شرح سنن أبي داود [258]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟..)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في اللعان.

حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي فقال له: (يا عاصم ! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم ! رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك، فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال له: يا عاصم ! ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال عاصم : لم تأتني بخير؛ قد كره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر : والله! لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو وسط الناس فقال: يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن، فاذهب فأت بها.

قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما فرغا قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها عويمر ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم) .

قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين ].

أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باباً في اللعان ]، واللعان مأخوذ من اللعن، وذلك أن الذي يقذف زوجته بالزنا ولم يكن عنده شهود يشهدون على ذلك فإنه يصير إلى الملاعنة، وذلك بأن يشهد على نفسه أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:6-7]، ثم بعد ذلك تشهد المرأة أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور:8-9].

فسمي لعاناً لاشتماله على اللعن.

والرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه عدة أحاديث في قضية اللعان، وبعد اللعان يتم التفريق بين الزوجين تفريقاً أبدياً، وتحرم عليه الزوجة أبداً بعد التلاعن، ولا سبيل له إلى الزواج بها مرة أخرى بعد ذلك فهو من التحريم المؤبد، وهو تحريم لا محرمية فيه بخلاف غيره من التحريم المؤبد فإن فيه المحرمية، فمحرم المرأة الذي يكون محرماً لها في السفر والذي يحق له النظر إليها والدخول عليها يقال له: محرم المرأة، وهو زوجها -أي: ما دامت زوجة له- أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح، وأما إذا حصل طلاق فإن تلك المحرمية التي كانت بسبب الزواج تذهب وتنتهي؛ لأن الحكم أنيط بالزوجية، فإذا كانت الزوجية موجودة فإن المحرمية قائمة، وإذا انتهت هذه الزوجية فإنه يكون أجنبياً منها.

وأما من تحرم عليه على التأبيد لنسب ككونه أباً أو ابناً أو أخاً أو ما إلى ذلك، أو بسبب كرضاع ومصاهرة بشرط أن يكون الرضاع والمصاهرة قد أبيحا شرعاً، فيخرج بالمباح تحريم زواج الملاعن بالملاعنة على وجه التأبيد؛ لأنها مُحرمة عليه أبداً، ومع ذلك لا يكون محرماً لها، وهذا هو المقصود من قول الفقهاء: بنسب أو سبب مباح؛ لأن تحريم المتلاعنين إنما هو بسبب ليس بالمباح، فقد صير إليه بسبب القذف الذي حصل.

وقد أورد أبو داود حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة عويمر العجلاني رضي الله عنه، فقد جاء إلى عاصم بن عدي رضي الله عنه وطلب منه أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يجد مع امرأته رجلاً أيقتله فيقتل أم يسكت على أمر عظيم؟

فذهب عاصم بن عدي رضي الله عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله هذا السؤال، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسائل وعابها، أي: المسائل التي هي من هذا القبيل، وهي أن يخبر الإنسان عن زوجته بشيء مما يُستحيا منه، فكره الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المسائل وعابها، وهذه الكراهية إنما تكون في الشيء الذي لم يقع والناس في عافية منه، وأما إذا وقع الشيء وسئل عنه فإن ذلك لا بأس به؛ لأن السؤال سيكون حينئذ في أمر قد حصل ولا بد من معرفة الحكم فيه، وأما إذا كان السؤال في شيء فيه عنت وفيه مشقة، كقصة الرجل الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، قال: أفي كل عام يا رسول الله؟) فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، ولو قُلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم).

فقوله: (فكره المسائل وعابها) أي: التي من هذا القبيل، إذ لا ينبغي للإنسان أن يسأل عن الأشياء التي لم تقع، ولكن الإنسان إذا ابتلي بشيء فليسأل عنه ليعرف الحكم الشرعي.

فرجع عاصم إلى بيته، فجاء عويمر وسأله عن جواب النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بأن ذلك كبر عليه وأنه أمر عظيم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها، فحلف أن يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويسأله بنفسه، فذهب إليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآناً، اذهب فأت بها، قال سهل : فتلاعنا، وأنا مع الناس ..)، وعندما حصل التلاعن بادر عويمر وقال: (كذبتُ عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم).

