طالب العلم والمنهج


الحلقة مفرغة

خرج النبي صلى الله عليه وسلم بألف مقاتل من المدينة لملاقاة قريش عند أحد، وفي أثناء الطريق رجع عبد الله بن أبي رأس المنافقين بثلث الجيش، فلما وصل النبي بجيشه إلى أحد أمر الرماة بالصعود إلى الجبل والمكث فيه وعدم النزول مهما كانت نتيجة المعركة، وكانت الغلبة أول الأمر للمسلمين، وتفرق المشركون وولوا الأدبار، فلما رأى الرماة ما آلت إليه نتيجة المعركة طمع نفر منهم في الغنائم، فنزلوا عن الجبل مخالفين أمر رسول الله، عندها استغل المشركون غفلة المسلمين فمالوا عليهم وقتلوا منهم عدداً كبيراً كان على رأسهم حمزة عم النبي، وأصيب المسلمون في هذه المعركة مصاباً جللاً.

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فأحمد الله الذي لا إله إلا هو، أحمد الله الذي برأ الخليقة، وأشهد أهل العلم على خير حقيقة، فقال سبحانه وتعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18].

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد سيد الأنبياء والمرسلين القائل: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، هو صاحب السنة الذي قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).

وبعد:

أيها الإخوة! فإن أشرف ما صرفت فيه الأوقات طلب العلم، ذلك أن العلم الشرعي يدل على الله سبحانه وتعالى، ويقود إلى معرفته وخشيته، والعلم بشريعته، ولأجل ذلك كان أفضل الناس بعد الأنبياء هم العلماء، وهم ورثة الأنبياء، والعلم مراتب، وطلاب العلم لهم من هذا الشرف نصيب ولا شك، ولأجل هذا فإن الحث على طلب العلم أمر مهم، وهذا العلم بحر غزير، ومن أجل ذلك كان لابد من معرفة القواعد التي تيسر لطالب العلم الطلب، وتهديه إلى الطريقة الصحيحة والمنهج السوي، إذا إن الكثيرين يتحمسون لطلب العلم، ولكنهم قد لا يعرفون المنهج الصحيح في طلبه.

وقد سبق أن تكلمنا في محاضرة بعنوان: (كيف نتحمس لطلب العلم؟) عن مسألة الدوافع والحماس والحوافز، ووعدنا بأن نتكلم في محاضرة أخرى عن المنهجية في طلب العلم، وهاهي ذي هذه المحاضرة بعنوان: (طالب العلم والمنهج) أسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأن يجعلنا وإياكم على السنة هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.

ليس كل مريد للحق يصيبه، فكم من أناس أرادوا الحق فلم يصيبوه، والكلام في مسألة المنهجية لا تصلح لمثلي؛ لأن الذي يريد أن يتكلم في المنهج لابد أن يكون من أهل العلم الراسخين فيه، ولكني استعنت بالله سبحانه وتعالى، ولجأت إلى كتب أهل العلم لأنقل منها كثيراً من القواعد التي تحدد المنهج في الطلب، فرجعت في هذه المحاضرة إلى كلام العلماء المتقدمين، مثل كلام الإمام أحمد رحمه الله وابن رجب والذهبي وابن مفلح وابن القيم وابن الجوزي وغيرهم من أصحاب الكتب المصنفة في هذا الموضوع، مثل الخطيب البغدادي رحمه الله.

ولجأت إلى بعض أهل العلم الموجودين الآن كالشيخ عبد العزيز بن باز وغيره من العلماء وطلاب العلم الكبار؛ لأجل استخراج الضوابط والقواعد في هذا المنهج، فما أصبت فمن الله، وما أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل العروة الوثقى المتمسكين بالسنة والحريصين على طلب العلم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

أما المنهج في طلب العلم فإن له شُعب كثيرة، وقواعد متعددة، فمن هذه الأمور:

معرفة المنهج الذي ينبغي طلبه

أولاً: معرفة ما هو العلم الذي ينبغي طلبه؟

قال ابن رجب رحمه الله في تعريف العلم الذي يطلب، في شرح حديث: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) قال: فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهد في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق لذلك؛ إن كان من الأمور العلمية -لأن كثيراً من الأحاديث تضمنت أموراً علمية اعتقادية، وليست أعمال جوارح- وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيع من الأوامر، واجتناب ما يُنهى عنه، وتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك.

ثم قال رحمه الله تعالى: أما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنة الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها، وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك.

وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شُغل شاغل عن التشاغل بما أُحدث من الرأي مما لا ينتفع به:

العلم قال الله قال رسوله     قال الصحابة ليس خُلف فيه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة     بين الرسول وبين قول فقيه

كلا ولا جحد الصفات ونفيها     حذراً من التأويل والتشبيه

واعلموا -رحمكم الله- أن من العلم ما يكون من صلب العلم، ومنه ما يكون من ملح العلم وأطرافه، ومنه ما ليس بعلم أصلاً، فالذي شرحناه قبل قليل هو من كلام ابن رجب رحمه الله هو طلب العلم، وأما ملح العلم فسيأتي أشياء منه، ولكن في العموم ليس هو من الأشياء الأساسية، وإنما أطراف وفوائد ونكت، فهذا يكون في الدرجة الثانية، ومنه ما ليس بعلم أصلاً، كالسعي لمعرفة أحكام العبادات التي لم يخبر الشرع عن الحكمة فيها، مثل أن يقول الإنسان: أريد أن أبحث لماذا عدد ركعات صلاة الظهر أربع ركعات؟! وعدد ركعات صلاة المغرب ثلاث ركعات؟! وعدد ركعات صلاة الفجر ركعتين؟! ما هي الحكمة؟!

أو لماذا اختص الصيام بالنهار دون الليل؟!

لماذا اختص الحج بالرمي والوقوف بـعرفة ومزدلفة ؟! وقد يزعم بعض الناس حكماً لا تكون من مقاصد الشارع أصلاً.

قال الشاطبي رحمه الله مضيفاً -أيضاً- في هذا التقسيم في الأشياء التي ليست من العلم، أو أن الإنشغال ببعض الملح يصيرها أشياء غير نافعة، فتفوت على الإنسان خيراً كثيراً، وأشياء من الأساسيات، فمما ضربه رحمه الله تعالى من الأمثلة جمع طرق للحديث التي لا داعي لها.

فحديث متواتر يأتي فيجمع طرقه لأي شيء وقد بين العلماء أنه متواتر وذكروا طرقه، كما قال حمزة الكناني : خرَّجتُ حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من نحو مائتي طريق، فداخلني في ذلك الفرح، فنمت فرأيت في النوم يحيى بن معين ، فسألته عن هذا؟ ففكر ساعة ثم أجابني، وقال: أظن أنه يدخل تحت قول الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1].

نحن لا نعتمد على الرؤى في العلم فهي ليست علماً، ولا يجوز الحكم على الأشياء من خلال الرؤى والمنامات، لكن الرؤى إذا وافقت الكتاب والسنة فيستأنس بها، فمن الأشياء التي ليست بعلم أصلاً، ما يراه الإنسان في الرؤى والمنامات، ولذلك الصوفية من ضلالهم أنهم يعتمدون على الرؤى والمنامات في إثبات العلم، يقولون: هذا علم أصيل، رأيت في المنام حدثني قلبي عن ربي، وهكذا.

من التكلف الخوض في مسائل لا ينبني عليها عمل

ومن المنهج في طلب العلم، أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه، فالعلم منه ما هو ضروري، ومنه ما هو حاجي، ومنه ما هو تحسيني، ومنه ما ليس بعلم أصلاً كما ذكرنا.

ولذلك لما سألوا: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة:189] ما هو سؤالهم؟

قالوا: لماذا يكون الهلال في أول الشهر خيطاً رفيعاً، ثم يمتلأ فيصير بدراً في منتصف الشهر، ثم يعود إلى حالته الأولى؟ فصرفهم الله عز وجل عن هذا الشيء الذي لا ينبني عليه عمل إلى الشيء الذي ينبني عليه عمل، فقال لهم: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] فأعرض عما لا يفيد عملاً للمكلف إلى شيء يفيد عملاً، فقال: هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].

ولما سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: متى الساعة؟

هذا لا يفيد، والله عز وجل اختص بمعرفته، فبماذا أجاب عليه الصلاة والسلام؟ (ما أعددت لها؟).

ولما جاء صبيغ بن عسل يشوش ويسأل في مجالس العامة: ما هي المرسلات؟ ما هي السابحات؟ فأمسك به عمر فضربه حتى أدماه، ثم نفاه حتى تاب.

فكل مسألة لا ينبني عليها عمل ولا عقيدة، فتركها واجب: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) مثل الاشتغال بمعرفة الحروف المقطعة، ولذلك قال الشاطبي رحمه الله: كل علم لا يفيد عملاً -سواء كان عمل قلب أو عمل جوارح- فليس في الشرع ما يدل على استحسانه.

