طالب العلم والرحلة


الحلقة مفرغة

ما إن بدأ الإسلام يقوى في المدينة ويعز أهله نجم النفاق من اليهود والمشركين الموجودين فيها، وبدأ التحزب والتكتل ضد الإسلام والمسلمين، وأصبحت المدينة ميداناً للصراع الداخلي بسبب هذه المجموعات الخبيثة، وظهر نفاق عدد من اليهود في سقطات ألسنتهم وسوء أفعالهم رغم ادعائهم الدخول في الإسلام، فعرفوا عند المسلمين بأسمائهم، والحال نفسه كان مع منافقي العرب من أهل المدينة الذين عرفهم المسلمون بأسمائهم، وكان على رأسهم المنافق الكبير عبد الله بن أبي ابن سلول.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ففي هذه السلسلة التي كنا قد ابتدأنا فيها عن طالب العلم والتي تضمنت: طالب العلم والمنهج، وطالب العلم والحفظ، وطالب العلم والقراءة، نتكلم أيضاً في هذه الليلة إن شاء الله عن طالب العلم والرحلة.

ولا شك أن الرحلة في طلب العلم من الأمور العظيمة التي هي من أسباب تحصيل العلم، وهذه الرحلة حكمها يختلف بحسب حال الشخص والعلم الذي يريد أن يتعلمه، فإن كان علم فرضٍ لا يمكن تحصيله إلا بالرحلة، وجب عليه أن يرحل ويأثم لو لم يرحل، والله سبحانه وتعالى يقول: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة:122].

فطلب العلم فريضة على كل مسلم، وقد أوجب الله الخروج لتحصيل العلم الواجب تحصيله، وقد تكون الرحلة مستحبة إذا كانت للزيادة من علمٍ ليس بفرض تحصيله، وقد تكون مكروهةً إذا كان يمكن أن يكون في بلده يحصل العلم فإذا رحل تألم أهله -مثلاً- وأولاده للفراق، وقد تكون الرحلة محرمة إذا كان فيها تضييعٌ للأولاد والأهل مع عدم وجود ما يوجب عليه الذهاب أو إذا قصد بالرحلة حب الظهور والشهرة، وأن يقال عنه: رحل للقاء فلان أو فلان، ويعدد المشايخ والبلدان ونحو ذلك.

والرحلة في طلب العلم -أيها الإخوة- قديمة؛ فإننا نذكر من الأمثلة التي وردت في القرآن والسنة رحلة موسى صلى الله عليه وسلم في طلب العلم على يد الخضر عليهما السلام، كما روى خبر ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام، وقوله تعالى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66].

وهذا الحديث العظيم الذي ساقه البخاري رحمه الله والذي يفسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قصة موسى مع الخضر كما جاء في القرآن، وفي هذه القصة يقول صلى الله عليه وسلم: (بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى.. عبدنا الخضر) يعني عبدنا الخضر أعلم، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال موسى لفتاه: قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً [الكهف:64] فقص الأثر إلى مكان فقد الحوت فوجد الخضر، ثم كان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه.

وذهب موسى لملاقاة الخضر، وطلب من الله أن ييسر له الرحلة لطلب العلم، ولذلك قال في الحديث: (فسأل موسى السبيل إليه) وأراد من الله أن يبين له الطريق لملاقاة هذا العالم وهو الخضر.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا الباب الذي عقده البخاري: هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم؛ لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه. فالعلم شيءٌ عظيم، ولا شك أن هذا العلم العظيم الجميل الجليل تهون المشاق في سبيل تحصيله.

وكذلك في هذا الحديث من الفوائد: ركوب البحر في طلب العلم، بل في طلب الاستكثار من العلم، ومشروعية حمل الزاد في السفر -لأنه أخذ معه الحوت- ولزوم التواضع في كل حال، وخضوع الكبير لمن يتعلم منه، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليه السلام، مع أن موسى أفضل من الخضر ولا شك، وموسى من أولي العزم ولا شك، ورغم ذلك لم يمنعه فضله وارتفاع رتبته على الخضر أن يسافر إليه لطلب العلم، ويتحمل المشاق لطلب علم عند الخضر ليس عند موسى، ولا شك أن هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.

وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوراة بيده أنه رحل إلى رجلٍ عالمٍ يتعلم منه، ويزداد علماً منه، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [الكهف:60] كل ذلك حرصاً منه على لقاء هذا العالم، وعلى التعلم منه؛ فلما لقي موسى الخضر سلك معه مسلك المتعلم مع معلمه، وقال له بكل أدب: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66]، أولاً: بدأه بالسلام، ثم بعد ذلك بالاستئذان على متابعته، وأنه لا يتبعه إلا بإذنه، وقال: عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] وقال: أنا جئت لأتعلم ولم آت لأناقش وأجادل، وأظهر ما عندي، ولا جئت أمتحنك وإنما جئت أستزيد علماً، وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعلم، فهذا نبي الله سافر ورحل لتحصيل ثلاث مسائل من رجلٍ عالم، لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ما هدأ له بال حتى ذهب، ولم يقر له قرار حتى سافر لمتابعة التعليم.

وهذا في حال الأنبياء رضوان الله تعالى عليهم.

أما من بعدهم فالصحابة قد ضربوا المثل أيضاً في طلب العلم؛ امتثالاً لأمره تعالى لما قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122].

ولذلك جاء أنه كان ينطلق من كل حيٍ من العرب عصابة -يعني: مجموعة- فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه ويتفقهون في أمر دينهم ويقولون: ماذا تأمرنا أن نفعل؟ وماذا تأمرنا في عشائرنا؟ ويبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومهم ليقوموا فيهم بأمر الله سبحانه وتعالى.

