من وحي الحنين
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
آذار. حدثني.
(مهداة إلى الأستاذ الزيات) للأستاذ شكري فيصل آذار.
يا مُطلِق الحياة من قيود الشتاء.
وباعث النور في أرجاء الكون.
حدثني.
كيف ضمعت إليك (دمشق) بعد هذا الفصل القاتم، وذاك الجو الغائم؛ وتلك الليالي القريرة؟!.
هل أزحت عنها أثقال السحاب.
وجبت ظلام الضباب.
ونشرب الروح في جنباتها الحلوة.
أم أنها لا تزال بعدُ غارقة في صمت الشتاء، صابرة على أذى الفرّ.
تنذرها السماء؛ وتهددها العواصف؟!.
آذار!.
أيها المنطلق هنا على حفاحي النيل.
تستمع إلى أنشودته الصامتة؛ وهمسه الخفيف.
.
حدثني عن (بردي) هذا النهر الوادع.
ألا يزال ثائراً مضطرباً.
يحمل الخوف، وينشر الذعر، ويبث الاضطراب، ويفيض على أطرافه وجنباته كأنما ملّ مظاهر الجور ومهازل الحياة.
أم أنه عاد سيرته الأولى.
يحمل الأمان إلى النفوس، ويشع الحياة في المهج؛ وتصطفق أمواجه الفانيات وتنصت إليه أفئدة وقلوب.
لتسمع أغنيته الخالدة، ولحنه البارع.
وتنتشر على ضفتيه طوائف الناس تنعم بهذا الرحيق السلسل، وهذا الصفاء الجميل.
وتقرأ في صفحاته آيات المجد الذي انبثق مع (الغساسنة) وترعرع في جنبات قصورهم الناعمة؛ وتكامل في عهد (أميَّة) وفي ظلال سلطانهم الواسع.
ثم غاب حيناً من الدهر.
فبكاه هذا النهر.
بدموعه وعبراته.
حتى إذا ولد من جديد في تاج (فيصل) وملك (فيصل).
وفتح عينيه للنور، ومدَّ ذراعيه يريد أن يحبو.
انتزعه الدهر؛ في ليلة سوداء كالحة، ورمى به في صحراء اليأس المجدب.
آذار!.
أيها المرح هنا في ربوع (الأرمان)؛ وملاعب الجزيرة، وحدائق النيل.
حدثني.
هلا حملت المرح إلى وطني الآخر.
؟ هلا زرعت البسمات على الشفاه.
ودفعت الدم في العروق، وأحييت موات الأمل في القلوب.
.؟ أم أن القوم في شغل عنك.
يقارعون الدهر العصيب، ويجالدون الزمن الغادر، ويدارون الأحمق السفيه؟ آذار.
أيها الضاحك هنا على شفاه الأزاهير الفوّاحة.
حدثني.
عن أزاهير دمشق.
هل تفتحت عنها براعهما بعد هجعة طويلة ثقيلة.
وهل نشطت الحياة في هاته الشجيرات الفتية القائمة في وسط الحدائق كأنها زمرة غانيات في موكب زفاف.
ترقص مع خطرات النسيم، وتهتز مع أنداء الفجر، وتصفق كلما ذهب بها الهواء هنا وهناك؟.
وهل استفاقت هذه الجنات الفيح يا آذار.
فنثرت الزهر، ونشرت العطر، وطبعت على وجه الدنيا قبلتها الضاحكة.
كأنها تنفخ فيها روحاً من النشاط؟ والغوطة.
هل اكتست الغوطة ذاك الثوب الزاهي يا آذار! بعد عرى طويل.
فنبت في أرضها العشب الأخضر.
ريّان نديَّاً.
ينفح الفتوة، ويمور بالحياة، ويستقبل الشمس مع الصباح بقطرات من الندى المبعثر.
البراق كالماس.
ويودعها مع المساء وهو يقبلها كأنه يتمنى ألا تزول عنه.
ثم يبكي فراقها في الليل بدموعه الصافية اللألاءة؟!.
.
والزهر المتشقق على مبسم الغصن يا آذار!.
هل رقت أوراقه الملونة لنجوى المحبين، وآهات الشاكين، وقلوب المتيمين؟ وهل خرج الناس يشهدون هذا السحر الحلال، وهذه الروعة الضاحكة.
وينعمون بهذه الأجواء المعطرة، والدنيا المتأنقة، وينشقون في هوائها الأرج والعبير، ويطوفون بها كما يطوفون في جنات الخلد.
ويقرءون آيات الله البارعات في الغصن المائس والفروع المهتزة، والماء الذي يخرج به نبات مختلف ألوانه؟! .
