من برجنا العاجي
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
طالما صحت قائلاً: إن الدولة لا تنظر إلى الأدب بعين الجد، بل إنه عندها شيء وهمي لا وجود له ولا حساب. وأقول اليوم إن الأدباء أنفسهم لا يريدون أن يحملوا الدولة على الإيمان بحقيقة الأدب.
بل إن الآداب وقد أنكرتهم الدولة وأنكرت بضاعتهم لم يفعلوا شيء ولم يبدوا حراكا.
بل إن الأمر قد بلغ من السوء حداً رأى فيه الآداب نتائج أذهانهم يسقط في التراب كما تسقط ثمار الشجرة الناضجة، فلا يتحركون ولا يصيحون في الناس: أن اقبلوا واجمعوا هذه الفاكهة وانتفعوا بها واطلبوا المزيد حتى تنشط الشجرة للأثمار ولا يجف ماؤها من الترك والإهمال.
من العجب أن يلحظ الأدباء أن ثمار مواهبهم لا تصل إلى أيدي كثيرة فلا يجتمعون ليبحثوا هذه المشكلة.
ومن العجب أنهم يرون أن زبده جهودهم تتلقفها أيدي الوسطاء من التجار الذين يتربصون بهم كما تتربص جوارح الطير بصغار العصافير فلا يحاولون المداولة فيما بينهم للخلاص من هذا المصير.
إن انعدام روح النظام بين الأدباء وتفرق شملهم وانصرافهم عن النظر فيما يربطهم جميعاً من مصالح وما يعنيهم جميعاً من مسائل قد فوت عليهم النفع المادي والأدبي، وجعلهم فئة لا خطر لها ولا وزن في نظر الدولة، ولقمة باردة سائغة في فم التجار والوسطاء.
تلك حال الناضجين المعروفين من أدبائنا، أولئك الذين يتخذهم الناشئون من الأدباء مطمحاً لأنظارهم، ويرون فيهم حلماً ذهبياً جميلاً، ويتحرقون عجلة وشوقاً لبلوغ مراتبهم، ويتوسلون إليهم أن يأخذوا بأيديهم ويقودوهم في هذا الطريق.
واجب الأمانة يدعوني أن أصارح الناشيئن: إياكم أن تعقدوا الآمال الكبار على الأدب في بلادنا اليوم، إذا أستمر الحال على ما ترون.
فما أرض الأدب الآن سوى مستنقع مهمل، حرام أن تلقى فيه بذور.
وحسبكم تلك الزهرات القليلة الوحشية التي نبتت من تلقاء نفسها على حواشيه فلم يأبه لها أحد ولم يعن بتعهدها وريها إنسان! توفيق الحكيم البحتري أمير الصناعة للأستاذ عبد الرحمن شك (تتمة ما نشر في العدد الماضي) وللبحتري في ثنايا أبواب شعره أبيات كثيرة في الحكم والأمثال، بعضها يدل على فطنة لبعض نواحي الحياة والنفس، وبعضها معان مطروقة كساها ثوباً قشيباً.
فمن حكمة وأمثاله قوله: أُرَاِقبُ صول الوغد حين يهزه اق ...
تدار وصول الحر حين يضام وقوله: هو الحظ ينقص مقداره ...
لَمِنْ وزن الحظ أو كاَلهُ وقوله: لولا التباين في الطبائع لم يقم ...
بنيان هذا العالم المجبول وقوله: ولستَ ترى عود القتادة خائفاً ...
سموم الرياح الآخذات من الرند وقوله: واليأس إحدى الراحتين ولن ترى ...
تعباً كظن الخائب المكدود وقوله: كالكوكب الدُّرِّيِّ أخلص ضوَءهُ ...
حلكُ الدجى حتى تألق وانجلى وقوله: تَنَاس ذنوبَ قومك إن حفظ ال ...
ذنوب إذا قدمن من الذنوب وقوله: خلت جهلاً أن الشباب على طو ...
ل الليالي ذخيرة ليس تفنى وقوله: أدَعُ الصاحب لا أعذله ...
لاُ يسَمَّى بِعَقُوقٍ فَيعِقّ وقوله: وقديماً تداول العسر واليس ...
ر وكلُّ قَذَّى على الريح يطفو وقوله: صعوبة الرزء تُلْفَى في تَوَقِّعهِ ...
مستقبلاً وانقضاء الرزء أن يقعا وقوله: أغشى الخطوبَ فإما جئن مأربتي ...
فيما أُسَيِّر أو أحكمن تأديبي إن تَلْتَمِس تَمْرِ أَخْلافَ الأمورِ وإنْ ...
