شرح سنن أبي داود [527]


الحلقة مفرغة

شرح حديث جبريل في مراتب الدين

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر! فوفق الله لنا عبد الله بن عمر داخلاً في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، يزعمون أن لا قدر والأمر أنف؟ فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.

ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه!

قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت.

قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق فلبثت ثلاثاً، ثم قال: يا عمر ! هل تدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ].

طريقة السلف في الاستدلال

أورد أبو داود رحمه الله هنا حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو حديث جبريل المشهور، وهو مشتمل على الإيمان بالقدر؛ وأنه أحد أصول الإيمان الستة، التي أجاب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال جبريل عن الإيمان فذكر: (وتؤمن بالقدر خيره وشره).

وحديث جبريل هذا حديث عظيم، بين النبي صلى الله عليه وسلم في آخره أن جبريل جاء يعلم الدين، وكان تعليمه للدين بإلقائه السؤال على الرسول صلى الله عليه وسلم فأضاف إليه أنه معلم للدين؛ لأنه سأل أسئلة ويريد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليها، حتى يتعلم الناس الذين عنده الدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضيف التعليم إليه كما هو مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي أجاب وهو الذي بيّن، وقد كان جبريل عالماً بالجواب، ولكنه أراد أن يسأل حتى يسمع الحاضرون الجواب.

وقد أورد ابن عمر رضي الله عنه الحديث بطوله من أجل الاستدلال على الإيمان بالقدر، وهذه طريقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فقد كانوا إذا سئلوا أحياناً يجيبون، وأحياناً يأتون بالدليل، وأحياناً يأتون بالدليل دون الجواب اكتفاءً بالدليل؛ لكن ابن عمر رضي الله عنه بيّن حكم القدر وشأنه وأيضاً ساق الحديث الطويل كله من أجل قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره). وفي هذا أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا إذا سئلوا عن شيء ساقوا الحديث الطويل من أجل اشتماله على جزئية معينة؛ لأنهم بهذا الجواب يعطون السائل ما سأل ويزيدونه على ذلك أموراً أخرى.

اهتمام التابعين بالعلم وسؤال الصحابة عن ذلك

وقد ذكر في الحديث أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري خرجا من العراق حاجين أو معتمرين، أي: سافرا إلى مكة في حج أو عمرة، فكان من مهمتهم بالإضافة إلى كونهم يؤدون هذا النسك أنهم يتفقهون في الدين، وأن يخبروا بما حصل عندهم من أمور منكرة، فيرجعون في ذلك إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين يرجع إليهم في معرفة الأحكام الشرعية في زمانهم؛ لأنهم شاهدوا التنزيل ورأوا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وسمعوا حديثه.

وفي هذا دليل على حرص التابعين على لقي الصحابة، وسؤالهم عن الأمور المشكلة.

قوله: [ (خرجنا حاجين أو معتمرين) ]، شك أهو حج أو عمرة.

قوله: [ (فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله) ]. أي لعلنا نلقى أحداً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فنبدي هذا الذي ظهر في بلادنا.

قوله: [ (فوفق الله لنا عبد الله بن عمر) ] يعني: أنه حصل أنهما لقيا عبد الله بن عمر وهو داخل المسجد فاكتنفاه عن يمينه وعن شماله، قال يحيى بن يعمر : (فظننت أن صاحبي سيكل الحديث إلي)، أي أنه فهم من صاحبه حميد بن عبد الرحمن الحميري أنه واكل الحديث إليه ليبدأ بالكلام ويسأل، وكانا قد اكتنفاه حتى كان كل واحد منهما على تمكن من سماع كلامه، وما يجيب به، واستيعابه، بحيث لا يفوته منه شيء، ثم أيضاً هذا الاكتناف يدل على حرص التابعين على الاستفادة من الصحابة.

