خطب ومحاضرات
شرح سنن أبي داود [523]
الحلقة مفرغة
شرح حديث (لا تخيروا بين الأنبياء)
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أهيب حدثنا عمرو -يعني ابن يحيى - عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تخيروا بين الأنبياء) ].
أورد أبو داود رحمه الله باب التخيير بين الأنبياء، والمقصود بالتخيير أن يقال: فلان خير من فلان، هذا هو التخيير، ومعلوم أن القرآن والسنة جاءا بالتفضيل، قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253]، وقال: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55]، فالتفضيل ثابت في الكتاب وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث في جملة أحاديث، وهو حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء) أي: لا تقولوا: فلان خير من فلان، وهذا النهي المقصود به: أنهم لا يخيرون من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون مبنياً على أساس، أو أن يكون في التخيير تقليل من شأن بعضهم، وأما إذا كان التخيير مبنياً على علم ومبنياً على النصوص؛ فإن هذا أمر مطلوب، مع توقير الجميع وتعظيم الجميع ومحبة الجميع، ولكن يعتقد التفضيل الذي جاءت به النصوص؛ لأن التفضيل من أمور الغيب، وهذا من الأمور الغيبية، فلا يقال: فلان خير من فلان إلا بدليل، لأن هذا أمر غيبي، ومعناه: أنه خير عند الله، وأنه أفضل عند الله، وهذا لا يعلم إلا عن طريق الوحي، فالتخيير المنهي عنه هو الذي يكون مبنياً على غير علم ومبنياً على غير وحي، أو مبيناً على عصبية أو حمية، أو يكون في التخيير تقليل من شأن بعض الأنبياء، وأما إذا كان التخيير مبنياً على نصوص الوحي فإن هذا لا بأس به، والله تعالى قد ذكر في كتابه العزيز أنه فضل بعضهم على بعض.
تراجم رجال إسناد حديث (لا تخيروا بين الأنبياء)
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا أهيب ].
هو أهيب بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا عمرو -يعني ابن يحيى- ].
هو عمرو بن يحيى المازني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبيه ].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي سعيد الخدري ].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه هو سعد بن مالك بن سنان الخدري ، مشهور بنسبته وكنيته، كنيته: أبو سعيد ، ونسبته: الخدري ، واسمه: سعد بن مالك بن سنان ، وهو صحابي جليل، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، ستة رجال وامرأة واحدة، وقد ذكرهم السيوطي في ألفيته حيث قال:
والمكثرون في رواية الأثر
أبو هريرة يليه ابن عمر
وأنس والبحر-يعني ابن عباس- كالخدري
وجابر وزوجة النبي
شرح حديث (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى)
أورد أبو داود حديث ابن عباس مرفوعاً: (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى) ويونس بن متى عليه الصلاة والسلام أحد المرسلين الذين جاء ذكرهم في القرآن في عدة مواضع، وذكره الله باسمه، وذكره بوصفه في موضعين، فقال: وَذَا النُّونِ [الأنبياء:87] يعني: صاحب الحوت، والنون: اسم للحوت، وجمعه: نينان، كالحوت جمعه: حيتان، وقال في وصفه: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم:48].
والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا لما جاء في القرآن عنه من أنه لم يصبر على ما حصل من قومه؛ فذهب مغاضباً وحصل له ما حصل، والواجب توقير رسل الله عليهم الصلاة والسلام ومحبتهم والثناء عليهم وذكرهم بما يليق بهم، ولا يقال في حق يونس أي شيء وقد حصل منه ما حصل، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقال: إنه خير منه، وإنه يصبر بخلاف الذي حصل من يونس عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ومتى هو اسم أبيه.
تراجم رجال إسناد حديث (ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى)
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي .
[ حدثنا شعبة ].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وقد مر ذكره.
[ عن قتادة ].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي العالية ].