ترك الغرائب والشواذ

ومن القواعد في المنهج أيضاً، ترك الغرائب والشواذ، قال الأكرم : سأل رجل أبا عبد الله -الإمام أحمد - عن حديث؟ فقال أبو عبد الله : الله المستعان! تركوا العلم وأقبلوا على الغرائب، ما أقل الفقه فيهم!

وقال الحسن بن محمد : سمعت أحمد بن حنبل سُئل عن أحاديث غرائب؟ فقال: شيء غريب! أي شيء يرجى به؟! يطلب الرجل ما يزيد في أمر دينه، وقال: شر الحديث الغرائب التي لا يُعمل بها ولا يُعتمد عليها.

وقال النخعي : "كانوا يكرهون غريب الحديث".

وقال علي بن الحسين : "العلم ما تواطأت عليه الألسن". ما اشتهر بين العلماء، هذا هو العلم، أما أن تأتي بالغرائب والشواذ؛ فهذا خطأ في منهج طلب العلم.

ولذلك فإن بعض الشباب إذا أقبلوا على القراءة أحياناً، فقرءوا -مثلاً- في كتاب صحيح الجامع ، يجعلون قراءتهم فيه، ويقولون: نطلب العلم، فقد يمر بحديث منسوخ، أو حديث في متنه نظر، أو حديث خالف قواعد وأصول أخرى، فيعتمدونه، ولذلك يحصل عندهم من الأخطاء شيء كثير، ثم يجادلون به أهل العلم، فيضيعون الأوقات من أعمارهم وأعمار غيرهم.

أولاً: معرفة ما هو العلم الذي ينبغي طلبه؟

قال ابن رجب رحمه الله في تعريف العلم الذي يطلب، في شرح حديث: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) قال: فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهد في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق لذلك؛ إن كان من الأمور العلمية -لأن كثيراً من الأحاديث تضمنت أموراً علمية اعتقادية، وليست أعمال جوارح- وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيع من الأوامر، واجتناب ما يُنهى عنه، وتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك.

ثم قال رحمه الله تعالى: أما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنة الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها، وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك.

وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شُغل شاغل عن التشاغل بما أُحدث من الرأي مما لا ينتفع به:

العلم قال الله قال رسوله     قال الصحابة ليس خُلف فيه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة     بين الرسول وبين قول فقيه

كلا ولا جحد الصفات ونفيها     حذراً من التأويل والتشبيه

واعلموا -رحمكم الله- أن من العلم ما يكون من صلب العلم، ومنه ما يكون من ملح العلم وأطرافه، ومنه ما ليس بعلم أصلاً، فالذي شرحناه قبل قليل هو من كلام ابن رجب رحمه الله هو طلب العلم، وأما ملح العلم فسيأتي أشياء منه، ولكن في العموم ليس هو من الأشياء الأساسية، وإنما أطراف وفوائد ونكت، فهذا يكون في الدرجة الثانية، ومنه ما ليس بعلم أصلاً، كالسعي لمعرفة أحكام العبادات التي لم يخبر الشرع عن الحكمة فيها، مثل أن يقول الإنسان: أريد أن أبحث لماذا عدد ركعات صلاة الظهر أربع ركعات؟! وعدد ركعات صلاة المغرب ثلاث ركعات؟! وعدد ركعات صلاة الفجر ركعتين؟! ما هي الحكمة؟!

أو لماذا اختص الصيام بالنهار دون الليل؟!

لماذا اختص الحج بالرمي والوقوف بـعرفة ومزدلفة ؟! وقد يزعم بعض الناس حكماً لا تكون من مقاصد الشارع أصلاً.

قال الشاطبي رحمه الله مضيفاً -أيضاً- في هذا التقسيم في الأشياء التي ليست من العلم، أو أن الإنشغال ببعض الملح يصيرها أشياء غير نافعة، فتفوت على الإنسان خيراً كثيراً، وأشياء من الأساسيات، فمما ضربه رحمه الله تعالى من الأمثلة جمع طرق للحديث التي لا داعي لها.

فحديث متواتر يأتي فيجمع طرقه لأي شيء وقد بين العلماء أنه متواتر وذكروا طرقه، كما قال حمزة الكناني : خرَّجتُ حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من نحو مائتي طريق، فداخلني في ذلك الفرح، فنمت فرأيت في النوم يحيى بن معين ، فسألته عن هذا؟ ففكر ساعة ثم أجابني، وقال: أظن أنه يدخل تحت قول الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1].

