شرح سنن أبي داود [339]


الحلقة مفرغة

شرح حديث وقف عمر لأرضه التي بخيبر

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف.

حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع ح وحدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر : أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث: للفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل)، وزاد عن بشر: (والضيف)، ثم اتفقوا: (لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقاً غير متمول فيه)، زاد عن بشر: قال: وقال محمد : (غير متأثل مالاً) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب الرجل يوقف الوقف ].

ذكر الرجل هنا لأن الخطاب في الغالب مع الرجال، والنساء كذلك إذا أوقفن الأوقاف فلا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام.

والوقف: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، بمعنى: أن أصل الشيء كالعمارة أو كالبستان أو غير ذلك من الأعيان يوقف، فالأصل يكون محبساً لأعمال يعينها الواقف، ومنفعة وغلة هذا الأصل أو هذه الأعيان أو العين تكون في الجهات الخيرية التي نص عليها الواقف، هذا إن كان الوقف طبقاً للشريعة، أما إذا كان الوقف فيه مخالفة للشريعة فإن ذلك لا يسوغ ولا يجوز صرف الأوقاف في أمور غير مشروعة.

والوقف يكون ناجزاً؛ لأن الواقف إذا وقف خرج من ملكه، وصار مخصصاً للشيء الذي وقف عليه، فلا يباع ولا يورث ولا يوهب، وإنما هو شيء ثابت مستقر يصرف في وجوه الخير التي خصصها وعينها الواقف.

وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن (عمر رضي الله عنه أصاب أرضاً بخيبر)، ومعنى أصاب أرضاً: أي أنها حصلت له من قسمة السهام من الغنائم والفيء، فحصل عليها بهذا الطريق، وكانت أنفس مال تموله، وأنفس مال حصل له، فجاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في التصدق بها، فقال: (أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فكيف تأمرني به؟).

يريد بذلك المال الأرض، لأن الأرض مال، وأنه لم يصب أنفس من هذا المال الذي هو الأرض، فرجع الضمير مذكراً باعتبار المال، وأن هذه الأرض مال لم يصب مالاً أنفس ولا أفضل منه.

قال: (فماذا تأمرني به؟) يستشيره في العمل المشروع أو الفاضل الذي يضع فيه تلك الأرض، أو ذلك المال الذي اعتبره خير مال وصل إليه وتملكه.

(فقال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها) أي: بثمرتها وبغلتها؛ لأن الأصل إذا حبس معناه أنه لا يتصرف فيه، ولكن المنفعة هي التي تصرف في وجوه الخير التي يعينها الواقف، وبهذا يكون من الصدقات الجارية التي يستمر نفعها، أصولها باقية تثمر وتدر وتغل وتستعمل غلتها وثمرتها في أوجه البر المختلفة التي عينها الواقف، ففي كل سنة تحصل ثمرة أو ما يخرج من وراء هذا الوقف فيوزع على الجهات التي عينها الواقف.

وقوله: (وتصدقت بها) أي: تصدقت بالمنفعة في وجوه الخير، فالأصول باقية والثمرة هي التي تصرف في وجوه الخير.

قوله: . (فتصدق بها عمر)، أي: جعلها صدقة جارية وهي الوقف، (أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث)؛ لأن الأصل محبس ممنوع من التصرف فيه، وإنما يتصرف في المنفعة بحيث تصرف في وجوه الخير التي عينها، ولو كان الأصل يمكن التصرف فيه لزال، والوقف ثابت ومستقر، ولا يحول إلا إذا تعطلت منافعه، فإذا تعطلت منافعه يمكن أن يباع ويحول إلى وقف آخر ينتفع به، ولا يبقى مهملاً معطلاً لا يستفاد منه؛ لأن المقصود هو المنفعة التي تترتب عليه، فإذا تعطل الوقف فإنه يحول إلى وقف آخر بحيث يباع هذا الذي تعطلت منافعه ثم يحول إلى وقف آخر.

قوله: (لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث)، أي: ليس من قبيل المال الذي يمكن أن يهبه لأحد أو يبيعه، لا الذي أوقفه، ولا الناظر للوقف من بعده، فلا يبيع الأصل ولا يهبه ولا يورث عنه؛ لأنه خرج من ملكه الذي يورث؛ فهو شيء خرج منه ابتغاء وجه الله عز وجل، وخرج منه من حين وقف، فلم يبق في ملكه الذي يتصرف فيه بالبيع والشراء والأخذ والإعطاء، وإنما تؤخذ منفعته وتصرف في وجوه البر والخير التي أرادها الواقف.