.
ومواكب الزهر يا آذار!.
هل شهدت (دمشق) هذا العام مواكب الزهر؟.
وهل ضحكت هذه الدنيا الصابرة لصروف الزمان وعبث الدهر.
وهل صافحت عيناها من جديد.
هؤلاء الفتيان الذين يذهبون هنا وهناك.
مع شعاعات الفجر الأولى، يستقبلون الصباح، ويرتعون في الحقول، ويمرحون في الجنان، وينتقلون.
كالفراشات الطائرة.
من شجرة إلى شجرة، ومن غصن إلى غصن.
.
ويصفقون مع أمواه النهر، وينتشون من هذا السحر؛ ويقضون يومهم لله ولأنفسهم.
ثم يعودون.
وفي أيديهم هذه الحمالات من الورد؛ وهذه الباقات من الزهر؛ ينشرون عبيرها في رحاب المدينة وأحيائها.
في صدورهم البشر، وفي وجوههم المرح؛ وعلى ألسنتهم نشيد الوطن الغالي؟!.
والريف البعيد يا آذار!.
هل انتفض من نومه العميق.
وهل فتح أهلوه أبواب دورهم بعد أن سدتها الثلوج، فحالت بينهم وبين الخروج.
فظلوا في حصار الطبيعة شهراً أو بعض الشهر لا يغادرون هذه المدافئ المبنية في زاوية من زوايا الغرفة.
وهل بدءوا حياة الربيع الوادع.
يتفقدون زرعهم الذي دفنوه في الأرض، ووكلوه إلى الله، وانتظروا موسم حصاده؟! وهل خرج أطفالهم يتسابقون في طرق القرية، ويتسلقون قمم الجبل؛ ليظفروا بالثلوج المتجمدة.
يتراشقون بها، ويتزحلقون عليها، على طريقتهم الساذجة الأولية؟!.
.
وفتيات القرى يا آذار!.
هل انتصبت قاماتهن؛ بعد أن حناها الشتاء؛ في طريقهن إلى ماء القرية، يستقين منه، وقد علتهن الجرار، ولثمت خدودهن هذه النسمات العليلة؛ وعبثت بخمرهن؛ فحركتها ذات اليمين وذات الشمال.
واجتمعن حول الورد ينشدن في همس خفيف، وتمتمة ناعمة، ويتحدثن حديث القرية وضيوفها ومواسمها وأعراسها.
؟.
وحديث الجبال يا آذار!.
هل اتشحت بوشاحها الأخضر الزاهي؛ وهل نبتت فوق تربتها هذه الحشائش القصيرة، على أنقاض الثلوج، وبقايا السيول.
وهل خرجت القطعان تسرح في شعاب هذه الجبال؛ وفي صعابها؟.
وهل سمعت يا آذار.
أصوات أجراسها حين تتضيَّف الشمس إلى الغروب.
وتنسحب غلائلها على صفحة الأفق الوردية.
وتتراءى صفحة السماء رائعة جميلة.
وتظهر الشمس كدائرة من النار الملتهبة، تغطس في بحر الظلام فيخمد لهبها ويطفأ نورها، وتمَّحى شعاعاتها من السماء.
فتبكيها هذه القطعان.
بأصوات أجراسها الحزينة؛ وتلتفت لتعود إلى القرية.
في جنح الليل، وستار الظلام.
والرعاة، يا آذار.
هؤلاء الذي شرفهم الله، فجعل منهم الأنبياء.
هل تسلقوا الجبل مع قطعانهم، وحملوا مزاميرهم في أيديهم، ووقعوا عليها نشيد الحياة الهادئة التي تتعالى عن الأرض، فلا تعرف المكر والغل.
.
وتتقرب من السماء، فلا تعرف إلا الإيمان والنور والحق.
وهل أنصت إلى نغماتهم الحلوة يا آذار التي يرسلونها في هذه الوحدة كأنها وحي السماء، ونغمة الكون المتسقة، فتنتقل أصداؤها في الجبال مع خفقات الريح.
ويلقنها الطير ليذهب يرتلها على الناس في الوديان والحقول والبساتين.
.
حبذا يا آذار.
حبذا لو استطعت أن تحملني على جناحين رفيقين من نسماتك اللطاف.
إلى مجالي الأنس، وربوع الحياة إلى مطارح الصبا وملاعب الفتوة.
أطفئ هذا الحنين الذي يأكل كبدي، وأقنع هذا الشوق الذي يضطرم في صدري.
برشفات من بردي.
ونسمات من (قاسيون) حبذا يا آذار.
حبذا.
(القاهرة) شكري فيصل