خطب ومحاضرات
شرح سنن أبي داود [519]
الحلقة مفرغة
شرح حديث الرؤيا التي فسرها أبو بكر عند النبي فقال (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً)
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق -قال محمد : كتبته من كتابه- قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: كان أبو هريرة يحدث: (أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرى الليلة ظلة ينطف منها السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول الله! أخذت به فعلوت به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وصل فعلا به، قال
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الخلفاء.
والخليفة هو الذي يلي الأمر، ويقال له: خليفة؛ لأنه يكون خليفة لمن قبله، ولهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايع المسلمون أبا بكر صاروا يلقبونه بخليفة رسول الله، لأنه خلفه وقام بالأمر بعده، فيلقبونه: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا اللقب اختص به؛ لأنه لما جاء عمر رضي الله عنه ثم عثمان ثم علي صار كل واحد منهم يقال له: أمير المؤمنين، وذلك لأن الإضافات ستكثر، فـأبو بكر هو خليفة رسول الله، وعمر يصير خليفة خليفة رسول الله لو جعلت المسألة بالإضافة، وعثمان خليفة خليفة خليفة رسول الله، فتزاد كلمة، وعلي أيضاً يزيد كلمة، فهم بدلاً من هذه الإضافات اختاروا هذا اللقب الذي هو أمير المؤمنين، فصار أول من تلقب بلقب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، ثم صار يقال لكل واحد من الخلفاء: أمير المؤمنين، فالخلفاء هم الولاة الذين يلون الأمر وكل واحد يخلف الثاني، ويأتي خليفة من بعده، فـأبو بكر جاء بعده عمر وخلفه وولي الناس من بعده، وكان ذلك بعهد إليه أي أن أبا بكر عهد إلى عمر وأوصى بأن يكون هو الخليفة من بعده، واعتبر هذا الاختيار من أعظم حسنات أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه اختار للمسلمين رجلاً قوياً شجاعاً حصل على يديه الخير الكثير حيث فتحت الفتوحات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وقضي على دولة الفرس، وحجّم دولة الروم، وأنفقت كنوز كسرى وفلول الروم في سبيل الله على يديه حيث أخذتها الجيوش المظفرة التي بعث بها وأتوا بها إلى المدينة، وتولى قسمتها بنفسه رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم اختار الصحابة من بعده عثمان ثم بعد ذلك اختاروا علياً رضي الله تعالى عن الجميع؛ فهؤلاء هم أول الخلفاء، ثم جاء خلفاء من بعدهم.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه رأى ظلة في منامه، والظلة: الشيء الذي له ظل، والمقصود بذلك سحابة لها ظل، تنطف السمن والعسل، يعني: يتساقط منها سمن وعسل، والناس يتكففون بأكفهم هذا السمن والعسل الذي ينزل، (فمنهم المستقل ومنهم المستكثر) أي: منهم الذي حصل شيئاً كثيراً وقع في كفه، ومنهم من حصل له شيء قليل، قال: (ورأيت سبباً نزل من السماء)، والسبب هو: الحبل.