قوله: [ (للفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل)، وزاد عن بشر : (والضيف) ].

هذه وجوه الخير ووجوه البر التي تصرف فيها الغلة والمنفعة لهذا الوقف.

والفقراء: هم المحتاجون، والفقير: هو الذي لا يجد حاجته مطلقاً، أو لا يجد كفايته لمدة سنة.

والفرق بين الفقير والمسكين: أن الفقير والمسكين إذا جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر دخل الثاني معه، فإذا جمع بين الفقراء والمساكين كما في قول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فسر الفقراء بأنهم الذين لا يجدون شيئاً، والمساكين الذين لا يجدون شيئاً يكفيهم، وهنا قال: الفقراء، ولم يقل: المساكين، فيدخل في ذلك من لم يكن عنده شيء أصلاً أو عنده شيء لا يكفيه، فإنه يستحق الصرف؛ لأن هذين اللفظين من جملة الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر وزع المعنى عليها، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر فالمعنى الذي يوزع عند الاجتماع يسند ويضاف إلى أي واحد منهما.

إذاً: الذي لا يجد شيئاً يكفيه، والذي لا يجد شيئاً أصلاً، يطلق على الفقير إذا ذكر وحده، وإذا ذكر المسكين فيطلق عليه هذا المعنى أيضاً، ولكن إذا قيل: الفقراء والمساكين، حمل الفقراء على الذين لا يجدون شيئاً أصلاً، والمساكين على الذين يجدون شيئاً ولكنه لا يكفيهم.

قوله: (والقربى) أي: قرابة عمر .

(والرقاب) أي: شراء الرقاب وإعتاقها.

(وفي سبيل الله) أي: في الجهاد في سبيل الله؛ لأن المقصود بسبيل الله إذا جاء مقروناً مع غيره كما في آية الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60] فمعناه: الجهاد في سبيل الله، ويأتي سبيل الله عاماً فيدخل فيه وجوه الخير كلها، لكن عندما يأتي ذكر سبيل الله مقروناً مع غيره كما في آية الصدقات، وكما في الحديث الذي معنا هنا في الوقف؛ فيراد به الجهاد؛ لأنه ذكر الفقراء والقربى والرقاب، والرقاب هي في سبيل الله بالمعنى العام، وكلها مما يراد به وجه الله، ولكن عندما جاء (في سبيل الله) معطوفاً على الفقراء والرقاب وغير ذلك فيراد به الجهاد في سبيل الله.

قوله: (وابن السبيل) هو الذي انقطع به السفر، ونفد زاده، ولم يكن معه شيء، وإن كان غنياً في بلده فإنه يستحق أن يعطى من الوقوف والزكاة.

قوله: [ زاد بشر : (والضيف) ].

بشر أحد الرواة الذين رووا الحديث، وقد زاد لفظة: (والضيف)، أي أنه يكرم الضيف، ويعطى الضيفان من هذا الوقف.

قوله: [ (ثم اتفقوا: لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف)، أي: لا يأكل مسرفاً ومتمولاً، وإنما يأكل بالمعروف.

(ويطعم صديقاً) أي: الوالي وليس الصديق، ومعنى ذلك: أنه لا يتمول، وكذلك لا يعطي الصديق شيئاً يتموله، ولكنه يمكن أن يعطي الفقير شيئاً يكفيه قوتاً وطعاماً، لكن لا يعطيه رأس مال أو شيئاً كثيراً ويحرم غيره.

قوله: [ زاد عن بشر : قال: وقال محمد : (غير متأثل مالاً) ].

زاد مسدد الذي يروي عن الثلاثة ومنهم بشر قال: (غير متأثل مالاً) أي: هذا الوالي يأكل بالمعروف ولا يتمول ولا يتأثل؛ لأنه في بعض الألفاظ (يتمول) وفي بعضها (يتأثل).

تراجم رجال إسناد حديث وقف عمر لأرضه التي بخيبر

قوله: [ حدثنا مسدد ].

مسدد هو ابن مسرهد البصري ، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ حدثنا يزيد بن زريع ].

يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ح وحدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل ].

بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى ].

يحيى هو ابن سعيد القطان البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عون ].

هو عبد الله بن عون ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن نافع ].

هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ].

i, الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس ، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

[زاد عن بشر : قال: وقال محمد ].