كلام القدرية في خلق أفعال العباد

فسأله يحيى بن يعمر وقال: (إنه ظهر قبلنا). يعني: في بلدنا (أناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم). يعني: عندهم اشتغال بالعبادة واشتغال بالعلم، وهم يقرءون القرآن ويشتغلون به، ويتقفرون العلم أي يجتهدون في تحصيله، وفي معرفته والبحث عنه، ولكن الشيء الذي ينكر والشيء الذي ظهر منهم أنهم يقولون لا قدر، وأن الأمر أنف، أي أنه مستأنف وليس هناك علم سابق، بمعنى أن العباد يوجدون أفعالهم ويخلقونها، وأن الله تعالى لم يقدر عليهم شيئاً، فقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: (إذا لقيتموهم فأخبروهم أنني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ما تقبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر خيره وشره)، ثم ساق الحديث عن أبيه من أجل قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره).

وفي هذا الكلام من ابن عمر دليل على أن من لا يؤمن بالقدر فعمله مردود، وذلك لأنه أتى بشيء لا يقبل معه عمل، وهو عدم الإيمان بالقدر، الذي هو أصل من أصول الدين.

وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله عن هؤلاء أنهم يقولون: إنه ما تقدم قدر ولا علم، وإن الله تعالى لا يعلم بالأشياء إلا بعد وقوعها، وهؤلاء هم الغلاة في نفي القدر؛ لأنهم ينفون العلم الأزلي بكل شيء، وعلى هذا فقول الله عز وجل: أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231] وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12] لا تدخل فيه أفعال العباد التي يدعي هؤلاء أنهم يخلقونها وأن الله تعالى لا يعلمها ولا يقدرها، وهؤلاء كفرهم العلماء.

قال: وأما الذين لا ينكرون العلم فقد جاء عن جماعة من أهل العلم أنهم قالوا: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا، وقال: إن في تكفيرهم خلافاً بين العلماء.

قدرة الملائكة على التمثل بهيئة البشر

ثم ساق ابن عمر الحديث عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: كانوا جالسين عند النبي صلى الله عليه وسلم يستفيدون منه ويتفقهون ويتحملون عنه السنن، فذكر أنه طلع عليهم رجل غريب، لا يعرفه أحد منهم، ومع ذلك لا يظهر عليه أثر السفر؛ لأن شعره شديد السواد، ولباسه شديد البياض، والمعروف أن المعتاد من حال المسافر أنه يصير شعره أشعث وعليه غبار السفر، ولكن هذا على خلاف ما اعتادوه وما ألفوه، فكان موضع استغراب منهم.

وهذا الذي جاء هو جبريل، وكان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صوره غير معروفة كما في هذا الحديث، وكان يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي ، وكان من أجمل الصحابة رضي الله تعالى عنه.

وفي هذا بيان أن الملائكة خلقهم الله عز وجل ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وهم يطيرون بأجنحتهم، ويتحول أحدهم من هيئته التي هو عليها إلى هيئة إنسان، وذلك مثلما جاء ضيوف إبراهيم عليه السلام إليه وإلى لوط في صور رجال، وكذلك أتى جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة رجل.

وجبريل عليه السلام خلقه عظيم، وله ستمائة جناح كما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هيئته مرتين: مرة ليلة المعراج فوق السماوات، ومرة رآه في الأرض وقد سد الأفق.

ومعلوم أن أصل الملائكة غير أصل البشر، فإن الملائكة خلقوا من نور والبشر خلقوا من تراب، وقد جاء في القرآن أن آدم عليه الصلاة والسلام خلق من تراب، والجان خلق مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15] وجاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم) . فهذا المخلوق العظيم من نور يتحول إلى هيئة إنسان.

فلما جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل إليه (أسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه)، وبدأ يسأل الأسئلة التي يريد من ورائها أن يسمع الحاضرون الجواب عليها، ليتعلموا الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وفي هذا دليل على أن السائل يمكن أن يسأل ليعلم الجواب لكونه جاهلاً به، ويمكن أن يسأل وهو عالم بالجواب، والمقصود من ذلك أن يسمع الحاضرون الجواب، فيريد أن يشاركه غيره بمعرفة الجواب عن السؤال الذي يسأل عنه.

أهمية الشهادتين في أركان الإسلام

ثم بدأ بالأسئلة فقال: (يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه)؛ لأن من شأن السائل أنه إذا أعطي الجواب أنه يأخذه، وأما إذا قال: صدقت! فمعناه أن الجواب معروف عنده؛ لأن الذي يقول: صدقت هو العالم بالجواب، حيث حصل الجواب طبقاً لما عنده فقال: صدقت!