قال: (فأخذت به)، يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، (فعلوت به ثم أخذه رجل آخر من بعدك فعلا به، ثم آخر فعلا به، ثم آخر انقطع فعلا به) فـأبو بكر رضي الله عنه بادر وقال: إنني أريد أن أعبر هذه الرؤيا، وطلب منه أن يأذن له فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (أما الظلة فظلة الإسلام)يعني: هذا الدين الذي جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأما كونها تنطف السمن والعسل فإن ذلك ما جاء به من القرآن، وأن الناس يتفاوتون في الأخذ من القرآن وفي العمل بما جاء في القرآن، فمنهم المستقل ومنهم المستكثر، يعني: على حسب ما يحصل منهم من التطبيق والتنفيذ لما جاء في القرآن، ثم الحبل الذي نزل من السماء وعلا به الرسول صلى الله عليه وسلم هو إشارة إلى ذهابه وإلى الخلفاء من بعده، وأبو بكر رضي الله عنه هو الذي يليه، ثم عمر ، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم إنه يحصل ما يحصل له من قيام بعض الناس عليه وحصره في داره ثم قتله فيها، ثم إنه وصل بعد ذلك لـعلي رضي الله عنه، يعني: علا به عثمان ثم انقطع، ثم وصل وجاء رجل آخر فعلا به وهو علي رضي الله عنه وأرضاه، فهذا هو تعبير هذه الرؤيا، ولما فسر أبو بكر رضي الله عنه هذا التفسير وعبرها بهذا التعبير قال: (أخبرني هل أصبت؟ قال عليه الصلاة والسلام: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، قال: أقسمت لتخبرني بذلك، قال له: لا تقسم) فقوله: لا تقسم أو قال: أقسمت، قيل: المقصود أنه قال: أقسمت ولم يقل: أقسمت بالله، ومثل هذا لا يعتبر قسماً، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم، ومن العلماء من يقول: إنه قسم، ولكن اليمين لا تبر إلا إذا كان يترتب على عدم الإبرار مضرة، وأما إذا كان عدم البر فيه مصلحة فإنها لا تبر اليمين، وليس كل من حلف على شيء أن يخبر به فإنه يلزم من حلف عليه الإخبار، فإنه إذا لم يكن في إخباره مصلحة فإنه يحنث في يمينه ويكفرها، وهو خير وأولى من أن يخبر بأمر لا ينبغي الإخبار عنه، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبره لأن في ذلك إشارة إلى ما حصل لـعثمان رضي الله عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أخبر به لكان في ذلك حزن وتأثير على الناس بمثل هذا الخبر، فأخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بعد ذلك وقع وعرفه الناس بالوقوع، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله رداً على من تساءل بقوله: كيف لم يفسره الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يخبر به، ثم بعد ذلك يأتي الناس ويفسرونه؟ فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن أمر سيقع لأنه يترتب عليه شيء، ولكنه بعدما وقع وبعدما ظهر والناس شاهدوه وعرفوه لم يعد هناك بأس أن يتحدث عنه الناس على ضوء ما وقع وعلى ضوء ما قد حصل.
ومن قال: حلفت عليك أن تعمل كذا أو لا تعمل كذا، ما دام أنه ليس فيه (بالله) فهو ليس بحلف، وكلمة: حلفت أو أقسمت من دون أن يقول: (بالله) ما يعتبر قسماً، لكن حتى لو قال: أقسمت بالله، أو حلف عليه بالله أنه يخبره بسر من الأسرار التي لا ينبغي أن يخبره بها، فالذي حلف هو مخطئ في حلفه، وعليه أن يكفر عن يمينه، لكن الحديث ظاهره أنه ليس فيه حلف، يعني ليس فيه إلا كلمة: (أقسمت).
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقسم).
معناه: نهي عن القسم في المستقبل، وليس بواضح أنه اعتبرها قسماً؛ لأن قوله: لا تقسم،تعني: لا يحصل منك قسم، لأنه هنا قال: (أقسمت) فقط.
والرواية عند البخاري : (فوالله يا رسول الله! لتحدثني) هذا يوضح كلمة (أقسمت) ويكون الجواب مثل ما ذكر أنه ما يلزم أن كل من حلف تبر يمينه؛ لأن الإنسان قد يحلف على أن يخبر بسر لا ينبغي أن يخبر به.
قوله: [ (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) ].
الإصابة معروفة في مسألة الحبل، والاتصال بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وبالنسبة للسمن والعسل والظلة، ولكن يبدو أن الشيء الذي أخطأه هو بيان ما جاء في آخر القصة، مما حصل لـعثمان، وتفسيره له قوله: (وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به بعدك رجل فيعلو به) هذا على أنه أبو بكر وهذا طبعاً فيما يتعلق بالخلافة، مجرد كونه يحكم بالحق، وأنه يعلو به، أو يكون عالياً به، بل أيضاً حتى في نفس كونه خليفة، وأنه تبعه ومات بعده.
وهكذا تفسير قوله: (ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به) على أنه عمر .
وقوله: (ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، فيوصل له فيعلو به).