قيل: هو محمد بن سيرين ؛ لأنه ليس في رجال الإسناد من اسمه محمد، فقيل: لعله محمد بن سيرين أو شخص آخر.

شرح حديث وقف عمر لأرضه التي بخيبر من طريق أخرى

حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني الليث عن يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب عبد الله عمر في ثمغ.. فقص من خبره نحو حديث نافع ، قال: غير متأثل مالاً، فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم، قال: وساق القصة، قال: وإن شاء ولي ثمغ اشترى من ثمره رقيقاً لعمله. وكتب معيقيب وشهد عبد الله بن الأرقم:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث: أن ثمغاً وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوادي تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، ألا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه ].

قوله: (عبد الله) وصف له، أي: أن عمر عبد من عبيد الله رضي الله تعالى عنه، وكانوا يقدمون لذلك بأن يقولوا: عبد الله فلان، أي: أنه من شأنه أنه عبد من عبيد الله، وكثيراً ما يأتي في كلامهم وحديثهم التعبير عنه بأنه عبد، وكذلك عندما يتكلم بالكلام العام يقال: يا عبد الله! وأي واحد يقال له: عبد الله.

وثمغ اسم مكان.

قوله: [ (فقص من خبره نحو حديث نافع ، قال: غير متأثلٍ مالاً ].

أيضاً جاء في بعض الروايات في حديث نافع : متأثل، أي: متمول، أو متملك؛ لأنه خارج عن الإنفاق في المعروف، أو الأكل بالمعروف؛ لأنه إذا أنفق على نفسه أو أكل فهذا لا يعتبر تملكاً.

قوله: [ (وما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم) ].

يعني: فهو للسائل الذي يسأل ويتعرض للسؤال، وللمحروم الذي لا يسأل، ومعلوم أن الذي لا يسأل ويتعفف أشد حاجة من الذي يسأل، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، وإنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه) ، هذا هو المسكين حقاً، وإن كان ذاك مسكيناً، لكن هذا أشد مسكنة منه.

قوله: [ فما عفا ].

أي: فضل وبقي.

قوله: [ (وساق القصة، قال: وإن شاء ولي ثمغ اشترى من ثمره رقيقاً لعمله) ].

ولي ثمغ له أن يشتري رقيقاً للعمل في الوقف، ولمصالح الوقف، وتدبير شئون الوقف.

قوله: [ (قال: وكتب معيقيب وشهد عبد الله بن أرقم) ].

أي: كتب الوقف معيقيب ، وشهد عليه عبد الله بن أرقم .

قوله: [ (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث) ].

هذا ليس هو الوقف، ولكن هذه وصية لمن يليه؛ لأنه كان يلي الوقف هو في حياته، فأوصى إذا حدث به حادث الموت فإنه يلي الأمر من بعده فلان، أو فلان ثم فلان، وهذا يعتبر وصية؛ لأنه بعد الموت، فإذا كان له وقف، وهو ناظر الوقف في حياته، وأراد أن يخص أحداً بالنظر فيه فيعينه، وهذا يطابق قول أمير المؤمنين؛ لأن هذا شيء حصل في خلافته وإمارته، بخلاف الوقف فإنه حصل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه وصية في الولاية والنظارة.

قوله: [ (أن ثمغاً وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخبير، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوادي تليه حفصة ما عاشت) ].

هذا الذي رأى، وحصلت به الوصية، وكأن هذه الأمور حصل فيها الوقف، ولكن الشأن في الولاية من بعده، وكأنه هو الذي كان يلي ذلك في حياته، فأراد أن يعين الناظر للوقف بعد وفاته، فقال: تليه حفصة ما عاشت.

قوله: [ (ثم يليه ذو الرأي من أهلها) ].

أي: من أهل عمر الذي يكون موجوداً في ذلك الوقت بعد وفاتها.

قوله: [ (ألا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه) ].

وهذا مطابق للوقف الذي قد حصل من قبل، وهو أنه يكون في هذه الأمور التي ذكرها.

وقوله: (آكل) أي: أطعم غيره، كصديق ونحوه .

تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث وقف عمر لأرضه التي بخيبر

قوله:[ حدثنا سليمان بن داود المهري ].

سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ حدثنا ابن وهب ].

هو عبد الله بن وهب المصري ، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرني الليث ].

هو الليث بن سعد المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن يحيى بن سعيد ].