هو رفيع بن مهران الرياحي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عباس ].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث (ما ينبغي لنبي أن يقول إني خير من يونس بن متى)
أورد أبو داود حديث عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ينبغي لنبي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، وفي الحديث السابق قال: (ما ينبغي لعبد) وهو لفظ عام، وهنا قال: (ما ينبغي لنبي)، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه سيد ولد آدم، ومعلوم أنه خير منه وخير من جميع المرسلين، فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو سيد المرسلين وأفضلهم عليه الصلاة والسلام، وأولو العزم من الرسل خمسة، وهو أفضلهم عليه الصلاة والسلام، وهم: نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح، هؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه فقال: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] وجاء ذكرهم في سورتين: في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى، في سورة الأحزاب في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب:7]، وفي سورة الشورى في قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:13]... الآية، فإن هؤلاء الخمسة قد ذكروا في هاتين الآيتين، وهم أفضل الرسل وخير الرسل، وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ويليه إبراهيم وهو خليل، ثم يليه موسى وهو كليم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم خليل كليم، فاجتمع فيه ما تفرق في غيره، فالخلة لإبراهيم، والتكليم لموسى، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له الوصفان جميعاً، فهو خليل الرحمن كما هو كليم الرحمن، فقد كلمه ليلة المعراج عندما عرج به إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه، وسمع كلام الله من الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ولا يعارض ما جاء من بيان تفضيله صلى الله عليه وسلم على غيره من الرسل ومنهم يونس هذا الحديث، وهو قوله: (ما ينبغي لنبي)، وقد أخبر أنه سيد الناس يوم القيامة؛ لأن الممنوع منه أن يقول: إنه خير منه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال في حقه لأنه أفضل منه وأفضل من غيره، فلا يكون هناك تعارض بين كون الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم -أو قال: سيد الناس- يوم القيامة)، وبين قوله: (ما ينبغي لنبي أن يقول.)، وهو نبي صلى الله عليه وسلم وقد قال هذه المقالة؛ لأنه مبلغ ما له من الفضل صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، حتى يعتقد ذلك، وحتى يؤمن بذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس هناك نبي بعده يخبر بمنزلته وبفضله وبدرجته عند الله، بخلاف الأنبياء السابقين فإنه قد جاء بعدهم أنبياء يبينون فضل من تقدمهم، ويبينون شيئاً من أحوال من تقدمهم، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فليس بعده نبي يخبر عن عظيم قدره وعن منزلته، فلذلك أخبر صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بشخصه صلى الله عليه وسلم من أجل أن يعتقد ذلك؛ لأنه جاء بشريعة كاملة، وقد بين ما يتعلق به وبغيره، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
تراجم رجال إسناد حديث (ما ينبغي لنبي أن يقول إني خير من يونس بن متى)
عبد العزيز بن يحيى الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي .
[ حدثني محمد بن سلمة ].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن محمد بن إسحاق ].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن إسماعيل بن أبي حكيم ].
إسماعيل بن أبي حكيم ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
[ عن القاسم بن محمد ].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الله بن جعفر ].
هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (لا تخيروني على موسى)
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال: والذي اصطفى موسى، وفي بعض الروايات: على العالمين، فغضب المسلم الذي سمعه ولطمه؛ لأنه فضله على محمد؛ حيث قال: على العالمين، ومعناه: أنه فضله تفضيلاً مطلقاً، فلطمه المسلم، وجاء اليهودي واشتكى المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك قال: (لا تخيروني على موسى)، وقيل في الجواب عن هذا الذي ورد في الحديث من النهي عن تخييره على موسى وتفضيله على موسى وبين ما جاء من تفضيله على غيره مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم)، وقوله: (أنا سيد الناس يوم القيامة)؛ أن النهي يحمل على أنه حصل قبل أن يعلم بمنزلته وبتفضيله على غيره، أو أن النهي محمول فيما إذا كان التخيير أو التفضيل مبنياً على التعصب والعصبية، وليس مبنياً على النصوص، فيوجد في التوفيق بين الحديثين هذان الجوابان.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن شيئاً حصل لموسى وهو أنه قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذاً بالعرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله)، وجاء في بعض الأحاديث أنه قال: (فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور)، وقيل: إن هذا الصعق الذي يحصل إنما هو يوم القيامة عندما يتجلى الله عز وجل لفصل القضاء بين الناس فإنهم يصعقون جميعاً، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يفيق من هذه الصعقة، فيجد موسى آخذاً بقائمة العرش، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا أدري، هل أفاق قبلي) يعني صعق وأفاق قبلي، (أم جوزي بصعقة الطور) التي حصلت في الدنيا، كما قال الله: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143] فحصل له الصعق مرتين: مرة في الدنيا، ومرة في يوم القيامة، هذا إن حصل له الصعق في الآخرة، وإن لم يحصل له الصعق في الآخرة، بل سلم من ذلك الصعق، فيكون جوزي بصعقة يوم الطور التي حصلت له في الدنيا، والتي ذكرها الله عز وجل في القرآن: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، فيكون شأن موسى بالنسبة لهذا الصعق الذي حصل للناس إما أنه حصل له ما حصل لهم، أو أنه لم يحصل له ذلك ولكن حصل له شيء في الدنيا مثله، فجوزي عن تلك الصعقة التي في الدنيا بأنه سلم من هذه الصعقة في الآخرة، وقد جاء في هذا رواية: (أو كان ممن استثنى الله)، فإما أن يكون المقصود به أنه استثني فلم يصعق؛ لأنه قد حصل له ذلك في الدنيا كما جاء في الحديث الآخر، أو يكون المقصود منه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، لكن هذه الصعقة التي في هذه الآية المراد بها صعقة الموت لمن كان حياً في آخر الزمان، فهناك صعقة الموت، ثم صعقة البعث، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] أي: ممن لم يشأ الله أن يحصل له الموت، كالذين خلقوا في الجنة ولم يشأ الله موتهم كالحور العين، فإنهن خلقن للبقاء في الجنة، فلا يحصل لهن موت فيكن ممن استثني.
وهذا نقله شارح الطحاوية عن أبي الحجاج المزي ، وقال به أيضاً ابن كثير ، فذكروا أن الصعق إنما هو في الآخرة عندما يأتي الله لفصل القضاء، وأن موسى عليه الصلاة والسلام إما أن يكون صعق مرة أخرى يوم القيامة فيفيق قبل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه لم يصعق ولكنه جوزي بصعقة الدنيا عندما تجلى الله عز وجل للجبل وخر موسى صعقاً، كما جاء ذلك مبيناً في سورة الأعراف.
تراجم رجال إسناد حديث (لا تخيروني على موسى)
حجاج بن أبي يعقوب، ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود .
[ ومحمد بن يحيى بن فارس ].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ حدثنا يعقوب ].
هو يعقوب بن أبي إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا أبي ].
أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن شهاب ].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة ].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
و عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أكثرهم حديثاً.
شرح حديث (قال رجل لرسول الله: يا خير البرية! فقال رسول الله: ذاك إبراهيم)
عرفنا أن المقصود بالتخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يقال: فلان خير من فلان، أو فلان أفضل من فلان، فـ(خير) هذه أفعل تفضيل تحذف الهمزة من أولها، ومثلها في ذلك كلمة شر، فإنها تحذف الهمزة من أولها، ويؤتى بها بدون همزة اختصاراً، وأصلها: أخير وأشر، فيقال: خير وشر، وهاتان اللفظتان يؤتى بهما للمفاضلة وبيان أن هذا أفضل من هذا.