وهذا فيه إشارة إلى خلافة عثمان ، وابن القيم رحمه الله قال: إن البخاري ما عنده كلمة: (له)، وإنما عنده: (فينقطع)، ثم يوصل، يعني: يوصل لغيره وليس له، والمقصود من ذلك: علي رضي الله عنه والخلافة التي جاءت بعد عثمان، فذكر ذلك ابن القيم في تهذيب السنن حيث قال: البخاري ما جاء عنده (له)، بخلاف مسلم وغيره فإنه جاء عندهم: (فيوصل له)، ومعنى ذلك: أنه يرجع إلى السابق، بينما المقصود عند البخاري: أنه يرجع إلى الذي جاء بعده، لأنه هو انتهى بكونه قتل رضي الله عنه.
وفي اللفظ هنا أنهم ثلاثة فقط: (ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، ثم يوصل له فيعلو به) ولا يوجد رابع.
قوله: [ (ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، ثم يوصل له فيعلو به) ].
الخلافة في حقه قطعت بموته، بخلاف غيره فإن الأول مات، وتاليه قتل ولكنه ما قتل على الخلافة رضي الله عنهم، وأما هذا فقد قتل على الخلافة، وكان قد طُلب منه أن يتنازل وأن يتركها، وحصروه في داره حتى قتلوه وهو متمسك بها.
و ابن القيم يقول: لفظ البخاري : (ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل) فقط. وهذا لا يقتضي أن يوصل له بعد انقطاعه به، وقال الصديق في تفسيره في نفس حديث البخاري : (فينقطع به، ثم يوصل له) فهذا موضع الغلط، وهذا مما يبين فضل صدق معرفة البخاري وغور علمه في إعراضه عن لفظة: (له) في الأول، وإنما انفرد بها مسلم. انتهى.
وهنا مسألة عن تعبير الرؤيا: وهي أن هذا الأثر دال على أن تعبير الرؤيا لا شك أنه اجتهاد وليس بوحي، والمفسر يصيب ويخطئ، وليس معناه: أن كل تعبير يكون صواباً، فمنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأً.
ويوضح هذا أنه لو عرضت على عدة معبرين لتفاوت تعبيرهم لها.
شرح حديث (الرؤيا التي فسرها أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) من طريق أخرى
أورد أبو داود الحديث عن ابن عباس وفيه: (فأبى أن يخبره) ومعناه: أنه طلب منه أن يخبره والرسول ما أخبره، والألباني ضعف هذه الرواية، وسبب التضعيف هو سليمان بن كثير ؛ لأنه لا بأس به في غير الزهري ، وهنا روايته عن الزهري ، لكن قوله: (فأبى أن يخبره) هو مقتضى ما تقدم من أنه طلب وما تحقق له ذلك؛ لأن هذا إخبار عن الواقع، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبره، وامتنع عن إخباره وقد طلب منه وأكد ذلك عليه.
تراجم رجال إسنادي حديث الرؤيا التي فسرها أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً)
محمد بن يحيى بن فارس مر ذكره، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ قال محمد : كتبته من كتابه].
محمد هو الذهلي، وقوله: كتبته من كتابه، أي: من كتاب شيخه عبد الرزاق .
[ أخبرنا معمر ].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الزهري ].
مر ذكره.
[ عن عبيد الله بن عبد الله ].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عباس ].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا محمد بن كثير ].
محمد بن كثير هو العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد مر ذكره.
والعادة أن أبا داود يروي عنه مباشرة، إلا أنه هنا روى عنه بواسطة.
[ حدثنا سليمان بن كثير ].
هو سليمان بن كثير العبدي، وهو لا بأس به في غير الزهري ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ].
مر ذكرهم.
وهذا يعتبر مرسل صحابي؛ لأن الرواية السابقة تدل على ذلك. فهناك يقول: (كان أبو هريرة يحدث)، وهنا (عن عبد الله ).
شرح حديث (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء...)
أورد أبو داود هذا الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت و
فهو دال على خلافتهم وعلى أن كل واحد منهم يأتي بعد الآخر، وأما ذكر أنهم رأوا الكراهية في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلعل ذلك لما يحصل لـعثمان في آخر الأمر مما قد حصل ووقع.
تراجم رجال إسناد حديث (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء...)