تلبثْ مع الدهر تسمعْ بالأعاجيب وقوله: كأنما شرف الشريف إذا انتمى ...
جُرْمٌ جناه على الوضيع الأصغر وقوله: إذا مَحاِسِنيَ اللاتي أُدِلُّ بها ...
كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر وقوله: ما أضعف الإنسان لولا همة ...
في نُبْلهِ أو قوة في لُبِّهِ وقوله: والشيءُ تُمْنعُهُ تكونِ بفَوته ...
أجد من الشيء الذي تُعطاهُ وقوله في التأسي بمصارع الموتى: إذا شئتَ أن تستصغر الخطب فالتفت ...
إلى سلف بالقاع أُهْمِلَ نائمة ومثل هذا كثير من شعره. وعندي أن غزل البحتري في مجموعه أرق وأحلى وأكثر نصيباً من الوجدان الفني من غزل أبي تمام.
فمن قصائد غزله المشهورة قصيدته التي يقول فيها: تمشى فتحكم في القلوب بِدَ لَّها ...
وتميس في ظل الشباب وتخطر وقصيدته التي يقول فيها: ذو فنون يريك في كل يوم ...
خلقا من جفائه مستجدا اغتدى راضياً وقد بتُّ غضبا ...
ن وأمسى مولى وأصبح عبدا وقصيدته التي يقول فيها: أيها العاتب الذي ليس يرضى ...
نم هنيئاً فلست أطعم غمضا وهي رقيقة ومشهورة.
ومن بديع غزله قصيدته التي يقول فيها: (ردي على المشتاق بعض رقاده) والقصيدة التي يقول فيها: دنتْ عند الوداع لو شك بين ...
دنو الشمس تجنح للأصيل وفيها يقول: وذَكَرَنيكِ والذكرى عناءٌ ...
مَشابِهُ فيكِ بينةُ الشُّكولِ نسيم الروض في ريح شمال ...
وصوبُ المزن في راح شمولِ والتي يقول فيها: وجدت نفسك من نفسي بمنزلة ...
هي المصافاةُ بين الماء والراحِ والتي يقول فيها: وهجر القرب منها كان أشهى ...
إلى المشتاق من وصل البعاد والتي يقول فيها (مِنِّى وصل ومنك هجر) والتي يقول فيها: بات أحلى لديَّ من سِنَةِ النو ...
م وأشهى من مفرحات الأماني والتي يقول فيها: إذا ما الكرى أهدى إليَّ خياله ...
شفى قرُبهُ التبريح أو نقع الصدى والتي يقول فيها: وفيهنّ مشغولٌ به الطرف هارَب ...
بعينيه من لحظ المحب اُلمَخالِس وهي ملاحظة فنية جميلة.
والتي يقول فيها: لم يُرْوَ من ماء الشباب ولا انجلت ...
ذهبية الصبوات عن أيامه وفيها يقول: أُترِيكَ أحلامُ الكرى ذا لوعة ...
كِلفَ الضلوع يراك في أحلامه والتي يقول فيها: أأنتِ ديار الحي أيتها الربى ال ...
أنيقة أم دار المها والنعائم وأيامنا فيك اللواتي تَصَرَّمتْ ...
مع الوصل أم أضغاث أحلام نائم لعل الليالي يكتسين بشاشة ...
فيجمعن من شمل النوى المتقادم والبحتري شاعر وصاف بماله من شهوة تذوق المرئيات بجمال فنه، فإن الفنان يتذوق مناظر الطبيعة والمرئيات عموما ًكما يتذوق الطعام من له ذوق خاص في الطعام والشراب؛ وقد لا يكون شره النظر أو قد يكون، كما أن الذي له ذوق خاص في الطعام والشراب قد يكون شره البطن وقد لا يكون ومن أجل شهوة تذوق الأمور بفنه أشك في أن البحتري قد تعمد أخْذَ كل ما أخَذَ من، المعاني فقد تكون شهوة التذوق بالعاطفة الفنية هي التي ساقته إلى هذه المعاني سواء أكان قد اطلع عليها أم لم يطلع وهي على أي حال مفردات.
ومن قصائده المشهورة في الوصف قصيدة ووصف آثار الفرس الفنية التي يقول في أولها (صنت نفسي عما يُدنَّس نفسي) وقصيدته في وصف بركة المتوكل التي يقول فيها: كأنما الفضة البيضاء سائلة ...
من السبائك تجري في مجاريها إذا علتها الصَّبا أبدت لها حبكا ...
