نداءات الرحمن لأهل الإيمان 28


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا وعنهم، آمين.

وقد انتهى بنا دراسة هذه النداءات إلى النداء السابع والعشرين، والنداءات تسعون نداء، ولا يسع المؤمن الحق إلا أن يستمع إليها أو يقرأها، ويعلم ما فيها، ويطيع ربه تعالى فيما أمره به، أو نهاه عنه.

ولولا الغفلة الضاربة أطنابها على المسلمين ما ترك هذه النداءات مسلم، بل لوقف عليها، وعرف ما فيها؛ إذ إن الذي ناداه هو مولاه ومالك أمره، والذي بيده سعادته وشقاؤه، وهو يناديه ليأمره بما من شأنه أن يكمله ويسعده، أو ينهاه عن شيء من شأنه أن يرديه ويشقيه، أو ليبشره بشريات الإيمان وصالح الأعمال، فينشرح الصدر وتطمئن النفس ويطيب الخاطر. أو يناديه ليحذره من عواقب السوء، ومضلات الفتن؛ حتى ينجو من المحن ويخرج من الفتن، وحاشا لله تعالى أن ينادي عبده لا لشيء، فهو لا يناديه إلا لما فيه كماله وسعادته، فلا يحسن بمؤمن يعرف أن الله ناداه تسعين نداء، ثم لا يعرف عنه في ذلك شيئاً. وعلى كل هكذا جرت مقادير الله في الناس، وما علينا إلا أن نحمد الله عز وجل الذي جمعنا على هذه النداءات، وفتح علينا فيها، ففهمنا منها ما أراد الله أن نفهم، وعملنا بما يسع قدرتنا وطاقتنا؛ إذ لا تكلف نفس إلا وسعها. وهذه النداءات ما تركت شاردة ولا واردة تتعلق بحياة المسلم إلا واشتملت عليها.

وهذا هو [ النداء السابع والعشرون ] وفحواه وخلاصته والمراد منه هو [ في حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، والتحذير من ذلك ] أي: والتحذير من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، لما فيه من أسوأ العواقب وأقبحها وأشدها.

وهيا نتغنى بهذا النداء.

[ الآية (144) من سورة النساء

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144] ]، أي: إن أنتم يا عباد الله المؤمنين! استمررتم وداومتم وواصلتم موالاة الكافرين دون إخوانكم المؤمنين فقد أذنتم لربكم في أن يضربكم. هذا المعنى. لقوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]؟ ولا أحد يرغب في أن يسلط الله تعالى على نفسه؛ ليؤدبه ويضربه. وسبحان الله! أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]؟ أي: حجة قاطعة بأنكم أهل للعذاب والانتقام.

والآن مع [ الشرح ] لهذا النداء، يقول الشارح غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ اذكر أيها القارئ الكريم! والمستمع المستفيد! ] لأن هذه النداءات من كان يحسن القراءة والفهم قرأ، ومن كان لا يحسن القراءة ينبغي أن يقول لأخيه المؤمن: يا أخي! أسمعني نداءات ربي، وليس في هذا نقص أو عيب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـعبد الله بن مسعود : ( أسمعني شيئاً من القرآن يا عبد الله ! ). فيعجب عبد الله ويقول: ( أعليك أنزل وعليك أقرأ؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري ). وقرأ أكثر من ثلاثين آية والرسول منصت ومصغ يسمع، ولما بلغ آية هزته ذرفت عيناه الدموع وبكى وقال: ( حسبك حسبك ). والآية التي أبكته ما تبكينا نحن؛ لأن قلوبنا متحجرة، وأما هو فقد أبكته والله العظيم، وهي قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]. فهذه أبكت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيشهد على أمته، ونحن كما علمتم قلوبنا حجرية، لا لين فيها ولا رقة؛ لأن أقذار الدنيا وأوساخها غطت هذه القلوب.

ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين دون غيرهم

فاذكر [ أن نداء الله تعالى ] الإلهي [ الموجه إلى عباده المؤمنين سببه ولايته تعالى للمؤمنين ] فما دام وليهم فلا بد أن ينصح لهم، وأن يرفع من شأنهم، ولا بد وأن يعلمهم، وأن يبعد عنهم كل المخاطر والمخاوف؛ لأنه وليهم. وأما نحن فنأكل أولياءنا، فالمؤمنون يأكل بعضهم بعضاً، وهم مؤمنون وإخوان، والله لا يرضى أن تؤذي وليه، وأنت ترضى أن تؤذيه! فهذا يغتاب، وهذا ينم، وهذا يسرق، وهذا يفجر، وهذا يكذب، وهذا يقتل، والله الغني الحميد، لا يرضى أن يؤذى وليه، واقرءوا إن شئتم، أو اسمعوا قول الله تعالى في الحديث القدسي: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ). والذي يعلن الله الحرب عليه لا ينجح، ولا ينتصر، ولا يكون هذا، بل لا يكون إلا الخسران والتمزق اللانهائي، ونحن نؤذي أولياء الله.

قال: [ لأنهم آمنوا به وبلقائه، وبكل ما أمرهم بالإيمان به، من ملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره ] وزادوا بعد الإيمان التقوى [ واتقوه فيما أمرهم به ففعلوه، وفيما نهاهم عنه فتركوه، فهو يناديهم بعنوان الإيمان المنبئ ] والمخبر [ بحياتهم وكمالهم ] والأحياء في الناس هم المؤمنون المتقون، وإياك أن تفهم أنني أخطأت، فوالله ما أخطأت، فالأحياء هم المؤمنون المتقون، والكافرون أموات، لا قيمة لهم ولا وزن لهم. والبرهنة النبوية على ذلك: ما سبق أن فقيراً من فقراء المدينة رث الهيئة رزي الصورة مر بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما مضى قال لهم: ( ما تقولون: في هذا؟ فقالوا: هذا حري - أو حقير- إذا أمر ما يطاع، وإذا قال لا يسمع له، وإذا خطب لا يزوج، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء آخر جميل الطلعة بهي الهيئة، مر بين أيديهم ومضى، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: وما تقولون في هذا؟ قالوا: - العكس- هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا أمر أن يطاع، وإذا قال أن يسمع له، فقال لهم: والله لملء الأرض من هذا لا تساوي ذاك الذي قلتم فيه كذا وكذا ).

وأزيدكم برهاناً: لو اجتمع أهل الأرض الكافرون على قتل مؤمن لقتلوا عن آخرهم وإن كانوا ملايين؛ لأن هذا حي، يسمع ويبصر .. يعي ويفهم ويعمل، ويعبد ربه، وأولئك أموات، فإذا قتلت المقتول لم يحصل شيء؛ لأنه ميت، وكل من يكفر بربه ولقائه، ويعبد شيطانه وهواه، أو يعبد غير الله فهو ميت، وليس بحي، وحياته كالعدم، لا قيمة لها.

وها نحن يحذرنا مولانا، بل يحرم علينا أن نوالي الكافرين؛ لأنهم أموات، فتعاونوا مع الأحياء، وأما أن توالوا أمواتاً فأنتم مجانين، فالميت لا يستفاد منه، فإذا استغثت به لم يغثك، وإذا استنصرته لم ينصرك؛ لأنه ميت، وليس لصحبتك له فائدة. وعجب هذا القرآن، وقد قالت الجن: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1] .

قال: [ ليأمرهم أو ينهاهم، أو يرشدهم، أو يحذرهم أو يبشرهم بما يزيد في طاقة إيمانهم وصالح أعمالهم، ويحذرهم مما يقعد بهم عما خلقوا له من تزكية أنفسهم بذكر الله تعالى وشكره؛ ليتأهلوا للنزول في منازل الأبرار بدار السلام ] وذلك [ بعد نهاية عملهم] وحياتهم [ بموتهم، ومفارقة أرواحهم أبدانهم ] ونحن إذا سمعنا الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا) لا نتحرك ولا نهتز، وهو يناديك بعنوان الإيمان، وهو يريد ولا بد أن ينفعنا ولا يضرنا، فهو ما أمر إلا بما فيه خيرنا، ولا نهى إلا عما فيه شرنا، واحلف بالله ولا تحنث أنه ما أمرك إلا ليبشرك؛ لتزيد طاقة إيمانك ورضاك، وحبك لله، أو لينذرك من مخاوف ومخاطر أنت عاجز عن أن تواجهها، أو تعيش فيها ساعة.

النهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين

قال: [ ناداهم تعالى في هذا النداء الكريم لينهاهم عن اتخاذ الكافرين أولياء لهم دون إخوانهم المؤمنين ] فلا تترك إخوانك المؤمنين ولا تحبهم ولا تنصرهم، وتوالي كافراً تحبه وتنصره على إخوانك أيضاً المؤمنين، فهذا لا يعقل ولا يقبل، ولكن لولا أنه وقع ما أخبر تعالى عنه، ولو يعلم الله أنه لا يقع لما أخبر عنه. فهذا التحذير عظيم [ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:144] ] فلا تتركوا المؤمنين وتوالوا الكافرين، فهذا جنون، وبذلك تعادون الأحياء وتبغضونهم، وتحبون الأموات وتنصرونهم، وهذه مهزلة عظيمة [ ومعنى اتخاذهم أولياء ] لأنه قال: لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ [النساء:144]. وهيا نحبس أنفسنا دقيقة هنا؛ لنعرف معنى اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، فمعنى هذا: [ أن يحبوهم ويقربوهم ] فلا يجوز أن تحب من يكره الله، وإذا أحب سيدك فلاناً وكرهته أو كره سيدك فلاناً وأحببته فهذا والله هو التناقض بالمرة، والمؤمنون الصادقون يحبون ما أحب ربهم، ويكرهون ما يكره ربهم، ولو كره ربهم أباهم فوالله إنهم يكرهونه، ولو كره زوجاتهم والله لكرهوهن، وإذا أحب الله عبداً فقيراً ممزقاً أو أمة فوالله إنهم يحبونه؛ لأنه عبد الله، وقد أحبه سيدهم فيحبونه [ ويأخذوا بنصحهم وإرشادهم وتوجيههم، مع نصرتهم ومد يد العون لهم دون إخوانهم المؤمنين ] وهذا قد حدث من المنافقين في المدينة، وسيحدث؛ لأن هذا الكتاب كتاب الله؛ لإنقاذ البشرية وهدايتها في جميع عصورها وديارها، حتى يرفعه، فيصبح المسلمون وليس بينهم من يحفظ آية، بعد أن ينتهى أمرهم، فيرفعه الله إليه [ ومثل هذا التحريم لموالاة الكافرين دون المؤمنين ما جاء في قوله تعالى من سورة آل عمران، وهو قوله عز وجل: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [آل عمران:28] ] أيها المؤمنون! أي: يوالي الكافرين ويكره المؤمنين [ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28] ] والآية معناها: أنه أطلق من عنان السماء إلى الأرض ليتمزق، فقد انتهت كفالة الله وولايته حمايته له، وألقي به ليتمزق.

ما يتقي به المؤمن الكافرين

قال تعالى: [ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] ] أي: إلا أن تتقوا من الكافرين تقية خاصة، كأن يكون الرجل في بلاد الكفر، وليس له أولياء من المؤمنين، فيتقيهم بالكلمة اللينة التي لا تثير حقدهم ولا حنقهم على المسلمين. وهذه رخصة رخص الله تعالى فيها للمؤمن، إذا وجد نفسه بين كفار وهو وحده، فله أن يلين كلمته، وأن يخفف عبارته، وأن يستعمل آداب خاصة؛ ليتقي بها سخطهم ونقمتهم وعذابهم للمؤمنين. وهذه الرخصة أفتى بها الله عز وجل، فقال: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] [ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28] ] فإياك يا عبد الله! أن تتمرد على الله، وتفسق عن أمره، وتخرج عن طاعته، وتجاهره بكبائر الذنوب، وتوالي أعداءه ضد أوليائه، فإن الله لا يرضى بهذا، وإن لله أولياء، وله أعداء وأنت تنتسب إلى الولاية، فلا توالي أعداءه؛ لأنك تناقضه، فهو لا يحب الكافرين وأنت تحبهم، وبهذا تتمزق ولايتك مع الله، ولا تبقى لك ولاية. وقد يوجد يهود ونصارى كفاراً في قريتنا أو مدينتنا، وليس الواجب والله أن نذبح أطفالهم، أو نمنعهم من الطعام والشراب حتى يموتوا، أو نسلط عليهم البعوض حتى يأكلهم، أو نمنعهم من العمل ونشردهم، بل كل ما في الأمر أن الواجب ألا نحبهم ولا ننصرهم، لا أن نؤذيهم؛ لأنهم عبيد لربنا عصوه وفسقوا عن أمره، فنحن نتهيأ لأن نهديهم، وأن نرجع بهم إلى عمل تحت راية سيدهم، ومن هنا نحسن إليهم بالكلمة، وأما أن نحبهم بقلوبنا أو أن نؤيدهم على الكفر ليزدادوا كفراً فهذا محال، وإذا فعلنا هذا تناقضنا.