نحن لا نعتمد على الرؤى في العلم فهي ليست علماً، ولا يجوز الحكم على الأشياء من خلال الرؤى والمنامات، لكن الرؤى إذا وافقت الكتاب والسنة فيستأنس بها، فمن الأشياء التي ليست بعلم أصلاً، ما يراه الإنسان في الرؤى والمنامات، ولذلك الصوفية من ضلالهم أنهم يعتمدون على الرؤى والمنامات في إثبات العلم، يقولون: هذا علم أصيل، رأيت في المنام حدثني قلبي عن ربي، وهكذا.

ومن المنهج في طلب العلم، أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه، فالعلم منه ما هو ضروري، ومنه ما هو حاجي، ومنه ما هو تحسيني، ومنه ما ليس بعلم أصلاً كما ذكرنا.

ولذلك لما سألوا: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة:189] ما هو سؤالهم؟

قالوا: لماذا يكون الهلال في أول الشهر خيطاً رفيعاً، ثم يمتلأ فيصير بدراً في منتصف الشهر، ثم يعود إلى حالته الأولى؟ فصرفهم الله عز وجل عن هذا الشيء الذي لا ينبني عليه عمل إلى الشيء الذي ينبني عليه عمل، فقال لهم: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] فأعرض عما لا يفيد عملاً للمكلف إلى شيء يفيد عملاً، فقال: هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].

ولما سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: متى الساعة؟

هذا لا يفيد، والله عز وجل اختص بمعرفته، فبماذا أجاب عليه الصلاة والسلام؟ (ما أعددت لها؟).

ولما جاء صبيغ بن عسل يشوش ويسأل في مجالس العامة: ما هي المرسلات؟ ما هي السابحات؟ فأمسك به عمر فضربه حتى أدماه، ثم نفاه حتى تاب.

فكل مسألة لا ينبني عليها عمل ولا عقيدة، فتركها واجب: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) مثل الاشتغال بمعرفة الحروف المقطعة، ولذلك قال الشاطبي رحمه الله: كل علم لا يفيد عملاً -سواء كان عمل قلب أو عمل جوارح- فليس في الشرع ما يدل على استحسانه.

ومن القواعد في المنهج أيضاً، ترك الغرائب والشواذ، قال الأكرم : سأل رجل أبا عبد الله -الإمام أحمد - عن حديث؟ فقال أبو عبد الله : الله المستعان! تركوا العلم وأقبلوا على الغرائب، ما أقل الفقه فيهم!

وقال الحسن بن محمد : سمعت أحمد بن حنبل سُئل عن أحاديث غرائب؟ فقال: شيء غريب! أي شيء يرجى به؟! يطلب الرجل ما يزيد في أمر دينه، وقال: شر الحديث الغرائب التي لا يُعمل بها ولا يُعتمد عليها.

وقال النخعي : "كانوا يكرهون غريب الحديث".

وقال علي بن الحسين : "العلم ما تواطأت عليه الألسن". ما اشتهر بين العلماء، هذا هو العلم، أما أن تأتي بالغرائب والشواذ؛ فهذا خطأ في منهج طلب العلم.

ولذلك فإن بعض الشباب إذا أقبلوا على القراءة أحياناً، فقرءوا -مثلاً- في كتاب صحيح الجامع ، يجعلون قراءتهم فيه، ويقولون: نطلب العلم، فقد يمر بحديث منسوخ، أو حديث في متنه نظر، أو حديث خالف قواعد وأصول أخرى، فيعتمدونه، ولذلك يحصل عندهم من الأخطاء شيء كثير، ثم يجادلون به أهل العلم، فيضيعون الأوقات من أعمارهم وأعمار غيرهم.

قبل أن نكمل مسألة الضوابط ومعالم المنهج، لابد أن نعرج على مسألة؛ لأن سياق الحديث قد يتغير عند بحث هذه المسألة، وهذه القضية هي: عندما نقول: طالب العلم والمنهج، فمن هو طالب العلم الذي نقصده؟

وهل كل الناس يصلحون أن يكونوا طلبة علم؟

والحال التي نعيش فيها نحن اليوم، وتركيبة المجتمع، وهذه الوظائف الموجودة وغير ذلك، هل هي تمكن الناس فعلاً أن يكونوا طلبة علم؟

هل كل الناس يصلحون لطلب العلم

أيها الإخوة! إن الناظر في الواقع لابد أن يعرف ويخرج بنتيجة واضحة وهي: أن الناس جلهم لا يمكن أن يكونوا طلبة علم.