كان كثيرٌ من الصحابة يرحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم الإمام العظيم أبو ذرٍ الغفاري رضي الله تعالى عنه، الذي جاء في قصة إسلامه كما في صحيح البخاري لما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الوادي -اذهب إلى مكة- فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق أنيس حتى قدم مكة وسمع من قول النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعته يقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال أبو ذر: ما شفيتني فيما أردت.

فتزود أبو ذرٍ -رضي الله عنه- وحمل شنة له فيها ماء -قربة- حتى قدم مكة والتمس النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقع عليه وعثر عليه وأسلم على يديه وتحمل في سبيل ذلك أذى أهل مكة حتى إنهم ما تركوا حجرة ولا مدرة ولا عظماً إلا ضربوه به، لما علموا أنه جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال: خررت مغشياً عليَّ فارتفعت حين ارتفعت كأني نصبٌ أحمر يعني: من كثرة الدماء التي سالت عليه... وبعد ذلك لزم النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر معه.

وكان الصحابة يرحلون في طلب العلم، فهذا عمر هو وجاره كانا يتناوبان في طلب العلم، يجلس هذا في المزرعة يوماً، وينزل الآخر يوماً ليتعلم، فيجمعان بين مصلحة طلب العلم، وبين القيام على الأموال واستصلاح الأرض والزراعة.

وكذلك فإنه قد جاء في مناقب أهل اليمن في الصحيح عن عمران بن حصين قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فتاهت، فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: بشرتنا فأعطنا مرتين) ظنوا المسألة فيها عطايا مادية، قالوا: ما دامت بشرى فتوجد عطايا مادية، فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم: (ثم دخل عليه ناسٌ من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك من اليمن -يرحلون- لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يك شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء).

فهذه رحلة أهل اليمن في طلب العلم، ومنهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وله فضلٌ عظيم، وهذا دليلٌ على الرحلة في طلب العلم.

وكذلك فإن هناك أمراً من الأمور العظيمة التي فاتتنا مع الأسف في هذا الزمان وكانت من أكبر أسباب الرحلة في طلب العلم وهي جمع الحديث.

ولا شك -أيها الإخوة- أن من أكبر الأسباب الدافعة لعلماء السلف للرحلة في طلب العلم هي جمع الحديث، فإن القرآن مجموعٌ معلوم، ولا حاجة إلى الرحلة لجمعه؛ لأنه مجموع، أما الحديث فإنه كان قد تفرق في البلدان بتفرق الصحابة، والصحابة علموا من بعدهم، وتفرق الحديث في البلدان فلما أراد العلماء جمع الحديث وكتابة الحديث رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها، بل كانوا يرحلون في طلب الحديث لأجل علو السند، فإذا سمعه من رجل قال: من حدثك به؟ قال: فلان بـالكوفة، فيسافر إلى فلان بـالكوفة لكي يسمعه من الشيخ الأصلي لكي يكون سنده أعلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الشيء الذي نتحسر عليه في هذه الأيام؛ لأن جمع الحديث قد انتهى، ولذلك الرحلة في جمع الحديث انتهت بجمع الأحاديث وكتابة الأحاديث وتدوين الأحاديث، ونقول في أنفسنا: يا ليتنا كنا معهم فنفوز فوزاً عظيماً.

رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على رأس الراحلين في سماع الأحاديث، فإن جابر بن عبد الله رحل شهراً إلى عبد الله بن أنيس في حديثٍ واحد، كما أخرج البخاري رحمه الله في الباب المفرد في باب المعانقة، من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: (بلغني عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً -من أجل الرحلة اشترى بعيراً- ثم شددت رحلي فسرت إليه شهراً حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله ؟ قلت: نعم. فخرج عبد الله بن أنيس فاعتنقني. فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله الناس يوم القيامة عراة أي: يعني غير مختتنين- بهماً، قلنا: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء. فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة) لا بد من تصفية الحسابات... الحديث.

وهذا دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم رغم أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا الأحاديث لكنهم يطلبون المزيد والسماع المباشر، وهذا الحديث الذي يرحل من أجله كان السابقون يقدرون له قيمته، ففي الصحيحين من حديث الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: عبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها)، ثم قال الشعبي : خذها بغيرما شيء -خذ هذا الحديث مجاناً- فقد كان الرجل يرحل في مثلها إلى المدينة ، أي: يذهب من الكوفة إلى المدينة من أجل حديثٍ واحد.

رحلة بعض التابعين في طلب العلم

كذلك فإن التابعين قد ساروا على نهج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فهذا التابعي الجليل أبو العالية قال: [كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بـالبصرة فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم].

وكذلك قال الإمام مالك رحمه الله عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب : [كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد].

وعن الشعبي رحمه الله أنه خرج من الكوفة إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذكرت له، فقال: "لعلي ألقى رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".

وكان الشعبي رحمه الله من كبار الحفاظ، وكان يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي -لا يحتاج إلى كتابة لأن العلم كله محفوظ في الذهن- ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالماً.

قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كله؟

قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وفي رواية: كصبر الحمار- لأنه معروف بصبره على الذل وقلة التفقد، أي: أنه لو ما تفقده أحد فهو يصبر، وبكور كبكور الغراب.

كانت العرب تقول: تعجبنا من أربعة أشياء: من الغراب والخنزير والكلب والسنور، فأما الغراب فسرعة بكوره وسرعة إيابه قبل الليل.

وكذلك قال أبو قلابة الجرمي رحمه الله: أقمت في المدينة ثلاثة أيام ما لي بها حاجة إلا قدوم رجل بلغني عنه الحديث، فبلغني أنه يقدم فأقمت حتى قدم فحدثني به.

