أرشيف المقالات

لماذا نقرأ سورة (تبارك الذي بيده الملك) كل ليلة؟

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
لماذا نقرأ سورة
(تبارك الذي بيده الملك) كل ليلة؟

 
سورة تبارك سورة مبارَكة، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتمنَّى أنها في قلب كلِّ إنسان من أمته؛ فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل: ألا أُطرفك بحديث تفرَح به؟
قال: بلى، يا أبا عباس، يرحمك الله.
قال: اقرأ: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: 1]، فاحفظْها، وعلِّمها أهلك، وجميع ولدك، وصبيان بيتك، وجيرانك؛ فإنها المنجية، وهي المجادِلة، تجادل وتخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب إلى ربها أن يُنجيه من النار إذا كانت في جوفه، وينجي الله بها صاحبها من عذاب القبر.
قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((وددتُ أنها في قلب كل إنسان مِن أمتي))[1].
وهذا إرشاد منه عليه الصلاة والسلام لكل مسلم أن يحفظ هذه السورة، ويعلّمها أهله وجيرانه.
ولكن، لماذا نقرؤها في كل ليلة؟ تأمَّلتُ ذلك، فرأيت أنها تُقرأ للأسباب التالية:
♦ أولاً: نقرؤها اتِّباعًا للنبي صلى الله عليه وسلَّم؛ فقد جاء عن جابر رضي الله عنه "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم كان لا ينام حتى يقرأ: آلم تنزيل، وتبارك الذي بيده الملك"[2]، فأنت إذا قرأتها تكون متَّبعًا لسنَّة النبي صلى الله عليه وسلَّم.
♦ ثانيًا: هي سبب في الشفاعة ومغفرة الذنوب؛ يدلُّ على ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال: ((إنَّ سورةً من القرآن ثلاثون آيةً، شفعت لرجل حتى غُفر له، وهي سورة تبارك الذي بيده الملك))[3].
♦ ثالثًا: تُنجي من عذاب القبر؛ فقد كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "مَن قرأ ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: 1] كلَّ ليلة منعه الله بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نُسمِّيها المانعة، وإنها في كتاب الله، سورة مَن قرأ بها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب"[4].
 
♦ رابعًا: تُرسِّخ في قلب المسلم صفتين من صفات الكمال التي يتَّصف بها سبحانه؛ فهو مالك الملك، وهو القادر المقتدر المتصرِّف في ملكه وعبيده بما يشاء؛ فقد افتُتحت بقوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾ [الملك: 1].
ومن يوقن أن الله تعالى هو مالك الملك، القدير على كل شيء، اطمأنَّ قلبه، وهدأت نفسه، وانصبَغَ بأنوار الرضا أيَّما انصباغ!
♦ خامسًا: تُخبرنا عن سبب وجودنا في هذه الحياة، وهو سؤال طالما سأل عنه الإنسان، فجاء الجواب بقوله سبحانه: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].
وكأنَّ الله تعالى يريد أن يقول لك: أيها المسلم، إنك لم تُخلق عبثًا؛ ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾ [المؤمنون: 115]، وأنك خلقت للعمل في هذه الحياة، وأن هذا العمل يجب أن يتّصف بالإحسان.
وهنا نلاحظ أن الله سبحانه لم يقلْ: أكثركم عملاً؛ لأن الكثرة في ميزان الله تعالى لا تعني شيئًا ما لم تكن منضبطة بشرع الله تعالى، ويقصد بها وجهه، وإنما قال: أيكم أحسن عملاً، وهو أعظم اختبار نتعرّض له في هذه الحياة.
ولهذا كان على المسلم أن يقف عند هذه الآية عندما يقرؤها في كل ليلة، حتى تترسَّخ في قلبه معاني اﻹحسان، فإذا استيقظ في الصباح، ومَشى في مناكب الأرض وفي جنباتها حاول أن يُحسن العمل.
ومِن مظاهر إحسان العمل: أن يكون وَفْق شرع الله تعالى، ومِن هنا كان على المسلم في أيِّ تَخصُّص كان، وفي أي عمل كان، أن يسأل، وأن يستفتي العلماء عن عمله، فإن كان مما يُرضي الله عز وجل عمله وهو مطمئنٌّ، وإلا تركه.
ومِن مظاهر اﻹحسان اﻹخلاص فيه، والعمل الخالي من اﻹخلاص مردود على صاحبه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((مَن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان))[5].
ومن مظاهر إحسان العمل: اﻹتقان؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ الله يحب الرجل إذا عمل عملاً أن يُتقنه"[6].
وإتقان العمل مطلوب في أيِّ عمل يقوم به المسلم؛ حتى يَنسجِم مع الكون البديع من حوله، أليس قد قال الله تعالى في هذه السورة: " ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾ [الملك: 3].
وكأنَّ الحق سبحانه يقول: أيها اﻹنسان، انظر إلى هذا الكون الجميل، البديع في صنعِه، وحاول أن تكون متقنًا لأعمالك كهذا الكون الذي تعيش فيه!
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدَّ أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته))[7]، وقال أيضًا: ((إنَّ الله جميل يحب الجمال))[8].
وفي هذَين النصَّين إرشاد للمسلم أن يبحث عن الأحسن في كل مفرَدات حياته.
وقد أخبرنا الله تعالى عن الفتية الذين آمنوا بربهم، فقال: ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ﴾ [الكهف: 19] هؤلاء الشباب الذين آمنوا بالله وارتضوا دينه بحثوا عن الطعام الطيب، وحكى الله لنا ذلك مع إقراره.
إنَّ الله تبارك وتعالى يُعلِّمنا أن نأخذ الأحسن في كل شيء، أليس قد قال: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
وإذا أحسنتَ في كل مفردات حياتك أصبحت مِن المحسنين، الذين يُحبُّهم الله سبحانه، وهو مقام رفيع، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجله التي يَمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه..))[9].
♦ سادسًا: تعلَّمنا قانون الحركة، ففي هذه السورة آية تتحدث عن هذا القانون المهمِّ في حياة الأفراد والمجتمعات، وهي قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
وهي رسالة توجِّه اﻹنسان في الليل ليستعدَّ صباح كل يوم للسير في جنبات اﻷرض التي ذلِّلت له، حتى يأكل من الطيبات التي خلَقها الله له، وأكرمه بها، وأن مَن اتَّصف بالكسل ليس له نصيب في هذه المأدبة.
والكسل مرض عضال قد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: ((اللهمَّ إني أعوذ بك من العجز والكسل..))[10].
♦ سابعًا: في هذه السورة آية تتحدث عن عالم جميل، هو عالم الطير، وتَلفِت اﻷنظار للتعلُّم منه؛ قال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِير ﴾ [الملك: 19]، وقد ألقى الله تعالى في قلبي حب الطير منذ الصِّغَر، فكنتُ أراقبهم، وأستمتع بحركاتهم وتقلباتهم في جو السماء، كما كنت أسرُّ بتغريداتهم في الصباح؛ فهي تعبير جميل عن أنشودة الشكر التي توجه إلى مبدع السموات واﻷرض، وقد تعلَّمتُ منهم دروسًا، وهي:
1 - التسبيح: قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [النور: 41]، وقد لاحظت تجمعهم، وارتفاع أصواتهم بالتسبيح قبل الفجر، وبعد الفجر، وقبل غروب الشمس، وبعد غروبها.
 