هو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو من صغار التابعين، وهذا يقال له: وجادة، وهو صحيح الوجادة، كما قال الشيخ الألباني رحمه الله؛ لأن يحيى بن سعيد كتبت له نسخة منه، أي: من ذلك الوقف الذي كان موجوداً عند آل عمر وقد أشهد عليه، فهذه نسخة استنسخها من ذلك الوقف، وقد استنسخها من عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، وقال عنه في التقريب : مجهول الحال، أخرج له من أصحاب الكتب الستة أبو داود .

أما عن مكان هذا الوقف، وهل هو باقٍ إلى الآن أم لا؟ فلا أدري عن ذلك، ولعله اشتري به رقيق للعمل به فيما مضى، وكذا أي وقف لا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه، وقد كان عمر أوقف الأرض مع الرقيق الموجود فيها.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف.

حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع ح وحدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر : أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث: للفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل)، وزاد عن بشر: (والضيف)، ثم اتفقوا: (لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقاً غير متمول فيه)، زاد عن بشر: قال: وقال محمد : (غير متأثل مالاً) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب الرجل يوقف الوقف ].

ذكر الرجل هنا لأن الخطاب في الغالب مع الرجال، والنساء كذلك إذا أوقفن الأوقاف فلا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام.

والوقف: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، بمعنى: أن أصل الشيء كالعمارة أو كالبستان أو غير ذلك من الأعيان يوقف، فالأصل يكون محبساً لأعمال يعينها الواقف، ومنفعة وغلة هذا الأصل أو هذه الأعيان أو العين تكون في الجهات الخيرية التي نص عليها الواقف، هذا إن كان الوقف طبقاً للشريعة، أما إذا كان الوقف فيه مخالفة للشريعة فإن ذلك لا يسوغ ولا يجوز صرف الأوقاف في أمور غير مشروعة.

والوقف يكون ناجزاً؛ لأن الواقف إذا وقف خرج من ملكه، وصار مخصصاً للشيء الذي وقف عليه، فلا يباع ولا يورث ولا يوهب، وإنما هو شيء ثابت مستقر يصرف في وجوه الخير التي خصصها وعينها الواقف.

وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن (عمر رضي الله عنه أصاب أرضاً بخيبر)، ومعنى أصاب أرضاً: أي أنها حصلت له من قسمة السهام من الغنائم والفيء، فحصل عليها بهذا الطريق، وكانت أنفس مال تموله، وأنفس مال حصل له، فجاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في التصدق بها، فقال: (أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فكيف تأمرني به؟).

يريد بذلك المال الأرض، لأن الأرض مال، وأنه لم يصب أنفس من هذا المال الذي هو الأرض، فرجع الضمير مذكراً باعتبار المال، وأن هذه الأرض مال لم يصب مالاً أنفس ولا أفضل منه.

قال: (فماذا تأمرني به؟) يستشيره في العمل المشروع أو الفاضل الذي يضع فيه تلك الأرض، أو ذلك المال الذي اعتبره خير مال وصل إليه وتملكه.

(فقال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها) أي: بثمرتها وبغلتها؛ لأن الأصل إذا حبس معناه أنه لا يتصرف فيه، ولكن المنفعة هي التي تصرف في وجوه الخير التي يعينها الواقف، وبهذا يكون من الصدقات الجارية التي يستمر نفعها، أصولها باقية تثمر وتدر وتغل وتستعمل غلتها وثمرتها في أوجه البر المختلفة التي عينها الواقف، ففي كل سنة تحصل ثمرة أو ما يخرج من وراء هذا الوقف فيوزع على الجهات التي عينها الواقف.

وقوله: (وتصدقت بها) أي: تصدقت بالمنفعة في وجوه الخير، فالأصول باقية والثمرة هي التي تصرف في وجوه الخير.

قوله: . (فتصدق بها عمر)، أي: جعلها صدقة جارية وهي الوقف، (أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث)؛ لأن الأصل محبس ممنوع من التصرف فيه، وإنما يتصرف في المنفعة بحيث تصرف في وجوه الخير التي عينها، ولو كان الأصل يمكن التصرف فيه لزال، والوقف ثابت ومستقر، ولا يحول إلا إذا تعطلت منافعه، فإذا تعطلت منافعه يمكن أن يباع ويحول إلى وقف آخر ينتفع به، ولا يبقى مهملاً معطلاً لا يستفاد منه؛ لأن المقصود هو المنفعة التي تترتب عليه، فإذا تعطل الوقف فإنه يحول إلى وقف آخر بحيث يباع هذا الذي تعطلت منافعه ثم يحول إلى وقف آخر.

