شرح سنن أبي داود [412]


الحلقة مفرغة

شرح حديث ( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة ... )

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كتاب العلم.

باب الحث على طلب العلم.

حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن كثير بن قيس أنه قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء ! إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ].

أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب العلم، والعلم الذي يأتي مدحه والثناء عليه في الكتاب والسنة، وكذلك العلماء الذي يأتي الثناء عليهم في الكتاب والسنة، المقصود بذلك: العلم الشرعي، وعلماء الشريعة، والعلم الشرعي هو: علم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف هذه الأمة، هذا هو العلم المحمود الممدوح الذي أُثني عليه وعلى أهله في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وقد بدأ أبو داود في هذا بباب الحث على طلب العلم، يعني: الترغيب فيه، وأورد فيه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو مشتمل على خمس جمل، وكل جملة من هذه الجمل الخمس تدل على فضل العلم الشرعي وفضل أهله.

أول هذه الجمل قوله: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة) وهذا فيه أن الجزاء من جنس العمل، فكما أن الإنسان سلك طريقاً للعلم فجزاؤه أنه يُسهل له طريق الجنة، والجزاء من جنس العمل، فالعمل هو: سلوك طريق يوصل إلى العلم، والجزاء هو: تسهيل وتيسير طريق يوصل إلى الجنة، فهذا يدل على فضل العلم، وأن شأنه عظيم، وفضله كبير، وأن من سلك الطريقة الموصلة إلى العلم فإنه يجازى على ذلك بأن ييسر له الطريق والسبيل التي توصله إلى الجنة، هذه هي الجملة الأولى من الجمل الخمس.

الجملة الثانية: (وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم)، ووضع أجنحة الملائكة لطالب العلم قيل: هو كونها تتواضع له وتخضع، وتحرص على أن تحيط وتحضر تلك المجالس الخيرة الطيبة، فإن المجالس التي تحضرها الملائكة هي مجالس العلم.

وقيل: معنى وضع أجنحتها: أنها تنتهي من طيرانها وسيرها وتقف عنده، وتحضر ذلك المجلس الذي هو مجلس الذكر ومجلس العلم، وهذا يدل على فضل العلم، وفضل أهله، وفضل مجالس العلم.

الجملة الثالثة: (وإن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء) وهذا شيء عظيم، فكون هذه المخلوقات الكثيرة العلوية والسفلية، السماء بما فيها من ملائكة، والأرض وما فيها من دواب وحيوانات في البر والبحر؛ كلها تستغفر لطالب العلم، هذا شيء عظيم!

فهذا شأن العوالم الكثيرة والخلائق الكثيرة في السماوات وفي الأرض مع طالب العلم، حيث تستغفر له وتدعو له، وهذا شرف عظيم.

والسماء فيها ملائكة لا يحصيهم إلا الله عز وجل؛ فإن البيت المعمور -وهو في السماء السابعة محاذ للكعبة ولو سقط لسقط عليها- يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ومن دخله لا يعود إليه مرة أخرى، وهذا يدل على كثرتهم، وأنهم خلق كثير، وكل هؤلاء يستغفرون لطالب العلم، ويدعون لطالب العلم!

فهذا شرف وفضل كبير من الله سبحانه وتعالى للمشتغل بعلم الشريعة علم الكتاب والسنة، علم (قال الله وقال رسوله وقال الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم).

وقيل: إن هذه الدواب تستغفر لطالب العلم؛ لأنه يشتغل بشيء يعود عليها نفعه، ويعود عليها فائدته؛ وذلك أن العلم الشرعي فيه الرفق بهذه الحيوانات وهذه الدواب، وكذلك الحث على الإنفاق عليها ممن يكون مالكاً لها، فيصل إليها نفع العالم ونفع طالب العلم؛ لأنه يظهر الشيء الذي يعم نفعه حتى يصل إلى هذه الدواب، وهذه المخلوقات.

الجملة الرابعة: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) يعني: كفضل القمر في وقت الإبدار الذي هو ليلة أربع عشرة، وخمس عشرة، والكواكب لها ضوء ولكنه ضعيف أمام ضوء القمر، فالفرق بين العالم والعابد أن العالم شأنه كشأن القمر، والعابد شأنه كشأن الكواكب، وذلك أن العابد نفعه مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره، فالذي يصلي ويكثر من الصلاة فصلاته له، ولا أحد يشاركه في صلاته، لكن الذي يشتغل بالعلم ويتعلم ويعلم ويرشد ويوجه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فعلمه له ولغيره، فالصلاة للمصلي وحده، والعلم لصاحب العلم ولغير صاحب العلم، فنفعه متعدٍ، فالصلاة أو العبادة نفعها قاصر على صاحبها؛ ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.

