خطأ مشهور


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذي قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.

أما بعــد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في هذه الليلة -وهي ليلة الأحد السابع من شهر رمضان، من هذا العام عام (1413هـ)- تكتمل اللقاءات المتفق على عقدها في هذا المجلس، وسوف ننتقل بعد غدٍ -إن شاء الله تعالى- إلى مسجد الشيخ عبد الله الجاسر لإكمال هذه الدروس في ليلة الثلاثاء، وقد كنت تحدثت في أول ليلة، كلمة قصيرة بعنوان: (كتب عليكم الصيام) وفي الليلة الثانية كانت رسالة إلى أحد الإخوة، وعنوان هذه الكلمة: (رسالة خاصة) أما اليوم الثالث، والرابع فكانت عن (جهاد المرأة) وفي الأمس جاءكم فضيلة الدكتور/ عبد الله بن حمود التويجري وفقه الله تعالى وجزاه الله تعالى خيراً.

أما اليوم، فلي حديثٌ إليكم وإلى الأخوات الكريمات بعنوان: (خطأ مشهور) وفي بعض الأمثال يقول الناس: خطأ مشهور خير من صواب مغمور، يعني: خفيٌ مستور، والواقع أن هذا الكلام ليس بصحيح، بل إن الخطأ يجب تصحيحه، ولو كان مشهوراً، وكلما زادت شهرة الخطأ تعين إصلاحه وبيانه والتنبيه عليه، وهكذا بالنسبة للصواب والحق، فكلما كان خفياً كان إعلانه أوجب وألزم، ولهذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء، وقال في الحديث الذي رواه ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما وهو في صحيح مسلم وغيره: {فطوبى للغرباء} ووصف الغرباء -كما في بعض الآثار- بأنهم: {يصلحون إذا فسد الناس -أو يُصلحون ما أفسد الناس-} لأنهم ينشرون السنة إذا خفيت، ويحاربون البدعة إذا ظهرت، ويأمرون بالمعروف إذا ترك، وينهون عن المنكر إذا شهر وفُعل، وإذا كان هذا الكلام -خطأ مشهور خيرٌ من صواب مغمور- في الأمور اللغوية مثلاً، أو ما أشبه ذلك فالأمر أهون وأيسر، أما في المجالات الشرعية فإن الأمر يختلف، ومن هنا أحببت التنبيه للإخوة والأخوات على بعض الأحكام التي هي على ظهورها وشهرتها ومعرفتها إلا أنه يكثر اللبس فيها، والخطأ والسؤال عنها، مع أنها تكرر مرة بعد أخرى ويتكلم عنها المفتون والمرشدون، والمعلمون، والوعاظ والمتحدثون في المساجد، إلا أن الإنسان يكتشف أن المجتمع بحاجة إلى مزيدٍ من التوعية والإرشاد، ويا ليت وسائل الإعلام التي دخلت كل بيت جُندت لهذا الهدف؛ لتعليم الناس أمور دينهم وتوعيتهم بأحكام ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لفعلت خيراً كثيراً، ولكفَّت عن الناس شراً كثيراً، ولكفتهم مئونة عظيمة، ولكن إلى الله المشتكى، فإن وسائل الإعلام ليست إيجابية بل هي على النقيض من ذلك، فهي تعمل على هدم ما يبنيه المسجد وما يؤسسه الداعية وما يصنعه الكتاب أو الشريط وكما قيل:

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه     إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم<

أيها الإخوة، وهذه المسائل: هي مسائل فقهية عملية، وقد اخترت منها ما يتعلق بالصيام على الأغلب، وسوف أكملها -إن شاء الله تعالى- فيما بعد، كما إنني لم أحرص على ترتيب هذه الأشياء بحسب الموضوعات، وإنما عملت على ذكرها كيفما اتفقت؛ ليكون ذلك أنشط للذهن حيث ينتقل من موضوعٍ إلى آخر.

حكم التهنئة بشهر رمضان

أولاً: من المسائل التي يكثر اللبس فيها: مسألة التهنئة بشهر رمضان، فإن بعض الناس -بل أكثر الناس- يهنئ بعضهم بعضاً، كأن يقولوا: مباركٌ عليكم الشهر، أو هنيئاً لكم، أو تقبل الله منا ومنكم، أو ما أشبه ذلك، وآخرون لا يفعلون ذلك، وفئة ثالثة قد تنكر على من فعله، فما هو الحكم في ذلك؟

لقد جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يهنئ أصحابه بقدوم رمضان، ولكن هذا الحديث لا يصح.