هو محمد بن المثنى أبو موسى الزمن العنزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ].
محمد بن عبد الله الأنصاري من كبار شيوخ البخاري ، ممن روى عنه الثلاثيات، وهو ثقة أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا الأشعث ].
الأشعث يحتمل أن يكون أشعث بن عبد الله الحداني ، أو أن يكون أشعث بن عبد الملك الحمراني ؛ لأن كلاً من هذين الاثنين روى عن الحسن البصري ، وروى عنه محمد بن عبد الله الأنصاري ، وكل منهما محتج به، فـالحداني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن، والحمراني ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[ عن الحسن ].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبي بكرة ].
أبو بكرة هو نفيع بن الحارث رضي الله عنه، صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (أيكم رأى رؤيا؟.. فقال: خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء)
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وما ذكر الكراهية، ولكن ذكر الاستياء، وهو بمعنى واحد، فكونه استاء أو أنهم رأوا الكراهية في وجهه معناهما واحد، وفيه أيضاً: أنه قال: (خلافة نبوة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء).
تراجم رجال إسناد حديث (أيكم رأى رؤيا؟... فقال: خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء)
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ حدثنا حماد ].
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن علي بن زيد ].
هو علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ].
عبد الرحمن بن أبي بكرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبيه ].
مر ذكره.
وهذا الإسناد فيه ابن جدعان ، ولكن الحديث ثابت بالطريق التي قبله.
وقوله: [ (خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء) ].
جاء ما يدل عليه، وهو حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء).
شرح حديث (أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم...)
قال أبو داود : ورواه يونس وشعيب ، لما يذكرا عمرو بن أبان ].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أري الليلة رجل صالح أن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الخلفاء.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق -قال محمد : كتبته من كتابه- قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: كان أبو هريرة يحدث: (أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرى الليلة ظلة ينطف منها السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول الله! أخذت به فعلوت به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وصل فعلا به، قال
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الخلفاء.
والخليفة هو الذي يلي الأمر، ويقال له: خليفة؛ لأنه يكون خليفة لمن قبله، ولهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايع المسلمون أبا بكر صاروا يلقبونه بخليفة رسول الله، لأنه خلفه وقام بالأمر بعده، فيلقبونه: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا اللقب اختص به؛ لأنه لما جاء عمر رضي الله عنه ثم عثمان ثم علي صار كل واحد منهم يقال له: أمير المؤمنين، وذلك لأن الإضافات ستكثر، فـأبو بكر هو خليفة رسول الله، وعمر يصير خليفة خليفة رسول الله لو جعلت المسألة بالإضافة، وعثمان خليفة خليفة خليفة رسول الله، فتزاد كلمة، وعلي أيضاً يزيد كلمة، فهم بدلاً من هذه الإضافات اختاروا هذا اللقب الذي هو أمير المؤمنين، فصار أول من تلقب بلقب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، ثم صار يقال لكل واحد من الخلفاء: أمير المؤمنين، فالخلفاء هم الولاة الذين يلون الأمر وكل واحد يخلف الثاني، ويأتي خليفة من بعده، فـأبو بكر جاء بعده عمر وخلفه وولي الناس من بعده، وكان ذلك بعهد إليه أي أن أبا بكر عهد إلى عمر وأوصى بأن يكون هو الخليفة من بعده، واعتبر هذا الاختيار من أعظم حسنات أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه اختار للمسلمين رجلاً قوياً شجاعاً حصل على يديه الخير الكثير حيث فتحت الفتوحات، واتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وقضي على دولة الفرس، وحجّم دولة الروم، وأنفقت كنوز كسرى وفلول الروم في سبيل الله على يديه حيث أخذتها الجيوش المظفرة التي بعث بها وأتوا بها إلى المدينة، وتولى قسمتها بنفسه رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم اختار الصحابة من بعده عثمان ثم بعد ذلك اختاروا علياً رضي الله تعالى عن الجميع؛ فهؤلاء هم أول الخلفاء، ثم جاء خلفاء من بعدهم.
وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه رأى ظلة في منامه، والظلة: الشيء الذي له ظل، والمقصود بذلك سحابة لها ظل، تنطف السمن والعسل، يعني: يتساقط منها سمن وعسل، والناس يتكففون بأكفهم هذا السمن والعسل الذي ينزل، (فمنهم المستقل ومنهم المستكثر) أي: منهم الذي حصل شيئاً كثيراً وقع في كفه، ومنهم من حصل له شيء قليل، قال: (ورأيت سبباً نزل من السماء)، والسبب هو: الحبل.
قال: (فأخذت به)، يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، (فعلوت به ثم أخذه رجل آخر من بعدك فعلا به، ثم آخر فعلا به، ثم آخر انقطع فعلا به) فـأبو بكر رضي الله عنه بادر وقال: إنني أريد أن أعبر هذه الرؤيا، وطلب منه أن يأذن له فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (أما الظلة فظلة الإسلام)يعني: هذا الدين الذي جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأما كونها تنطف السمن والعسل فإن ذلك ما جاء به من القرآن، وأن الناس يتفاوتون في الأخذ من القرآن وفي العمل بما جاء في القرآن، فمنهم المستقل ومنهم المستكثر، يعني: على حسب ما يحصل منهم من التطبيق والتنفيذ لما جاء في القرآن، ثم الحبل الذي نزل من السماء وعلا به الرسول صلى الله عليه وسلم هو إشارة إلى ذهابه وإلى الخلفاء من بعده، وأبو بكر رضي الله عنه هو الذي يليه، ثم عمر ، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم إنه يحصل ما يحصل له من قيام بعض الناس عليه وحصره في داره ثم قتله فيها، ثم إنه وصل بعد ذلك لـعلي رضي الله عنه، يعني: علا به عثمان ثم انقطع، ثم وصل وجاء رجل آخر فعلا به وهو علي رضي الله عنه وأرضاه، فهذا هو تعبير هذه الرؤيا، ولما فسر أبو بكر رضي الله عنه هذا التفسير وعبرها بهذا التعبير قال: (أخبرني هل أصبت؟ قال عليه الصلاة والسلام: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، قال: أقسمت لتخبرني بذلك، قال له: لا تقسم) فقوله: لا تقسم أو قال: أقسمت، قيل: المقصود أنه قال: أقسمت ولم يقل: أقسمت بالله، ومثل هذا لا يعتبر قسماً، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم، ومن العلماء من يقول: إنه قسم، ولكن اليمين لا تبر إلا إذا كان يترتب على عدم الإبرار مضرة، وأما إذا كان عدم البر فيه مصلحة فإنها لا تبر اليمين، وليس كل من حلف على شيء أن يخبر به فإنه يلزم من حلف عليه الإخبار، فإنه إذا لم يكن في إخباره مصلحة فإنه يحنث في يمينه ويكفرها، وهو خير وأولى من أن يخبر بأمر لا ينبغي الإخبار عنه، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبره لأن في ذلك إشارة إلى ما حصل لـعثمان رضي الله عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أخبر به لكان في ذلك حزن وتأثير على الناس بمثل هذا الخبر، فأخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بعد ذلك وقع وعرفه الناس بالوقوع، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله رداً على من تساءل بقوله: كيف لم يفسره الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يخبر به، ثم بعد ذلك يأتي الناس ويفسرونه؟ فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن أمر سيقع لأنه يترتب عليه شيء، ولكنه بعدما وقع وبعدما ظهر والناس شاهدوه وعرفوه لم يعد هناك بأس أن يتحدث عنه الناس على ضوء ما وقع وعلى ضوء ما قد حصل.
ومن قال: حلفت عليك أن تعمل كذا أو لا تعمل كذا، ما دام أنه ليس فيه (بالله) فهو ليس بحلف، وكلمة: حلفت أو أقسمت من دون أن يقول: (بالله) ما يعتبر قسماً، لكن حتى لو قال: أقسمت بالله، أو حلف عليه بالله أنه يخبره بسر من الأسرار التي لا ينبغي أن يخبره بها، فالذي حلف هو مخطئ في حلفه، وعليه أن يكفر عن يمينه، لكن الحديث ظاهره أنه ليس فيه حلف، يعني ليس فيه إلا كلمة: (أقسمت).