فهناك اختلافات في السنة والوظيفة والدراسة.. منهم من يدرس الطب والهندسة، ومنهم من يدرس الشريعة، وحتى في الذكاء والفطنة والرغبة والميول يتفاوتون، وفي التفرغ منهم من يكون عزباً دوامه قصير، أو جدوله قليل، ومنهم من يكون صاحب أسرة وأولاد وعمله طويل، وقد يعمل عملاً إضافياً، وقد يعمل بالليل والنهار، وهذه القيود من التفرغ والتخصص والميول والتفاوت في القدرات العقلية، لابد أن تلجئنا إلى شيء مهم جداً لابد أن نعترف به عند الخوض في هذه القضية، من الناس من هو عامل، ومنهم من هو مهندس، ومنهم من يشتغل بالدعوة إلى الله، ومنهم من هو منشغل بأمر نفسه.

وحتى البلاد تختلف، فمن البلاد من يكون فيها علماء، ومن البلاد ما لا يكون فيها علماء، ومن البلاد من فيها عالم في فن واحد، ومنها ما فيها عالم في عدة فنون، ومن البلاد ما يكون فيها جامعات شرعية إسلامية، ومن البلدان والقرى ما لا يكون فيها جامعات شرعية، ومن البلاد ما يكون فيها دروس في المساجد، ومن البلاد ما ليس فيها دروس في المساجد.

ولذلك لابد أن نقرر -وهذا الكلام مهم جداً- أن هناك فرقاً عظيماً بين المتفرغ لطلب العلم وغير المتفرغ، المتفرغ لطلب العلم الذي دراسته شرعية، وعنده أهلية واستعدادات، وبين الإنسان المنشغل الذي يدرس قضية أخرى، قد يدرس في الهندسة أو الطب، أو يدرس في علوم خارجة عن الشريعة متنوعة، لاشك أن هذا الرجل المنشغل بأشياء أخرى يصعب عليه أن يكون طالب علم.

نحن لا ننفي ولا نقول: لا يمكن للطبيب وللمهندس أن يكون طالب علم! لا، وهذا خطأ، والذين يقولون: أي طبيب أو مهندس يدخل في نقاشات علمية هذا متطفل، هؤلاء أناس مخطئون عندهم غلو في القضية.

نعم. إن غالب المهندسين والأطباء ليسوا طلبة علم، ولا يصلحون أن يكونوا طلبة علم بوضعهم الحالي، فطلب العلم يحتاج إلى جهد كبير، ووقت عظيم، ولا يمكن لإنسان يداوم من الساعة السابعة صباحاً إلى الرابعة عصراً أن ينجح في طلب العلم، ويكون طالب علم قوي، إلا ندرة من الناس عندهم استعدادات غير طبيعية، وهؤلاء الأشخاص ليسوا موضع البحث الآن.

لكن الذي نريد أن نقوله: إن الذي يظن أن هؤلاء العمال والأطباء والمهندسين يمكن أن يكونوا طلبة علم جيدين إنسان مخطئ، ومتفائل تفاؤلاً خاطئاً، والذي يظن أن الأطباء والمهندسين لا يمكن أن يخرج منهم طلبة علم جيدين، فهو مخطئ أيضاً لأن الناس طاقات.

ثم يجب أن نقرر أن الاتجاه ليكون الإٍنسان عالماً، هذا يكون لندرة من الناس الذين يكونون علماء.. من الذي تتوفر عنده الهمة والداعي والحافز والحفظ والتقوى والفطنة والذكاء وسعة البال، لكي يحفظ ويُقبل ويُفكر ويستنبط ويرجح، وفي النهاية الذي يستطيع أن يصل إلى هذه المرتبة؟ هم قلة من الناس، لكن هذا لا يمنع من المحاولة لمن وجد في نفسه الأهلية للطلب الجيد.

حاجة المسلمين إلى تخصصات كثيرة

لابد أن نقول: إننا لا نريد من جميع المسلمين أن يكونوا طلبة علم أقوياء أو يكونوا علماء، لأننا نحتاج إلى أطباء ومهندسين وعمال وصناع، ونحتاج إلى خبراء في الجهاد والسلاح، فالمسلمون يحتاجون إلى تخصصات كثيرة، فليس المقصود الآن هو دفع المسلمين كلهم لأن يكونوا طلبة علم أو علماء.