وهذا الفعل منه وليس من النبي صلى الله عليه وسلم، والفرقة تكون بالملاعنة ولا يحتاج الأمر إلى طلاق، وإنما هذا من عويمر رضي الله عنه؛ ليبين أنه صادق فيما قال، وأنه ما كذب عليها، وأنه إن أمسكها وقد كذب عليها فهذا أمر خطير، فبادر إلى تطليقها ثلاثاً والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمره بذلك، فدل هذا على أن هذا الطلاق إنما هو من عويمر ، وإلا فالفراق يحصل بالملاعنة دون حاجة إلى طلاق، ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تراجم رجال إسناد حديث (يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ ..)

قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ].

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن مالك ].

هو مالك بن أنس الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

وهو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أن سهل بن سعد ].

هو سهل بن سعد الساعدي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود ، وهي الرباعيات، حيث إن بين أبي داود ورسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص وهم: القعنبي ومالك والزهري وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

شرح حديث سهل بن سعد في اللعان من طريق أخرى

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد العزيز بن يحيى حدثني محمد -يعني: ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق حدثني عباس بن سهل عن أبيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعاصم بن عدي رضي الله عنه: أمسك المرأة عندك حتى تلد) ].

أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أنها كانت حاملاً وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعاصم : (أمسك المرأة عندك حتى تلد)، وهذا بعدما حصلت الملاعنة، وهذا يدل على أن المرأة الملاعنة بعد اللعان لا سكنى لها ولا نفقة على زوجها الذي لاعنها، وأنها تذهب منه، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعاصم : (أمسك المرأة عندك حتى تلد)؛ لأنها ما دامت حاملاً فلا سبيل إلى زواجها، وزوجها الأول لا سبيل لها إلى الرجوع إليه؛ لأنها حرمت عليه على التأبيد.

وقوله لـعاصم : (أمسك المرأة عندك حتى تلد) ؛ لأن عويمراً وزوجته عاصم بن عدي بينهم قرابة، وأما تخصيص عاصم بإمساكها، فقد يكون محرماً من محارمها أو قريبها، والله أعلم.

تراجم رجال إسناد حديث سهل بن سعد في اللعان من طريق أخرى

قوله: [ حدثنا عبد العزيز بن يحيى ].

عبد العزيز بن يحيى صدوق ربما وَهِمَ، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ حدثني محمد يعني: ابن سلمة ].

هو محمد بن سلمة الحراني الباهلي ، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن محمد بن إسحاق ].

هو محمد بن إسحاق المدني ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وهو مدلس وقد صرح بالتحديث هنا.

[ حدثني عباس بن سهل ].

وهو عباس بن سهل الساعدي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي .

[ عن أبيه ].

وهو سهل الساعدي ، وقد مرّ ذكره.

ومما يقال: إن الصحابة ليس فيهم من يُكَنّى بأبي العباس إلا سهل بن سعد وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنهما، فهما اللذان عُرِفا بالتكنية بأبي العباس، وعباس الذي في هذا الإسناد هو عباس بن سهل الذي يكنّى به أبوه سهل بن سعد .

شرح حديث سهل بن سعد (... ثم خرجت حاملاً فكان الولد يدعى إلى أمه) وتراجم رجاله

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي قال: (حضرت لعانهما عند النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة، وساق الحديث، قال فيه: ثم خَرَجَتْ حاملاً فكان الولد يدعى إلى أمه) ].

أورد أبو داود حديث سهل بن سعد أنه حضر اللعان وعمره خمس عشرة سنة، وأنها خرجت حاملاً، وأن الولد كان يُنسب إلى أمه؛ لأن الأمومة محققة، فهي التي ولدته، وأما زوج أمه فقد فإنه نفاه باللعان، فانتفى عنه بلعانه فلا يكون منسوباً إليه، بل ينسب إلى أمه.

قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح ].

هو أحمد بن صالح المصري ، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.

[ حدثنا ابن وهب ].

وهو: عبد الله بن وهب المصري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرني يونس ].