قوله: (لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث)، أي: ليس من قبيل المال الذي يمكن أن يهبه لأحد أو يبيعه، لا الذي أوقفه، ولا الناظر للوقف من بعده، فلا يبيع الأصل ولا يهبه ولا يورث عنه؛ لأنه خرج من ملكه الذي يورث؛ فهو شيء خرج منه ابتغاء وجه الله عز وجل، وخرج منه من حين وقف، فلم يبق في ملكه الذي يتصرف فيه بالبيع والشراء والأخذ والإعطاء، وإنما تؤخذ منفعته وتصرف في وجوه البر والخير التي أرادها الواقف.

قوله: [ (للفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل)، وزاد عن بشر : (والضيف) ].

هذه وجوه الخير ووجوه البر التي تصرف فيها الغلة والمنفعة لهذا الوقف.

والفقراء: هم المحتاجون، والفقير: هو الذي لا يجد حاجته مطلقاً، أو لا يجد كفايته لمدة سنة.

والفرق بين الفقير والمسكين: أن الفقير والمسكين إذا جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر دخل الثاني معه، فإذا جمع بين الفقراء والمساكين كما في قول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فسر الفقراء بأنهم الذين لا يجدون شيئاً، والمساكين الذين لا يجدون شيئاً يكفيهم، وهنا قال: الفقراء، ولم يقل: المساكين، فيدخل في ذلك من لم يكن عنده شيء أصلاً أو عنده شيء لا يكفيه، فإنه يستحق الصرف؛ لأن هذين اللفظين من جملة الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر وزع المعنى عليها، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر فالمعنى الذي يوزع عند الاجتماع يسند ويضاف إلى أي واحد منهما.

إذاً: الذي لا يجد شيئاً يكفيه، والذي لا يجد شيئاً أصلاً، يطلق على الفقير إذا ذكر وحده، وإذا ذكر المسكين فيطلق عليه هذا المعنى أيضاً، ولكن إذا قيل: الفقراء والمساكين، حمل الفقراء على الذين لا يجدون شيئاً أصلاً، والمساكين على الذين يجدون شيئاً ولكنه لا يكفيهم.

قوله: (والقربى) أي: قرابة عمر .

(والرقاب) أي: شراء الرقاب وإعتاقها.

(وفي سبيل الله) أي: في الجهاد في سبيل الله؛ لأن المقصود بسبيل الله إذا جاء مقروناً مع غيره كما في آية الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60] فمعناه: الجهاد في سبيل الله، ويأتي سبيل الله عاماً فيدخل فيه وجوه الخير كلها، لكن عندما يأتي ذكر سبيل الله مقروناً مع غيره كما في آية الصدقات، وكما في الحديث الذي معنا هنا في الوقف؛ فيراد به الجهاد؛ لأنه ذكر الفقراء والقربى والرقاب، والرقاب هي في سبيل الله بالمعنى العام، وكلها مما يراد به وجه الله، ولكن عندما جاء (في سبيل الله) معطوفاً على الفقراء والرقاب وغير ذلك فيراد به الجهاد في سبيل الله.

قوله: (وابن السبيل) هو الذي انقطع به السفر، ونفد زاده، ولم يكن معه شيء، وإن كان غنياً في بلده فإنه يستحق أن يعطى من الوقوف والزكاة.

قوله: [ زاد بشر : (والضيف) ].

بشر أحد الرواة الذين رووا الحديث، وقد زاد لفظة: (والضيف)، أي أنه يكرم الضيف، ويعطى الضيفان من هذا الوقف.

قوله: [ (ثم اتفقوا: لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف)، أي: لا يأكل مسرفاً ومتمولاً، وإنما يأكل بالمعروف.

(ويطعم صديقاً) أي: الوالي وليس الصديق، ومعنى ذلك: أنه لا يتمول، وكذلك لا يعطي الصديق شيئاً يتموله، ولكنه يمكن أن يعطي الفقير شيئاً يكفيه قوتاً وطعاماً، لكن لا يعطيه رأس مال أو شيئاً كثيراً ويحرم غيره.

قوله: [ زاد عن بشر : قال: وقال محمد : (غير متأثل مالاً) ].

زاد مسدد الذي يروي عن الثلاثة ومنهم بشر قال: (غير متأثل مالاً) أي: هذا الوالي يأكل بالمعروف ولا يتمول ولا يتأثل؛ لأنه في بعض الألفاظ (يتمول) وفي بعضها (يتأثل).