وكان مكحول رحمه الله عبداً لـسعيد بن العاص ، فوهبه لامرأة من هذيل بـمصر ، فأنعم الله عليه بـمصر وأعتق، قال عن نفسه: فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أراه -في ظنه- ثم أتيت العراق فلم أدع بها علماً إلا حويته عليه فيما أراه، ثم أتيت المدينة فكذلك، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النقل.

رحلة ابن فروخ إلى الأعمش

وكان الإمام عبد الله بن فروخ رحمه الله يرحل ويسافر، قال: لما أتيت الكوفة وأكثر أملي السماع من الأعمش ، فسألت عنه -سأل عن الأعمش - فقيل لي: غضب على أصحاب الحديث فحلف ألا يسمعهم مدة.

هذا جاء إلى الشيخ، والشيخ يبدو أن بعض الطلبة قد ضايقوه، فـالأعمش حلف ألا يسمعهم مدة، مثلاً قال: والله لا أحدثكم شهراً عقوبة لهم حتى يتأدبوا، هذا الطالب جاء إلى البلد فوجد الشيخ فحلف ألا يحدث.

قال: فكنت أختلف إلى باب داره لعلي أصل إليه فلم أقدر على ذلك -ما استطعت- فجلست يوماً على بابه وأنا متفكر في غربتي وما حرمته من السماع، إذ فتحت جارية بابه يوماً وخرجت منه، فقالت لي: ما بالك على بابنا؟ فقلت: أنا رجل غريب، وأعلمتها بخبري. قالت: وأين بلدكم؟ قلت: أفريقيا . فانشرحت إلي وقالت: تعرف القيروان؟ قلت: أنا من أهلها. قالت: تعرف دار ابن فروخ؟ قلت: أنا هو. فتأملتني ثم قالت: عبد الله؟ قلت: نعم. وإذا هي جارية كانت لنا بعناها صغيرة، فسارعت إلى الأعمش وقالت: إن مولاي الذي كنت أخبرك بخبره في الباب، فأمرها بإدخاله، فدخلت وأسكنني بيتاً قبالة بيته، فسمعت منه وحدثني وقد حرم سائر الناس إلى أن قضيت أربي منه.

رحلة الإمام أحمد في الطلب

وهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى طلب الحديث وهو ابن ستة عشر سنة، وخرج إلى الكوفة في أول سفرة، وخرج إلى البصرة ، وخرج إلى سفيان بن عيينة بـمكة -وهي أول سنة حج فيها- وخرج إلى عبد الرزاق بـصنعاء اليمن ، ورافق يحيى بن معين في هذه السفرة.

قال أحمد رحمه الله: رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور، والشامات، والسواحل، والمغرب ، والجزائر ، ومكة ، والمدينة ، والحجاز ، واليمن ، والعراقين جميعاً، وفارس ، وخراسان ، والجبال والأطراف، ثم عدت إلى بغداد ، وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة -وسادة- فحممت فرجعت إلى أمي رحمها الله ولم أكن استأذنتها، ولو كان عندي تسعون درهماً كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري ، وخرج بعض أصحابنا ولم يمكنني الخروج لأنه لم يكن عندي شيء.

وقال ابن الجوزي رحمه الله: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع المسند.

وكان من تلامذته إسحاق بن منصور الكوسج ، وكان فقيهاً عالماً، جمع مسائل عن الإمام أحمد ثم بلغه أن الإمام أحمد رجع عن تلك المسائل التي كتبها عنه، فجمع إسحاق بن منصور المسائل في جراب وحملها على ظهره وخرج راجلاً إلى بغداد وهي على ظهره، وعرض خطوط أحمد عليه في كل مسألة -استفتاه فيها، قال: هذه كتبتها عنك رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟- فأقر له بها وأعجب أحمد بذلك. فهذا رحل في التأكد هل العالم رجع عن مسألة أم لم يرجع.

رحلة بقي بن مخلد إلى الإمام أحمد

كذلك فإن من أئمة الدنيا وطلاب العلم الكبار والعلماء الأفذاذ بقي بن مخلد رحمه الله، وهذا من علماء الأندلس ، وهذا الرجل رحل من الأندلس إلى بغداد لملاقاة الإمام أحمد رحمه الله، وحصلت له قصة عجيبة مع الإمام أحمد، قال فيما يروى عنه: لما قربت من بغداد اتصلني خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل.

والمحنة التي جرت على الإمام أحمد معروفة، وكان مما حصل على الإمام أحمد السجن والضرب، والإقامة الجبرية، ومنع من التحديث والتدريس بقي بن مخلد رحل من الأندلس وجاء إلى بغداد لملاقاة أحمد بن حنبل فوجده مفروضاً عليه الإقامة الجبرية والمنع من التدريس ولا يستطيع أحد أن يقترب من بيت الإمام أحمد ، فماذا فعل؟

قال: فاغتممت بذلك غماً شديداً، فلم أعرج على شيء بعد إنزال متاعي في بيت اكتريته -في بعض الفنادق- أن أتيت الجامع الكبير -نزل العفش في الفندق وأتى إلى الجامع الكبير- وأنا أريد أن أجلس إلى الحلق وأسمع ما يتذاكرونه، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال فيضعف ويقوي -فلان ثقة، فلان ضعيف.. وهكذا- فقلت لمن كان بقربي: من هذا؟ قالوا: هذا يحيى بن معين ، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه -قرب الشيخ- فقمت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا رحمك الله.. رجل غريب، نائي الدار، أردت السؤال فلا تستخفني. فقال لي: قل. فسألته عن بعض ما لقيته من أهل الحديث فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار؟ فقال: صاحب صلاة دمشقي ثقة وفوق الثقة... إلخ، فصاح أهل الحلقة: يكفيك رحمك الله، غيرك له سؤال، فقلت وأنا واقف على قدمي: أكشفك عن رجل واحد -أريد أن أسألك عن رجل: أحمد بن حنبل؟ فنظر إلي يحيى بن معين كالمتعجب، وقال لي: ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل ؟ إن ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.