وجاء -أيضاً- عن السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يهنئ بعضهم بعضاً ستة أشهر على قدوم رمضان، ويعزي بعضهم بعضاً ستة أشهر على فواته، وهذا كذبٌ على السلف رضي الله عنهم، إذ لو فعلوا ذلك لاشتهر ونقل، ولم يكن هذا من عادتهم وديدنهم قطعاً.

فما هو حكم التهنئة بشهر رمضان؟

الأظهر أن هذا من قبيل المباحات والعادات، فإذا هنأ الناس بعضهم بعضاً فلا حرج في ذلك، ومن هنأ فإنه يرد، فإذا قيل له: تقبل الله منا ومنكم، فإنه يدعو بنحو هذا الدعاء، أو يقول: نسأل الله لنا ولكم القبول، أو جعله الله علينا وعليكم شهر خيرٍ وبركة، أو ما أشبه ذلك من العبارات والألفاظ التي هي داخلةٌ في المباحات، فهي من العادات، وليست من العبادات، ولهذا لم يثبت في الشرع: أنه يستحب أن يهنئ الناس بعضهم بعضاً بقدوم رمضان، ولكنه أمرٌ مباح، ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى إذا هنأه أحدٌ بالشهر رد عليه، وإلا لم يبتدئه هو بالتهنئة، وهكذا هو الحال، وهذا الأقرب والأوجه، والله تعالى أعلم.

لزوم الصيام قبل طلوع الفجر

ثانياً: مسألة اللزوم للصيام قبل طلوع الفجر، فإن كثيراً من العوام يعتقدون أن الإنسان إذا نوى الصيام قبل طلوع الفجر، فإنه لا يجوز له أن يعود فيأكل، أو يشرب، ويسميه بعضهم: الاستعقاب، فإذا انتهى من الأكل شرب ماءً، ثم يبدأ الصيام والإمساك قبل الفجر، وبعد ذلك لو أعجبه طعامٌ، أو قدم له شيءٌ فإنه لا يأكل، ويقول: نويت، والصحيح: أنه لا ينبغي للإنسان أن ينوي الصيام إلا مع الفجر، فتأخير الصيام إلى طلوع الفجر هذا هو المشهور والمشروع، وهو السنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه مخالفة لأهل الكتاب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن: {فَصْل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور} لأن أهل الكتاب لا يتسحرون، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحور، وهو: أن يأكل الإنسان الطعام في وقت السحر، ولو نوى الصيام قبل طلوع الفجر ثم أعجبه طعامٌ، أو شرابٌ، أو اشتهى شيئاً منه، فإن له أن يأكل ويشرب، كما قال الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] فهذا مما ينبغي التنبه عليه.

الإصابة بالحيض بعد غروب الشمس في رمضان

ثالثاً: كثيرٌ من النساء تسأل عما إذا أصابها الحيض بعد غروب الشمس وبعد الإفطار وقبل أن تصلي المغرب، وتعتقد كثيرٌ كثيرٌ من النساء أنه إذا أصابها الحيض قبل صلاة المغرب، بل بعضهن تقول، قبل صلاة العشاء الأخير، فإنه لا يحسب لها صيام ذلك اليوم، وهذا خطأ أيضاً، فإن الصواب أن الإنسان إذا غربت عليه الشمس تم صومه ولا يضره ما حدث بعد ذلك، فالمرأة -مثلاً- لو أصابها الحيض بعد غروب الشمس حتى ولو قبل أن تفطر بلحظة واحدة فإن صومها صحيح، ويومها لها ولا قضاء عليها، هذا هو الصواب الذي لا شك فيه.

أما ما شاع عند النساء أنها إذا حاضت قبل الإفطار، أو إذا حاضت قبل صلاة المغرب أو إذا حاضت قبل صلاة العشاء أو إذا حاضت قبل أن تفطر وبعد أن أذن المؤذن وغربت الشمس أن عليها أن تعيد صومها فهذا باطل، بل صومها صحيح ما دام أن الشمس غابت وهي طاهرة لم تحض.

