تعليق وتذييل حول
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
مناوأة الخدر والنعاس في الأدب المصري
للأستاذ زكي طليمات
أثار صديقاي الأستاذ الكبير توفيق الحكيم والدكتور بشر فارس مسألة الكساد الذي يعانيه النتاج الأدبي في مصر وهذه مسألة الساعة على ما أعتقد، وهي شغل الخاطر منذ أن راعنا كساد سوق الأدب والأديب في هذه السنوات الأخيرة، وهي سنوات مليئة بالأحداث تغيرت معها بعض أوضاع المجتمع المصري في السياسة وفي نظام الحكم، وهي سنوات تتصف بالنشاط والحركة، وبمحاولة التخلص من جمود ران على الذهنية المصرية القومية منذ أمد بعيد، وكان من أبين مظاهر هذا الجمود ركود الأدب وانكماش ملكات الابتكار والتوليد فيه بما يتفق وروح العصر. والذي أراه في هذا الصدد ويعن لي أن أبديه في هذا المقام هو أن من الحرج أن نرد أسباب هذا الكساد الذي يشمل عالم الأدب في مصر إلى الأديب وحده، وأن نتهم الكاتب المنشئ وحده بالخدر والنعاس، لأن الواقع يخالف هذا.
وآية ذلك أن المطابع تطلع علينا كل يوم بالمؤلفات أو التراجم في صنوف الأدب والفن، ولا أعلم أن النتاج الأدبي في مصر بلغ من الكثرة مثل ما بلغه اليوم فإذا كان هذا النتاج لا يقابل من الجمهور بالحماس الواجب، فلأن الفتور مفروض على كل شيء يجري في مصر، ولأن عدم الاكتراث صفة - ويا للأسف - من صفات الأكثرية الغالبة من الجمهور المصري ولا سيما فيما له علاقة بالأدب والفن.
ومرد ذلك - على ما أعتقد - إلى الطبع المصري الذي لم يستكمل بعد عناصر يقظته، ولم يستخلص له ذوقاً أدبياً صريح الطابع متماسك الأطراف متقارب النزعات يشمله التناسق والتوازن ومن ثم كان اضطراب المزاج في استيعاب الأدب وصنوفه، فإذا هو مزاج يعج بالبدوات ويخرج على شرعة الانسجام بميوله المتباينة ونزعاته الملتوية.
وجمهور القراء في مصر خاضع لهذا الاضطراب، فمنهم من يعيش بميول القرون الوسطى أو بما قبلها، ومنهم من يفزع من قراءة كل جديد في الفكر والرأي، ومنهم من هو ثائر على كل قديم، ومنهم من لا يرتاح إلى القديم أو الجديد ولا يعرف ما يريد!! هذا والسواد الأعظم من هذا الجمهور في صنوفه المتباينة التي ذكرت، على ثقافة مرتجلة أو هزيلة لافتقارها إلى الغداء السليم.
هذا ولا أتحدث عن الأمية التي ما برحت متفشية بيننا، ولا عن التعليم البسيط الذي لا يتجاوز مدى الكتابة والقراءة، وهو حظ الأكثرية الغالبة من جمهور القراء، أو المتأدبين، إذا صح أن نطلق عليهم هذا الاسم باعتبار أنهم قراء أوفياء للمجلات الهزلية وروايات الجيب وما شاكلها بعد هذا يصح أن نقول إن الأدب في مصر لم يصبح بعد لدى أكثرية الجمهور غذاء لابد منه وحاجه لا غنى عنها، وإنما هو لدى البعض زخرف وزينة، ولدى البعض الآخر ضرب من ضروب التسلية التي لا يستطاب الإقبال عليها في كل وقت وما دام الأمر كذلك فقد قدر علينا أن نرى محنة الأدب قائمة بيننا تغير وجوهاً ولا تتغير، تخف وطأتها بمقدار نصيبنا من انتشار التعليم ورفعة المستوى الثقافي العام.