ثم خرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي ففتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه -ما عرفني- فقلت: يا أبا عبد الله ! رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال لي: ادخل الاسطوان -أي: الممر إلى داخل الدار- ولا تقع عليك عين -غيره تحت- فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الأقصى . فقال لي: أفريقيا ؟ فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى أفريقيا ، الأندلس . فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك -وصلني الخبر بمنعك من التدريس وأنا داخل على البلد- فقلت له: يا أبا عبد الله ! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم -أنا غير معروف في البلد- فإن أذنت لي أن آتي في كل يوم في زي السؤال -ألبس ملابس الشحاذين- وآتي إلى بيتك فأقول عند باب الدار ما يقولونه -أي: أقول عند باب البيت ما يقوله الشحاذون- فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه الكفاية.

فقال لي: نعم. على شرط ألا تظهر في الحلق ولا عند أصحاب الحديث، فقلت: لك شرطك -حتى لا يعرف، ويبقى هذا غريب مجهول- فكنت آخذ عوداً بيدي -مثل الشحاذ- وألف رأسي بخرقة، وأجعل ورقي ودواتي في كمي -التي يكتب بها في كمه- ثم آتي في بابه أصيح: الأجر رحمكم الله. فيخرج إلي ويغلق باب الدار ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر.. وهكذا حتى اجتمع لي نحواً من ثلاثمائة حديث، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له - الخليفة الذي امتحن أحمد مات- وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد بن حنبل وسما ذكره... إلى آخر القصة.

قال فيها: فكنت إذا حضرت حلقته فسح لي وأدناني، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.

أحمد يقول للناس بعدما رجع إلى التدريس وانفك من المحنة: هذا فعلاً يسمى طالب علم، هذا الذي ركب البحر من الأندلس إلى أفريقيا وجاء إلى بغداد ، هذا الذي رضي أن يلبس ملابس الشحاذين حتى يتعلم كل يوم حديثاً أو حديثين، هذا يصلح أن يقع عليه اسم طالب علم، فالآن اسم طالب العلم صار اسماً ممتهناً للكل، يقولون: فلان طالب علم، وما فعل شيئاً مما فعله بقي .

قال: ثم يقص عليهم قصتي معه، كان يناولني الحديث مناولة ويقرأه عليه وأقرأه عليه، فاعتللت علة -يقول: مرضت مرضة- ففقدني من مجلسه فسأل عني فعلم بمرضي، فقام مباشرة عائداً إليَّ -هذا كان قد استأجر غرفة في الفندق- قال بقي وهو مريض في الفندق: فسمعت الفندق قد ارتج بأهله وأنا أسمعه، يقول: هو ذاك أبصروه، هذا إمام المسلمين.

الإمام أحمد رفع الله ذكره، كان إذا دخل حارة أو مكاناً أو فندقاً قام الناس وقالوا: جاء أحمد ، جاء أحمد، كان بقي مريضاً في الفندق، فلما دخل أحمد ضج أهل الفندق، فبدر إلي صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن ! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك، فدخل فجلس عند رأسي وقد احتشى البيت من أصحابه فلم يسعهم؛ حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن ! أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعادك الله إلى العافية.

ثم خرج عني فأتاني أهل الفندق يلطفون بي ويخدمونني ديانة وحسبة فأحدهم يأتي بالفراش، وآخر باللحاف وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم.. لماذا؟ لعيادة الرجل الصالح لي أحمد بن حنبل.

وبقي بن مخلد قد رحل إلى مصر والشام والحجاز وبغداد رحلتين: امتدت الرحلة الأولى أربعة عشر عاماً، والثانية عشرين عاماً؛ ولذلك كتب مجلدات.

رحلة الإمام أبي حاتم الرازي

وهذا الإمام أبو حاتم الرازي لما ذكر رحلته في طلب العلم، قال: سمعت أبي يقول: أول ما خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ.

الفرسخ أكثر من خمسة كيلو مترات! أي: أن هذا مشى على قدميه أكثر من خمسة آلاف كيلو متر، والمشي على الأقدام غير الرواحل.

يقول: كنت أسير من الكوفة إلى بغداد ما لا أحصي كم من مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحر في المغرب الأقصى إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة ماشياً، ومن الرملة إلى بيت المقدس ، ومن الرملة إلى عسقلان ، ومن الرملة إلى طبرية ، ومن طبرية إلى دمشق ، ومن دمشق إلى حمص ، ومن حمص إلى أنطاكية ، ومن أنطاكية إلى طرسوس ، ومن طرسوس إلى حمص ، وكان بقي علي شيء من حديث أبي اليمان فسمعته، ثم خرجت من حمص إلى بيسان ، ومن بيسان إلى الرقة ، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد ، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل ، ومن النيل إلى الكوفة ... كل ذلك ماشياً، هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين.. هذا من رحلته رحمه الله تعالى..!

كذلك فإن ابن مندة رحمه الله أراد أن يخرج إلى الرحلة، فخرج وكتب شيئاً كثيراً جداً، وكانت رحلته خمسة وأربعين سنة، رحمه الله تعالى!