مثل الجواشن مصقولاً حواشيها فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها ...
ورَيِّقُ الغيث أحياناً يباكيها إذا النجوم تراءت في جوانبها ...
ليلاً حسبتَ سماَء ركِّبتْ فيها ومن أوصافه المعروفة وصفه الشقائق في الأبيات التي يقول فيها: (سقى أكناف الحمى من محلة) وقصيدته التي يصف فيها الربيع وآثاره وفيها يقول: وقد نَبَّهَ النوروزُ في غلس الدجا ...
أوائلَ وردكن بالأمس نُوَّما يُفَتَّقها برد الندى فكأنه ...
يبثُّ حديثاً كان قبل مُكَتمَّا وله قصيدته البائية المشهورة في وصف صيد الفتح بن خاقان للأسد، والدالية التي فيها وصف لقائه (أي البحتري) الذئب في البيداء، ويعاود وصف الربيع كما فعل في قصيدته الرائية التي يقول فيها: (ألم تر تغليس الربيع المبكر) والميمية في وصف قصري المتوكل الصبيح والمليح وهي التي يقول فيها: حلل من منازل المُلكِ كالأنجم ...
يلمعن في سواد الظلام وقصيدته في وصف البيان وهي التي يقول فيها: لتفننتَ في الكتابة حتى ...
عَطَّل الناس فن عبد الحميد وهي مشهورة.
وله أوصاف أخرى منتشرة في قصائده من وصف للنبات والطبيعة أو للحروب وآثارها مثل القصيدة الفريدة التي يقول فيها: أسيت لأخوالي ربيعه إذ عفت ...
مصايفها منها وأقوت ربوعها ومراثي البحتري مراثي صنعة تكاد تغطي على الصنعة لأن العاطفة الفنية فيها تغنى على العاطفة الحقيقية أو قد تكون مقرونة بشيء منها، وقد ظفر بنو حميد بمراث بلغت غاية الروعة الفنية من شعر أبي تمام ومن شعر البحتري.
ولعل أبدع قصائده فيهم قصيدته التي يقول في مطلعها: أقصر حميد لا عزاء لمغرم ...
ولا قَصْرَ عن دمع وإن كان من دم أفي كل عام لا تزال مُرَوَّعاً ...
بفَذِّ نَعِيٍ تارة أو بتوأم إلى أن يقول: فصرتَ كعُشٍ خلَّفتْه فراخهُ ...
بعلياء فرع الأثلة الُمتَهَشَّمِ ثم يقول: سلام على تلك الخلائق إنها ...
مُسلَّمَةٌ من كل عار ومأثم ومن المختار له في الرثاء قصيدته في سليمان بن وهب التي يقول فيها: أَأُخيَّ نهْنِهْ دمعك المسفوكا ...
إن الحوادث ينصر من وشيكا وقصيدته التي يقول فيها (ابني عبيدٍ شد ما احترقَت لكم) والتي يقول فيها (جحدنا سهمة الحدثان فينا).
ومن أشهر قصائده في الرثاء رثاء المتوكل وقد قيل إن ابنه المنتصر ولي العهد دس له من اغتاله وإلى ذلك يشير البحتري في قوله: - أكان وَلُّيِ العهد أضمر غدرة ...
فمِنْ عَجَبٍ أَنْ وُلَّيَ الأمر غَادِرُهْ وهو لم يتمتع بالخلافة إلا بضعة أشهر.
ويقال إن ضميره أفسد عليه تلك الأشهر من حياته.
ويخيل إلي أن البحتري لم يعلن هذه القصيدة إلا بعد وفاة المنتصر إلا يكون قد تنبأ بها وأجاب الله دعوته في قوله: فلا مُلِّيَ الباقي تراثَ الذي مضى ...
ولا حملتْ ذاك الدعاء منابرُهْ وفيها يمدح المعتز بن المتوكل فيقول: وإني لأرجو أن تُرَدَّ أمورُكم ...
إلى خلَف من شخصه لا يغادرُه مُقلَّب آراء تخافُ أناته ...
إذا الأخرق العجلان خيفت بوادرُهْ وإني أشك في صدق قوله وأرى أنه من شواهد ما قدمت من اختلاط الخيال بالعاطفة: أُدَافعُ عنه باليدين ولم يكن ...
ليثنى الأعادي أعزلُ الليل حاسرُهْ ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي ...
درى الفاتك العجلان كيف أساوره إذا أنه لو فعل كما قال إنه فعل لقتله الفاتكون.