وإنما لابد أن نركز على قضية، وهي: أن فئات المسلمين مهما اختلفت، وأفراد المسلمين مهما اختلفوا، فلابد أن يكون عندهم حد أدنى، ولابد أن يعرفوا أشياء أساسية عن الإسلام، هذا دينهم الذي يدينون الله به، وهذه عباداتهم التي يعبدون الله بها، فلابد أن يكون عندهم علم عن الأساسيات.

وهذا الكلام مهم لبعض الناس الذين يشتتون أنفسهم في التخصصات الشرعية وغير الشرعية، فلا يحسنون في هذا ولا في هذا، لأن التخصص غير الشرعي يحتاج إلى متابعة، وتنمية مهارات، واطلاع، ويحتاج إلى معرفة ما جد فيه من قراءة الدوريات والأبحاث الجديدة، مثل أدوية جديدة، وطرق جديدة في الصناعة، فهل يستطيع أن يجمع بين هذه الأشياء وما استجد فيها، وبين العلوم الشرعية التي هي بحر زخار؟

لاشك أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا ندرة من الناس، وهذه قضية واقعية، وهذا الواقع يفرض نفسه، ويجب ألا يغيب عن بالنا.

التفريق بين المتخصص وغير المتخصص في طلب العلم

هناك نقطة أخرى ألا وهي: التفريق بين المتخصص وغير المتخصص، هناك أناس اتجهوا للعلم منذ نعومة أظفارهم، ودرسوا في المعاهد العلمية ثم الكليات الشرعية مثلاً، هؤلاء أناس أهليتهم لطلب العلم وتمكنهم أكثر من أناس درسوا في الثانويات العلمية تخصص علمي، ودخلوا جامعة علمية في علمٍ من العلوم الدنيوية، هؤلاء لاشك أنهم سيكونون أقل استطاعة وأقل قدرة على أن يكونوا طلبة علم أقوياء، ليس في ذلك شك ولا جدال وهذه قضية مفروغ منها، لكن لا يمنع ذلك أن يجتهد الجميع في تحصيل ما يمكنهم من العلم.

إنما الفرق الذي سيظهر في الجدول في المنهج الذي سيسلكه المتفرغ وغير المتفرغ، المتخصص في التخصصات الشرعية الحريص، وبين غير المتخصص الذي لا يمكنه، الفرق سيكون في الاتجاه في درجة الطلب والآلات المستخدمة، وهنا سيكون هناك فرق كبير في هذا.

ولذلك نضيف أيضاً فنقول: أن طلب العلم ليس حكراً على أصحاب التخصصات الشرعية، فليس طلب العلم حكراً على أصحاب كليات الشريعة أو أصول الدين.. ونحو ذلك، وإنما هو مفتوح لكل من كان عنده أهلية طلب العلم بطريقه الصحيح ومنهجه السوي.

ونريد من وراء هذا الكلام أن نصل إلى أن العلم الشرعي ليس فوضى يتطفل عليه من شاء، فيأتي فلكي ويدخل في العلم الشرعي، ويرجح بين أقوال المفسرين، وهذا ما وجدناه عند كثيرٍ ممن اشتغلوا بقضية الإعجاز العلمي اشتغالاً فارغاً منحرفاً، وهم ما عندهم علم بلغة العرب، ولا بأساليب العرب، ولا بقواعد التفسير، ولا بكلام العلماء، ثم يدخلون في الآيات ويقولون: الراجح فيها كذا، هذا كشف العلم عنه الآن، فيا ويلهم! مما يريدون أن يوقعوا فيه الأمة، ويقعوا هم على رءوسهم.

فمجال العلم الشرعي مجال ضخم عميق، هذا دين من عند رب العالمين، لا هو فيزياء ولا كيمياء ولا طب ولا تجارب بشرية، هذا دين، والذي يريد أن يدخل في هذا الدين لابد أن يكون أهلاً للدخول.

ولذلك فإن العلم الشرعي ليس فوضى يدخل فيه كل من هب ودب، ويرجح بين الأقوال كل من هب ودب، ويستنبط من النصوص كل من هب ودب، هذه قضية ينبغي أن يؤكد عليها وأن تعرف، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.

طلب العلم مع العمل في مهنة

وطلب العلم لا يمنع أن يكون الإنسان عنده مهنة، فقد وجدنا من العلماء من كان بزازاً يبيع أقمشة، أو بائع خضار وبقول، أو يصلح الساعات، مادام وجد الاستعداد والأهلية والمنهج الصحيح، لا يمنع أن يكون بائع خضار ويطلب العلم.