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على رأس الراحلين في سماع الأحاديث، فإن جابر بن عبد الله رحل شهراً إلى عبد الله بن أنيس في حديثٍ واحد، كما أخرج البخاري رحمه الله في الباب المفرد في باب المعانقة، من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: (بلغني عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً -من أجل الرحلة اشترى بعيراً- ثم شددت رحلي فسرت إليه شهراً حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله ؟ قلت: نعم. فخرج عبد الله بن أنيس فاعتنقني. فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله الناس يوم القيامة عراة أي: يعني غير مختتنين- بهماً، قلنا: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء. فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة) لا بد من تصفية الحسابات... الحديث.

وهذا دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم رغم أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا الأحاديث لكنهم يطلبون المزيد والسماع المباشر، وهذا الحديث الذي يرحل من أجله كان السابقون يقدرون له قيمته، ففي الصحيحين من حديث الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: عبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها)، ثم قال الشعبي : خذها بغيرما شيء -خذ هذا الحديث مجاناً- فقد كان الرجل يرحل في مثلها إلى المدينة ، أي: يذهب من الكوفة إلى المدينة من أجل حديثٍ واحد.

كذلك فإن التابعين قد ساروا على نهج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فهذا التابعي الجليل أبو العالية قال: [كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بـالبصرة فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم].

وكذلك قال الإمام مالك رحمه الله عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب : [كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد].

وعن الشعبي رحمه الله أنه خرج من الكوفة إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذكرت له، فقال: "لعلي ألقى رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".

وكان الشعبي رحمه الله من كبار الحفاظ، وكان يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي -لا يحتاج إلى كتابة لأن العلم كله محفوظ في الذهن- ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالماً.

قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كله؟

قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وفي رواية: كصبر الحمار- لأنه معروف بصبره على الذل وقلة التفقد، أي: أنه لو ما تفقده أحد فهو يصبر، وبكور كبكور الغراب.

كانت العرب تقول: تعجبنا من أربعة أشياء: من الغراب والخنزير والكلب والسنور، فأما الغراب فسرعة بكوره وسرعة إيابه قبل الليل.

وكذلك قال أبو قلابة الجرمي رحمه الله: أقمت في المدينة ثلاثة أيام ما لي بها حاجة إلا قدوم رجل بلغني عنه الحديث، فبلغني أنه يقدم فأقمت حتى قدم فحدثني به.

وكان مكحول رحمه الله عبداً لـسعيد بن العاص ، فوهبه لامرأة من هذيل بـمصر ، فأنعم الله عليه بـمصر وأعتق، قال عن نفسه: فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أراه -في ظنه- ثم أتيت العراق فلم أدع بها علماً إلا حويته عليه فيما أراه، ثم أتيت المدينة فكذلك، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النقل.

وكان الإمام عبد الله بن فروخ رحمه الله يرحل ويسافر، قال: لما أتيت الكوفة وأكثر أملي السماع من الأعمش ، فسألت عنه -سأل عن الأعمش - فقيل لي: غضب على أصحاب الحديث فحلف ألا يسمعهم مدة.

هذا جاء إلى الشيخ، والشيخ يبدو أن بعض الطلبة قد ضايقوه، فـالأعمش حلف ألا يسمعهم مدة، مثلاً قال: والله لا أحدثكم شهراً عقوبة لهم حتى يتأدبوا، هذا الطالب جاء إلى البلد فوجد الشيخ فحلف ألا يحدث.

قال: فكنت أختلف إلى باب داره لعلي أصل إليه فلم أقدر على ذلك -ما استطعت- فجلست يوماً على بابه وأنا متفكر في غربتي وما حرمته من السماع، إذ فتحت جارية بابه يوماً وخرجت منه، فقالت لي: ما بالك على بابنا؟ فقلت: أنا رجل غريب، وأعلمتها بخبري. قالت: وأين بلدكم؟ قلت: أفريقيا . فانشرحت إلي وقالت: تعرف القيروان؟ قلت: أنا من أهلها. قالت: تعرف دار ابن فروخ؟ قلت: أنا هو. فتأملتني ثم قالت: عبد الله؟ قلت: نعم. وإذا هي جارية كانت لنا بعناها صغيرة، فسارعت إلى الأعمش وقالت: إن مولاي الذي كنت أخبرك بخبره في الباب، فأمرها بإدخاله، فدخلت وأسكنني بيتاً قبالة بيته، فسمعت منه وحدثني وقد حرم سائر الناس إلى أن قضيت أربي منه.

وهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى طلب الحديث وهو ابن ستة عشر سنة، وخرج إلى الكوفة في أول سفرة، وخرج إلى البصرة ، وخرج إلى سفيان بن عيينة بـمكة -وهي أول سنة حج فيها- وخرج إلى عبد الرزاق بـصنعاء اليمن ، ورافق يحيى بن معين في هذه السفرة.

قال أحمد رحمه الله: رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور، والشامات، والسواحل، والمغرب ، والجزائر ، ومكة ، والمدينة ، والحجاز ، واليمن ، والعراقين جميعاً، وفارس ، وخراسان ، والجبال والأطراف، ثم عدت إلى بغداد ، وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة -وسادة- فحممت فرجعت إلى أمي رحمها الله ولم أكن استأذنتها، ولو كان عندي تسعون درهماً كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري ، وخرج بعض أصحابنا ولم يمكنني الخروج لأنه لم يكن عندي شيء.

وقال ابن الجوزي رحمه الله: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع المسند.