الفرق بين التقية والمداراة وبين المداهنة

قال: [ إلا أن هذا التحريم معه استثناء، وهو أن يكون المؤمن في دار الكفر، قائماً بينهم ] فهنا [ أذن ] الله [ له أن يداريهم بلسانه بالكلمة ] اللينة [ الملينة للجانب، المبعدة للبغضاء، بشرط: أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان ] لا يتزعزع. فدارهم ما دمت في دارهم، وهذا مثل عامي، والمداراة خلاف المداهنة وضدها، فالمداراة كما علمنا الآن: أن تلين كلمتك، وتظهر عطفك ورحمتك؛ من أجل أن تحفظ دينك وعبادتك، فالمداراة أُذن لنا فيها، وهي أنك تتنازل عن شيء من مالك؛ من أجل أن تحفظ شيئاً من دينك، فأنت لما تداري هذا الكافر فلا تسب ولا تشتم ولا تعير ولا تقبح، وتقول الكلمة اللينة الطيبة التي لا تزعج فإنك تفعل هذا من أجل أن تحفظ حياتك وعبادتك لربك عز وجل. فهذه مداراة. وأما أن تتنازل عن شيء من دينك لتحفظ دنياك فهذا الذي لا يجوز ولا يصح. فالمداراة غير المداهنة وخلافها. قال تعالى في المداهنة: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]. وهيا معاشر المستمعين! نحفظ هذه الحكمة، وإن كنا ننسى فالله يذكرنا: هناك فرق بين المداهنة والمداراة، فدار ولا تداهن، وداره ولا تداهنه؛ إذ المداراة التنازل عن شيء من دنياك؛ لتحفظ شيئاً من دينك، فأنت إذا تنازلت لهذا الكافر، فقلت له كلمة طيبة، أو أصلحت له حذاءه، أو أوقفت له فرسه فإنك تفعل هذا من أجل ألا يضربك ويأخذك في دينك، وأنت تستعمل هذا لحماية عقيدتك وعبادتك لربك. وهذه المداراة جاءت في هذه الآية: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]. وأما المداهنة الممقوتة فهي التي قال تعالى فيها: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]. والمداهنة كما قالت العلماء هي: أن تتنازل عن شيء من دينك لتحفظ شيئاً من دنياك.

ولو بقينا هذه الأمسية في هذه الحكمة لما كنا مشينا كثيراً، فهناك مداهنة ومداراة، والمداراة مأذون فيها من الله، والمداهنة محرمة تحريماً كاملاً، فدار ولا تداهن. واحفظ الفرق بين المداراة والمداهنة، فالمداراة: أن تتنازل عن شيء من دنياك لتحفظ شيئاً من دينك، والمداهنة: أن تتنازل عن شيء من دينك لتحفظ شيئاً من دنياك. فالخمر حرام بالإجماع، وليس فيها خلافاً، فإذا جلس التاجر في مجلس تجار وبين أيديهم الوسكي يشربون بعد أن بحث عنهم، فقالوا: إنهم موجودون في المحل الفلاني، وهو يريد أن يأخذ منهم تجارة، وليس عنده رأس مال، فأعطوه تجارة بربح معين، وخاف إذا لم يشرب معهم الخمر أن يغضبوا عليه، ولا يثقوا به ولا يعطوه، فيتصور هذا التصور، ويقول: صبوا أشرب معكم، فيشرب معهم الخمر من أجل أن يداهنهم، هذا الدهان. وهذا الموقف مخز، ومبغض من الله، ولا يرضاه الله أبداً؛ لأنه مداهنة.

