بمناسبة الذكرى الرابعة عشرة
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
قصائد الشعراء في تأبين سعد
للدكتور زكي مبارك
- 1 -
في مثل هذه الأيام من سنة 1927 فُجعت مصر وفاة الزعيم سعد زغلول، والتفتت الأمم العربية إلى هذه الفجيعة الدامية، فنُظِمت القصائد الجياد في الحزن لوفاة ذلك الزعيم العظيم، نظمها شعراء فضلاء من الحجاز واليمن والمغرب والشام والعراق؛ وكان من أجود المراثي التي صدرت عن شعراء الأمم الشقيقة قول الأستاذ بشارة الخوري شاعر لبنان:
قالوا دهتْ مصرَ دهياءٌ فقلتُ لهم ... هل غُيّض النيل؟ أم هل زُلزل الهرم؟ قالوا أشدُّ وأدهى، قُلتُ ويحكمُ ...
إذن فقد مات سعدٌ وانطوى العلمُ لِمْ لا تقولون إن العُرْبَ قاطبةً ...
تيتَّموا، كان زغلولٌ أباً لهمُ وما نريد في هذه الدراسات الوجيزة أن تحدث عما تفضل به شعراء الأمم العربية من المواساة الكريمة لوادي النيل، فذلك يوجب أن نستعد لأبحاث طوال لا يسمح بها الزمن الضنين، فلم يبق إلا أن نتحدث عن القصائد التي نظمها أكابر شعراء مصر من أمثال: شوقي وحافظ والعقاد والجارم ومطران حفلة التأبين أقيمت تلك الحفلة التاريخية في اليوم السابع من أكتوبر سنة 1927 بعد انقضاء الأربعين لوفاة سعد زغلول، وكان الخطباء والشعراء على هذا الترتيب: مصطفى النحاس، عبد الخالق ثروت، محمد محمود، حسن نبيه المصري، حافظ إبراهيم، عبد الحميد سعيد، فكرية حسني، مكرم عبيد، احمد شوقي، نسيم اصيبعة، عباس محمود العقاد، حسين رشدي، بهي الدين بركات جو الحفلة ومن هذه الأسماء نلاحظ جو الحفلة روعيت فيه الصبغة القومية العربية، فقد تكلم محمد محمود عن حزب الأحرار الدستوريين، وتكلم محمد سعيد عن الحزب الوطني، وتكلمت فكرية حسني عن السيدات، وتكلم نسيم اصيبعة عن سورية. دموع ثروت وكانت الحوادث قضت بأن يصفو ما بين سعد وثروت بعد طول الخصام والعداء، فلما وقف عبد الخالق ثروت لرثاء سعد زغلول، نظر إلى صورة الصديق الفقيد، فغلبه الحزن وأجهش بالبكاء.
فترك المنبر، وقدم خطبته للأُستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي، فأتمها بالنيابة عن ذلك الخطيب المحزون برقية نسيم وفي تلك الحفلة أُلقيت برقية نسيم باشا، رئيس الديوان الملكي حينذاك، وفيها يقول: (أُشاطركم الأسى وأُقاسمكم الشعور في تبين الفقيد العظيم، أسبغ الله عليه ثوب الرحمة والرضوان، وإني أستوهبكم عذراً: إذ ليس ميسوراً لي حضور الحفلة اليوم) وإنما نصصت على هذه البرقية لأن جريدة (البلاغ) أشارت إلى أنها لفتت أنظار الحاضرين، ولبيان هذه الإشارة شرح يطول إن تاريخنا السياسي الحديث فيه أسرار وغرائب وأعاجيب، فأين الباحث الذي يميط اللثام عن العبقرية المصرية في ميادين الجدل السياسي؟ إن طلبة الدكتوراه بكلية الآداب يشغلون أنفسهم بإعداد الرسائل عن مشكلات العصور الخوالي في الأدب والسياسة والاجتماع، فمتى يتجهون إلى درس المشكلات الأدبية والسياسية والاجتماعية في العصر الحديث؟ سارعوا إلى درس هذا العصر قبل أن تضيع الوثائق، وقبل أن يموت الشهود، فقد يصعب عليكم درسه يوم يصبح ظنوناً في ظنون! قصيدة شوقي نشرت في صدر (الأهرام) مع تمهيد نظمه من قلم المرحوم صادق عنبر، وهو يقول في ذلك التمهيد: (هذه هي القصيدة التي تنزلت من سماء العبقرية وحياً يسيل نور الحكمة على أبياته، ويتجلى الإعجاز في حالية آياته، وتتعرف فيه مواضع سجداته.