وكان من تلامذته إسحاق بن منصور الكوسج ، وكان فقيهاً عالماً، جمع مسائل عن الإمام أحمد ثم بلغه أن الإمام أحمد رجع عن تلك المسائل التي كتبها عنه، فجمع إسحاق بن منصور المسائل في جراب وحملها على ظهره وخرج راجلاً إلى بغداد وهي على ظهره، وعرض خطوط أحمد عليه في كل مسألة -استفتاه فيها، قال: هذه كتبتها عنك رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟- فأقر له بها وأعجب أحمد بذلك. فهذا رحل في التأكد هل العالم رجع عن مسألة أم لم يرجع.

كذلك فإن من أئمة الدنيا وطلاب العلم الكبار والعلماء الأفذاذ بقي بن مخلد رحمه الله، وهذا من علماء الأندلس ، وهذا الرجل رحل من الأندلس إلى بغداد لملاقاة الإمام أحمد رحمه الله، وحصلت له قصة عجيبة مع الإمام أحمد، قال فيما يروى عنه: لما قربت من بغداد اتصلني خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل.

والمحنة التي جرت على الإمام أحمد معروفة، وكان مما حصل على الإمام أحمد السجن والضرب، والإقامة الجبرية، ومنع من التحديث والتدريس بقي بن مخلد رحل من الأندلس وجاء إلى بغداد لملاقاة أحمد بن حنبل فوجده مفروضاً عليه الإقامة الجبرية والمنع من التدريس ولا يستطيع أحد أن يقترب من بيت الإمام أحمد ، فماذا فعل؟

قال: فاغتممت بذلك غماً شديداً، فلم أعرج على شيء بعد إنزال متاعي في بيت اكتريته -في بعض الفنادق- أن أتيت الجامع الكبير -نزل العفش في الفندق وأتى إلى الجامع الكبير- وأنا أريد أن أجلس إلى الحلق وأسمع ما يتذاكرونه، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال فيضعف ويقوي -فلان ثقة، فلان ضعيف.. وهكذا- فقلت لمن كان بقربي: من هذا؟ قالوا: هذا يحيى بن معين ، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه -قرب الشيخ- فقمت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا رحمك الله.. رجل غريب، نائي الدار، أردت السؤال فلا تستخفني. فقال لي: قل. فسألته عن بعض ما لقيته من أهل الحديث فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار؟ فقال: صاحب صلاة دمشقي ثقة وفوق الثقة... إلخ، فصاح أهل الحلقة: يكفيك رحمك الله، غيرك له سؤال، فقلت وأنا واقف على قدمي: أكشفك عن رجل واحد -أريد أن أسألك عن رجل: أحمد بن حنبل؟ فنظر إلي يحيى بن معين كالمتعجب، وقال لي: ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل ؟ إن ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.

ثم خرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي ففتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه -ما عرفني- فقلت: يا أبا عبد الله ! رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال لي: ادخل الاسطوان -أي: الممر إلى داخل الدار- ولا تقع عليك عين -غيره تحت- فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الأقصى . فقال لي: أفريقيا ؟ فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى أفريقيا ، الأندلس . فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك -وصلني الخبر بمنعك من التدريس وأنا داخل على البلد- فقلت له: يا أبا عبد الله ! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم -أنا غير معروف في البلد- فإن أذنت لي أن آتي في كل يوم في زي السؤال -ألبس ملابس الشحاذين- وآتي إلى بيتك فأقول عند باب الدار ما يقولونه -أي: أقول عند باب البيت ما يقوله الشحاذون- فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه الكفاية.

فقال لي: نعم. على شرط ألا تظهر في الحلق ولا عند أصحاب الحديث، فقلت: لك شرطك -حتى لا يعرف، ويبقى هذا غريب مجهول- فكنت آخذ عوداً بيدي -مثل الشحاذ- وألف رأسي بخرقة، وأجعل ورقي ودواتي في كمي -التي يكتب بها في كمه- ثم آتي في بابه أصيح: الأجر رحمكم الله. فيخرج إلي ويغلق باب الدار ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر.. وهكذا حتى اجتمع لي نحواً من ثلاثمائة حديث، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له - الخليفة الذي امتحن أحمد مات- وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد بن حنبل وسما ذكره... إلى آخر القصة.

قال فيها: فكنت إذا حضرت حلقته فسح لي وأدناني، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.

أحمد يقول للناس بعدما رجع إلى التدريس وانفك من المحنة: هذا فعلاً يسمى طالب علم، هذا الذي ركب البحر من الأندلس إلى أفريقيا وجاء إلى بغداد ، هذا الذي رضي أن يلبس ملابس الشحاذين حتى يتعلم كل يوم حديثاً أو حديثين، هذا يصلح أن يقع عليه اسم طالب علم، فالآن اسم طالب العلم صار اسماً ممتهناً للكل، يقولون: فلان طالب علم، وما فعل شيئاً مما فعله بقي .

قال: ثم يقص عليهم قصتي معه، كان يناولني الحديث مناولة ويقرأه عليه وأقرأه عليه، فاعتللت علة -يقول: مرضت مرضة- ففقدني من مجلسه فسأل عني فعلم بمرضي، فقام مباشرة عائداً إليَّ -هذا كان قد استأجر غرفة في الفندق- قال بقي وهو مريض في الفندق: فسمعت الفندق قد ارتج بأهله وأنا أسمعه، يقول: هو ذاك أبصروه، هذا إمام المسلمين.

الإمام أحمد رفع الله ذكره، كان إذا دخل حارة أو مكاناً أو فندقاً قام الناس وقالوا: جاء أحمد ، جاء أحمد، كان بقي مريضاً في الفندق، فلما دخل أحمد ضج أهل الفندق، فبدر إلي صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن ! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك، فدخل فجلس عند رأسي وقد احتشى البيت من أصحابه فلم يسعهم؛ حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن ! أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعادك الله إلى العافية.