2 - النظام والانضباط، فهم يأوون إلى أماكنِهم ومكامنهم قبل الغروب، وينتشرون في الصباح الباكر.
 
3 - الاستقامة: وهم لا يُغيِّرون عوائدهم في المبيت، ولا سعيهم على أرزاقهم في النهار، ولا هجرتهم في المواسم.
4 - الذَّوق؛ إذ إن الطير تَبتعِد في الليل عن مواطن السكن!
5 - الألفة فيما بينهم؛ فهم يتجمعون في أمكنة معيَّنة، ويتآلفون!
6 - النوم مبكِّرًا، والاستيقاظ قبل الفجر.
7 - العمل بروح الفريق، ويستفاد ذلك من قوله تعالى: ﴿ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ﴾ [النور: 41]، ويلاحظ ذلك في تجمُّعهم عند النوم، وانتشارهم في جو السماء، وغير ذلك.
8 - التوكُّل على الله تعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا، وتروح بطانًا))[11].
وكأن الله تعالى يقول لنا: يا عبادي، ما عليكم إلا أن تمشوا في اﻷرض، ثم تتوكَّلوا عليَّ، وأنا سوف أرزقكم كما أرزق الطير؛ تغدو في الصباح وهي جائعة، وترجع في المساء وقد امتلأت بطونها.
♦ ثامنًا: تحدِّثنا آيات من هذه السورة عن النهاية الحزينة المفجعة لمن أعرض عن الله سبحانه، ولم يستمع لما جاءت به الرسل، ولم يعقل سبب وجوده في هذه الحياة، في مشهد مؤثر للنار بشهيقها وتغيُّظها، وتقريع خزنتها للمعرضين والمكذبين، وهو نافع لمن تأمَّله واصطحَبه في ذهنه في ليله ونهاره حذرًا من هذه النهاية المؤلمة؛ قال تعالى: ﴿ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ  * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ  * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ  * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 6 - 10].
 

[1] المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (15 / 371) وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (5 / 53): "هذا حديث حسن غريب".وهذا الحديث أخرجه الحاكم في مستدركه (1 / 565) مختصرًا، وقال: "هذا إسناد عند اليمانيين صحيح، ولم يخرجاه".
[2] أخرجه الترمذي في جامعه (2892).
[3] أخرجه الترمذي في جامعه (2891) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن".
[4] رواه النسائي في عمل اليوم والليلة، رقم (711)، وقال: "مختصر"، وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (5 / 51): "هذا حديث حسن"، ورواه الحاكم في تفسير سورة الملك (2 / 498) بأطول مما هنا، وقال: "صحيح الإِسناد ولم يُخرِجاه"، ووافقه الذهبي.
[5] أخرجه أبو داود في سننه (4681) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وإسناده حسن.
[6] رواه الطبراني في الأوسط (891)، وغيره، وإسناده صحيح.
[7] أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1955) عن شداد بن أوس.
[8] رواه مسلم (91)، وغيره.
[9] أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في صحيحه (2823) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[11] أخرجه الترمذي في جامعه (2344) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن