لقاء الباب المفتوح [221]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة! فهذا هو اللقاء الحادي والعشرون بعد المائتين من لقاءات الباب المفتوح الذي يتم كل يوم خميس، وهذا الخميس هو الثالث من شهر شعبان عام (1420هـ).

نبتدئ هذا اللقاء بما جرت به العادة من الكلام بما ييسره الله عز وجل على آيات من كتاب الله.

تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ...)

يقول الله تبارك وتعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [الحديد:22-24] (يبخلون) أي: يمنعون ما يجب عليهم بذله من مال وجاه وعلم.

مثال الأول: الذي يبخل بالزكاة وهي أعظم وأوجب ما ينكر، والإنفاق على من تجب نفقته من الأقارب والزوجات.

ومثال الثاني: أن يجد الإنسان شخصاً مسلماً واقعاً في مظلمة يتطلب المقام أن يشفع فيها ليرفع عن هذا الظلم ولكنه يبخل بجاهه.

ومثال الثالث: وهو البخل بعلمه، أن يمتنع من تعليم الناس مما علمه الله عز وجل، وأن يبخل بالجواب والفتيا إذا استفتي عن مسألة دينية وتعين عليه أن يفتي بها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (البخيل من إذا ذكرت عنده ولم يصلِ علي) اللهم صل وسلم عليه، وهذا نوع من البخل؛ لأنه بخل بما يجب عليه إذ أن القول الراجح: إنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب على من سمعه أن يصلي عليه، بدليل الحديث الذي في السنن أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (رغم أنف امرئٍ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين، فقال: آمين).

قال تعالى: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [الحديد:24] (يأمرون) أي: يقول هؤلاء للرجل: لا تنفق من مالك فإن مالك ينقص، لا تتعب نفسك في الشفاعة لفلان، لا تتعب نفسك في تعليم العلم، هؤلاء أمروهم بالبخل فصاروا -والعياذ بالله- فاسدين مفسدين.

قال الله عز وجل: وَمَنْ يَتَوَلَّ [الحديد:24] أي: يعرض عن طاعة الله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:24] من يتول فإن الله ليس بحاجة إليه، فهو عز وجل غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو (الحميد) أي: المحمود على غناه؛ لأنه ليس كل غني يكون محموداً، فالغني البخيل لا يُحمد، لكن الله عز وجل غني حميد يحمد على غناه؛ لأنه عز وجل واسع كثير العطاء.

وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان الذي يتولى عن طاعة الله إنما يضر نفسه ولا يضر الله شيئاً، فإن الله غني، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).

تفسير قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب ...)

قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].

قوله جل وعلا : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ هذه جملة مؤكدة باللام وقد والقسم المقدر؛ لأن مثل هذه جملة يقدر فيها قسم، والتقدير: والله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، ولعل قائل منكم يقول: كيف يقسم الله عز وجل؟ كيف يؤكد الله خبره بالقسم وهو الصادق بدون ذلك؟

هذا محل إشكال والجواب أن يقال: القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، واللسان العربي المبين يؤكد الأشياء الهامة أو الأشياء المنكرة بأنواع المؤكدات حتى يطمئن المخاطب ولا يكابر المكابر، فهنا نقول: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ [الحديد:25] وتقدير الكلام: والله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وهذا يتكرر في القرآن كثيراً والتقدير كما سمعتم.

أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ أي: أعطيناهم الوحي وأمرناهم أن يبلغوه إلى الناس هذا الرسول.

وقوله: بِالْبَيِّنَاتِ أي: بالآيات البينات الواضحة الدالة على أنهم رسلٌ من عند الله.

مثال ذلك: أرسل الله سبحانه وتعالى موسى إلى فرعون وأعطاه آيات بينات، قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ [الإسراء:101] منها: العصا العجيبة، عصا عادية فيها آيات، من آيات الله فيها أنه لما اجتمع السحرة الحذاق الجيدون بأمر فرعون ومساندته وألقوا حبالهم وعصيهم وصارت هذه الحبال والعصي كأنها حيات وثعابين أرهبت الناس، حتى موسى عليه الصلاة والسلام أوجس في نفسه خيفة؛ لأنها فوق ما يتصور، سحرة مهرة أتوا بكل قوتهم وألقوا وملئوا الأرض حبالاً وعصياً فجعلت هذه الحبال والعصي كأنها حيات وثعابين، فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116] أوحى الله إليه أن يلقي العصا، فألقاها، فانقلبت هذه العصا حية عظيمة، وجعلت تلقف ما يأفكون من الحبال التي جاءوا بها، أكلتها هذه الحية، وهذه من آيات الله العظيمة، كيف تكون هذه الحية تأكل كل هذه الدنيا؟ أين تذهب؟ لكنها -والله أعلم- بمجرد ما تأكلها تكون كالبخار تذهب، وإلا فإن بطن هذه الحية لا يسعها، لكن هذه آية! أنتم الآن تتصورون هذه الواقعة خبراً لكن ما ظنكم لو رأيتموها نظراً؟ كان الأمر أشد وأعظم، نحن الآن لا نتصورها إلا في الخبر والذهن فقط، لكن لو تشاهد الموضوع عرفت أنها آية عظيمة.