وأورد أبو داود هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم)، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم، وهو أفضل من جميع المرسلين عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأفضل الأنبياء بعده إبراهيم؛ لأن إبراهيم خليل الرحمن ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، ويلي إبراهيم موسى عليه السلام؛ لأنه كليم الرحمن، وقد اجتمع في نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ما تفرق في غيره، فهو خليل الرحمن، وكليم الرحمن، وإبراهيم خليل الرحمن، وموسى كليم الرحمن.
قوله: (ذاك إبراهيم) أي: الذي هو خير البرية، قال ذلك مع كونه صلى الله عليه وسلم هو خير من إبراهيم وغيره، فقيل: إنه قال ذلك قبل أن يعلم بتفضيله على غيره وأنه أفضل البشر جميعاً، وقيل: إنه قال ذلك على سبيل التواضع.
وفي هذا الحديث دليل على فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتفضيله، لكنه لا يدل على أنه أفضل من نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
تراجم رجال إسناد حديث (قال رجل لرسول الله: يا خير البرية! فقال رسول الله: ذاك إبراهيم)
زياد بن أيوب ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ حدثنا عبد الله بن إدريس ].
عبد الله بن إدريس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن مختار بن فلفل ].
مختار بن فلفل صدوق له أوهام، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ عن أنس ].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الإسناد من رباعيات أبي داود ، وهي أعلى الأسانيد عنده.
شرح حديث (أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض...)
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه بيان جملة من فضائله وخصائصه عليه الصلاة والسلام التي اختص بها وتميز بها عن غيره، وأولها قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم)، وهذا يدل على فضله على جميع البشر عليه الصلاة والسلام، وأنه سيدهم، وقد جاء هذا الحديث في صحيح مسلم بلفظ: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، وجاء في حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة) ثم ذكر حديث الشفاعة، وهو صلى الله عليه وسلم سيد البشر في الدنيا والآخرة، ولكنه نص هنا على يوم القيامة لأن ذلك اليوم هو اليوم الذي يظهر فيه سؤدده على البشر من أولهم إلى آخرهم، وذلك أنهم في ذلك الموقف يموج بعضهم في بعض، ويبحثون عمن يشفع لهم إلى ربهم، فيأتون إلى آدم فيعتذر، ثم إلى نوح فيعتذر، وإلى إبراهيم فيعتذر، وإلى موسى فيعتذر، وإلى عيسى فيعتذر، ثم يأتون إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فيتقدم للشفاعة، ويقول: أنا لها، فيشفعه الله عز وجل، وهذه هي الشفاعة العظمى، فيظهر سؤدده على الجميع في ذلك الموقف؛ لأن شفاعته حصلت للجميع واستفاد منها الجميع، وحصل أثر هذه الشفاعة وفائدتها لكل أهل الموقف، من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، وقيل لها: المقام المحمود؛ لأنه يحمده عليها الأولون والآخرون.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور عن نفسه لأنه مبين عن الله كل ما يلزم الأمة أن تعتقده، وأن تأخذ به، وأن تعول عليه، ومن ذلك بيان ومعرفة قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند الله، وأن له هذه الميزات وهذه الفضائل؛ ليعتقدوها وليعرفوا قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه، فهو عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء وليس بعده نبي، بخلاف الأنبياء السابقين فإنه قد جاء بعدهم من الأنبياء من بين فضائلهم، وما يتميز به كل واحد منهم، فقد بين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فضائل المرسلين، وبين ما اختص به بعضهم، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فليس بعده نبي، وليس بعده وحي يأتي فيه تشريع وبيان ما يحتاج إليه الناس، فالشريعة كاملة تامة، وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ البلاغ المبين وأدى للناس كل ما يحتاجون إليه، ولم يتركهم محتاجين إلى شيء، فلا تحتاج هذه الشريعة إلى تكميل، ولا إلى إضافات، ولا إلى بدع ومحدثات.
