شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [10]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[ومتلف مؤذيه ليس يضمن بعد الدفاع بالتي هي أحسن

وأل تفيد الكل في العموم بالجمع والإفراد كالعليم

والنكرات في سياق النفي تعطي العموم أو سياق النهي

كذاك (من) و(ما) تفيدان معا كل العموم يا أخي فاسمعا

ومثله المفرد إذ يضاف فافهم هديت الرشد ما يضاف

ولا يتم الحكم حتى تجتمع كل الشروط والموانع ترتفع

ومن أتى بما عليه من عمل قد استحق ما له على العمل].

قول المؤلف رحمه الله تعالى:

(ومتلف مؤذيه ليس يضمن بعد الدفاع بالتي هي أحسن).

هذه القاعدة هي: ما ترتب على المأذون ليس بمضمون، وعلى هذا من حصل له أذى فإنه يدفعه بالأسهل فالأسهل، وإذا لم يندفع إلا بقتله فإنه لا شيء عليه إذا قتله، ويدل لذلك ما ثبت في صحيح مسلم : ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد )، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فهو في النار ) مع أنه قتله، لكن يدفعه بالأسهل فالأسهل، وهذا يترتب عليه مسائل: إذا صال أحد على شخص يريد نفسه، أو يريد حرمته، أو يريد دمه ..إلى آخره، فإنه يدفعه بالأسهل فالأسهل.

ومن ذلك أيضاً: إذا صال عليه صيد من صيد الحرم، أو صال عليه صيد وهو محرم فإنه يدفعه بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يندفع إلا بقتله فإنه لا شيء عليه، ولا يلزمه فدية.

وكذلك أيضاً لو خرج في عينه شعرة وهو محرم فإنه ينتزع هذه الشعرة المؤذية ولا يلزمه شيء، ولا يكون فعل محظوراً من محظورات الإحرام.

وقال المؤلف رحمه الله: (بعد الدفاع بالتي هي أحسن).

يعني: أنه يدفعه بالأسهل فالأسهل، يعني إذا صال عليه شخص يريد دمه، أو يريد حرمته، أو يريد ماله يدافعه بالتهديد، فإذا لم يندفع إلا بالضرب يضربه، أو بقطع الطرف يقطع طرفه، وإذا لم يندفع إلا بالقتل فإنه يقتله، لكن قال العلماء رحمهم الله: إذا خشي أن يبدره بالقتل فله أن يبدره بالقتل، يعني: أن تدافعه بالأسهل فالأسهل إلا إذا خشيت أنه سيبدرك بالقتل كونك تعظه وتذكره بالله عز وجل فلك أن تبدره بالقتل.

قال رحمه الله:

(وأل تفيد الكل في العموم بالجمع والإفراد كالعليم).

هنا شرع المؤلف رحمه الله في ذكر بعض صيغ العام، وهذه المسألة يحتاج إليها الفقهاء والمفتون والقضاة، ولهذا يذكرها بعض العلماء رحمهم الله فيما يتعلق بالقواعد الفقهية.

والعام في اللغة: الشامل، وأما في الاصطلاح: فهو اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر، والعام له صيغ:

الصيغة الأولى: (أل) سواء كان ذلك في الجمع أو في الإفراد كقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ [الأحزاب:35] ، هذا في الجمع يفيد كل المسلمين وكل المسلمات، والإفراد كقوله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ [العصر:1-2] أي: كل إنسان، قال المؤلف: (كالعليم) هذا يفيد العموم، فالله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء؛ ما كان وما لم يكن، وما سيكون… إلى آخره.

قال: (والنكرات في سياق النفي).

الصيغة الثانية: النكرة في سياق النفي تفيد العموم كقوله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا [الانفطار:19] فـ(شيئاً) نكرة في سياق النفي، والمعنى: أي نفس لا تملك لأي نفس أي شيء يوم القيامة، فـ(نفس) نكرة، و(لنفس) نكرة، و(شيئاً) نكرة، ثلاث نكرات في سياق النفي، أي نفس لو كان والداً، أو ولداً، أو زوجاً، أو أخاً، بأي نفس أي شيء؛ لأن كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] .

قال رحمه الله: (والنكرات في سياق النفي تعطي العموم أو سياق النهي).

الصيغة الثالثة: النكرة في سياق النهي كقوله عز وجل: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] فـ(لا تدع)، لا: ناهية، فالمعنى: لا تدعوا أي أحد مع الله عز وجل، هذه الصيغة الثالثة.

قال رحمه الله:

(كذاك (من) و(ما) تفيدان معا كل العموم يا أخي فاسمعا).