ثم خرج عني فأتاني أهل الفندق يلطفون بي ويخدمونني ديانة وحسبة فأحدهم يأتي بالفراش، وآخر باللحاف وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم.. لماذا؟ لعيادة الرجل الصالح لي أحمد بن حنبل.

وبقي بن مخلد قد رحل إلى مصر والشام والحجاز وبغداد رحلتين: امتدت الرحلة الأولى أربعة عشر عاماً، والثانية عشرين عاماً؛ ولذلك كتب مجلدات.

وهذا الإمام أبو حاتم الرازي لما ذكر رحلته في طلب العلم، قال: سمعت أبي يقول: أول ما خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ.

الفرسخ أكثر من خمسة كيلو مترات! أي: أن هذا مشى على قدميه أكثر من خمسة آلاف كيلو متر، والمشي على الأقدام غير الرواحل.

يقول: كنت أسير من الكوفة إلى بغداد ما لا أحصي كم من مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحر في المغرب الأقصى إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة ماشياً، ومن الرملة إلى بيت المقدس ، ومن الرملة إلى عسقلان ، ومن الرملة إلى طبرية ، ومن طبرية إلى دمشق ، ومن دمشق إلى حمص ، ومن حمص إلى أنطاكية ، ومن أنطاكية إلى طرسوس ، ومن طرسوس إلى حمص ، وكان بقي علي شيء من حديث أبي اليمان فسمعته، ثم خرجت من حمص إلى بيسان ، ومن بيسان إلى الرقة ، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد ، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل ، ومن النيل إلى الكوفة ... كل ذلك ماشياً، هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين.. هذا من رحلته رحمه الله تعالى..!

كذلك فإن ابن مندة رحمه الله أراد أن يخرج إلى الرحلة، فخرج وكتب شيئاً كثيراً جداً، وكانت رحلته خمسة وأربعين سنة، رحمه الله تعالى!

ابن السمعاني وأسره في رحلته

خرج ابن السمعاني من مرو ودخل بغداد سنة أربعمائة وواحد وستين، وناظر الفقهاء، ثم خرج منها إلى الحجاز على غير الطريق المعتاد -وهذه القصة تبين أن بعض العلماء عندما كانوا يرحلون في طلب العلم يصابون بمصائب وتحصل لهم حوادث ومع ذلك يتحملون- فهذا يقول: خرجت على غير الطريق المعتاد فأسرني عرب البادية، وكانوا يأخذونني مع جمالهم إلى الرعي، ولم أقل لهم: إني أعرف شيئاً من العلم، فاتفق أن رئيسهم أراد أن يتزوج، فقال: نخرج إلى بعض البلدان نبحث عن فقيه ليعقد لنا، فقال أحد الأسرى: هذا الرجل الذي يخرج مع جمالكم إلى الصحراء فقيه خراسان ، فاستدعوني وسألوني عن أشياء فأجبتهم وكلمتهم بالعربية فخجلوا واعتذروا، فعقدت لهم العقد ففرحوا، وسألوني أن أقبل منهم شيئاً فامتنعت، وسألتهم فحملوني إلى مكة في وسط السنة، فبقيت فيها مجاوراً لـمكة ؛ ولقي الحافظ الزنجاني رحمهما الله.

خيثمة بن سليمان وأسر الروم له

كذلك الحافظ محدث الشام خيثمة بن سليمان القرشي هذا أيضاً ركب البحر وقصد جَبَله، فلقيه المركب فقاتلوه، ثم تسلموا المركب من الإمام فأخذوني ثم ضربوني -كان بعض العلماء يقعون في أيدي الروم، بعضهم يقع في أيدي قطاع الطرق وهم في الرحلة، يتعرضون للإهانات- قال: وكتبوا أسماءنا، فقالوا: ما اسمك؟ قلت: خيثمة . فقال: اكتب حمار بن حمار -إهانة- ولما ضربت سكرت -أي: أصابني الغشي من شدة ألم الضرب- ونمت فرأيت كأني أنظر إلى الجنة -أي: في المنام- وعلى بابها جماعة من الحور العين، فقالت إحداهما: يا شقي! إيش فاتك؟ -إيش اختصار أي شيء- قالت أخرى: إيش فاته؟ قالت: لو قتل كان في الجنة مع الحور العين. فقالت لها: لئن يرزقه الله الشهادة في عز من الإسلام وذل من الشرك خير له. ثم انتبهت، قال: ورأيت كأن من يقول لي: اقرأ سورة براءة، فقرأت إلى قوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2] قال: فعددت من ليلة الرؤيا أربعة أشهر ففك الله أسري.

مكابدة الأئمة لأمراض في رحلاتهم

رحل الحافظ الرواسي حتى سقطت أصابعه من شدة البرد؛ لأنهم كانوا إذا مروا من بلدان باردة لا يكون عندهم شيء للتدفئة، فإن الأعضاء تتساقط من شدة البرودة، فبعض العلماء رحلوا حتى سقطت أعضاؤهم من شدة البرد، وكانوا يرحلون ويقابلون المشايخ حتى إن بعضهم لقي ثلاثة آلاف وستمائة شيخ!

وكان بعضهم إذا أراد قصد شيخ عجل إليه، فربما سافر ودخل البلد فوجد الشيخ قد مات، قال بعضهم: إنه سافر إلى نيسابور إلى بيت أحمد بن خلف فكان قد مات لتوه، قال لما سمع خبر موته: فكادت مرارتي تنشق!