ومثل ذلك -أيضاً- أن كثيراً من النساء، خاصةً من كبيرات السن تظن أنه لا يجوز أن تصلي إلا إذا صلى الإمام في المسجد، سواء صلاة الفجر أو غيرها، فتعتقد كثيرٌ من النساء أنه لا يجزئها أن تصلي إلا بعد أن تصلي الجماعة في المسجد، والصواب أنه إذا دخل الوقت جاز للإنسان أن يصلي، قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103]. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن جبريل جاءه، فأمه -في مكة- في أول الوقت وفي آخره، والحديث صحيح، وكذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في أول الوقت وفي آخره وبين لهم المواقيت بقوله وفعله، فإذا دخل الوقت جاز للإنسان أن يصلي.

فالمرأة إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر وكان مؤذناً مأموناً جاز لها أن تصلي الفجر، فتصلي الراتبة -راتبة الفجر- ركعتين، ثم تصلي بعد ذلك صلاة الفجر، سواء كان المسجد المجاور لها قد صلى الفجر، أو لم يصل، تأخر أو لم يتأخر، فلا علاقة لصلاة المرأة بصلاة المسجد المجاور لها ولا غيره.

وقت الفطر للمسافر

رابعاً: مسألة متى يفطر المسافر؟ وهذه يخطئ فيها كثيرون، أعني الذي ينوي السفر فهو مقيم ونوى السفر، فهذا لا يجوز له أن يفطر إلا إذا سافر فعلاً، أما مجرد النية فلا تبيح له الفطر، ولهذا قال الله تعالى في شأن الصيام: وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185] فقوله: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) تدل على التمكن، أي أنه واقع في السفر، أو كأنه راكب للسفر، أي أنه مسافر فعلاً ومتمكن من السفر، فلا يجوز للإنسان أن يفطر إلا إذا سافر فعلاً، أما مجرد النية في السفر فلا تبيح له أن يفطر، ولذلك كان العذر المبيح للفطر وللقصر بالنسبة للصلاة وللجمع ولسائر الرخص الشرعية هو السفر، وليس نية السفر، فمادام في بلده أو في بيته، فلا يجوز له أن يفطر، ولا أن يقصر الصلاة، ولا يجمع الصلاتين -أيضاً- حتى يسافر فعلاً.

أما إذا كان الإنسان يريد أن يسافر في الطائرة -وهذا مما يكثر السؤال عنه- فإذا كان قد حجز على طائرة معينة -حجزاً مؤكداً للسفر- وكان المطار خارج البلد -كما هو الحال في القصيم أو في الرياض أو في غيرها من البلاد التي يكون المطار فيها خارج المدينة- فإنه إذا خرج من المدينة إلى المطار بنية السفر، وهو حاجز فإنه يجوز له أن يتمتع برخص السفر حينئذٍ: من الفطر والقصر وغير ذلك.

أما إذا كان لم يحجز، وإنما ذهب لعله أن يجد رحلة يدركها فيسافر عليها، ويحتمل ألا يدرك، فإنه حينئذٍ لا يفطر ولا يقصر وليس مسافراً ما دام أن المطار ليس مسافة قصر، وجميع المطارات الموجودة في داخل هذه البلاد لا تعد مسافة قصر فإنها لا تتجاوز -في الأعم الأغلب- عشرين أو ثلاثين كيلو متراً والإنسان لا يذهب إليها بنية السفر إليها، ولكن يذهب بنية السفر منها إلى غيرها من البلاد.

إذاً: الخلاصة فيما يتعلق بالمسافر على الطائرة: أنه إذا كان قد حجز على الطائرة، وكان المطار خارج المدينة، فإذا خرج عن المدينة جاز له أن يتمتع برخص السفر، أما إذا لم يحجز فإنه لا يفطر ولا يقصر، ولا يجمع؛ لاحتمال ألا يتمكن من السفر فيعود إلى بلده.

حكم صوم من أدركه الفجر وهو جنب

خامساً: -وهي مهمة أيضاً- من أدركه الفجر وهو جنب -من رجلٍ أو امرأة- قد يكون الرجل أو المرأة جنباً في الليل، ثم لا يغتسل إلا بعد طلوع الفجر، إما عمداً وإما نسياناً، وإما لأنه نام، ولم يستيقظ إلا بعد الفجر، فما حكم صومه؟ صومه صحيح، ولا يضره أن يكون أخر الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر، وقد جاء في الصحيحين والسنن وموطأ مالك من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنبٌ من جماع ثم يغتسل ويصوم}.

إذاً لا يضر الإنسان -رجلاً كان أو امرأة- أن يؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر ولو متعمداً، فإن هذا لا يضر ولا حرج فيه، ولا بأس عليه في ذلك وصومه صحيح.

وهناك سؤالٌ تسأل عنه بعض النساء، تقول: إنها لم تغتسل من الجنابة إلا بعد طلوع الشمس فما حكم صومها؟ فنقول أيضاً: صومها صحيح؛ لأن الصوم لا علاقة له بالطهارة، فصومها صحيح ولو كانت جُنباً -ومن المعلوم أن الحائض والنفساء لا تصوم، فالحيض والنفاس من مفسدات الصيام، إنما لو كانت جنباً أو غير متوضئة- فإن هذا لا يؤثر في الصيام، ولكن يرد سؤال: لماذا أخرتِ صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس؟ إن كان التأخير لعذر مثل أن تكون نامت من غير تفريط، ولم تستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، فلا حرج عليها، وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك } وفي الحديث الأخر أيضاً في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك -مرجعه من غزوة تبوك- أنه لم يستيقظ هو وأصحابه إلا من حر الشمس، ثم قال: {هذا مكانٌ قد حضرنا فيه الشيطان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنه، فأذن بالرحيل، ثم توضأ وصلى بأصحابه بعد ما طلعت الشمس }.

إذاً إن كان تأخير الصلاة إلى بعد طلوع الشمس لعذر كالنوم أو نحوه، فلا حرج في ذلك، أما إن كان التأخير لتفريط فهو ذنبٌ عظيم وخطرٌ جسيم، بل هو من كبائر الذنوب، أن يؤخر الإنسان الصلاة إلى أن يخرج وقتها، فعليه أن يصحح توبته حينئذٍ وألا يعود إلى مثلها: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور:17].

والخلاصة أن الإنسان إذا أدركه الفجر وهو جنب فصومه صحيح، وعليه أن يغتسل للصلاة، أما الصوم فلا يضره ألا يكون وقع كله في حالة طهارة من الحدث الأكبر أو الأصغر، فالصوم لا تعلق له بالطهارة كما أسلفت.

حكم الاحتلام في نهار رمضان

سادساً: ومثل ذلك سؤالٌ يتكرر كثيراً، وهو أن البعض يقول: إنه يستيقظ وهو قد احتلم في نهار رمضان، فما حكم صومه؟

فأقول: الاحتلام -وهو أن يقع من الإنسان وهو نائم ما يوجب الغسل- ليس من مفسدات الصيام، ولا يضر الصيام أبداً، بل عليه أن يغتسل للصلاة، ولا يضر الصيام أن يكون وقع الاحتلام في نهار رمضان.

فما يتناقله البعض أو يظنونه من أن الاحتلام من مفسدات الصيام فهذا باطل وخطأ.

أما الذي هو من مفسدات الصيام، فهو الجماع في نهار رمضان، فإنه من مفسدات الصيام والمفطرات بالإجماع، كما قال الله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187] يعني النساء: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] فدل على أن المباشرة -وهي إتيان النساء- والأكل والشرب تفعل في الليل إلى أجلٍ، وهو أن يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم يمسك بعد ذلك عن هذه الأشياء وعن غيرها من المفطرات.

ومثله -أيضاً- إذا عبث الإنسان بنفسه، فخرج منه المني في نهار رمضان بالاستمناء -أو ما يسمونه بالعادة السرية- سواء كان ذلك بيده أو بغير ذلك، فإن هذا من المفطرات؛ لأنه إخراجٌ للشهوة، والله تعالى يقول في الحديث القدسي عن الصائم: {يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي} فدل على أن الصائم واجب عليه أن يدع شهوته حال الصيام من أجل الله تعالى؛ طاعة لله تعالى وامتثالاً لأمره وتركاً لنهيه.

فإذا استمنى الإنسان في نهار رمضان، فإنه يفطر بذلك وعليه القضاء، ولكن الصحيح أنه ليس عليه الكفارة، وإنما الكفارة على من جامع زوجته في نهار رمضان من غير عذر -أي ليس مسافراً مثلاً- وإنما جامعها وهو مقيمٌ فعليه حينئذٍ القضاء، والاستغفار، والكفارة، وعليه أن يمسك بقية يومه.