الآية الثانية في هذه العصا: أن موسى استسقاه قومه -أي: طلبوا منه الماء- فضرب حجراً من الأحجار فتفجر عيوناً اثنتي عشرة عيناً، الماء ينبع من هذا الحجر الذي ضرب به العصا؛ لأن بني إسرائيل كانوا اثني عشر نقيباً أليست هذه آية؟ بلى، حجر أصم تنبع منه العيون بدون حفار وبدون أي شيء آية من آيات الله.

الآية الثالثة: أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أدركه فرعون وحشره إلى البحر أيقن أصحاب موسى أنهم هالكون، وقالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] ما لنا مفر، البحر أمامنا إن خضناه غرقنا، وفرعون وجنوده خلفنا سيقضون علينا، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] ولكن انظر إلى الإيمان واليقين: قَالَ كَلَّا [الشعراء:62] لن ندرك إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] أي: سيدلني على ما فيه النجاة، فأوحى الله إليه أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء:63] ضرب البحر مرة واحدة بالعصا فانفلق اثني عشر طريقاً على عدد النقباء من بني إسرائيل فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63] أي: كالجبل العظيم، الأرض في الحال يبست فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً [طـه:77] والماء على أيمانهم وعن شمائلهم كالجبال، وانظر إلى الإيمان أيضاً كيف دخلوا في هذه الطرق والمياه على أيمانهم وعلى شمائلهم لكنه الإيمان؛ لأنهم عرفوا أنهم ناجون ولا بد، هذه من آيات الله عز وجل.

عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أعطاه الله آيات بينات كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وهذان الداءان لا حيلة للأطباء فيهما إلى الآن، اللهم إلا الأكمه ربما، كان عيسى يحيي الموتى بإذن الله، يقول للجنازة أمام الناس: احيي فتحيا بإذن الله، كان يخرج الموتى من قبورهم، يقف على القبر ويأمر صاحب القبر أن يخرج حياً، من يستطيع هذا إلا الله عز وجل؟ جعله الله آية لهذا النبي.

كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخه فيطير! قال الله عز وجل: فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49] وفي قراءة ثانية: فيكون طائراً، وإذا جمعت بين القراءتين صار طيراً بإذن الله يطير؛ لأنه ما كل طير يطير، النعامة لها جناح ولكنها لا تطير، لكن يكون طيراً يطير يشاهد في الجو، وهو خلقه من طين! من يقدر على هذا؟! ثم بعد الموت وإيجاد من العدم، هذا لا يقدر عليه إلا الله جعله الله آية لعيسى.

فإن قال قائل: لماذا خص الله موسى بالعصا وخص عيسى بإحياء الموتى وخلق الطيور؟

قال أهل العلم: إن الله عز وجل حكيم، يجعل لكل نبي من الآيات ما يناسب الوقت وحال الناس حتى يعجزهم، يقولون: إن السحر ترقى إلى حد بعيد في عهد موسى؛ فأراهم الله آية يعجزون عنها بسحرهم، ولهذا في قصة موسى السحرة العارفون بالسحر ما ملكوا أنفسهم إلا أن يؤمنوا وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [الأعراف:120] ما سجدوا كأنهم بغير اختيار، دهشوا فسجدوا، وقالوا إعلاناً: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122].

عيسى عليه السلام ترقى في عهده الطب ترقياً عظيماً فأعطاه الله تعالى آية لا يستطيع الأطباء أن يأتوا بمثله.

أما محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه بعث في زمن البلاغة العظيمة التي ترقت إلى أعلى ما يكون في العرب واللسان العربي أفصح الألسنة وأدلها على ما في الضمير، فبعثه الله عز وجل بقرآن كريم أعجز العرب أن يأتوا بمثله، ولن يأتي أحد بمثله لا الجن ولا الإنس، قال الله عز وجل: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88] ولو أن بعضهم عاون بعضاً لا يأتون بمثله، وصدق الله عز وجل، القرآن كلام الله فكما أن الله ليس كمثله شيء فكلامه ليس كمثله كلام، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ [الحديد:25] وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أن الله تعالى ما بعث نبياً إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر حتى تقوم الحجة. قال: وإنما الذي أوتيته وحي أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً) وحصل ما توقع والحمد لله، وأكثر الأنبياء تابعاً هو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن آيته الكبرى هي القرآن العظيم، القرآن العظيم باق وكل الناس يقرءونه ويستنتجون منه من الآيات ما يزدادون به إيماناً ويعلمون به صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فإن قال قائل: ما الحاجة إلى إعطاء الأنبياء آيات؟

هنا الحاجة واقعة بل للضرورة، بل للعقل أيضاً، لأنه ليس من العقل أن يأتي شخص ويقول: إنه رسول ثم يتبع، لا بد أن تكون هناك بينة تدل على أنه رسول.