وأما المداراة فكما قدمنا، كأن تجيء تريد منهم تجارة أو عمل، فمن المداراة أنك تفتح لهم الباب، وأن ترحب بقولك: تفضلوا، أو أن تفتح باب السيارة؛ ليركب، أو كأن يطلب منك أن تأتيه بحاجة فتأخذ وتشتري له. فهذه مداراة من أجل أن تبقي أو تحفظ شيئاً من دينك؛ لأنك إذا تشددت وغضبت يضربونك، أو يمنعونك من الصلاة. فلهذا المداهنة حرام، والمداراة جائزة، والفرق بينهما: أن المداراة: أن تتنازل عن شيء من دنياك حتى من بدنك؛ من أجل أن تحفظ شيئاً من دينك، والمداهنة بالعكس، أنك تتنازل عن شيء من دينك لتحفظ شيئاً من دنياك، ولن يكون هذا الموقف من مؤمن واع بصير، عرف هذا النداء وغيره. إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28].

معنى التقاة

قال: [ كما قال ابن عباس رضي الله عنه ] في التقاة: [ التقاة هي: أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ] هذه هي التقاة، وفي الحقيقة يقال: هي التقِيَّة، وليس التُقية، فالتقاة: أن تتكلم بلسانك؛ لتهدئ من غضب الكافر أو سخطه، أو تحمسه على المؤمنين بكلمة طيبة، وقلبك في نفس الوقت ساكن بإيمانك بالله ولقائه، وإنما فقط أعطيته طرف لسانك [ ولا يقتل، ولا يأتي مأثماً ] وهذا من كلام الحبر ابن عباس ، أي: ولا يأتي مأثماً من المآثم، كالزنا والخمر، وما إلى ذلك.

عدم دلالة قوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) على جواز موالاة الكافرين

قال: [ ولنعلم ] أيها المستمعون والمستمعات! [ أن هذا الاستثناء ] أي: في الآية: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] [ لا يبيح أبداً موالاة الكافرين ] لأنه استثناء خاص بالكلمة اللينة [ إذ هو مؤقت بحال الضعف والخوف ] فلما يكون المؤمن ضعيفاً بين الكفار خائفاً بينهم يستعمل هذه الآلة المسماة بالتَّقِية؛ حتى يدفع عن نفسه الأذى منهم، لكن لا بد وأن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، وألا يحبهم بقلبه، وألا يعمل ضد ربه ونبيه والمؤمنين أي عمل، فلا بد من هذه المراعاة [ ولم يتجاوز مداراتهم بالكلمة اللينة المبعدة لغيظهم وبغضهم، أما حبهم ونصرتهم فلا استثناء فيهما أبداً، إلا أن يؤمنوا بالله، ويدخلوا في الإسلام ] فحبهم ونصرتهم لا يمكن أن يوجد هذا في المؤمنين، وأما المداراة فنعم هي الرخصة الإلهية، كما قال تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]. ما داموا أقوياء ونحن ضعفاء، وأما أن نتنازل عن ولاية الله فنواليهم والله عدوهم فهذا لا يصلح أبداً.

