره، منتهيًا عن نواهيه؛ لأنه عرف ربه، عرف عظمته، عرف جلاله وقوته، عرف كمال جوده وكرمه وإحسانه، وكلما كانت المعرفة بالله أتمَّ، والعلم به أكملَ - كان الانقيادُ أعظمَ، والخشيةُ أكبرَ، والمراقبة أشدَّ، وهذا الذي يبحث عنه دعاتنا؛ فلا تلتفت - أيها الداعية والمربي - يمينًا ويسارًا، ووحِّد وجهتك، والزم هدفك، وليكن أولُ ما تبدأ به "العلمَ عن الله".
 
ومن هنا، أوصيكم ونفسي بسلسلة "العقيدة في ضوء الكتاب والسنة" للشيخ عمر بن سليمان الأشقر، وكتاب "فقه الأسماء والحسنى" للشيخ عبدالرزاق عبدالمحسن البدر.
 
والله الموفق والمستعان.
والحمد لله رب العالمين.



[1] البخاري عن النعمان بن بشير.


[2] رواه مسلم.


[3] الشيخ ابن باز رحمه الله.


[4] الفوائد ص: 228 - 229.


[5] انتهى من "تفسير السعدي" (ص 872).


[6] فقه الأسماء الحسنى بتصرف يسير.


[7] الجواب الكافي 99.

شارك المقال


Warning: Undefined array key "codAds" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/a920adceac475d2e17f193a32cdaa1b563fd6f5b_0.file.footer.tpl.php on line 33

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/a920adceac475d2e17f193a32cdaa1b563fd6f5b_0.file.footer.tpl.php on line 33
روائع الشيخ عبدالكريم خضير