ثم إني أنبه إلى أن العادة السرية مع أنها تفطِّر من فعلها في نهار رمضان إلا أنها من أعظم الأسباب والأفعال المؤثرة في شخصية الإنسان وفي تفكيره وفي حياته وفي سلوكه، فإن كثيراً من الشباب يصابون بألوانٍ من المشاكل النفسية والأمراض والأزمات والقلق والتوتر والخجل، بل والأمراض الجسدية كضعف البصر، والارتعاش في الأطراف، واحمرار الوجه بل والضعف الجنسي إلى غير ذلك من الأسباب والنتائج، كل ذلك من جراء الوقوع في هذه العادة السيئة، ومن جراء الإدمان عليها وكثرتها، والإنسان إذا وقع فيها ربما يصعب عليه الخلاص منها، وربما يتحول إلى مدمن، فعلى الإنسان أن يتقي الله تعالى في نفسه، وأن يجاهد ما استطاع في ذلك بقدر ما يملك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول، كما في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن مسعود: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء} فإذا كان العبد يفعل مثل هذا الفعل وهو صائم مع أن الصوم هو العلاج، فإن هذا هو من أعظم الأخطار.

ومثل هذا الكلام، أعلم أن الكثير يشمئز من الحديث عنه، ولكنها مسائل لا بد منها، لأن الكثيرين يحتاجون إلى بيانها، والله تعالى لا يستحي من الحق.

حكم استخدام حبوب منع الدورة الشهرية أو الحمل في رمضان

سابعاً: ومن المسائل أيضا التي تحتاج إلى بيان، هو أن كثيرٌ من النساء تسأل عن حكم استخدام حبوب منع الدورة الشهرية أو حبوب منع الحمل في رمضان من أجل أن تواصل الصيام إلى نهاية الشهر، ومن أجل أن تصلي مع المسلمين، فما حكم تناول هذه الحبوب؟

أقول: الراجح -إن شاء الله تعالى- أنه يجوز للمرأة أن تتناول هذه الحبوب في ليل رمضان من أجل ألا تأتيها العادة الشهرية، حتى تصوم الشهر كله، وحتى تصلي مع المسلمين أو من أجل أن تعتمر إذا كانت ذاهبة إلى العمرة.

فالراجح أن ذلك جائز إذا كان لا يضر بصحتها، وإذا تناولت المرأة هذه الحبوب، ثم توقف عنها الدم فلم يأتها، فحينئذٍ واجب عليها أن تصوم تلك الأيام، وأن تصلي وليس عليها قضاء؛ لأنها صامت، فكيف تقضي وقد صامت.

وبعض النساء، بل كثير منهن تعتقد أنها تتناول هذه الحبوب من أجل الصلاة ثم تصوم؛ لأنه لم يأتها الدم ثم تقضي الصيام بعد ذلك، وتظن أن الصيام وقت عادتها مع أن الدم لم يأتها لا يجزئ، وهذا خطأ، إذاً ما دام أن العادة انقطعت عنها، وأدت الصوم في وقته المعتاد -في رمضان مع المسلمين- وهو صوم صحيح، فأي معنى لكون المرأة تقضي الصيام بعد ذلك في شوال أو في غيره من الشهور، فهذا خطأ.

حكم صيام من به مرض لا يرجى برؤه

ثامناً: وكذلك من المسائل: مسألة المريض الذي أصابه مرضٌ لا يُرجى برؤه، مثل ما يسمى بالجلطة -مثلاً- أو السرطان، أو التليف، أو ما أشبه ذلك من الأمراض الشديدة التي يغلب على من أصيب بها ألا يشفى أو يعافى منها، إلا في حالات نادرة، فما حكم هذا الإنسان وهو لا يستطيع الصيام، أو نصحه الأطباء بعدم الصيام؛ لأن الصوم يزيد في مرضه؟!

فهذا الإنسان يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، نصف صاعٍ من برٍ أو أرز أو نحوهما، سواء أطعم في اليوم نفسه، أو أطعم بعد انتهاء رمضان، وكل ذلك جائز، ولا يضره.