عاقبة موالاة الكافرين

قال: [ ولنذكر الوعيد والتهديد في الآيتين، إذ في الأولى قال تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]، أي: حجة واضحة على تعذيبكم بما شاء ] أن يعذبكم به [ من أنواع العذاب، وأنتم أولياؤه؟ فكيف لو كان النداء للمؤمنين في الظاهر وهم المنافقون؟ ] فقوله: ( يا أيها الذين آمنوا) - كما تقدم أمس- نادى به المؤمنين والكافرين والمنافقين، والقرآن حمال الوجوه [ فإن الله تعالى إن لم يكفوا من موالاة الكافرين فإنه سينزل فيهم قرآناً، ويسلط رسوله والمؤمنين عليهم، فيعذبونهم ويخزونهم ويقتلونهم ] فإذا كان هذا النداء موجهاً إلى المنافقين وبحكم أنهم مؤمنون في الظاهر فقد أنزل هذا ليحذرهم من عاقبة موالاة الكافرين ضد المؤمنين، ويجعل هكذا له سلطان عليهم، بأن ينزل قرآناً يفضحهم، أو يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقتالهم، وطردهم من المدينة [ أما إذا كان هذا النداء موجهاً إلى أولياء الله المؤمنين ظاهراً وباطناً فإنه ] تعالى [ يحذرهم من موالاة الكافرين دائماً وأبداً، وفي كل الأزمنة والظروف، فإن هم لم يحذروا تحذيره، ولم يرهبوا وعيده عذبهم بما شاء، ولقد عذب المؤمنين في ديار الأندلس بتعذيبهم بأبشع أنواع العذاب، إذ قتلوا وشردوا ] وأحرقوا بالنار [ وأبعدوا من ديارهم، وذلك بسبب موالاتهم للكافرين وطلب نصرتهم على إخوانهم ] فبلاد الأندلس كانت جنة الإسلام، والسبب الذي سلط عليهم النصارى فأخذوهم وقتلوهم وشردوهم وحولوا مساجدهم إلى كنائس، وفعلوا بهم ما لم يخطر بالبال، ورموا بهم في البحار لأن المؤمنين فسقوا عن أمر الله، فشربوا الخمر، وتعاطوا الزنا، واستعملوا الرشوة في الأحكام والقضاء، وأضاعوا الصلاة، وتعرضوا للشهوات، وغرتهم الحياة، فانقسموا وأصبحوا كتلاً وجماعات، أو مناطق كل منطقة مستقلة عن أختها، وهذا الذي يستقل لا بد وأن يستعين بالنصارى، فاستعانوا بأعداء الله عليهم وعلى إخوانهم المؤمنين، لا على الكافرين، فحصل الذي حصل. وهذا ليس خيالاً، بل والله لهو الواقع، فبدل من أن تبقى تلك البلاد دولة واحدة وأمة واحدة وكلمة واحدة وتابعة للخلافة الإسلامية في الشرق أخذوا يستقلون مناطق وأقاليم، والاستقلال في حاجة إلى مؤيد، فاتخذوا المؤيد من النصارى، وحل بهم ما توعد الله، فجعلوا لله عليهم سلطاناً مبيناً، وكان الأولياء يرمون بعشرات الألف في البحر، ويقلون بالزيت، وسبب هذا الخروج عن طاعة الله، كما قال تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]؟ وهذا لا يريده إلا العميان والضائعون [ ولقد عذب المؤمنون في شتى ديارهم؛ لعدم طاعتهم لله تعالى في معاداة الكافرين، إذ تشبهوا بهم وأحبوهم وناصروهم، وأخذوا بإرشادهم ونصائحهم؛ حتى أذلوهم وأهانوهم، وإلى اليوم والمسلمون أذلاء مهانون للكافرين؛ لعلة فسقهم عن طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله ] صلى الله عليه وسلم [ إذ أخذوا بقوانين الكافرين، وحكموا بها المؤمنين؛ حباً في الكافرين وموالاة لهم ] ولا تظنوا أن ما حل بالأندلس قد انتهى، فالمسلمون الآن يتهيئون لضربة إلهية والله العظيم، وإن لم يتوبوا ويعلنوا عن توبتهم لله فإن آيات الله ستنزل بهم، كما قال تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]. وإن أردت أن تعرف مظاهر الهبوط فاعلم أننا نعيش على ثلاثة وأربعين دولة، وهذا حرام ولا يجوز، وهو ظلم وفساد، فأمة الإسلام كالأسرة الواحدة، كما قال تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52]. لا أن يكون لها ثلاثة وأربعين دولة. وسبب هذا الهروب من شريعة الله؛ حتى لا يطبق شرع الله، وهذه المعصية وحدها تستلزم ضربة إلهية يحار فيها اللبيب، ولكن فقط إن الله يملي ويمهل حتى إذا أخذ لم يفلت.