والذي لا يستطيع أن يكون طالب علم تجيد طبيعة عمله أو منطقته، أو قدراته وحفظه وفهمه، فهذا الإنسان نقول له: لا يمكن أن تترك الدين وتترك الطلب، لكن طلباً يناسب حالك، فمثلاً: يحضر المحاضرات العامة الإسلامية، والدروس التي تناسب مستواه إن وجدت، يقرأ في كتب الثقافة الإسلامية العامة، ويسأل أهل العلم ويحاول معرفة الدليل لكي يعبد الله على بصيرة، ويقلد العالم إذا كان عامياً، مذهب العالم مذهب مفتيه، ثم إن هذا الشخص لن يشتغل بعلوم الآلة.. لن يدرس المصطلح، ولا أصول الفقه، ولا اللغة، ولا قواعد التفسير، ولا علم البيان والبديع والبلاغة دراسة قوية، هذا غير المتخصص الذي لا يكون طالب علم على المنهج، هذا الشخص له وضع خاص ينبغي أن يعرف شأنه وحاله.

فهذا -مثلاً- إذا أراد أن يدرس الفقه لا مانع أن يدرس الفقه، ويقرأ في الفقه، لكن كيف يفعل؟

إنه مثلاً يتعلم العبادات؛ لأنه يحتاج إليها، لكنه لا يقرأ في أبواب القضاء والبينات، ومسائل الطلاق الفرعية، والمسائل والقواعد الفقهية، والدعاوى والإقرار والشهادة، هذه أبواب ليست له، هذه الأبواب لطلبة العلم المتخصصين والعلماء.

ولذلك فإن كثيراً من الذين لا يدركون حالهم ويعرفون قدرهم، يريدون ركوب السلم بالمقلوب، أو يريدون تحصيل الأشياء الكبيرة، وليس عندهم قدرة، فيتردون على رءوسهم، هذا الشخص يعرف أشياء عن العبادات من أجل أن يعبد الله، يعرف أشياء عن فقه الصلاة والزكاة والصيام والحج، لا مانع أن يتعلم من النحو شيئاً يقوم به لسانه، يدفع الجهل عن نفسه، يتعلم من دين الله ما يستطيع، لكن هذا الشخص لا يخطط له أن ينقل العلم إلى غيره، بمعنى أن يصبح معلم علم شرعي، يمكن أن ينقل فتوى لآخر، يقول: أنا سألت فلاناً من المشايخ، وقال لي كذا، وأنا أنقل الفتوى إليك.

لكن يتبوأ حلقة علمية يوماً من الأيام في مسجد من المساجد فهذا لا يُتوقع له ذلك، وكما قلنا: هذا لا يشتغل بعلم الآلة بالمصطلح والأصول والنحو.. ونحو ذلك.

وكما قلنا: نحن لا نطالب الجميع بأن يكونوا طلبة علم حقيقيين؛ لأن الأمة تحتاج إلى طاقات أخرى كثيرة، وطلب العلم الحقيقي لا يحصل إلا للشخص المتفرغ المجد، لا يحصل للذين يعطون للعلم فضول الأوقات، ليس الأطباء والمهندسون والموظفون في مجملهم يمكن أن يسلكوا طريق العلم القوي، ونحن لا نريد أن نخدع هؤلاء، ونقول لهم: بإمكانكم أن تكونوا علماء ابدءوا، لا فهذا من عدم النصيحة.

وإنما نقول له: يا أخي! هذا وضعك وظرفك، وهذه طاقاتك وقدراتك، ينبغي أن تسلك سبيلاً للتعرف فيه على دين الله، وتعرف أكبر ما يمكنك أن تعرفه، تعرف الأشياء التي لابد أن تعرفها من أحكام الصلاة والطهارة والزكاة والصيام والحج إذا أردت أن تحج، والنكاح إذا أردت أن تنكح، والبيع إذا أردت أن تبيع.

والناس في نقص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن.. تتناقص البركة في كل شيء، ويتناقص الحفظ، ويتناقص العمق في الفهم، وتتناقص أشياء كثيرة: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) الآن الذين يريدون أن يكونوا علماء أقوياء هم قلة وندرة من البشر.

