خطب ومحاضرات
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 28
الحلقة مفرغة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا وعنهم، آمين.
وقد انتهى بنا دراسة هذه النداءات إلى النداء السابع والعشرين، والنداءات تسعون نداء، ولا يسع المؤمن الحق إلا أن يستمع إليها أو يقرأها، ويعلم ما فيها، ويطيع ربه تعالى فيما أمره به، أو نهاه عنه.
ولولا الغفلة الضاربة أطنابها على المسلمين ما ترك هذه النداءات مسلم، بل لوقف عليها، وعرف ما فيها؛ إذ إن الذي ناداه هو مولاه ومالك أمره، والذي بيده سعادته وشقاؤه، وهو يناديه ليأمره بما من شأنه أن يكمله ويسعده، أو ينهاه عن شيء من شأنه أن يرديه ويشقيه، أو ليبشره بشريات الإيمان وصالح الأعمال، فينشرح الصدر وتطمئن النفس ويطيب الخاطر. أو يناديه ليحذره من عواقب السوء، ومضلات الفتن؛ حتى ينجو من المحن ويخرج من الفتن، وحاشا لله تعالى أن ينادي عبده لا لشيء، فهو لا يناديه إلا لما فيه كماله وسعادته، فلا يحسن بمؤمن يعرف أن الله ناداه تسعين نداء، ثم لا يعرف عنه في ذلك شيئاً. وعلى كل هكذا جرت مقادير الله في الناس، وما علينا إلا أن نحمد الله عز وجل الذي جمعنا على هذه النداءات، وفتح علينا فيها، ففهمنا منها ما أراد الله أن نفهم، وعملنا بما يسع قدرتنا وطاقتنا؛ إذ لا تكلف نفس إلا وسعها. وهذه النداءات ما تركت شاردة ولا واردة تتعلق بحياة المسلم إلا واشتملت عليها.
وهذا هو [ النداء السابع والعشرون ] وفحواه وخلاصته والمراد منه هو [ في حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، والتحذير من ذلك ] أي: والتحذير من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، لما فيه من أسوأ العواقب وأقبحها وأشدها.
وهيا نتغنى بهذا النداء.
[ الآية (144) من سورة النساء
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144] ]، أي: إن أنتم يا عباد الله المؤمنين! استمررتم وداومتم وواصلتم موالاة الكافرين دون إخوانكم المؤمنين فقد أذنتم لربكم في أن يضربكم. هذا المعنى. لقوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]؟ ولا أحد يرغب في أن يسلط الله تعالى على نفسه؛ ليؤدبه ويضربه. وسبحان الله! أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]؟ أي: حجة قاطعة بأنكم أهل للعذاب والانتقام.
والآن مع [ الشرح ] لهذا النداء، يقول الشارح غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ اذكر أيها القارئ الكريم! والمستمع المستفيد! ] لأن هذه النداءات من كان يحسن القراءة والفهم قرأ، ومن كان لا يحسن القراءة ينبغي أن يقول لأخيه المؤمن: يا أخي! أسمعني نداءات ربي، وليس في هذا نقص أو عيب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـعبد الله بن مسعود : ( أسمعني شيئاً من القرآن يا
ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين دون غيرهم
قال: [ لأنهم آمنوا به وبلقائه، وبكل ما أمرهم بالإيمان به، من ملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره ] وزادوا بعد الإيمان التقوى [ واتقوه فيما أمرهم به ففعلوه، وفيما نهاهم عنه فتركوه، فهو يناديهم بعنوان الإيمان المنبئ ] والمخبر [ بحياتهم وكمالهم ] والأحياء في الناس هم المؤمنون المتقون، وإياك أن تفهم أنني أخطأت، فوالله ما أخطأت، فالأحياء هم المؤمنون المتقون، والكافرون أموات، لا قيمة لهم ولا وزن لهم. والبرهنة النبوية على ذلك: ما سبق أن فقيراً من فقراء المدينة رث الهيئة رزي الصورة مر بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما مضى قال لهم: ( ما تقولون: في هذا؟ فقالوا: هذا حري - أو حقير- إذا أمر ما يطاع، وإذا قال لا يسمع له، وإذا خطب لا يزوج، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء آخر جميل الطلعة بهي الهيئة، مر بين أيديهم ومضى، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: وما تقولون في هذا؟ قالوا: - العكس- هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا أمر أن يطاع، وإذا قال أن يسمع له، فقال لهم: والله لملء الأرض من هذا لا تساوي ذاك الذي قلتم فيه كذا وكذا ).