هو يونس بن يزيد الأيلي ثم المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب عن سهل بن سعد ].

وقد مر ذكرهما.

شرح حديث (أبصروها فإن جاءت به أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن جعفر الوركاني أخبرنا إبراهيم -يعني: ابن سعد - عن الزهري عن سهل بن سعد في خبر المتلاعنين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبصروها فإن جاءت به أدعج العينين، عظيم الإليتين، فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذباً.

قال: فجاءت به على النعت المكروه) ].

قوله: [ (أبصروها فإن جاءت به أدعج العينين، عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق) ] أي: إذا كان أدعج العينين، عظيم الإليتين، فيكون شبيهاً بالمتهم الذي اتهمه بالزنا بامرأته، وإن أتت به: [ (أحيمر كأنه وَحْرة) ] والوحرة: هي دويبة تلصق بالأرض، ولونها قريب من لون التراب.

قوله: [ (فلا أراه إلا كاذباً) ] أي: إذا أتت به على هذا الوصف الذي يشبه عويمر فيكون كاذباً عليها، وإن أتت به على ذلك الوصف الذي يشبه الرجل الذي اتهمت به: [ (فلا أراه إلا صادقاً).

قوله: [ (فجاءت به على النعت المكروه) ]، أي: أنه على صورة ذلك الرجل الذي اتهمت فيه: أدعج العينين، سابغ الإليتين.

تراجم رجال إسناد حديث (أبصروها فإن جاءت به أدعج العينين، عظيم الإليتين فلا أراد إلا صادقاً)

قوله: [ حدثنا محمد بن جعفر الوركاني ].

محمد بن جعفر الوركاني ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي .

[ أخبرنا إبراهيم يعني: ابن سعد ].

إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الزهري عن سهل بن سعد ].

الزهري وسهل بن سعد قد مر ذكرهما.

إسناد آخر لحديث (أبصروها فإن جاءت به أدعج العينين) وتراجم رجاله

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمود بن خالد الدمشقي حدثنا الفريابي عن الأوزاعي عن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما بهذا الخبر، قال: (فكان يدعى -يعنى: الولد- لأمه) ].

أورد المصنف هذا الحديث من طريق أخرى، وفيه: أن الولد كان يدعى لأمه؛ لأنه قد انتفي من جهة الزوج باللعان.

قوله: [ حدثنا محمود بن خالد الدمشقي ].

محمود بن خالد الدمشقي ، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ حدثنا الفريابي ].

هو محمد بن يوسف الفريابي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الأوزاعي ].

هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمر ، فقيه الشام ومحدثها، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الزهري عن سهل بن سعد ].

الزهري وسهل بن سعد قد مر ذكرهما.

شرح حديث سهل بن سعد في قصة عويمر (فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبد الله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذا الخبر قال: (فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما صُنع عند النبي صلى الله عليه وسلم سنة) ].

أورد أبو داود حديث سهل بن سعد رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه ما في الرواية الأولى من أنه قال: (إن أمسكتها كذبت عليها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك) أي: أنه من عنده.

وقوله: [ (فأنفذه الرسول صلى الله عليه وسلم) ]، ليس المقصود أنه أنفذ الطلاق وإنما أنفذ الفراق الذي تم بحصول التلاعن بينهما، والتطليق الذي جاء في غير محله إنما هو من عويمر رضي الله عنه؛ من أجل أن يبرر موقفه ويبرئ ساحته، وأنه صادق فيما يقول، وأنها كاذبة فيما تزعمه من صدقها.

والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه تطليقه بالثلاث في مجلس واحد؛ لأنه في غير محله، ولأن الرجل أراد أن يبادر هو بالتخلص والبراءة منها لإثبات صدقة، ولعله لم يكن يعلم أن التلاعن يحصل به الفراق دون الحاجة إلى طلاق.

تراجم رجال إسناد حديث سهل بن سعد في قصة عويمر (فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم)

قوله: [ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ].

أحمد بن عمرو بن السرح ، ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ حدثنا ابن وهب ].

هو عبد الله بن وهب المصري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عياض بن عبد الله الفهري ].