الأسماء المبهمة يعني: أسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، وأسماء الموصول، هذه كلها تفيد العموم كقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] أي: كل من عمل سوءاً فإنه يجزى به، وكقوله تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ [النحل:96]، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6] إلى آخره، فهذه أسماء موصولة كلها تفيد العموم مثل النكرات في سياق الشرط كقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا [النساء:110] أي سوء يعمله فإنه سيجازى به سواء كان قليلاً أو كثيراً.

قال رحمه الله: (ومثله المفرد إذ يضاف فافهم هديت الرشد ما يضاف).

المفرد المضاف يفيد العموم أيضاً فهو من صيغ العام كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ [إبراهيم:34] ، فـ(نعمة): مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه، لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] فهذه تشمل كل نعم الله عز وجل.

ومثال ذلك لو أن إنساناً كتب وصية وقال: بيتي وقف، فنقول: جميع البيوت تكون وقفاً؛ لأن هذا مفرد مضاف، ولو قال: زوجتي طالق، فتطلق عليه كل زوجاته؛ لأن هذا مفرد مضاف، إلا إذا خصص بقلبه؛ لأن في اللغة العربية يأتي العام ويراد به الخاص، أو خصص بلسانه.

ومثله المضاف إلى الجمع أيضاً يفيد العموم، يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] ، فـ(أولادكم): جمع مضاف يفيد العموم، فيشمل كل نوع من الأولاد.

قال المؤلف رحمه الله:

(ولا يتم الحكم حتى تجتمع كل الشروط والموانع ترتفع).

هذه ليست قاعدةً فقهية فحسب، بل هي من كليات الشريعة، فكل الأحكام العملية لا يترتب عليها آثارها إلا إذا توافرت شروطها وانتفت موانعها، وأيضاً الأحكام العقدية لا يترتب عليها آثارها إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، ودليل هذه القاعدة سائر أدلة الشروط والموانع، فمثلاً: الصلاة لا يتم حكم براءة الذمة منها، وسقوط الطلب بها، وحصول الأجر عند الله عز وجل إلا إذا توفرت الشروط، فلا بد من شروط الصلاة؛ من استقبال القبلة، ومن رفع الحدث، ومن زوال الخبث.. إلى آخره.

ولا بد أيضاً من انتفاء الموانع، أي: عدم الحدث وسائر مبطلات الصلاة، وكذلك أيضاً ما تكون الصلاة في أوقات النهي إذا كانت نفلاً مطلقاً.. إلى آخره، وأيضاً مثل: البيع لا يترتب عليه أثره من انتقال الملك، وكذلك أيضاً التصرف ونحو ذلك إلا إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع، وقل مثل ذلك في النكاح، فالنكاح لا بد أن تتوافر شروطه: الرضا، والشهادة، وتعيين الزوجين، والولي، ولا بد أن تنتفي موانعه ومحرماته، فلا تكون الزوجة من المحرمات، وعليه فلا يترتب عليه أثره من ملك الاستمتاع إلا إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع.

قلت: مثل ذلك أيضاً في الأمور العقدية كدخول الجنة، ودخول النار، فما يترتب عليه أثره إلا إذا توافرت شروطه وانتفت موانعه، وكذا القول بالتكفير وبالتفسيق، لا بد أن تتوافر شروطه، وأن تنتفي موانعه، فهذه قاعدة عامة.

قال المؤلف:

(ومن أتى بما عليه من عمل قد استحق ماله على العمل).

هذه قاعدة أيضاً كما تكون في أمور الدنيا كذلك أيضاً تكون في أمور الآخرة، فمن أتى بما طلب منه استحق ما رتب عليه من جزاء، ودليل هذه القاعدة قول الله عز وجل: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] ، فالأجير إذا أتى بما عليه من عمل يستحق ما رتب على هذا العمل من الثواب والأجر، وأيضاً في أمور الآخرة فالمسلم إذا صلى أحسن الظن بالله عز وجل فتظن بالله خيراً، وأن الله يقبل منه، ويثيبه ما يستحق على العمل، وليس من حسن الظن بالله عز وجل أن تظن أن الله ما يقبل منك ولا يثيبك، بل هذا من سوء الظن بالله عز وجل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [5] 2512 استماع
شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [8] 2209 استماع
شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [12] 2168 استماع
شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [3] 2094 استماع
شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [4] 1830 استماع
شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [1] 1614 استماع
شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [2] 1583 استماع
شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [6] 1580 استماع
شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [11] 1539 استماع
شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي [13] 1497 استماع