الجملة الخامسة: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) فشرف عظيم للعلماء أن يقال: إنهم ورثة الأنبياء، وأن يوصفوا بأنهم وارثو الأنبياء، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يورث عنهم المال، ولم يرسلوا لجمع المال، وتركه لأقاربهم الوارثين، بل المال لا يورث عنهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة).

إذاً: فميراثهم واسع ومبذول لكل أحد، وليس للأقارب دون غيرهم، ولا لأحد دون أحد، وإنما هو لكل أحد مبذول، ومن أراد أن يحصل العلم فالباب مفتوح، والطريق سالك، فما عليه إلا أن يقدم ويحرص على أن يحصل على نصيب من هذا الميراث الذي هو ميراث النبوة؛ ولهذا كان العلماء ورثة الأنبياء؛ لأن الأنبياء جاءوا بالعلم النافع، والعلماء هم الذين يرثونهم ويتلقون ذلك الميراث، ويحافظون عليه، ويعنون به، وينشرونه ويبذلونه ويعملون بما فيه، ويدعون الناس إلى العمل بما فيه، هذا هو شأن العلماء.

إذاً: فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس ميراثهم لأقاربهم، وإنما هو عام لكل أحد؛ لأن المال لا يورث عنهم، وإنما يورث عنهم العلم، ويورث عنهم الحق والهدى، هذا هو ميراثهم، وهو مبذول لكل أحد، وبابه مفتوح لكل أحد، ولا يختص به أحد دون أحد، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وانما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر).

والحاصل: أن هذا حديث عظيم اشتمل على خمس جمل كل واحدة منها تدل على فضل العلم وأهل العلم.

تراجم رجال إسناد حديث ( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة ... )

قوله: [ حدثنا مسدد بن مسرهد ].

مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ حدثنا عبد الله بن داود ].

عبد الله بن داود الخريبي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.

[ سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة ].

عاصم بن رجاء بن حيوة صدوق يهم، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة .

[ عن داود بن جميل ].

داود بن جميل ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة .

[ عن كثير بن قيس ].

كثير بن قيس ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة .

[ قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء ]

أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشهور بكنيته أبي الدرداء ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

طريق أخرى لحديث ( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة ... ) وتراجم رجالها

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد قال: لقيت شبيب بن شيبة فحدثني به عن عثمان بن أبي سودة عن أبي الدرداء . يعني: عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه ].

أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وأحال على الأولى بقوله: بمعناه، أي: بمعنى اللفظ الأول، وبمعنى: الحديث الأول الذي جاء من الطريق الأولى.

قوله: [ حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ].

محمد بن الوزير الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود .

[ حدثنا الوليد ].

الوليد هو ابن مسلم الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال: لقيت شبيب بن شيبة ].

شبيب بن شيبة مجهول، وقيل: إن الصواب هو شعيب بن رزيق وهو صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود في القدر والترمذي .

[ فحدثني به عن عثمان بن أبي سودة ].

عثمان بن أبي سودة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة .

[ عن أبي الدرداء ].

أبو الدرداء رضي الله عنه تقدم ذكره.

الحديث في إسناده الأول رجلان مجهولان، وفي إسناده الثاني راو فيه كلام، والحديث حسنه الألباني ، وقال: إن الطريق الثانية حسنة.

والحديث هذا شرحه الحافظ ابن رجب في جزء لطيف على طريقة الحافظ ابن رجب رحمه الله في الأجزاء الحديثية، حيث يروي فيها الآثار عن السلف من الصحابة ومن بعدهم، ومن الأجزاء الحديثية التي شرح فيها بعض الأحاديث هذا الحديث الذي هو حديث أبي الدرداء في طلب العلم، وبعض الجمل من هذا الحديث جاءت في أحاديث أخرى، فالجملة الأولى جاءت في حديث أبي هريرة الذي سيأتي وهو في صحيح مسلم ، وكذلك بعض الجمل فيه جاءت متفرقة في بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

استغفار جميع الكائنات البحرية وغيرها لطالب العلم

وأما هل الحيتان هي التي تستغفر فقط أم جميع الكائنات التي في البحر؟

فالجواب: أن حيوانات البر والبحر والعوالم التي في السماء وهم الملائكة يستغفرون لطالب العلم؛ لقوله: (يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء).

سبب ذكر القمر دون الشمس

وأما سبب ذكر القمر مع أن الشمس أنفع للناس فهو أن القمر يهتدى به في الظلام، والنجوم يهتدى بها، ولكن الاهتداء بالنجوم هو دون الاهتداء بالقمر، وذكر القمر والنجوم لأنها هي التي تكون في الليل والناس يستفيدون منها في الظلام، وهذا يعني أن ظلمات الجهل تبدد بنور وضياء العلم.

وهذا فيه فضل العالم، ويدخل فيه فضل طالب العلم؛ لقوله: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)، فطالب العلم مشتغل بالوصول إلى هذه الغاية، ولا شك أن له نصيباً من هذا الثواب والفضل.

فضل الرحلة في طلب العلم

قوله: [ عن كثير بن قيس أنه قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء ! إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه ].

هذا يدل على فضل الرحلة في طلب العلم، وعلى أنهم كانوا يرتحلون ويتحملون المشاق في سبيل الحصول على حديث واحد، والسفر في ذلك الوقت شاق ومتعب؛ لأنهم كانوا يسافرون على الدواب وعلى الجمال، ويمكثون الأشهر والمدد الطويلة مع التعب والنصب والمشقة، فكانوا يرتحلون من أجل الحصول على حديث واحد يذكر لهم أنه عند أحد في بلد من البلدان؛ ولهذا كانت الرحلة في طلب الحديث معروفة مشهورة، وفي تراجم الرجال يقال: رحل إلى الشام وإلى العراق وإلى مصر وإلى الحجاز وإلى اليمن، وكل ذلك بعدما يأخذ حديث أهل بلده ويتعلم على من في بلده، ثم بعد ذلك يبحث عن المزيد فيرتحل إلى مختلف الأقطار، وقد تكون الرحلة في حديث واحد كما في هذا الحديث الذي هنا وفيه: أن رجلاً جاء من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشام من أجل حديث واحد بلغه أنه عند أبي الدرداء ، وقد قيل: إن تحديث أبي الدرداء بهذا الحديث يحتمل أن يكون هذا الحديث هو الذي كان عنده، والذي كان يقصده الناس من أجله، ويحتمل أن يكون إنما أورده لبيان فضل الاشتغال بطلب العلم، والعناية به، والاهتمام به وتحمل المشاق في سبيل الوصول إليهِ، وكما هو معلوم العلم لا يحصل إلا بالتعب والنصب والمشقة، والعلماء السابقون الذين خلد الله ذكرهم، وبقي الثناء الجميل عليهم إنما كان ذلك نتيجة للجهود العظيمة التي بذلوها في سبيل تحصيل العلم وبذله ونشره، فحصل لهم ذلك الشرف بسبب التعب والنصب والمشقة.

والحاصل: أن هذا يدل على الرحلة في طلب الحديث، وأن الواحد كان يرحل من أجل الحديث الواحد.

حكم تسمية مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة

وقوله: [ إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ] قد يقول قائل: هل في هذا دلالة على أن تسميتها بالمدينة المنورة خطأ؟

والجواب: أن وصف المدينة بالمنورة إنما حصل في أزمان متأخرة، ومعناه: أنها نورت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل الإشعاع والنور والضياء الذي انتشر وظهر منها، ومعلوم أن هذا شيء حادث، ولكن هذه التسمية إنما جاءت في زمن متأخر، وفي القرآن وفي السنة إنما يأتي ذكرها بلفظ المدينة، بدون وصف، يعني: أن الآيات من كتاب الله والأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في كلام المتقدمين إنما يأتي ذكرها بلفظ المدينة، والمدينة قيل: إنها علم بالغلبة؛ لأنه غلب على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت المدينة تطلق على المدن، فكل مدينة يقال لها: مدينة، أي: أن هناك مدناً وقرى، ولكن هذا اللفظ عند الإطلاق ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول ابن مالك في الألفية في باب الإضافة:

وقد يصير علماً بالغلبة

مضاف أو مصحوب أل كالعقبة

والعقبة مثل المدينة، ومثل الكتاب لـسيبويه عند النحويين، فعندما يقال: الكتاب ينصرف إلى كتاب سيبويه ، والمدينة تنصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا عند الإطلاق؛ ولهذا في شرح هذا البيت من ألفية ابن مالك يقول ابن عقيل في شرحه: إن من الأعلام ما يكون علماً بغلبة الإطلاق مثل المدينة ومثل الكتاب؛ فإن لفظ المدينة إذا جاء ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان عاماً في كل مدينة، لكنه عند الإطلاق ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، والكتاب الذي هو كتاب سيبويه ينصرف إلى كتاب سيبويه ، وإن كان الكتاب يطلق وينطبق على كل كتاب.

الحاصل: أن المعروف في نصوص الكتاب والسنة وكذلك في كلام المتقدمين أنهم يقولون: المدينة فقط، ثم جاء في أزمان بعد ذلك في القرن الثامن في كتب ابن كثير وكتب الحافظ ابن حجر أنهم يقولون: المدينة النبوية، وهذا موجود في فتح الباري في مواضع عديدة، وموجود في تفسير ابن كثير وموجود في البداية والنهاية لـابن كثير عندما يأتي ذكر المدينة يقول: المدينة النبوية، ثم في الأزمان المتأخرة قيل: المدينة المنورة، وعلى كل الأمر في ذلك واسع، لكن كونه لا يطلق عليها إلا المدينة المنورة، وإذا ذكرت بغير المنورة بأن قيل: المدينة فقط، أو قيل: المدينة النبوية يستنكر ذلك، فهذا أمر منكر، فكما ذكرت الأمر في ذلك واسع، فهي لا شك أنها المدينة النبوية، وهي المدينة، وهي مدينة منورة بالحق والهدى، وظهور النور والهدى كان من هذه المدينة؛ لأنه شع منها النور، وانطلق منها الهداة المصلحون إلى سائر أقطار الأرض، ولكن كونه يعتقد أو أنه ينكر على من لا يقول: المنورة، بأن يقول: المدينة فقط، أو يقول: مدينة الرسول، أو يقول: المدينة النبوية؛ فهذا الإنكار أمر منكر.

وأنا ذكرت في الفوائد المنتقاة من فتح الباري مواضع كثيرة في فتح الباري وفي تفسير ابن كثير والبداية والنهاية فيها وصف المدينة بالمدينة النبوية.

رحلة العلماء لطلب العلو في الأسانيد

رحلة الرجل إلى أبي الدرداء يحتمل أن يكون الحديث كان لا يوجد إلا عند أبي الدرداء، ويحتمل أنه وجده نازلاً، ولكنه ذهب ليحصله عالياً، وقد كانوا يفعلون ذلك، يعني: أن الواحد منهم كان يحصل الحديث نازلاً، ثم يرتحل إلى الذي حدث به من حدثه، ويحصله رأساً، فيكون بذلك مساوياً للذي أخذ منه من قبل، والذي كان حصله عن طريقه نازلاً.

شرح حديث (ما من رجل يسلك طريقاً يطلب فيه علماً إلا سهل الله له به طريق الجنة...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من رجل يسلك طريقاً يطلب فيه علماً إلا سهل الله له به طريق الجنة، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) ].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة وهو يشتمل على جملتين:

الجملة الأولى هي مثل الجملة الأولى في حديث أبي الدرداء وفيها: (ما من أحد يسلك طريقاً ليحصل به علماً إلا سلك الله به طريقاً إلى الجنة).

والجملة الثانية: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

وحديث أبي هريرة هذا أخرجه مسلم في صحيحه مطولاً، وهو مشتمل على أمور أخرى غير هذين الأمرين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) كل هذه الجمل موجودة في صحيح مسلم .