وملاك الأمر في هذا راجع إلى جهودنا وإلى شرعة التطور والارتقاء، التي هي كلمة الزمان وإرادته. وإذا كان الصديقان الكبيران توفيق وبشر لا يريان ما أذهب إليه أو يريانه بعين الواعية الباطنة ثم هما لا يجرؤان على الإفاضة فيه والتنبيه إليه التنبيه الواجب، بل يعرضان له لمحاً ويعبران به عبراً، فذلك لأن الصديقين أديبان أصيلان مشبوبان، أخذت هوية الأدب بشغاف قلبيهما، فهما يحذران لمس العلة الكبرى التي يشكو الأدب منها في مصر أكثر من أي شيء آخر، وإذا هما لمساها بإيحاء خاطر يطلع عليهما من وراء الوعي، فإنهما لا يطيقان التمعن فيها، وسرعان ما يفزعان إلى أشياء أخرى يتعللان بها ويموهان بها على نفسيهما كذلك كان شأني إذ كِنت أعمل في المسرح المصري راكباً رأسي شاحذاً عزمي، لا همَّ لي إلا أن أفرض فن التمثيل على الجمهور، فقد كنت أعتقد أن أسباب كساد فن التمثيل ترجع إلى افتقار المسرح المصري إلى الممثل القادر والمخرج الحاذق والمؤلف النابه كنت أعتقد هذا وأرفع صوتي به وأعمل على تلاقي هذه الأسباب.
ولكن كان يقع لي أحياناً أن يهجس بي هاجس خفيت الصوت نافذة يهمس في أعماق نفسي أن العلة الأولى والأخيرة في كساد المسرح إنما هو الجمهور.
ماذا كنت أعمل؟ كنت أغالط نفسي، وهذه المغالطة - على ما أظن - مظهر من مظاهر كبرياء الفنان ومن حبه الكبير لنفسه ولفنه! هذا عن جمهور المسرح، وموقفه من فن التمثيل كموقف جمهور القراء من الأدب.
وجمهور القراء واحد من ثلاثة عناصر رئيسية يقوم عليها عالم الأدب في كل زمان ومكان. أما الكاتب المنشئ فموقفه من محنة الأدب في جمهور قرائه أنه لا يجيد العمل على تخفيف هذه المحنة بما يمتلكه من الوسائل. إذا أحس الكاتب في مصر بأنه يجيد الكتابة في أسلوب طلي وبيان رائع، وإن النفس يطول به إلى تسويد الصفحات المتوالية فقد نصب نفسه أديباً لا يشق له غبار، وينسى الأديب البطل المغوار - أو هو يتناسى - أن العبرة في الإنتاج الصالح.
ليست بالكمية، وإنما بالجودة.
وجودة الأدب أن يكون نباضاً بالحياة مما يشغل أذهان الناس، ويدخل على قلوبهم ويحرك رواكدهم، وينفخ فيهم نفساً من الحياة الدافقة التي ينطوي عليها. وإذا صح هذا فإنه يصح أيضاً - وهو الأمر الذي ترقى إليه الظنون - أن ننفي عن الأديب المصري تهمة النعاس والكسل، لأنه يعمل ويعمل كثيراً بدليل ما يطالعنا به كل يوم من المؤلفات والتراجم في مختلف نواحي الأدب، وهذا جل ما أفدناه من أخذنا بأسباب تطورنا الأخير. إلا إن هذا العمل الكبير يعوزه التوجيه الصائب والاستشعار الكامل بمهمة الأدب، ولهذا فإنه ينصب في غير غاية مقصودة ألهم إلا غاية الكتابة والتحبير فحسب. وتوجيه الأدب أمر لا يتم بمجرد الطلب والتمني.