وهذا العلم يقبض، ولابد أن نسعى في نشره وتحصيله، ونحن نعرف حقيقة أنفسنا وقدراتنا الذاتية، نحن نبين لهذا غير المتفرغ، نقول: أنت على خير إن شاء الله، وتمسك بالدين وربي نفسك عليه وأهلك وأولادك، وادعُ إلى الله على بصيرة، واطلب من العلم ما تستطيع طلبه، واسأل أهل العلم، وقلد العالم واستفته، واسمع الأشرطة، واقرأ بعض الكتب المبسطة، ولا بأس أن تقرأ بعض المتون البسيطة، لكن لا نكلفك بحفظ المتون، اقرأ متوناً بسيطة مع شروحاتها مثلاً، واقرأ بعض كتب التفسير، هذا شيء مطلوب منك، وبعض شروحات العقيدة المبسطة، وبعض كتب الحديث، واطلع على رياض الصالحين مثلاً، واقرأ في كتب الفتاوى للعلماء، وافهم فتاوى العلماء، وخذ رسائل وأبحاث صغيرة في مسائل متفرقة، في صفة الصلاة وكيفية الأضحية، أو بحثاً في صلاة الاستخارة وخذ حاشية لـكتاب التوحيد مبسطة، مثل حاشية الشيخ ابن القاسم مثلاً، اقرأ في الكتب المبسطة لا مانع، والأشياء التي تشكل عليك اسأل عنها.

والشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، لما رأى تدني مستوى العلم عند الناس؛ لجأ إلى تبسيط كثير من العلوم، ووضع كتباً جيدة تصلح أن يقرأها العامة.

ونقول لهذا الشخص الطبيب أو المهندس غير المتفرغ لطلب العلم: اقرأ أبحاثاً في العقيدة، مثلاً سلسلة الشيخ عمر الأشقر، بعضها يصلح لأن يقرأ فيها، وخذ أشياء تتعلق بفقه الدعوة، ولابد أن تقرأ في السيرة والأخلاق لكي تتكامل الشخصية، وإذا وجدت دروساً احرص على حضورها، لكن لو كان هناك درس في أصول الفقه لا يصلح أن تحضره، إذا لم يكن عندك استعداد أو أهلية، يحضر درس في التفسير أو في السيرة أو في الفقه يحتاج إليه، نعم.

ونقول له: أنت إذا درست الفقه مثلاً، لا تحتاج أن تواصل بعد العبادات في المعاملات، وتذهب في الجنايات والشهادات، وأحكام العتق والمدبر ونحو ذلك من الأمور، التي لا تحتاج إليها أصلاً.

غير المتفرغ -كما قلنا- لن يتخصص في علوم الآلة.. في المصطلح والنحو والأصول وقواعد التفسير، لكن يحتاج أن يعرف اصطلاحات العلماء، ما هو الواجب والمكروه والمباح والمستحب والمحرم؟ ولا يشترط له أن يسير في الفقه على ترتيب منهجي يلتزم به بالضرورة، ولكن إذا احتاج أن ينكح سأل وقرأ في أحكام النكاح، وإذا احتاج أن يبيع سأل وقرأ في أحكام البيوع.. وهكذا، ينتهز الإجازات ويأخذ حضه من العزلة، توفر له الوقت يعكف على سماع أو قراءة؛ لأنه ليس طالب علم متفرغ، لابد أن نقدر المسألة حق قدرها.

موظف عنده ثمان ساعات عمل، وعمله لا علاقة له بالأمور الشرعية، كله لغة إنجليزية، أو أشياء تقنية، وتكنولوجيات، وأدوية، وغالب وجوده يمكن أن يكون مع أناس غير مسلمين، وتخصصه غير شرعي لا يمت للشريعة بصلة، وهو كذلك يقضي أنفس أوقات اليوم من الساعة السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً في هذا العمل.. في أعمال كهربائية، وأعمال هندسية، وأعمال طبية، وعقله وجسده يستنفذ في هذه الأشياء، والعلم ضخم يحتاج إلى تفرغ.. يحتاج إلى طاقات رهيبة ولذلك يصعب ولا يمكن.

وليس من الواقع أن نقول: نريد منك أن تكون طالب علم قوي، لكن الذي يريد أن يعد نفسه من البداية لأن يكون طالب علم في المستقبل، هب أنه تعذر عليك أن تكون طالب علم قوي، لكن تريد ذلك من ولدك، إذاً لابد من قواعد المنهج في طلب العلم أن تحسن البداية، وحسن البداية يقود إلى حسن النهاية.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
طالب العلم والحفظ 2820 استماع
طالب العلم والعمل 2473 استماع
طالب العلم والرحلة 1874 استماع