أبدعها شاعر العصر (شوقي) في تأبين زعيم الشرق (سعد) وأودعها صورتين متقابلتين إحداهما صورة الحياة التي تعجز الموت، والأخرى صورة الموت الذي يعجز الحياة، منتزعاً من الحياة والموت معاً أصدق ما فيهما من العظات، وأجل ما فيهما من العبر والمثلات.
وإنك لتجد فيما بين ذلك روحاً من الحكمة الكهلة ترف على بيت من أبياتها كما تدرج نسمة من الصبا في الخميلة النضرة الفيحاء.
وقد تمثلت في هذا الشعر عاطفة شوقي المشبوبة وعظمة سعد الخالدة.
وناهيك من خلدين تلاقيا، وسحرين تظاهرا) جو القصيدة لم أكن في مصر يوم مات سعد، وإنما كنت في باريس، فلا أعرف أين كان شوقي يوم مات سعد، فهل كان بمصر؟ في القصيدة ما يشهد بذلك، كان يقول: قلتُ والنعش بسعدٍ مائلُ ...
فيه آمالْ بلادٍ ومُناها وفيها مع ذلك أبيات تشهد بأنه كان يصطاف في البلاد السورية، كان يقول: سائلوا (زحلة) عن أعراسها ...
هل مشى الناعي عليها فمحاها عطل المصطافَ من سُمّاره ...
وجلا عن ضفة الوادي دُماها فتَّح الأبوابَ ليلاً دَيرُها ...
وإلى الناقوس قامت بيعتاها صدَع البرقُ الدُّجا تنشرُه ...
أرض سوريَّا وتطويه سماها يحمل الأنباء تسري موهِناً ...
كعوادي الثكل في حرِّ سراها عرض الشك لها فاضطربت ...
تطأ الآذان همساً والشفاها قلت يا قوم اجمعوا أحلامكم ...
كلُّ نفس في ورِيديْها رداها فهذه الأبيات صريحة في أن الشاعر كان في سورية حين مات سعد؛ فكيف جاز له أن يخاطب النعش ولم يكن من المشيِّعين؟ إنما صنع ذلك ليتسق له هذا الحوار الجميل: يا عدوّ القيد لم يلمح له ...
شبحاً في خطةٍ إلا أباها لا يَضقْ ذرعُك بالقيد الذي ...
حزّ في سوق الأوالي وبَرَاها يا رفاتاً مثل ريحان الضحى ...
كللتْ عَدْنٌ به هام رباها وبقايا هيكلٍ من كرمٍ ...
وحياة أترع الأرض حَياها ودّعَ العدلُ بها أعلامَهُ ...
وبكت أنظمة الشورى صواها حَضنَتْ نعشَك والتفت به ...
راية كنت من الذل فِداها ضمَّت الصدر الذي قد ضمها ...
وتلقّى السهم عنها فوقاها عَجبي منها ومن قائدها ...
كيف يحمي الأعزل الشيخ حماها وهنا يظهر روح القصيدة، فالشاعر يتحدث عن القيد وعدو القيد، ويذكر الراية التي احتضنت نعش سعد، بعبارة لطيفة تعد من أدق العبارات، إذ جعل الراية تحس نار الفجيعة، وتشعر بفقد القائد الذي كان يحمي حماها، وإن جردته الأقدار من السلاح عيون القصيدة وفي هذه القصيدة أبيات روائع، منها قوله في فجيعة مصر بدفن سعد: ما دَرَت مصر بدفنٍ صبِّحت ...