وأزيدكم برهاناً: لو اجتمع أهل الأرض الكافرون على قتل مؤمن لقتلوا عن آخرهم وإن كانوا ملايين؛ لأن هذا حي، يسمع ويبصر .. يعي ويفهم ويعمل، ويعبد ربه، وأولئك أموات، فإذا قتلت المقتول لم يحصل شيء؛ لأنه ميت، وكل من يكفر بربه ولقائه، ويعبد شيطانه وهواه، أو يعبد غير الله فهو ميت، وليس بحي، وحياته كالعدم، لا قيمة لها.
وها نحن يحذرنا مولانا، بل يحرم علينا أن نوالي الكافرين؛ لأنهم أموات، فتعاونوا مع الأحياء، وأما أن توالوا أمواتاً فأنتم مجانين، فالميت لا يستفاد منه، فإذا استغثت به لم يغثك، وإذا استنصرته لم ينصرك؛ لأنه ميت، وليس لصحبتك له فائدة. وعجب هذا القرآن، وقد قالت الجن: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1] .
قال: [ ليأمرهم أو ينهاهم، أو يرشدهم، أو يحذرهم أو يبشرهم بما يزيد في طاقة إيمانهم وصالح أعمالهم، ويحذرهم مما يقعد بهم عما خلقوا له من تزكية أنفسهم بذكر الله تعالى وشكره؛ ليتأهلوا للنزول في منازل الأبرار بدار السلام ] وذلك [ بعد نهاية عملهم] وحياتهم [ بموتهم، ومفارقة أرواحهم أبدانهم ] ونحن إذا سمعنا الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا) لا نتحرك ولا نهتز، وهو يناديك بعنوان الإيمان، وهو يريد ولا بد أن ينفعنا ولا يضرنا، فهو ما أمر إلا بما فيه خيرنا، ولا نهى إلا عما فيه شرنا، واحلف بالله ولا تحنث أنه ما أمرك إلا ليبشرك؛ لتزيد طاقة إيمانك ورضاك، وحبك لله، أو لينذرك من مخاوف ومخاطر أنت عاجز عن أن تواجهها، أو تعيش فيها ساعة.
النهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين
ما يتقي به المؤمن الكافرين
الفرق بين التقية والمداراة وبين المداهنة
ولو بقينا هذه الأمسية في هذه الحكمة لما كنا مشينا كثيراً، فهناك مداهنة ومداراة، والمداراة مأذون فيها من الله، والمداهنة محرمة تحريماً كاملاً، فدار ولا تداهن. واحفظ الفرق بين المداراة والمداهنة، فالمداراة: أن تتنازل عن شيء من دنياك لتحفظ شيئاً من دينك، والمداهنة: أن تتنازل عن شيء من دينك لتحفظ شيئاً من دنياك. فالخمر حرام بالإجماع، وليس فيها خلافاً، فإذا جلس التاجر في مجلس تجار وبين أيديهم الوسكي يشربون بعد أن بحث عنهم، فقالوا: إنهم موجودون في المحل الفلاني، وهو يريد أن يأخذ منهم تجارة، وليس عنده رأس مال، فأعطوه تجارة بربح معين، وخاف إذا لم يشرب معهم الخمر أن يغضبوا عليه، ولا يثقوا به ولا يعطوه، فيتصور هذا التصور، ويقول: صبوا أشرب معكم، فيشرب معهم الخمر من أجل أن يداهنهم، هذا الدهان. وهذا الموقف مخز، ومبغض من الله، ولا يرضاه الله أبداً؛ لأنه مداهنة.