لو جاء إنسان في غير أمة محمد عليه الصلاة والسلام وقال: إنه رسول ولم يأت بآية، فالناس معذورون إذا لم يتبعوه، وإلا لكان كل واحد يدعي أنه رسول، أما بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالنبوة انقطعت لأنه كان خاتم النبيين، لذلك لا بد أن يكون مع الأنبياء آيات تدل على صدقهم، وعلى صحة ما جاءوا به من الشريعة.

وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد:25] (الكتاب) الوحي الذي أوحاه الله تعالى إليه، وما من رسول إلا معه كتاب بخلاف النبي، فالنبي قد لا يكون معه كتاب، لكن الرسول لا بد أن يكون معه كتاب؛ لأنه رسول لا بد أن يعطي الناس الذين يدعوهم ما يشاهدونه بأعينهم، وقوله: (الكتاب) هل هو واحد أو المراد الجنس؟

المراد الجنس، يعني: الكتب، لأنه قال: رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ [الحديد:25] ليس كتاباً واحداً بل كل رسول معه كتاب، وقوله: وَالْمِيزَانَ [الحديد:25] أي: العدل، الذي توزن به الأشياء ويعرف قدرها وحالها، وهذا يدل دلالة واضحة على أن القياس الصحيح مما بعث به الرسل، لأن القياس تسوية فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، وقد قال الله عز وجل: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد:25] أي: العدل والمقايسة بين الأمور.

لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] أي: ليقوم الناس في الدين والدنيا بالقسط والعدل في حق الله وفي حق العباد، فما هو العدل في حق الله؟

العدل في حق الله ما ذكره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لـمعاذ بن جبل حين قال له: (أتدري يا معاذ ! ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) قوله: (ألا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئاً) حق المخلوق؟ قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه) هذا هو الشاهد، أي: أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، لو أننا عاملنا الناس بهذا لاستقام العدل، ولم يتجرأ أحد على ظلم أحد، ولو أننا شعرنا للناس بما نشعر به لأنفسنا؛ لحلت في قلوبنا الرحمة والتواضع، لأن كل إنسان يحب أن يعامله الناس بالرحمة والتواضع فعامل الناس أيضاً بالرحمة والتواضع.

ثم ذكر الله تبارك وتعالى ما يحصل به النصر من جهة أخرى؛ لأن النصر يكون بالوحي ويكون بالبأس، وهو ما ذكره في قوله: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].

يقول الله تبارك وتعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [الحديد:22-24] (يبخلون) أي: يمنعون ما يجب عليهم بذله من مال وجاه وعلم.

مثال الأول: الذي يبخل بالزكاة وهي أعظم وأوجب ما ينكر، والإنفاق على من تجب نفقته من الأقارب والزوجات.

ومثال الثاني: أن يجد الإنسان شخصاً مسلماً واقعاً في مظلمة يتطلب المقام أن يشفع فيها ليرفع عن هذا الظلم ولكنه يبخل بجاهه.

ومثال الثالث: وهو البخل بعلمه، أن يمتنع من تعليم الناس مما علمه الله عز وجل، وأن يبخل بالجواب والفتيا إذا استفتي عن مسألة دينية وتعين عليه أن يفتي بها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (البخيل من إذا ذكرت عنده ولم يصلِ علي) اللهم صل وسلم عليه، وهذا نوع من البخل؛ لأنه بخل بما يجب عليه إذ أن القول الراجح: إنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب على من سمعه أن يصلي عليه، بدليل الحديث الذي في السنن أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (رغم أنف امرئٍ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين، فقال: آمين).

قال تعالى: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [الحديد:24] (يأمرون) أي: يقول هؤلاء للرجل: لا تنفق من مالك فإن مالك ينقص، لا تتعب نفسك في الشفاعة لفلان، لا تتعب نفسك في تعليم العلم، هؤلاء أمروهم بالبخل فصاروا -والعياذ بالله- فاسدين مفسدين.

قال الله عز وجل: وَمَنْ يَتَوَلَّ [الحديد:24] أي: يعرض عن طاعة الله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:24] من يتول فإن الله ليس بحاجة إليه، فهو عز وجل غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو (الحميد) أي: المحمود على غناه؛ لأنه ليس كل غني يكون محموداً، فالغني البخيل لا يُحمد، لكن الله عز وجل غني حميد يحمد على غناه؛ لأنه عز وجل واسع كثير العطاء.

وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان الذي يتولى عن طاعة الله إنما يضر نفسه ولا يضر الله شيئاً، فإن الله غني، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
لقاء الباب المفتوح [63] 3396 استماع
لقاء الباب المفتوح [146] 3352 استماع
لقاء الباب المفتوح [85] 3317 استماع
لقاء الباب المفتوح [132] 3297 استماع
لقاء الباب المفتوح [8] 3282 استماع
لقاء الباب المفتوح [13] 3262 استماع
لقاء الباب المفتوح [127] 3118 استماع
لقاء الباب المفتوح [172] 3092 استماع
لقاء الباب المفتوح [150] 3039 استماع
لقاء الباب المفتوح [47] 3034 استماع