والرسول صلى الله عليه وسلم أجاب ببيان الإسلام بأمور ظاهرة، وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، وهذه أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها كما جاء في حديث ابن عمر : (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) ، ومعنى ذلك: أن هذه الخمس هي الأسس التي يقوم عليها الإسلام، وأولها الشهادتان.

والشهادتان هي الأساس لبقية الأركان، ولكل عمل من الأعمال، فهما أصل من الأصول الخمسة ولكنهما الركن الركين والأساس المتين الذي تقوم عليه بقية الأركان؛ لأن الصلاة والزكاة والصيام والحج وكل عمل من الأعمال لابد أن يكون مبنياً على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فإن العمل لا عبرة به، كما قال الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].

تلازم الشهادتين

ثم إن الشهادتين متلازمتان، لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ولا تقبل إحداهما بدون الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم تنفعه شهادته، فأهل الكتاب إذا شهدوا أن لا إله إلا الله ولم يشهدوا أن محمداً رسول الله لا ينفعهم ذلك، بل لابد من الشهادة، بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه، فهم مكلفون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإذا لم يحصل منهم ذلك فإنهم لا يكونون من أهل الإسلام، ولا يقال: إنهم يتبعون الأنبياء السابقين، لأن الأنبياء أمروا أتباعهم باتباعه إذا بعث، لأن الرسالات ختمت ببعثته ونسخت، ومن تمسك بها وأعرض عما جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فإنه كافر ومآله إلى النار خالداً فيها أبد الآباد.

ومما يدل على ذلك أنه قد جاء في حق موسى عليه السلام أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) . فالرسول الذي يزعم اليهود أنهم أتباعه لو كان حياً لم يسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أما عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام الذي يزعم النصارى أنهم أتباعه، فإنه قد رفع إلى السماء، وسينزل في آخر الزمان ويقتل الدجال، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، ويحكم بشريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يحكم بالإنجيل الذي أنزل عليه؛ لأن الإنجيل قد نسخ ولم يبق في الأرض إلا شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام التي هي خالدة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

معنى شهادة أن لا إله إلا الله

ثم لابد من معرفة معنى الشهادتين:

فالشهادة الأولى معناها: الشهادة لله بالوحدانية والألوهية، فهو واحد في ربوبيته، وواحد في ألوهيته، وواحد في أسمائه وصفاته.

واحد في ربوبيته فلا شريك له في خلق السماوات والأرض ولا في خلق غيرهما، وهو رب العالمين -والعالمون كل من سوى الله- والله تعالى هو الخالق وكل من سواه مخلوق، فالخلق خلقه، وكل شيء إنما وجد بخلقه وإيجاده سبحانه وتعالى، وهو المتصرف في الكون كيف يشاء، فهو الذي يحيي ويميت ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.

وتوحيد الربوبية: هو توحيد الله تعالى بأفعاله، أي أن الله واحد في أفعاله، وهي الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الكون.

وهو واحد في ألوهيته: أي أنه المعبود وحده الذي لا تصرف العبادة لغيره، بل يجب أن تكون خالصة له عز وجل، هذا هو توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بأفعال العباد كالدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والإنابة والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغيرها من أفعال العباد، التي يجب أن تكون كلها لله عز وجل، أي أنه يخص بها ويعبد بها ولا يعبد بها غيره، ولا يشرك معه أحد في العبادة، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل.

وكيف تصرف العبادة لمن كان عدماً فأوجده الله؟! وكيف يعبد المخلوق مخلوقاً مثله؟! فإذن العبادة لا تكون إلا للخالق الموجد الذي خلق الخلق كلهم، ولم يشاركه في الخلق أحد، فكذلك يجب أن يفرد بالعبادة، ولا يشاركه فيها أحد.

ومعنى أشهد أن لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، أو: لا معبود حق إلا الله.