قوله: [ حدثنا مسدد ].

مسدد هو ابن مسرهد البصري ، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ حدثنا يزيد بن زريع ].

يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ح وحدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل ].

بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ح وحدثنا مسدد حدثنا يحيى ].

يحيى هو ابن سعيد القطان البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عون ].

هو عبد الله بن عون ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن نافع ].

هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ].

i, الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس ، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

[زاد عن بشر : قال: وقال محمد ].

قيل: هو محمد بن سيرين ؛ لأنه ليس في رجال الإسناد من اسمه محمد، فقيل: لعله محمد بن سيرين أو شخص آخر.

حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني الليث عن يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب عبد الله عمر في ثمغ.. فقص من خبره نحو حديث نافع ، قال: غير متأثل مالاً، فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم، قال: وساق القصة، قال: وإن شاء ولي ثمغ اشترى من ثمره رقيقاً لعمله. وكتب معيقيب وشهد عبد الله بن الأرقم:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث: أن ثمغاً وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوادي تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، ألا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه ].

قوله: (عبد الله) وصف له، أي: أن عمر عبد من عبيد الله رضي الله تعالى عنه، وكانوا يقدمون لذلك بأن يقولوا: عبد الله فلان، أي: أنه من شأنه أنه عبد من عبيد الله، وكثيراً ما يأتي في كلامهم وحديثهم التعبير عنه بأنه عبد، وكذلك عندما يتكلم بالكلام العام يقال: يا عبد الله! وأي واحد يقال له: عبد الله.

وثمغ اسم مكان.

قوله: [ (فقص من خبره نحو حديث نافع ، قال: غير متأثلٍ مالاً ].

أيضاً جاء في بعض الروايات في حديث نافع : متأثل، أي: متمول، أو متملك؛ لأنه خارج عن الإنفاق في المعروف، أو الأكل بالمعروف؛ لأنه إذا أنفق على نفسه أو أكل فهذا لا يعتبر تملكاً.

قوله: [ (وما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم) ].

يعني: فهو للسائل الذي يسأل ويتعرض للسؤال، وللمحروم الذي لا يسأل، ومعلوم أن الذي لا يسأل ويتعفف أشد حاجة من الذي يسأل، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، وإنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه) ، هذا هو المسكين حقاً، وإن كان ذاك مسكيناً، لكن هذا أشد مسكنة منه.

قوله: [ فما عفا ].

أي: فضل وبقي.

قوله: [ (وساق القصة، قال: وإن شاء ولي ثمغ اشترى من ثمره رقيقاً لعمله) ].

ولي ثمغ له أن يشتري رقيقاً للعمل في الوقف، ولمصالح الوقف، وتدبير شئون الوقف.

قوله: [ (قال: وكتب معيقيب وشهد عبد الله بن أرقم) ].

أي: كتب الوقف معيقيب ، وشهد عليه عبد الله بن أرقم .

قوله: [ (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث) ].

هذا ليس هو الوقف، ولكن هذه وصية لمن يليه؛ لأنه كان يلي الوقف هو في حياته، فأوصى إذا حدث به حادث الموت فإنه يلي الأمر من بعده فلان، أو فلان ثم فلان، وهذا يعتبر وصية؛ لأنه بعد الموت، فإذا كان له وقف، وهو ناظر الوقف في حياته، وأراد أن يخص أحداً بالنظر فيه فيعينه، وهذا يطابق قول أمير المؤمنين؛ لأن هذا شيء حصل في خلافته وإمارته، بخلاف الوقف فإنه حصل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه وصية في الولاية والنظارة.

قوله: [ (أن ثمغاً وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخبير، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوادي تليه حفصة ما عاشت) ].

هذا الذي رأى، وحصلت به الوصية، وكأن هذه الأمور حصل فيها الوقف، ولكن الشأن في الولاية من بعده، وكأنه هو الذي كان يلي ذلك في حياته، فأراد أن يعين الناظر للوقف بعد وفاته، فقال: تليه حفصة ما عاشت.

قوله: [ (ثم يليه ذو الرأي من أهلها) ].

أي: من أهل عمر الذي يكون موجوداً في ذلك الوقت بعد وفاتها.

قوله: [ (ألا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه) ].

وهذا مطابق للوقف الذي قد حصل من قبل، وهو أنه يكون في هذه الأمور التي ذكرها.

وقوله: (آكل) أي: أطعم غيره، كصديق ونحوه .

قوله:[ حدثنا سليمان بن داود المهري ].

سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ حدثنا ابن وهب ].

هو عبد الله بن وهب المصري ، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرني الليث ].

هو الليث بن سعد المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن يحيى بن سعيد ].

هو يحيى بن سعيد الأنصاري المدني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو من صغار التابعين، وهذا يقال له: وجادة، وهو صحيح الوجادة، كما قال الشيخ الألباني رحمه الله؛ لأن يحيى بن سعيد كتبت له نسخة منه، أي: من ذلك الوقف الذي كان موجوداً عند آل عمر وقد أشهد عليه، فهذه نسخة استنسخها من ذلك الوقف، وقد استنسخها من عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، وقال عنه في التقريب : مجهول الحال، أخرج له من أصحاب الكتب الستة أبو داود .

أما عن مكان هذا الوقف، وهل هو باقٍ إلى الآن أم لا؟ فلا أدري عن ذلك، ولعله اشتري به رقيق للعمل به فيما مضى، وكذا أي وقف لا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقاً منه، وقد كان عمر أوقف الأرض مع الرقيق الموجود فيها.

شرح حديث: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء ...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء في الصدقة عن الميت.

حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا ابن وهب عن سليمان -يعني: ابن بلال - عن العلاء بن عبد الرحمن أُراه عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ].

قال المصنف: [ باب ما جاء في الصدقة عن الميت ].

كون الإنسان يتصدق عن نفسه بصدقة جارية، أو يتصدق عنه غيره بصدقة جارية كل ذلك ينفعه، وكل ذلك يصل إليه، سواء كانت هذه الصدقة هو الذي تصدق بها عن نفسه؛ فإنها تبقى بعد وفاته، وهي من عمله، أو أن إنساناً تصدق عنه بصدقة جارية، أو صدقة غير جارية؛ فإن كل ذلك ينفعه، وقد وردت الأحاديث بأن الصدقة عنه تنفعه، أي أن يتصدق عنه غيره فإنه ينفعه ذلك، كما جاء في الأحاديث التي سيذكر المصنف بعضها.

وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: من صدقة جارية) ، وهي الصدقة التي تصدق بها عن نفسه، وهي دائمة ومستقرة بخلاف المحددة أو المعينة التي ليست مستمرة فإنها تنتهي، كما لو وجد فقيراً فأعطاه مبلغاً من المال فإن هذه صدقة تنتهي بانتهاء المال، ولكن الصدقة الجارية مثل الوقف، مثل صدقة عمر رضي الله عنه، كونه يتصدق بشيء من ماله يبقى فإنه ينتفع به في حياته وبعد وفاته بصفة مستمرة، وما دام الوقف موجوداً فإن الانتفاع حاصل، فهذه صدقة جارية.

قوله: (أو علم ينتفع به)، المقصود بالعلم: العلم الذي يأخذه عنه تلاميذه، ويأخذ عنهم تلاميذهم وهكذا، أو عن طريق كتابة العلم، والمؤلفات النافعة التي يخلفها الإنسان وتبقى بعده سنيناً طويلة، وقد تمكث مئات السنين، فإنه كلما انتفع من هذه المؤلفات منتفع وصل إليه ثوابه، وقد مضى على موته مئات السنين، ولهذا جاء عن ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر أنه قال: إن الكتاب الذي يخلفه الإنسان يعتبر ولده المخلد، كأنه قد خلد ولداً يدعو له، فيكون ذلك الكتاب معناه أنه خالد وأنه باق، وأنه يمكث المدة الطويلة التي يعود عليه فيها نفعه بعد وفاته بمئات السنين، فالعلم الذي يخلفه الإنسان سواء كان عن طريق تعليم التلاميذ، والتلاميذ يأخذ عنهم تلاميذ، وهكذا، ويتسلسل حتى يصل إليه نفعه، ويصل إليه فوائده، وكذلك المؤلفات؛ ولهذا نجد أن هناك من مضى على موتهم مئات السنين، ومع ذلك ذكرهم مخلد، يأتي ذكرهم في المؤلفات، أو في الأسانيد، أو الفتوى، فيقال: قال فلان كذا، وقال فلان رحمه الله كذا، وأفتى فلان بكذا، وروى فلان كذا، فيأتي ذكرهم مع أنه كان في زمانهم أناس كثيرون لا يعرفون عنهم شيئاً لا في حياتهم ولا بعد موتهم، ولكن خلد ذكرهم العلم النافع الذي ورثوه وخلفوه.