عياض بن عبد الله الفهري فيه لين، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ وغيره ].

أي: أن هذه الرواية جاءت عن عياض بن عبد الله وغيره.

[ عن ابن شهاب عن سهل بن سعد ].

وقد مر ذكرهما.

قوله: [ قال سهل : (حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً) ].

أي: لا يجتمعان بعد تلاعنهما أبداً، أي: أن التحريم يكون على التأبيد، فلا سبيل له إلى أن يتزوجها بأي حال من الأحوال.

شرح حديث سهل بن سعد في قصة عويمر (ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلاعنا)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد ووهب بن بيان وأحمد بن عمرو بن السرح وعمرو بن عثمان قالوا: حدثنا سفيان عن الزهري عن سهل بن سعد، قال مسدد : (شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة، ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلاعنا) وتم حديث مسدد .

وقال الآخرون: (إنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين، فقال الرجل: كذبت عليها يا رسول الله! إن أمسكتها، لم يقل بعضهم: عليها) ].

أورد أبو داود حديث سهل بن سعد من طريق أخرى عن أربعة من شيوخه، أولهم: مسدد ، فذكر لفظ الحديث على رواية مسدد إلى قوله: [ (.. حين تلاعنا) ] وذكر رواية الشيوخ الآخرين الثلاثة بعد مسدد أنهم قالوا: (إنه شهد)، بصيغة الغائب والإخبار عنه أنه شهد، وفي رواية مسدد قال: [ (شهدت) ].

تراجم رجال إسناد حديث سهل بن سعد في قصة عويمر (ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلاعنا)

قوله: [ حدثنا مسدد ].

مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ ووهب بن بيان ].

وهب بن بيان ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي .

[ وأحمد بن عمرو بن السرح وعمرو بن عثمان ].

أحمد بن عمرو بن السرح مر ذكره، وعمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ قالوا: حدثنا سفيان ].

(قالوا) أي: جميعاً، (حدثنا سفيان) وهو : ابن عيينة المكي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الزهري عن سهل بن سعد ].

وقد مر ذكرهما.

قوله: [ قال أبو داود : لم يتابع ابن عيينة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في اللعان.

حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي فقال له: (يا عاصم ! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم ! رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك، فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال له: يا عاصم ! ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال عاصم : لم تأتني بخير؛ قد كره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر : والله! لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو وسط الناس فقال: يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن، فاذهب فأت بها.

قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما فرغا قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها عويمر ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم) .

قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين ].

أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باباً في اللعان ]، واللعان مأخوذ من اللعن، وذلك أن الذي يقذف زوجته بالزنا ولم يكن عنده شهود يشهدون على ذلك فإنه يصير إلى الملاعنة، وذلك بأن يشهد على نفسه أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:6-7]، ثم بعد ذلك تشهد المرأة أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور:8-9].

فسمي لعاناً لاشتماله على اللعن.

والرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه عدة أحاديث في قضية اللعان، وبعد اللعان يتم التفريق بين الزوجين تفريقاً أبدياً، وتحرم عليه الزوجة أبداً بعد التلاعن، ولا سبيل له إلى الزواج بها مرة أخرى بعد ذلك فهو من التحريم المؤبد، وهو تحريم لا محرمية فيه بخلاف غيره من التحريم المؤبد فإن فيه المحرمية، فمحرم المرأة الذي يكون محرماً لها في السفر والذي يحق له النظر إليها والدخول عليها يقال له: محرم المرأة، وهو زوجها -أي: ما دامت زوجة له- أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح، وأما إذا حصل طلاق فإن تلك المحرمية التي كانت بسبب الزواج تذهب وتنتهي؛ لأن الحكم أنيط بالزوجية، فإذا كانت الزوجية موجودة فإن المحرمية قائمة، وإذا انتهت هذه الزوجية فإنه يكون أجنبياً منها.