ولا يضره -أيضاً- أن يكرر الإطعام لمساكين بأعيانهم، بمعنى أنه أطعم مجموعة من المساكين للأسبوع الأول، ثم في الأسبوع الثاني أعاد الصدقة والكفارة عليهم هم أيضاً، فهذا لا مانع منه ولا يضره، وليست مثل كفارة اليمين، فإن كفارة اليمين لابد فيها من إطعام عشرة مساكين، كما ذكر الله تعالى في كتابه: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة:89] فبالنسبة لكفارة اليمين، لابد من إطعام عشرة مساكين، فلو أطعم تسعة، لم يكمل الكفارة بأكملها بل لا بد أن يبحث عن عاشر غيرهم ويطعمهم، أما بالنسبة لكفارة الصيام، فلو أعادها على مساكين، وكررها عليهم، فإن ذلك لا يضره شيئاً.

حكم صيام من افتقد عقله

تاسعاً: وأيضاً مما يتعلق بذلك لو كان هذا المريض أو الكبير قد فقد عقله، وأصبح في حالة الخرف والشيخوخة، وهو لا يدري، ولا يعرف الليل من النهار، بل يعود -أحياناً- أقل من الطفل الصغير فلا يعرف شيئاً مما حوله، فهو قد فقد عقله وانتهى وأصبح لا يمر به يوم وهو مالك عقله، فإن مثل هذا ليس عليه صيام، ولا كفارة، بل قد سقط عنه التكليف، فهو في حكم المجنون والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في السنن وهو حديث صحيح-: {رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ} فإن مثل هذا الإنسان المخرف ليس عليه صيامٌ ولا إطعام ولا على أهله ولا على أولاده شيءٌ من ذلك.

مسألة كفارة اليمين

عاشراً: وكذلك من المسائل: مسألة كفارة اليمين: كثير من الناس والنساء خاصة يعتقدون أن كفارة اليمين هي صيام ثلاثة أيام، حتى أن من النساء من تظن أنه لا يجزئ في كفارة اليمين إلا صيام ثلاثة أيام، وهذا خطأ، بل صيام ثلاثة أيام عن كفارة اليمين لا يجزئ إلا لمن عجز عما قبلها، وهذا حكم منصوص بالقرآن الكريم قال الله تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة:89] فهذه الأشياء الثلاثة على التخيير إما أن تطعم عشرة مساكين فتعطي كل مسكين نصف صاع، وليكن معه شيءٌ من اللحم، أو تكسوهم، أو تعتق رقبة، فإذا عجزت عن هذه الثلاث، حينئذٍ تنتقل إلى الصيام، ولهذا قال: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89] أما من وجد واستطاع فواجب عليه الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة، ولو صام لم يجزئه الصيام.

أولاً: من المسائل التي يكثر اللبس فيها: مسألة التهنئة بشهر رمضان، فإن بعض الناس -بل أكثر الناس- يهنئ بعضهم بعضاً، كأن يقولوا: مباركٌ عليكم الشهر، أو هنيئاً لكم، أو تقبل الله منا ومنكم، أو ما أشبه ذلك، وآخرون لا يفعلون ذلك، وفئة ثالثة قد تنكر على من فعله، فما هو الحكم في ذلك؟

لقد جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يهنئ أصحابه بقدوم رمضان، ولكن هذا الحديث لا يصح.

وجاء -أيضاً- عن السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يهنئ بعضهم بعضاً ستة أشهر على قدوم رمضان، ويعزي بعضهم بعضاً ستة أشهر على فواته، وهذا كذبٌ على السلف رضي الله عنهم، إذ لو فعلوا ذلك لاشتهر ونقل، ولم يكن هذا من عادتهم وديدنهم قطعاً.

فما هو حكم التهنئة بشهر رمضان؟

الأظهر أن هذا من قبيل المباحات والعادات، فإذا هنأ الناس بعضهم بعضاً فلا حرج في ذلك، ومن هنأ فإنه يرد، فإذا قيل له: تقبل الله منا ومنكم، فإنه يدعو بنحو هذا الدعاء، أو يقول: نسأل الله لنا ولكم القبول، أو جعله الله علينا وعليكم شهر خيرٍ وبركة، أو ما أشبه ذلك من العبارات والألفاظ التي هي داخلةٌ في المباحات، فهي من العادات، وليست من العبادات، ولهذا لم يثبت في الشرع: أنه يستحب أن يهنئ الناس بعضهم بعضاً بقدوم رمضان، ولكنه أمرٌ مباح، ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى إذا هنأه أحدٌ بالشهر رد عليه، وإلا لم يبتدئه هو بالتهنئة، وهكذا هو الحال، وهذا الأقرب والأوجه، والله تعالى أعلم.