فالنفي إنما هو للألوهية الحقة، وإلا فإن الألوهية الباطلة موجودة وكثيرة، وقد قال الكفار لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] فالنفي ليس للوجود، وليس المعنى: لا إله موجود إلا الله، لأن هناك آلهة موجودة ولكنها باطلة، فعلم أن خبر (لا إله) هو: حق، أو: بحق، وبهذا تخرج الآلهة الأخرى؛ لأنها بباطل أو أنها باطل.

فلا يصح ولا يجوز أن يقال: لا إله موجود إلا الله؛ لأن الآلهة التي تعبد مع الله وتعبد من دون الله موجودة، ولكن الذي يختص به الله ويخرج به من سواه أن نقول: لا إله حق أو لا إله بحق إلا الله.

فشهادة أن لا إله إلا الله تقوم على ركنين: النفي والإثبات، نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها، فالنفي في (لا إله) والإثبات في (إلا الله) والنفي عام حيث تنفي الألوهية عن كل من سوى الله، والإثبات الخاص هو أن تثبتها لله وحده.

والتوحيد الأول الذي هو توحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا مقرين بهذا التوحيد، وقد جاء في القرآن آيات تدل على إقرارهم كقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].

التلازم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

ويأتي في القرآن كثيراً توحيد الربوبية لا لأن الكفار أنكروه، ولكن لينتقل منه إلى توحيد الألوهية، وليلزم من أقر به أن يقر بالألوهية، ولهذا يقولون: توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية بمعنى أن من أقر بالأول يلزمه أن يقر بالثاني، فإذا اعترف بأن الله الخالق وحده.. الرازق وحده.. المحيي وحده.. المتصرف بالكون وحده، لزمه أن يقر بأن الله هو المعبود وحده، فلا يعبد مع الله مخلوقاً، وإنما يعبد الخالق وحده، فكما أنه متفرد بالخلق والإيجاد، فكذلك يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له.

ويأتي في القرآن كثيراً تقرير توحيد الربوبية للانتقال لتوحيد الألوهية والإلزام به، كما قال الله عز وجل في سورة النمل: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [النمل:60]. هذا تقرير توحيد الربوبية، والمقصود من هذا السياق: أإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:60]، استفهام إنكار معناه أن الذي انفرد بالخلق والإعجاز، لماذا لا يفرد بالعبادة؟ فإذاً هذا التقرير ليس لأنهم منكرون له فيلزمون به، بل هم مقرون؛ لكن المقصود من ذلك الانتقال إلى الإلزام بالألوهية، أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:60] أي: يسوون بين الله وغيره.

ثم قال: أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً ءَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النمل:61].

وهكذا يأتي في القرآن تقرير توحيد الربوبية من أجل الانتقال منه إلى الإلزام بالألوهية.

وكذلك العكس، فإنهم يقولون: توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، أي: أن من أقر بالألوهية فقد أقر بالربوبية ضمناً، لأنه لا يصلح أن يثبت الألوهية وينكر الربوبية، فمن يعبد الله وحده ويخصه بالعبادة لا يقول: إن لله شريكاً في خلق السماوات والأرض، ولكن من أقر بالربوبية قد ينكر الألوهية كما حصل من الكفار الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الإلزام لهم بالألوهية كما تقدم.

توحيد الأسماء والصفات

فالله واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، وكذلك واحد في أسمائه وصفاته؛ فالله تعالى له أسماء حسنى وصفات عليا، ولكن هذه الأسماء والصفات إنما تعرف من الكتاب والسنة، فلا يضاف إلى الله شيء إلا إذا جاء في الكتاب والسنة، فالأسماء والصفات لابد من الدليل عليها، لأنها غيب، والغيب لا يعرف إلا عن طريق الوحي، فنثبت لله من الأسماء والصفات كل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تمثيل أو تشبيه أو تكييف، ودون تحريف أو تعطيل أو تأويل، بل كما قال الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