أبو الوقت الهروي يرحل مشياً هو ووالده

كذلك فإن الحافظ أبا الوقت عبد الأول السجزي الهروي رحمه الله تعالى كان من مشاهير الذين طوفوا البلدان، قال أحد تلاميذه: لما رحلت إلى شيخنا ومسند العصر أبي الوقت قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع علي من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي. فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حق معرفتي لما سلمت علي -هذا من تواضعه- يقول: لو عرفتني على الحقيقة ما سافرت إلي ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاءً طويلاً وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، ثم قال: يا ولدي! تعلم أني رحلت أيضاً لسماع الصحيح ماشياً مع والدي من هراة إلى بوشنج ولي من العمر دون عشر سنين.

هذا أبوه علمه الرحلة في طلب الحديث، أخذه وعمره عشر سنين، قال: فكان والدي يضع على يدي حجرين -يقول: وأنا عمري عشر سنين كان والدي يعطيني حجرين أحملهما في السفر- أمشي وهو يتأملني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي أحد الحجرين فألقيه فيخف عني فأمشي، إلى أن يتبين له تعبي، فيقول: هل عييت؟ فأخاف وأقول: لا. فيقول: لم تقصر في المشي؟ فأسرع ساعة ثم أعجز، فيأخذ الحجر الآخر فيلقيه فأمشي حتى أعطب، فحينئذ يأخذني ويحملني، وكنا نلتقي جماعة الفلاحين، فيقولون: يا شيخ عيسى ! ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج . فيقول والدي: معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نمشي.

وهكذا كانوا من الصغر يتعلمون على الرحلة في طلب الحديث، فلا غرابة إذاً إذا كبروا أن يفعلوا ذلك.

رحلة السمعاني

وكذلك فإن من الذين طوفوا البلدان أبو سعد السمعاني رحمه الله تعالى، نهض برحلات قاربت عشرين سنة، الرحلة الأولى: كان مدتها عشر سنوات، كانت من خراسان شرقاً إلى الشام غرباً، ومن العراق شمالاً إلى الحجاز جنوباً.

وكذلك فإنه لما أراد أن يخرج لم يرض أهله حتى يخرج مع عمه مرافقة، خرج مع عمه وجلس في البلد يطلب العلم، يريد من عمه أن يطفش ويفارق حتى يكمل هو الرحلة، واختبأ في البلد من هنا إلى هنا ولكن عمه بقي ينتظره، ثم إن الابن قد جاء له بالسفر فسافر ومات في سفره عمه والوصي عليه، وأكمل الرحلة رحمه الله تعالى.

ورحلته الثانية: كان مدتها ست سنوات، زار فيها مدن خراسان ، ورحلته الثالثة أربع سنوات زار فيها بلاد ما وراء النهر، وزار مدناً كثيرةً جداً فدخلها وكتب عن العلماء فيها..!

وكان بعض المحدثين ربما بال الدم في طلب الحديث، من شدة الحر والمشي في الهواجر.

الرامهرمزي يصف حال الأئمة في رحلتهم للطلب

هذه طائفة من سير المحدثين الذين رحلوا في طلب الحديث، وقلنا أيها الإخوة في أول الأمر إن الدافع والداعي للرحلة في طلب الحديث كان موجوداً في البداية بخلاف ما هو عليه الآن، لكن لقيا العلماء وطلب العلم لا زال الدافع إليه موجوداً في عصرنا ولا شك، أما هؤلاء المحدثين فلا بد من ذكرهم والتعويل على سيرهم لأن لهم حق علينا، لا يوجد حديث في الكتب إلا وهم الذين نقلوه، وهم الذين رووه؛ ولذلك كان لا بد من ذكر حالهم.

وقد قال الحافظ الرامهرموزي في شأن أهل الحديث: يرحلون من بلاد إلى بلاد خائضين في العلم كل واد، شعث الرءوس، خلقان الثياب، خمص البطون، ذبل الشفاة، شحب الألوان، نحل الأبدان، قد جعلوا لهم هماً واحداً، ورضوا بالعلم دليلاً ورائداً، لا يقطعهم عنه جوع ولا ظمأ، ولا يملهم منه صيف ولا شتاء، مائزين الأثر صحيحه من سقيمه، وقويه من ضعيفه بألباب حازمة، وآراء ثاقبة، وقلوب للحق واعية، فلو رأيتهم في ليلهم وقد انتصبوا النسخ ما سمعوا -في الصباح يسمعون وفي الليل ينسخون- وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطي، والمضجع الشهي، غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم فانتبهوا مذعورين، قد أوجع الكد أصلابهم، وتيه السهر ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا عن مرقدهم ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان، ودلكوا بأيديهم عيونهم ثم عادوا إلى الكتابة حرصاً عليها وميلاً إليها، لعلمهم أنهم حراس الإسلام وخزان الملك العلام، فلما قضوا من بعض ما راموا أوطارهم انصرفوا قاصدين ديارهم، فلزموا المساجد، وعمروا المشاهد، لابسين ثوب الخضوع، مسالمين ومسلمين.

فنلاحظ من حال هؤلاء أنهم بالرغم من عدم وجود طائرة ولا قطارات ولا سيارات، ما في من وسائل المواصلات الحديثة هذه، لكنهم ساروا مشياً وركوباً وعلى الرواحل الأسفار الشاسعة والسنوات الطويلة، هجروا الأهل والأولاد والبلدان لأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يخرج من بلده فلا يرجع إلا وقد كبر ولده وشب، ولقوا مصاعب وربما وقع بعضهم في الأسر كما ذكرنا، وكانت الرحلات تأخذ من عمرهم السنين الطوال، هذا يدل على علو همتهم وصبرهم وتحملهم رضي الله تعالى عنهم.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
طالب العلم والحفظ 2824 استماع
طالب العلم والمنهج 2504 استماع
طالب العلم والعمل 2477 استماع