ولكن المشهود في القصيدة روعة الصنعة وفخامتها لا عمق العاطفة.
والحق أن البحتري إذا ملك صناعته ولم يتكلفها أتى بها وهي في بهجتها وحلاوتها حقيقة بالمدح الذي مدح به البحتري منزلة ممدوحة في قوله: منيت أحاديث النفوس بذكرها ...
وأفاق كلُّ منافس وحسود وأصدق قول يقال في البحتري وأبى تمام هو ما قاله البحتري نفسه إذ قال إن جيد أبي تمام خير من جيدة، ورديء أبي تمام شر من رديئة.
ومثل هذا القول يصح أن يقال أيضاً في البحتري وأبن الرومي، ولا نعني بالجودة الصناعة فحسب بل كل ما ينهض به الشعر من ميزات.
وللبحتري قصائد في العتاب هي من أجل ما كتب في اللغة العربية في هذا الباب ولا سيما عتابه للفتح بن خاقان في قصيدته البائية التي يقول فيها: ولو لم تكن ساخطا لم أكن ...
أذم الزمان وأشكو الخطوبا والميمية التي يقول فيها: أعيذك أن أخشاك من غير حادث ...
تبيّن أو جرم إليك تقدّما وفي صنعة عتابه كما في صنعة مدحه حلاوة وسهولة المتناول، وليس فيها اللجاجة الفكرية التي بذلها ابن الرومي في قصيدته في العتاب التي يقول فيها (يا أخي أين ريع ذاك اللقاء).
على أن هذه القصيدة لابن الرومي لا تمثل إلا ناحية واحدة من نواحي مقدرته في العتاب فله نواح أخرى منها ناحية العتاب الممزوج بالهجاء، ومنها ناحية العتاب الذي فيه خضوع للمعاتب.
وابن الرومي أوسع مقدرة من البحتري وأكثر نصيباً من ذخائر اللب وإن كان البحتري أوفر نصيباً من بهجة الصنعة. وقد جاء في كتاب الأغاني وصف إنشاد البحتري لشعره: فقال المؤلف إنه كان يتشادق في إنشاده، ويتزاور، ويتمايل، ويلوح بكمه، ويتقدم ويتاخر، ومعنى هذا الوصف أنه كان يُمَثَّل كما يصنع الممثل على المسرح، وإني أميل إلى تصديق هذه الرواية إذ أنها تؤيد ما ذهبت إليه من أن البحتري كانت عنده صفة يكثر ظهورها في بعض الممثلين، وهي اختلاط الأحاسيس التي يمثلونها بحقائق الحياة حتى يصعب التمييز بينهما، وقد ضربت من أمثال ذلك مثلاً من غزله ومن رثائه للمتوكل.
ولم يكتف البحتري في إلقائه بطريقة الممثلين في الإنشاد، بل كان ينظر إلى الحاضرين ويطلب منهم الاستحسان ويلومهم إذا لم يظهروا الإعجاب والاستحسان؛ وطلبُ الاستحسان من المشاهدين والحرص عليه والانتشاء به من صفات الممثلين أيضاً.
وقد ضجر منه المتوكل يوماً لمغالاته في هذه الأعمال.
فأغرى به شاعراً صغيراً عبث به في شعره.
ولو جاز أن نتمنى سماع إنشاد البحتري لشعره لتمنينا أن نسمعه ينشد بهذه الطريقة التمثيلية قطعة من شعره تساعد على إظهار مقدرة الممثل قوله في قتاله للذئب: عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته ...
فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد فأوجرته خرقاء تحسب ريشها ...
على كوكب ينقض والليل مسود فما ازداد إلا جرأة وصرامة ...
وأيقنت أن الأمر منه هو الجد فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها ...
بحيث يكون اللب والرعب والحقد فخرَّ وقد أوردته منهل الردى ...
على ظمأ لو أنه عذب الوِرد ونلت خسيساً منه ثم تركته ...
وأقلعتُ عنه وهو منعفر فرد ولا غرابة أن يكون عند الشاعر الذي عماده الصناعة اللفظية صفة الممثل الذي ينتشي بما يقول حتى يخلق له القول عاطفة فنية لا تكاد تميز من الأحاسيس الناشئة من حوادث الحياة في نفوس بعض ذوي الفنون.
وفي الأخبار التي وردت عن البحتري نرى أنه كان يمدح شاعرين هما: أبو تمام، والعباس بن الأحنف.
وفي شعر البحتري أثر محاكاته للأول في الصنعة البيانية ومعانيها وللثاني في بعض الغزل من شعره. عبد الرحمن شكري