قوله: (أو ولد صالح يدعو له) سواء كان ولده من صلبه المباشر أو ممن هو من نسله، وسواء كان من أبنائه أو من بناته؛ لأن هؤلاء كلهم أولاد له، وكلهم أبناء له القريب والبعيد وإن نزل، ابن الابن وإن نزل، كما في الفرائض، إذ كلهم يقال لهم: أبناء، فأولاد البنين وأولاد البنات يعتبرون أولاداً للميت، فإذا دعوا له بدعاء فإن ذلك ينفعه.

وخص من الأولاد الولد الصالح؛ لأن هذا هو مظنة الدعاء، وهو الذي ينفع نفسه وينفع غيره، أما إذا كان فاسداً فلن ينفع نفسه ولا غيره ولا أصله؛ لأنه منصرف عن الدعاء بالكلية، بل قد يحصل منه دعاء عليه، كما جاء في الحديث : (إن من الكبائر أن يسب الرجل والديه، قيل: وكيف يسب الرجل والديه؟! قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)، فقد يتسبب في أن يذكروا بسوء.

إذاً: ذكر الصلاح هنا لأن الصالح هو الذي ينفع نفسه وينفع غيره؛ لأنه هو الذي يشتغل بالدعاء لنفسه ولغيره.

وقد جاءت زيادات في أحاديث، ولكن غالبها أو كلها تفاصيل وجزئيات ترجع للصدقة الجارية، وقد ذكرها بعض أهل العلم، وذكر صاحب عون المعبود أن السيوطي أوصلها إلى إحدى عشرة، وذكر فيها شعراً، وأنه سبقه ابن العماد فأوصلها إلى ثلاث عشرة، وأنه ساق الأحاديث التي وردت فيها، وهي غالباً ترجع إلى جزئيات للصدقة الجارية.

تراجم رجال إسناد حديث: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء ...)

قوله: [ حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن ]

الربيع بن سليمان المؤذن هو المهري المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب السنن الأربعة.

[ حدثنا ابن وهب ].

ابن وهب قد مر ذكره .

[ عن سليمان -يعني: ابن بلال - ].

سليمان بن بلال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن العلاء بن عبد الرحمن ].

هو العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، وهو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن أبي هريرة ].

قد مر ذكره .

الأعمال التي يصل أجرها للميت

اختلف العلماء في الأعمال التي يصل أجرها للميت على قولين:

القول الأول: أن كل عمل صالح يصل إلى الميت، قالوا: إن الذي لم يرد يقاس على ما ورد، هذه هي الحجة، وقالوا: إن الأجوبة التي أجاب بها النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بها عن أسئلة معينة، سئل عن كذا فأجاب بكذا، قالوا: ولو سئل عن غير ذلك لأجاب بمثله، فهناك أشياء لم يسأل عنها فما جاء فيها جواب، إذاً: يقاس ما لم يذكر على ما ذكر، والعبادات التي لم تذكر تقاس على العبادات التي ذكرت، وهؤلاء يعممون في كل شيء، ويقولون: إن أي قربة فعلها أحد وجعل ثوابها لميت مسلم نفعه ذلك، فيعممون ويقيسون ما لم يرد على ما ورد.

ثانيهما: أنه يقتصر على ما ورد، ولا يزاد عليه، والوارد هو في الصدقة، والحج، والعمرة، والدعاء، والعتق، والصيام إذا كان واجباً؛ لحديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه).

والصحيح -والله أعلم-: أن من أراد أن ينفع موتاه فينفعهم في حدود ما ورد، أما القول بأنه سئل عن هذه الأمور التي يصل نفعها، وأنه لم يسأل عن الأشياء الأخرى، ولو سئل عنها لأجاب بمثل ما أجاب؛ فهذا غير مسلم؛ لأنه قد يسأل عن الشيء ولا يجيب، ومما يدل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء من لحم الإبل، فقال: توضئوا، وسئل عن الوضوء من لحم الغنم، فقال: إن شئتم) ، فهل يقال: إنه لو سئل عنه لكان الجواب مثل لحم الإبل؟ لا، بل إن الجواب يختلف، وليس الجواب واحداً، فقد سئل عن شيء فأجاب بجواب، وسئل عن شيء آخر فأجاب بجواب آخر.

فالذي يظهر -والله أعلم- أن هذه المسألة الصواب فيها: أن يقتصر في نفع الأموات على حدود ما ورد، وفي ذلك الخير الكثير لمن أراد أن ينفع الموتى.