وقد أورد النووي رحمه الله هذا الحديث في الأربعين النووية؛ لأنه من جوامع كلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث عظيم، والحافظ ابن رجب ضمن كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم شرح هذا الحديث الذي هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وفيه جمل فيها أن الجزاء من جنس العمل، كقوله: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه بها كربة من كرب القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) وبالمناسبة فإن الذي يحصل لإخواننا المسلمين كالأفغانيين من الذهاب عن بلادهم ونزوحهم؛ بسبب الحرب التي حصلت في بلادهم، هم في حاجة إلى المساعدة وإلى الإعانة وإلى بذل ما يمكن إفادتهم به من المطاعم والملابس وما إلى ذلك، ويدخل هذا في قوله: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، ولاشك أن إخواننا المساكين الذين يحصل لهم ما يحصل من الضرر، ويحصل لهم الهروب من مساكنهم ومن بلادهم، وينالهم ما ينالهم من النصب والمشقة، ويصيرون في العراء بدون مأوى وبدون طعام؛ هم بحاجة إلى مساعدة إخوانهم المسلمين الذين يمدون لهم يد العون.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) أي: أن العمل هو الذي يقرب إلى الله عز وجل، وهو الذي يرتفع الإنسان به درجةً عند الله عز وجل، وليست الأنساب هي التي تقدم وتقرب إلى الله عز وجل، ولكن النسب إذا وجد مع العمل الصالح فهذا شيء طيب، ولكن النسب بدون عمل صالح لا ينفع ولا يفيد، فمن بطأ به عمله على أن يصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة، وأن يكون من أهل الجنة، فليس نسبه هو الذي يسرع به إلى المنازل العالية، ويوصله إلى الدرجات الرفيعة عند الله عز وجل، وإنما العمل الصالح هو الذي يوصل إلى هذه المنازل، وإلى دخول الجنة، كما قال الشاعر:

لعمرك ما الإنسان إلا بدينه

فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب

فقد رفع الإسلام سلمان فارس

وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب

وهذان البيتان ذكرهما الحافظ ابن رجب في آخر شرح هذا الحديث من كتابه جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، فالتعويل هو على العمل الصالح وليس على الأنساب؛ ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] قال: (يا بني فلان! يا بني فلان! ثم قال: يا صفية عمة رسول الله! أنقذي نفسك من النار لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد ! سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً).

تراجم رجال إسناد حديث (ما من رجل يسلك طريقاً يطلب فيه علماً إلا سهل الله له به طريق الجنة...)

قوله: [ حدثنا أحمد بن يونس ].

أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا زائدة ].

زائدة بن قدامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الأعمش ].

الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي صالح ].

أبو صالح هو ذكوان السمان ، اسمه ذكوان ولقبه السمان ، ويقال له: الزيات ، قيل: لأنه كان يجلب الزيت والسمن فلقب بذلك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كتاب العلم.

باب الحث على طلب العلم.

حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن كثير بن قيس أنه قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء ! إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ].

أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب العلم، والعلم الذي يأتي مدحه والثناء عليه في الكتاب والسنة، وكذلك العلماء الذي يأتي الثناء عليهم في الكتاب والسنة، المقصود بذلك: العلم الشرعي، وعلماء الشريعة، والعلم الشرعي هو: علم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف هذه الأمة، هذا هو العلم المحمود الممدوح الذي أُثني عليه وعلى أهله في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وقد بدأ أبو داود في هذا بباب الحث على طلب العلم، يعني: الترغيب فيه، وأورد فيه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو مشتمل على خمس جمل، وكل جملة من هذه الجمل الخمس تدل على فضل العلم الشرعي وفضل أهله.

أول هذه الجمل قوله: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة) وهذا فيه أن الجزاء من جنس العمل، فكما أن الإنسان سلك طريقاً للعلم فجزاؤه أنه يُسهل له طريق الجنة، والجزاء من جنس العمل، فالعمل هو: سلوك طريق يوصل إلى العلم، والجزاء هو: تسهيل وتيسير طريق يوصل إلى الجنة، فهذا يدل على فضل العلم، وأن شأنه عظيم، وفضله كبير، وأن من سلك الطريقة الموصلة إلى العلم فإنه يجازى على ذلك بأن ييسر له الطريق والسبيل التي توصله إلى الجنة، هذه هي الجملة الأولى من الجمل الخمس.

الجملة الثانية: (وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم)، ووضع أجنحة الملائكة لطالب العلم قيل: هو كونها تتواضع له وتخضع، وتحرص على أن تحيط وتحضر تلك المجالس الخيرة الطيبة، فإن المجالس التي تحضرها الملائكة هي مجالس العلم.

وقيل: معنى وضع أجنحتها: أنها تنتهي من طيرانها وسيرها وتقف عنده، وتحضر ذلك المجلس الذي هو مجلس الذكر ومجلس العلم، وهذا يدل على فضل العلم، وفضل أهله، وفضل مجالس العلم.

الجملة الثالثة: (وإن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء) وهذا شيء عظيم، فكون هذه المخلوقات الكثيرة العلوية والسفلية، السماء بما فيها من ملائكة، والأرض وما فيها من دواب وحيوانات في البر والبحر؛ كلها تستغفر لطالب العلم، هذا شيء عظيم!