فأثبت السمع والبصر بقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ، ونفى المشابهة بقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . فله سمع لا كالأسماع، وله بصر لا كالأبصار فيجب أن يكون توحيد الأسماء والصفات قائماً على أساس الإثبات مع التنزيه، لا الإثبات مع التشبيه، ولا التنزيه مع التعطيل، ولهذا كان أهل السنة والجماعة وسطاً بين المشبهة الذين أثبتوا وشبهوا، والمعطلة الذين قالوا: إن الله منزه عن صفات المخلوقين، فعطلوا الصفات اللائقة بالله عز وجل، فآل أمرهم إلى أن شبهوا الله بالمعدومات، أما أهل السنة والجماعة فإنهم أثبتوا ولم يعطلوا، ومع إثباتهم لم يشبهوا ولم يمثلوا، بل نزهوا، كما قال الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر! فوفق الله لنا عبد الله بن عمر داخلاً في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، يزعمون أن لا قدر والأمر أنف؟ فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.

ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه!

قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت.

قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق فلبثت ثلاثاً، ثم قال: يا عمر ! هل تدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ].

أورد أبو داود رحمه الله هنا حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو حديث جبريل المشهور، وهو مشتمل على الإيمان بالقدر؛ وأنه أحد أصول الإيمان الستة، التي أجاب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال جبريل عن الإيمان فذكر: (وتؤمن بالقدر خيره وشره).

وحديث جبريل هذا حديث عظيم، بين النبي صلى الله عليه وسلم في آخره أن جبريل جاء يعلم الدين، وكان تعليمه للدين بإلقائه السؤال على الرسول صلى الله عليه وسلم فأضاف إليه أنه معلم للدين؛ لأنه سأل أسئلة ويريد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليها، حتى يتعلم الناس الذين عنده الدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضيف التعليم إليه كما هو مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي أجاب وهو الذي بيّن، وقد كان جبريل عالماً بالجواب، ولكنه أراد أن يسأل حتى يسمع الحاضرون الجواب.

وقد أورد ابن عمر رضي الله عنه الحديث بطوله من أجل الاستدلال على الإيمان بالقدر، وهذه طريقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فقد كانوا إذا سئلوا أحياناً يجيبون، وأحياناً يأتون بالدليل، وأحياناً يأتون بالدليل دون الجواب اكتفاءً بالدليل؛ لكن ابن عمر رضي الله عنه بيّن حكم القدر وشأنه وأيضاً ساق الحديث الطويل كله من أجل قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره). وفي هذا أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا إذا سئلوا عن شيء ساقوا الحديث الطويل من أجل اشتماله على جزئية معينة؛ لأنهم بهذا الجواب يعطون السائل ما سأل ويزيدونه على ذلك أموراً أخرى.

وقد ذكر في الحديث أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري خرجا من العراق حاجين أو معتمرين، أي: سافرا إلى مكة في حج أو عمرة، فكان من مهمتهم بالإضافة إلى كونهم يؤدون هذا النسك أنهم يتفقهون في الدين، وأن يخبروا بما حصل عندهم من أمور منكرة، فيرجعون في ذلك إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين يرجع إليهم في معرفة الأحكام الشرعية في زمانهم؛ لأنهم شاهدوا التنزيل ورأوا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وسمعوا حديثه.

وفي هذا دليل على حرص التابعين على لقي الصحابة، وسؤالهم عن الأمور المشكلة.

قوله: [ (خرجنا حاجين أو معتمرين) ]، شك أهو حج أو عمرة.

قوله: [ (فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله) ]. أي لعلنا نلقى أحداً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فنبدي هذا الذي ظهر في بلادنا.

قوله: [ (فوفق الله لنا عبد الله بن عمر) ] يعني: أنه حصل أنهما لقيا عبد الله بن عمر وهو داخل المسجد فاكتنفاه عن يمينه وعن شماله، قال يحيى بن يعمر : (فظننت أن صاحبي سيكل الحديث إلي)، أي أنه فهم من صاحبه حميد بن عبد الرحمن الحميري أنه واكل الحديث إليه ليبدأ بالكلام ويسأل، وكانا قد اكتنفاه حتى كان كل واحد منهما على تمكن من سماع كلامه، وما يجيب به، واستيعابه، بحيث لا يفوته منه شيء، ثم أيضاً هذا الاكتناف يدل على حرص التابعين على الاستفادة من الصحابة.