وفي هذا الحديث دليل على أنه يقال للمخلوق: سيد، ويكون ذلك لمن يستحق السيادة، ولا تقال لكل أحد، بل قد جاء النهي عن إطلاقها على من لا يستحقها كالمنافقين، فلا يقال للمنافق: سيد، ولا يقال للكافر: سيد، ولا يقال لمن لم يستحق السيادة إنه سيد، وقد جاء في السنة أيضاً إطلاق السيادة على بعض الصحابة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق سعد بن معاذ : (قوموا إلى سيدكم)، فإطلاق ذلك على المخلوق سائغ، وقد جاء ما يدل على أن السيد هو الله عز وجل، وهو من أسمائه سبحانه وتعالى، ويجمع بين هذا وهذا: بأن السؤدد الكامل الذي لا يماثله شيء هو المضاف إلى الله عز وجل، وأما المخلوق فيضاف إليه السؤدد الذي يناسبه، ولكن لا يغالى ولا يتجاوز الحد في ذلك.
اختصاص النبي بأنه أول من ينشق عنه القبر، وأول شافع ومشفع
ثم قال: (وأول شافع، وأول مشفع)، فهو أول من يتقدم للشفاعة، وهو أول من تجاب وتحقق شفاعته، وقد جمع بينهما في الحديث لبيان أن الأولية حاصلة له في الحالتين، وذلك أنه قد يحصل التقدم للشفاعة بأن يتقدم شخص ويتقدم شخص، ثم قد يشفع الثاني قبل الأول، لكن جاء في هذا الحديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت فيه الأوليتان: الأولية المتعلقة بالتقدم للشفاعة، والأولية المتعلقة بقبول الشفاعة وتحقيقها وحصولها، فهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام وميزاته، وقوله في هذا الحديث: (موسى بن إسماعيل حدثنا أهيب حدثنا عمرو -يعني ابن يحيى - عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تخيروا بين الأنبياء) ].
أورد أبو داود رحمه الله باب التخيير بين الأنبياء، والمقصود بالتخيير أن يقال: فلان خير من فلان، هذا هو التخيير، ومعلوم أن القرآن والسنة جاءا بالتفضيل، قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253]، وقال: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55]، فالتفضيل ثابت في الكتاب وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث في جملة أحاديث، وهو حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء) أي: لا تقولوا: فلان خير من فلان، وهذا النهي المقصود به: أنهم لا يخيرون من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون مبنياً على أساس، أو أن يكون في التخيير تقليل من شأن بعضهم، وأما إذا كان التخيير مبنياً على علم ومبنياً على النصوص؛ فإن هذا أمر مطلوب، مع توقير الجميع وتعظيم الجميع ومحبة الجميع، ولكن يعتقد التفضيل الذي جاءت به النصوص؛ لأن التفضيل من أمور الغيب، وهذا من الأمور الغيبية، فلا يقال: فلان خير من فلان إلا بدليل، لأن هذا أمر غيبي، ومعناه: أنه خير عند الله، وأنه أفضل عند الله، وهذا لا يعلم إلا عن طريق الوحي، فالتخيير المنهي عنه هو الذي يكون مبنياً على غير علم ومبنياً على غير وحي، أو مبيناً على عصبية أو حمية، أو يكون في التخيير تقليل من شأن بعض الأنبياء، وأما إذا كان التخيير مبنياً على نصوص الوحي فإن هذا لا بأس به، والله تعالى قد ذكر في كتابه العزيز أنه فضل بعضهم على بعض.
استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح سنن أبي داود [139] | 2890 استماع |
شرح سنن أبي داود [462] | 2842 استماع |
شرح سنن أبي داود [106] | 2835 استماع |
شرح سنن أبي داود [032] | 2731 استماع |
شرح سنن أبي داود [482] | 2702 استماع |
شرح سنن أبي داود [529] | 2693 استماع |
شرح سنن أبي داود [555] | 2686 استماع |
شرح سنن أبي داود [177] | 2679 استماع |
شرح سنن أبي داود [097] | 2654 استماع |
شرح سنن أبي داود [273] | 2650 استماع |