وأما من تحرم عليه على التأبيد لنسب ككونه أباً أو ابناً أو أخاً أو ما إلى ذلك، أو بسبب كرضاع ومصاهرة بشرط أن يكون الرضاع والمصاهرة قد أبيحا شرعاً، فيخرج بالمباح تحريم زواج الملاعن بالملاعنة على وجه التأبيد؛ لأنها مُحرمة عليه أبداً، ومع ذلك لا يكون محرماً لها، وهذا هو المقصود من قول الفقهاء: بنسب أو سبب مباح؛ لأن تحريم المتلاعنين إنما هو بسبب ليس بالمباح، فقد صير إليه بسبب القذف الذي حصل.

وقد أورد أبو داود حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة عويمر العجلاني رضي الله عنه، فقد جاء إلى عاصم بن عدي رضي الله عنه وطلب منه أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يجد مع امرأته رجلاً أيقتله فيقتل أم يسكت على أمر عظيم؟

فذهب عاصم بن عدي رضي الله عنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله هذا السؤال، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسائل وعابها، أي: المسائل التي هي من هذا القبيل، وهي أن يخبر الإنسان عن زوجته بشيء مما يُستحيا منه، فكره الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المسائل وعابها، وهذه الكراهية إنما تكون في الشيء الذي لم يقع والناس في عافية منه، وأما إذا وقع الشيء وسئل عنه فإن ذلك لا بأس به؛ لأن السؤال سيكون حينئذ في أمر قد حصل ولا بد من معرفة الحكم فيه، وأما إذا كان السؤال في شيء فيه عنت وفيه مشقة، كقصة الرجل الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، قال: أفي كل عام يا رسول الله؟) فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، ولو قُلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم).

فقوله: (فكره المسائل وعابها) أي: التي من هذا القبيل، إذ لا ينبغي للإنسان أن يسأل عن الأشياء التي لم تقع، ولكن الإنسان إذا ابتلي بشيء فليسأل عنه ليعرف الحكم الشرعي.

فرجع عاصم إلى بيته، فجاء عويمر وسأله عن جواب النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بأن ذلك كبر عليه وأنه أمر عظيم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها، فحلف أن يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويسأله بنفسه، فذهب إليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآناً، اذهب فأت بها، قال سهل : فتلاعنا، وأنا مع الناس ..)، وعندما حصل التلاعن بادر عويمر وقال: (كذبتُ عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم).

وهذا الفعل منه وليس من النبي صلى الله عليه وسلم، والفرقة تكون بالملاعنة ولا يحتاج الأمر إلى طلاق، وإنما هذا من عويمر رضي الله عنه؛ ليبين أنه صادق فيما قال، وأنه ما كذب عليها، وأنه إن أمسكها وقد كذب عليها فهذا أمر خطير، فبادر إلى تطليقها ثلاثاً والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمره بذلك، فدل هذا على أن هذا الطلاق إنما هو من عويمر ، وإلا فالفراق يحصل بالملاعنة دون حاجة إلى طلاق، ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ].

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن مالك ].

هو مالك بن أنس الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

وهو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أن سهل بن سعد ].

هو سهل بن سعد الساعدي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود ، وهي الرباعيات، حيث إن بين أبي داود ورسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص وهم: القعنبي ومالك والزهري وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد العزيز بن يحيى حدثني محمد -يعني: ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق حدثني عباس بن سهل عن أبيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعاصم بن عدي رضي الله عنه: أمسك المرأة عندك حتى تلد) ].

أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه أنها كانت حاملاً وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعاصم : (أمسك المرأة عندك حتى تلد)، وهذا بعدما حصلت الملاعنة، وهذا يدل على أن المرأة الملاعنة بعد اللعان لا سكنى لها ولا نفقة على زوجها الذي لاعنها، وأنها تذهب منه، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعاصم : (أمسك المرأة عندك حتى تلد)؛ لأنها ما دامت حاملاً فلا سبيل إلى زواجها، وزوجها الأول لا سبيل لها إلى الرجوع إليه؛ لأنها حرمت عليه على التأبيد.

وقوله لـعاصم : (أمسك المرأة عندك حتى تلد) ؛ لأن عويمراً وزوجته عاصم بن عدي بينهم قرابة، وأما تخصيص عاصم بإمساكها، فقد يكون محرماً من محارمها أو قريبها، والله أعلم.