فهذا شأن العوالم الكثيرة والخلائق الكثيرة في السماوات وفي الأرض مع طالب العلم، حيث تستغفر له وتدعو له، وهذا شرف عظيم.

والسماء فيها ملائكة لا يحصيهم إلا الله عز وجل؛ فإن البيت المعمور -وهو في السماء السابعة محاذ للكعبة ولو سقط لسقط عليها- يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ومن دخله لا يعود إليه مرة أخرى، وهذا يدل على كثرتهم، وأنهم خلق كثير، وكل هؤلاء يستغفرون لطالب العلم، ويدعون لطالب العلم!

فهذا شرف وفضل كبير من الله سبحانه وتعالى للمشتغل بعلم الشريعة علم الكتاب والسنة، علم (قال الله وقال رسوله وقال الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم).

وقيل: إن هذه الدواب تستغفر لطالب العلم؛ لأنه يشتغل بشيء يعود عليها نفعه، ويعود عليها فائدته؛ وذلك أن العلم الشرعي فيه الرفق بهذه الحيوانات وهذه الدواب، وكذلك الحث على الإنفاق عليها ممن يكون مالكاً لها، فيصل إليها نفع العالم ونفع طالب العلم؛ لأنه يظهر الشيء الذي يعم نفعه حتى يصل إلى هذه الدواب، وهذه المخلوقات.

الجملة الرابعة: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) يعني: كفضل القمر في وقت الإبدار الذي هو ليلة أربع عشرة، وخمس عشرة، والكواكب لها ضوء ولكنه ضعيف أمام ضوء القمر، فالفرق بين العالم والعابد أن العالم شأنه كشأن القمر، والعابد شأنه كشأن الكواكب، وذلك أن العابد نفعه مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره، فالذي يصلي ويكثر من الصلاة فصلاته له، ولا أحد يشاركه في صلاته، لكن الذي يشتغل بالعلم ويتعلم ويعلم ويرشد ويوجه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فعلمه له ولغيره، فالصلاة للمصلي وحده، والعلم لصاحب العلم ولغير صاحب العلم، فنفعه متعدٍ، فالصلاة أو العبادة نفعها قاصر على صاحبها؛ ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.

الجملة الخامسة: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) فشرف عظيم للعلماء أن يقال: إنهم ورثة الأنبياء، وأن يوصفوا بأنهم وارثو الأنبياء، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يورث عنهم المال، ولم يرسلوا لجمع المال، وتركه لأقاربهم الوارثين، بل المال لا يورث عنهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة).

إذاً: فميراثهم واسع ومبذول لكل أحد، وليس للأقارب دون غيرهم، ولا لأحد دون أحد، وإنما هو لكل أحد مبذول، ومن أراد أن يحصل العلم فالباب مفتوح، والطريق سالك، فما عليه إلا أن يقدم ويحرص على أن يحصل على نصيب من هذا الميراث الذي هو ميراث النبوة؛ ولهذا كان العلماء ورثة الأنبياء؛ لأن الأنبياء جاءوا بالعلم النافع، والعلماء هم الذين يرثونهم ويتلقون ذلك الميراث، ويحافظون عليه، ويعنون به، وينشرونه ويبذلونه ويعملون بما فيه، ويدعون الناس إلى العمل بما فيه، هذا هو شأن العلماء.

إذاً: فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس ميراثهم لأقاربهم، وإنما هو عام لكل أحد؛ لأن المال لا يورث عنهم، وإنما يورث عنهم العلم، ويورث عنهم الحق والهدى، هذا هو ميراثهم، وهو مبذول لكل أحد، وبابه مفتوح لكل أحد، ولا يختص به أحد دون أحد، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وانما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر).

والحاصل: أن هذا حديث عظيم اشتمل على خمس جمل كل واحدة منها تدل على فضل العلم وأهل العلم.

قوله: [ حدثنا مسدد بن مسرهد ].

مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ حدثنا عبد الله بن داود ].

عبد الله بن داود الخريبي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.

[ سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة ].

عاصم بن رجاء بن حيوة صدوق يهم، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة .

[ عن داود بن جميل ].

داود بن جميل ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة .

[ عن كثير بن قيس ].

كثير بن قيس ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة .

[ قال: كنت جالساً مع أبي الدرداء ]

أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشهور بكنيته أبي الدرداء ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.