الفهم والحفظ
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
الفهم والحفظالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فقال تعالى:﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 78، 79].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].
وقال تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 49].
وقال تعالى:﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112].
وقال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 16].
في هذه الآيات الكريمات وما سيأتي من النصوص النبوية ينقسم الناس في العلم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: من أُوتي فهمًا ولم يؤت حفظًا تجتمع به جميع نصوص الشريعة.
روى البخاري في صحيحه من حديث علي رضي الله عنه أن رجلًا قال له: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي القُرْآنِ»[1] الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: «وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»، وسيأتي بتمامه.
القسم الثاني: من أتاه الله حفظًا ولم يُؤتَ فهمًا، روى أبو داود في سننه من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلمقال: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»[2]، وهذان القسمان محمودان، دعا لهما النبي صلى الله عليه وسلمبأن ينضر الله وجوههما، وكل واحد منهما محتاج إلى الآخر، فالحافظ يحتاج إلى الفقيه ليبيِّن له ما في المحفوظات من كنوز العلم ودقائق الفقه، وذو الفهم يحتاج إلى الحافظ ليمده بالنصوص ليستخرج منها الحكم التي تفوت بغياب بعض النصوص الشرعية.
وإذا تأملنا الواقع فإنا نجد أن الأخطاء في فهم النصوص الشرعية تعود إلى أحد هذين الأمرين؛ إما حافظ ليس بفقيه أُعجب بحفظه، فحمَّل النصوص ما لم تحتمل من المعاني البعيدة عنها، وإما فقيه غابت عنه بعض النصوص، فاجتهد فيما لديه منها وحمَّلها معاني لا تُفهم إلا بالنصوص الغائبة عنه، فالحذر الحذر أن يغترَّ من آتاه الله أحد هاتين الصفتين دون الأخرى أن يقول على الله وفي دين الله بغير علم؛ «مثال ذلك ما رواه البخاري في صحيحه لَما نزلت الآية: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،وقالوا: أيُّنا لم يلبَس إيمانه بظلم؟ فقال رسولالله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ! أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13][3].
ومنها: ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلمقال: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ»، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى:﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 8]؟ فقال رسولالله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا ذَلِكِ العَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا عُذِّبَ»[4].
القسم الثالث: «من جمع الله له الأمرين جميعًا قوة الحفظ وقوة الفقه، وهذا وإن كان قليلًا أو نادرًا، فهو في أعلى المراتب وأعظمها أجرًا وأكثرها نفعًا».
القسم الرابع: من لم يؤت حفظًا ولا فهمًا، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلمهذه المراتب الأربع فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»[5].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] (3047).
[2] برقم (3660) وصححه الشيخ الألباني۴ في صحيح سنن أبي داود برقم (3108).
[3] صحيح البخاري برقم (4776).
[4] صحيح البخاري برقم (6537)، وصحيح مسلم برقم (2876).
[5] صحيح البخاري برقم (79)، وصحيح مسلم برقم (2282).