وكذلك تحكيمهم لقوانين الشرق والغرب، وسخريتهم من قوانين السعودية أيضاً واستهزاؤهم منها، وهذا لا يرضي لله عز وجل، فالله هو الذي يضع شرعه وقوانينه لعباده، ونستغني نحن عنه، ونتخذ شرائع وقوانين من أنفسنا، أو نأخذها من أعدائنا، وهذه الزلة وحدها لا يمكن تقديرها، لولا لطف الله وحلمه ورحمته. فقد ضاعت الأندلس وجمهوريات الإسلام في شرق أوروبا، وانتهت عزة الإسلام وسلطانه، والعرب أهل هذه العزة ممزقون أذلة في كل مكان. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أراه على المنبر يخطب الناس، فقال: ( إن الله ليملي للظالم ). والظالم هو نحن، وكل الذي يعتاض عن كتاب الله وهدي رسوله قانوناً آخر فهو ظالم؛ إذ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] ). وإن قلت: أولئك عجم وكذا، أقول لك: والعرب تحكمت فيهم بريطانيا، وحكمتهم إيطاليا، وأذلتهم فرنسا، وفعلت بهم إسبانيا، وحتى بلجيكا، وحصل ما حصل. فلا نشك في كلام الله عندما قال: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]؟ وكأنهم يقولون: نعم نريد، فانتظروا، وإن لم يستفق المؤمنون - كما قلنا الآف المرات- ويأتون الروضة المحمدية ويتعانقون ويبايعون إمامهم ويصبح كل العالم الإسلامي تحت راية لا إله إلا الله، ويكون المسلم أخو المسلم، والمؤمن أخو المؤمن، وفي ظروف كهذه إذا كبروا اهتزت الدنيا، ولا تمر أربعة وعشرون ساعة والعالم في تيهان إلا ودخل في الإسلام، ولكن منعهم من ذلك الهوى والدنيا، والجهل قبل كل ذلك. والله عز وجل الحليم، لا يترك أولياءه يفسقون ولا يؤدبهم، بل لا بد من التأديب.

تحذير الله لعباده من الخروج عن طاعته

قال: [ أما الوعيد والتحذير في الآية الثانية- آية آل عمران- فقد قال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28] ] ولا يوجد تحذير أعظم من هذا. فإن أنتم خرجتم عن طاعتنا، فواليتم أعداءنا وأحببتموهم، وتركتم أولياءنا وكرهتموهم، وأبيتم أن تستعملوا تلك الرخصة وهي التقية، وجاهرتم بالمعصية فها هو تعالى يحذركم نفسه، فإنه إذا غضب فغضب الله لا يطاق أبداً، فيحيل النعم نقماً [ ومعنى يحذركم نفسه أي: يخوفكم عقابه وعذابه إن أنتم لم تمتثلوا أمره، ولم تجتنبوا نهيه، وذلك بموالتكم الكافرين بعدم بغضهم، وبمناصرتكم لهم على إخوانكم المؤمنين في أي مجال من مجالات الحياة؛ إذ الذي يوالي أعداء الله قد عادى الله، وقطع حبل ولايته به، فكيف يكون حال هذا العبد الذي كان الله وليه فأصبح الله عدوه والعياذ بالله، إن حاله لا تكون إلا الذل والهوان والضعف والصغار؛ إذ مصيره كمصير غيره إلى الله عز وجل، ومن صار أمره إلى الله وقد عصاة وفسق عن أمره وخرج عن طاعته فأحب ما كره وكره ما أحب، ووالى من عادى، وعادى من والى فكيف يكون مصيره؟ إنه خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

ألا فلنتق الله أيها المؤمنون بامتثال أمره واجتناب نهيه، وقد نهانا عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وحذرنا بقوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]؟ فهل بقي لنا من عذر؟ والجواب: لا. والأكبر من ذلك: فقد أرانا نقمته وعذابه الذي حذرنا منه في شتى بلاد العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، أما سلط علينا الكفار فاستعمرونا واستغلونا وأذاقونا مر العذاب؟

ألا فلنتق الله قبل أن يعود الخزي والعذاب مرة أخرى بأشد من الأول. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].