أم على البعث أفاقت من كَراها صَرختْ تحسبها بنت الشَّرى ...
طلبت من مخلب الموت أباها وقوله في جزع مصر لفقد الخطيب الذي أسكرها بسحر بيانه حيناً من الزمان: طافت الكأس بساقي أُمةٍ ...
من رحيق الوطنيات سقاها عطلّت آذانُها من وتَرٍ ...
ساحر رنّ مليَّا فشجاها أُرغُنٌ هام به وجدانها ...
وأَذانٌ عشقتْهُ أُذناها كلَّ يومٍ خطبةٌ روحيةٌ ...
كالمزامير وأنغام لٌغاها دّلهتْ مصراً ولو أن بها ...
فلواتٍ دلهَّت وحش فلاها وقوله في مصاير الأحياء: زورقٌ في الدمع يطفو أبداً ...
عرف الضّفة إلا ما تلاها تهلع الثكلى على آثاره ...
فإذا خفْ بها يوماً شفاها وقوله في فضل سعد على الثورة وجعلها خير ما ترك من الذرية: ولدَ الثورة سعدٌ حُرةً ...
بحياتي ماجدٌ حُرٌّ نماها ما تمّنى غيرها نسلاً ومَن ...
يلد الزهراء يزهد في سواها رَقدَ الثائرُ إلا ثوْرةً ...
في سبيل الحق لم تخمد جذاها قد تولاها صبياً فكوتْ ...
راحتَيْه وفتياً فرعاها أعلمتم بعد موسى من يدٍ ...
قذفت في وجه فرعون عصاها وَطئتْ ناديَهُ صارخةً ...
شاه وجهُ الرِّق يا قوم وشاها وقوله في أخلاق سعد: أين من عينيّ نفسٌ حرةٌ ...
كنت بالأمس بعينيّ أراها روعة النادي إذا جدَّت فإن ...
مَزحتْ لم يذهب المزح بهاها يظفر العذر بأقصى سخطها ...
وينال الود غايات رضاها ولها صبرٌ على حسَّادها ...
يشبه الصفح وحلمٌ عن عِداها لست أنسى صفحة ضاحكة ...
تأخذ النفس وتجري في هواها وحديثاً كروايات الهوى ...
جدَّ للصبِّ حنينٌ فرواها وقناة صَعْدَة لو وُهبتْ ...
للسماك الأعزل اختال وتاها تلك عيون هذه الشوقيات، وما زاد فهو معان يكررها شوقي في أكثر مراثيه، وإن كانت تجل عن الابتذال قصيدة حافظ ابتدأ حافظ قصيدته بما أَلِف الشعراء من الحديث عن تأثر الوجود لفقد العظماء، فسأل الليل: هل شهد المصاب ورأى كيف ينصبَّ في النفوس؟ ثم دعاه إلى تبليغ المشرقين غياب الرئيس، مع نعيه للنِّيرات لتلبس عليه ثوب الحداد؛ ثم توجع لغياب سعد عن الحفل فقال: أين سعدٌ فذاك أول حفل ...
غاب عن صدره وعاف الخطايا لم يعوِّد جنودَهُ يوم خطب ...
أن ينادَى فلا يردّ الجوابا علّ أمراً قد عاقهُ، علّ سقما ...
قد عراه، لقد أطال الغيابا أيْ جنود الرئيس نادوا جهاراً ...
فإذا لم يُجب فشقُّوا الثيابا ثم وازن بين بلية فلسطين بالزلزال وبلية مصر بموت سعد.
فقال: قل لمن بات في فلسطين يبكي ...