واستشعار مهمة الأديب قد لا تحول كاتباً عن طريق اختطه لنفسه ولا تخرجه عن أسلوبه المختار ما لم تعاونها ظروف خاصة أبينها نصيب المجتمع الذي يعيش فيه الأديب من يقظة الروح المعنوي، وتفتح الذهنية العامة على الآفاق النائية، وقدرة البصيرة على تمييز الأشياء المختلطة ثم اختيار ما تريده منها؛ ثم قسط هذا المجتمع من صدق العاطفة ومن الصراحة ومن الإخلاص. ولا أريد أن أحدد نصيب مجتمعنا وقسطه مما ذهبت إليه الآن.
وحسبي أن أقول إن ما نراه من انحراف أدباء مصر - ما عدا القليل مهم - عن معالجة الأمور الهامة التي يخفق بها قلب مجتمعهم إنما مرجعه إلى أن أكثرية هؤلاء الأدباء ليسوا على حس مرهف تنطبع عليه كل التيارات التي تنبعث من واعية المجتمع ومن وراء واعيته، وإن هذه الأكثرية تعيش بعين الماضي لا بعين الحاضر، أو أنها لا تحيا إلا في أجواء الكتب التي نطالعها أو أنها تعبث لاهية مزهوة بالآراء الواردة علينا من أوربا مع واردات الأزياء وأخبار نجوم السينما. والأديب إذا لم يكن على هذا الحس المرهف لم يستطع أن يلتقط الهمسات التائهة التي ترتفع من وراء واعية مجتمعة، هذه الهمسات التي هي رغبات مكبوتة، وآمال مقنعة منشودة لا تقوى الجماهير على المصارحة بها، وتترك أمر الإبانة عنها وترديدها في جلجلة الرعد القاصف إلى قلم الأديب. أوجب واجبات الأديب نحو نفسه ونحو قومه ونحو فنه أن يستخرج هذه الهمسات من الضوضاء التي تحيطها، وأن يستلها من معاقلها ليحولها إلى ليحولها إلى صيحات صريحة تدوي في الفضاء.
فإذا لم يفعل ذلك فقد قضى على نتاجه بالعزلة عن الناس، وقطع ما بينه وبين الينبوع الذي منه يخرج ما يثير اهتمام الناس ويهز الركود الذي يرين على الأدب.
إذا لم يفعل ذلك قضى على نفسه أن يعيش على هامش الحياة، في حين أن الجمهور يعيش في صميم الحياة، كما يقضي على أدبه ألا يتجاوز أمر المرآة التي لا ينطبع عليها من آثار الأرض سوى أعالي الشجر ورؤوس التلال هذا هو الحال الأدباء في مصر وهذا هو موقفهم من محنة الأدب، وإن كان من بينهم من سبقوا عصرهم وأدوا شيئاً من رسالة الأدب الحقة أما حال الناقد، وهو العنصر الثالث الذي يقوم عليه الأدب، فلا أجد ما أصفه به أبلغ مما جاء في مقال الدكتور بشر فارس: (فإنه في غالب الأمر وأكثر الحال ينوه بصديق، أو يقع عدو، أو يهمل كتاباً جهلاً بفنه أو إنكاراً لنفاسته أو اتقاء لصاحبه أو تسامياً، أما التسامي فيدل على ذهاب بعضهم بأنفسهم على كل أحد وذلك من باب الغرور، وقصة الغرور معروفة.
) وإذا كان هذا هو شأن الناقد أيضاً، والناقد الحق هو بوق الكاتب المنشئ، ومذيع أعماله، ومقيم الميزان الذي لا يحيف ولا يخطئ لنتاج الأقلام، بل هو الحركة الدائبة التي تدفع البطيء وتهز الركود؛ فليس عجيباً بعد ذلك أن يرين الخدر والنعاس على الأدب في مصر فهل حان الوقت الذي نراجع فيه أعمالنا، ونشرع الحساب عل ضمائرنا ونفيق ونستقبل ضوء صباح جديد بعد نوم ثقيل طال؟ زكي طليمات