ثانياً: مسألة اللزوم للصيام قبل طلوع الفجر، فإن كثيراً من العوام يعتقدون أن الإنسان إذا نوى الصيام قبل طلوع الفجر، فإنه لا يجوز له أن يعود فيأكل، أو يشرب، ويسميه بعضهم: الاستعقاب، فإذا انتهى من الأكل شرب ماءً، ثم يبدأ الصيام والإمساك قبل الفجر، وبعد ذلك لو أعجبه طعامٌ، أو قدم له شيءٌ فإنه لا يأكل، ويقول: نويت، والصحيح: أنه لا ينبغي للإنسان أن ينوي الصيام إلا مع الفجر، فتأخير الصيام إلى طلوع الفجر هذا هو المشهور والمشروع، وهو السنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه مخالفة لأهل الكتاب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن: {فَصْل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور} لأن أهل الكتاب لا يتسحرون، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحور، وهو: أن يأكل الإنسان الطعام في وقت السحر، ولو نوى الصيام قبل طلوع الفجر ثم أعجبه طعامٌ، أو شرابٌ، أو اشتهى شيئاً منه، فإن له أن يأكل ويشرب، كما قال الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] فهذا مما ينبغي التنبه عليه.

ثالثاً: كثيرٌ من النساء تسأل عما إذا أصابها الحيض بعد غروب الشمس وبعد الإفطار وقبل أن تصلي المغرب، وتعتقد كثيرٌ كثيرٌ من النساء أنه إذا أصابها الحيض قبل صلاة المغرب، بل بعضهن تقول، قبل صلاة العشاء الأخير، فإنه لا يحسب لها صيام ذلك اليوم، وهذا خطأ أيضاً، فإن الصواب أن الإنسان إذا غربت عليه الشمس تم صومه ولا يضره ما حدث بعد ذلك، فالمرأة -مثلاً- لو أصابها الحيض بعد غروب الشمس حتى ولو قبل أن تفطر بلحظة واحدة فإن صومها صحيح، ويومها لها ولا قضاء عليها، هذا هو الصواب الذي لا شك فيه.

أما ما شاع عند النساء أنها إذا حاضت قبل الإفطار، أو إذا حاضت قبل صلاة المغرب أو إذا حاضت قبل صلاة العشاء أو إذا حاضت قبل أن تفطر وبعد أن أذن المؤذن وغربت الشمس أن عليها أن تعيد صومها فهذا باطل، بل صومها صحيح ما دام أن الشمس غابت وهي طاهرة لم تحض.

ومثل ذلك -أيضاً- أن كثيراً من النساء، خاصةً من كبيرات السن تظن أنه لا يجوز أن تصلي إلا إذا صلى الإمام في المسجد، سواء صلاة الفجر أو غيرها، فتعتقد كثيرٌ من النساء أنه لا يجزئها أن تصلي إلا بعد أن تصلي الجماعة في المسجد، والصواب أنه إذا دخل الوقت جاز للإنسان أن يصلي، قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103]. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن جبريل جاءه، فأمه -في مكة- في أول الوقت وفي آخره، والحديث صحيح، وكذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في أول الوقت وفي آخره وبين لهم المواقيت بقوله وفعله، فإذا دخل الوقت جاز للإنسان أن يصلي.

فالمرأة إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر وكان مؤذناً مأموناً جاز لها أن تصلي الفجر، فتصلي الراتبة -راتبة الفجر- ركعتين، ثم تصلي بعد ذلك صلاة الفجر، سواء كان المسجد المجاور لها قد صلى الفجر، أو لم يصل، تأخر أو لم يتأخر، فلا علاقة لصلاة المرأة بصلاة المسجد المجاور لها ولا غيره.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5025 استماع
حديث الهجرة 4985 استماع
تلك الرسل 4150 استماع
الصومال الجريح 4142 استماع
مصير المترفين 4106 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4046 استماع
وقفات مع سورة ق 3972 استماع
مقياس الربح والخسارة 3925 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3866 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3827 استماع