وأما المداراة فكما قدمنا، كأن تجيء تريد منهم تجارة أو عمل، فمن المداراة أنك تفتح لهم الباب، وأن ترحب بقولك: تفضلوا، أو أن تفتح باب السيارة؛ ليركب، أو كأن يطلب منك أن تأتيه بحاجة فتأخذ وتشتري له. فهذه مداراة من أجل أن تبقي أو تحفظ شيئاً من دينك؛ لأنك إذا تشددت وغضبت يضربونك، أو يمنعونك من الصلاة. فلهذا المداهنة حرام، والمداراة جائزة، والفرق بينهما: أن المداراة: أن تتنازل عن شيء من دنياك حتى من بدنك؛ من أجل أن تحفظ شيئاً من دينك، والمداهنة بالعكس، أنك تتنازل عن شيء من دينك لتحفظ شيئاً من دنياك، ولن يكون هذا الموقف من مؤمن واع بصير، عرف هذا النداء وغيره. إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28].
معنى التقاة
عدم دلالة قوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) على جواز موالاة الكافرين
عاقبة موالاة الكافرين
وكذلك تحكيمهم لقوانين الشرق والغرب، وسخريتهم من قوانين السعودية أيضاً واستهزاؤهم منها، وهذا لا يرضي لله عز وجل، فالله هو الذي يضع شرعه وقوانينه لعباده، ونستغني نحن عنه، ونتخذ شرائع وقوانين من أنفسنا، أو نأخذها من أعدائنا، وهذه الزلة وحدها لا يمكن تقديرها، لولا لطف الله وحلمه ورحمته. فقد ضاعت الأندلس وجمهوريات الإسلام في شرق أوروبا، وانتهت عزة الإسلام وسلطانه، والعرب أهل هذه العزة ممزقون أذلة في كل مكان. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أراه على المنبر يخطب الناس، فقال: ( إن الله ليملي للظالم ). والظالم هو نحن، وكل الذي يعتاض عن كتاب الله وهدي رسوله قانوناً آخر فهو ظالم؛ إذ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] ). وإن قلت: أولئك عجم وكذا، أقول لك: والعرب تحكمت فيهم بريطانيا، وحكمتهم إيطاليا، وأذلتهم فرنسا، وفعلت بهم إسبانيا، وحتى بلجيكا، وحصل ما حصل. فلا نشك في كلام الله عندما قال: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]؟ وكأنهم يقولون: نعم نريد، فانتظروا، وإن لم يستفق المؤمنون - كما قلنا الآف المرات- ويأتون الروضة المحمدية ويتعانقون ويبايعون إمامهم ويصبح كل العالم الإسلامي تحت راية لا إله إلا الله، ويكون المسلم أخو المسلم، والمؤمن أخو المؤمن، وفي ظروف كهذه إذا كبروا اهتزت الدنيا، ولا تمر أربعة وعشرون ساعة والعالم في تيهان إلا ودخل في الإسلام، ولكن منعهم من ذلك الهوى والدنيا، والجهل قبل كل ذلك. والله عز وجل الحليم، لا يترك أولياءه يفسقون ولا يؤدبهم، بل لا بد من التأديب.
تحذير الله لعباده من الخروج عن طاعته
ألا فلنتق الله أيها المؤمنون بامتثال أمره واجتناب نهيه، وقد نهانا عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وحذرنا بقوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]؟ فهل بقي لنا من عذر؟ والجواب: لا. والأكبر من ذلك: فقد أرانا نقمته وعذابه الذي حذرنا منه في شتى بلاد العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، أما سلط علينا الكفار فاستعمرونا واستغلونا وأذاقونا مر العذاب؟
ألا فلنتق الله قبل أن يعود الخزي والعذاب مرة أخرى بأشد من الأول. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 72 | 4035 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 49 | 3693 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 68 | 3679 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 47 | 3655 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 41 | 3505 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 91 | 3482 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 51 | 3478 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 50 | 3471 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 60 | 3427 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 75 | 3383 استماع |