إن زلزالنا أجلَّ مصابا قد دُهيتم في دوركم ودُهينا ...
في نفوس أبين إلا احتسابا ففقدتم على الحوادث جَفناً ...
وفقدنا المهنَّد القرضابا سلّهُ ربُّهُ زماناً فأبْلى ...
ثم ناداه ربهُ فأجابا قدرٌ شاء أن يزلزل مصراً ...
فتغالى فزلزل الألبابا وجعل حمل النعش على المدافع دليلاً على أنه أضخم من أن تحمله الرقاب: خرجتْ أمةٌ تشيِّع نعشاً ...
قد حوَى أمة وبحراً عُبابا حملوه على المدافع لما ...
أعجزَ الهامَ حمله والرقابا وأتخذ تعزية (التَّيمس) شاهداً على عظمة سعد فقال: ساقت التيمس العزاء إلينا ...
وتوخّت في مدحك الإسهابا لم يَنٌح جازعٌ عليك كما نا ...
حتْ ولا أطنب المحبُّ وحابَى واعتراف (التايمز) يا سعد مقيا ...
سٌ لما نال نِيلنا وأصابا وغُرة هذه القصيدة هي الأبيات التي ينص فيها حافظ إبراهيم على أن روح الثورة لن يموت بموت سعد، وأن الأمة لن تُصَدْ عن الغاية بوعد أو وعيد: ليت سعداً أقام حتى يرانا ...
كيف نُعلي على الأساس القبابا قد كشفنا بهَديْه كل خافٍ ...
وحسبنا لكل شئ حسابا حُجَجٌ المبطلين تمضي سراعاً ...
مثل ما تطلِع الكؤوس الحُبابا حين قال (انتهيت) قلنا بدأنا ...
نحمل العبء وحدنا والصعابا فاحجبوا الشمس واحبسوا الروح عنا ...
وامنعونا طعامنا والشرابا واستشِفّوا يقيننا رغم ما نلقاه هل تلمحون فيه إرتيابا قد ملكتم فَمَ السبيل علينا ...
وفتحتمْ لكل شعواء بابا وأَتيتم بالحائمات ترَامَى ...
تحمل الموت جاثماً والخرابا وملأتم جوانب النيل وعداً ...
ووعيداً ورحمةً وعذابا هل ظفرتم منا بقلبٍ أبّيٍ ...
أو رأيتم منا إليكم مَثابا لا تقولوا (خلا العرين) ففيه ...
ألف ليث إذا العرين أهابا فاجمعوا كيدكم وروموا حِماهُ ...
إن عند العرين أسداً غضابا فهذه الأبيات هي خير ما في قصيدة حافظ، وقد خلت من معانيها قصيدة شوقي، وكان حافظ كثير الالتفات إلى المعاني التي ألف الزأر بها قبل عهد الاستقلال ثم تحدث عن أخلاق سعد فقال: تقتلُ الدسّ بالصراحة قتلاً ...
وتُسِّقى منافق القوم صابا وترى الصدق والصراحة دِيناً ...
لا يراه المخالفون صوابا تعشق الجوْ صافيَ اللون صحواً ...
والمضّلون يعشقون الضبابا أنت أوردتنا من الماء عذباً ...
وأراهم قد أوردونا السرابا وعطف على أيامه مع سعد في (بساتين بركات) فقال: نمْ هنيئاً فقد سهرت طويلاً ...
وسئمت السقام والأوصابا كم شكوتَ السهاد لي يوم كنا ...
في (البساتين) نستعيد الشبابا ننهب اللهو غافلين وكنا ...
نحسب الدهر قد أناب وتابا فإذا الرزء كان منا بمرحىً ...
وإذا حائم الردى كان قابا أما بعد فهذه ملامح من قصيدة شوقي وقصيدة حافظ في تأبين سعد، وسنتكلم في المقال المقبل عن قصائد العقاد والجارم ومطران والله وليُّ التوفيق زكي مبارك