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقسم).
معناه: نهي عن القسم في المستقبل، وليس بواضح أنه اعتبرها قسماً؛ لأن قوله: لا تقسم،تعني: لا يحصل منك قسم، لأنه هنا قال: (أقسمت) فقط.
والرواية عند البخاري : (فوالله يا رسول الله! لتحدثني) هذا يوضح كلمة (أقسمت) ويكون الجواب مثل ما ذكر أنه ما يلزم أن كل من حلف تبر يمينه؛ لأن الإنسان قد يحلف على أن يخبر بسر لا ينبغي أن يخبر به.
قوله: [ (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) ].
الإصابة معروفة في مسألة الحبل، والاتصال بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وبالنسبة للسمن والعسل والظلة، ولكن يبدو أن الشيء الذي أخطأه هو بيان ما جاء في آخر القصة، مما حصل لـعثمان، وتفسيره له قوله: (وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به بعدك رجل فيعلو به) هذا على أنه أبو بكر وهذا طبعاً فيما يتعلق بالخلافة، مجرد كونه يحكم بالحق، وأنه يعلو به، أو يكون عالياً به، بل أيضاً حتى في نفس كونه خليفة، وأنه تبعه ومات بعده.
وهكذا تفسير قوله: (ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به) على أنه عمر .
وقوله: (ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، فيوصل له فيعلو به).
وهذا فيه إشارة إلى خلافة عثمان ، وابن القيم رحمه الله قال: إن البخاري ما عنده كلمة: (له)، وإنما عنده: (فينقطع)، ثم يوصل، يعني: يوصل لغيره وليس له، والمقصود من ذلك: علي رضي الله عنه والخلافة التي جاءت بعد عثمان، فذكر ذلك ابن القيم في تهذيب السنن حيث قال: البخاري ما جاء عنده (له)، بخلاف مسلم وغيره فإنه جاء عندهم: (فيوصل له)، ومعنى ذلك: أنه يرجع إلى السابق، بينما المقصود عند البخاري: أنه يرجع إلى الذي جاء بعده، لأنه هو انتهى بكونه قتل رضي الله عنه.
وفي اللفظ هنا أنهم ثلاثة فقط: (ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، ثم يوصل له فيعلو به) ولا يوجد رابع.
قوله: [ (ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، ثم يوصل له فيعلو به) ].
الخلافة في حقه قطعت بموته، بخلاف غيره فإن الأول مات، وتاليه قتل ولكنه ما قتل على الخلافة رضي الله عنهم، وأما هذا فقد قتل على الخلافة، وكان قد طُلب منه أن يتنازل وأن يتركها، وحصروه في داره حتى قتلوه وهو متمسك بها.
و ابن القيم يقول: لفظ البخاري : (ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل) فقط. وهذا لا يقتضي أن يوصل له بعد انقطاعه به، وقال الصديق في تفسيره في نفس حديث البخاري : (فينقطع به، ثم يوصل له) فهذا موضع الغلط، وهذا مما يبين فضل صدق معرفة البخاري وغور علمه في إعراضه عن لفظة: (له) في الأول، وإنما انفرد بها مسلم. انتهى.
وهنا مسألة عن تعبير الرؤيا: وهي أن هذا الأثر دال على أن تعبير الرؤيا لا شك أنه اجتهاد وليس بوحي، والمفسر يصيب ويخطئ، وليس معناه: أن كل تعبير يكون صواباً، فمنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأً.
ويوضح هذا أنه لو عرضت على عدة معبرين لتفاوت تعبيرهم لها.
استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح سنن أبي داود [139] | 2890 استماع |
شرح سنن أبي داود [462] | 2842 استماع |
شرح سنن أبي داود [106] | 2835 استماع |
شرح سنن أبي داود [032] | 2731 استماع |
شرح سنن أبي داود [482] | 2702 استماع |
شرح سنن أبي داود [529] | 2693 استماع |
شرح سنن أبي داود [555] | 2686 استماع |
شرح سنن أبي داود [177] | 2679 استماع |
شرح سنن أبي داود [097] | 2654 استماع |
شرح سنن أبي داود [273] | 2650 استماع |