شرح سنن أبي داود [168]


الحلقة مفرغة

شرح حديث: (... والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ليلة القدر.

حدثنا سليمان بن حرب ومسدد المعنى قالا: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم عن زر قال: قلت لـأبي بن كعب رضي الله عنه: أخبرني عن ليلة القدر يا أبا المنذر ! فإن صاحبنا سئل عنها فقال: من يقم الحول يصبها، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن ، والله لقد علم أنها في رمضان -زاد مسدد : ولكن كره أن يتكلوا، أو أحب ألا يتكلوا، ثم اتفقا- والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني، قلت: يا أبا المنذر ! أنى علمت ذلك؟ قال: بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لـزر : ما الآية؟ قال: تصبح الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها شعاع حتى ترتفع ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في ليلة القدر].

بعد ما ذكر ما يتعلق بقيام رمضان ومنه ليلة القدر أخرجها في باب خاص لعظم شأنها، ولما ورد فيها من النصوص، وقد جاءت نصوص تتعلق بها، فأورد جملة من النصوص في هذا الباب.

وليلة القدر جاء عظم شأنها في القرآن الكريم، وأنزل الله فيها سورة تتلى في كتاب الله عز وجل فقال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:1-5]، وهي ليلة مباركة التي قال الله عز وجل: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3].

أورد أبو داود حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الذي فيه أنها في رمضان، وأنها ليلة (27) من الشهر، وبين رضي الله عنه العلامة التي أرشدهم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن الشمس في صبيحتها لا شعاع لها.

قوله: [ عن زر أنه قال: قلت لـأبي بن كعب : أخبرني عن ليلة القدر يا أبا المنذر ، فإن صاحبنا سئل عنها فقال: من يقم الحول يصبها ].

قال زر بن حبيش رحمة الله عليه لـأبي بن كعب : يا أبا المنذر ! أخبرني عن ليلة القدر، فإن صاحبنا -أي: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- سئل عنها فقال: من يقم الحول يصبها. يعني: من يكون مواصلاً على قيام الليل في جميع أيام السنة فإنه يوافقها ويصيبها؛ لأنها في السنة، فقال أبي رضي الله عنه: رحم الله أبا عبد الرحمن كره أن يعرفوها ويتكلوا عليها ويتركوا العمل في غيرها، فأراد أن يكون عملهم في طول السنة، وفي جميع الليالي؛ لأن العمل الدائم والمستمر فيه الخير الكثير، وفيه موافقة هذه الليلة المباركة.

لكن الأمر الذي لا شك فيه أنها في رمضان وفي العشر الأواخر منه، ولهذا أخبر أبي رضي الله عنه بعدما ترحم على أبي عبد الرحمن وبين أن السبب الذي جعله يقول هذا الكلام، هو: جعل الناس يجتهدون في العبادة طول العام، وفي جميع ليالي السنة، وكل يصلي لنفسه، ولذلك يوافق ليلة القدر، وقال: إن أبا عبد الرحمن يعلم أنها في رمضان.

[ والله لقد علم أنها في رمضان، ولكن كره أن يتكلوا أو أحب ألا يتكلوا ]. شك من الراوي.

يقول أبي : إن عبد الله بن مسعود يعلم أنها في رمضان، ولكن ما الذي دفعه إلى أن قال: من يقم السنة يدركها؟ هذا كلام صحيح، فهو لم يقل: إنها تكون في جميع أيام السنة ومنها رمضان ومنها العشر الأواخر، فمن تحصل منه المداومة على العمل في جميع الليالي فإنه لا بد وأن يدركها، يحصلها، يمر عليها.

(ولكن كره أن يتكلوا) معناه: أنهم ربما يتكاسلوا ولا يشتغلوا في جميع الليالي، وإذا جاءت تلك الليلة اجتهدوا فيها وتركوا ما سواها، ولعل هذا هو السر الذي من أجله لم يأت تحديدها بليلة معينة من العشر الأواخر، لكنها في جميع العشر الأواخر، والإنسان إذا اجتهد في العشر الأواخر فإنه يحصلها.

قوله: [ والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني ].

يقول ذلك أبي ولا يستثني، يعني: لا يقول: إن شاء الله، والاستثناء هو قول: إن شاء الله في اليمين، يعني: أنه متحقق من أنها في ليلة سبع وعشرين.

قوله: [ قلت: يا أبا المنذر ! أنّى علمت ذلك؟ قال: بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لـزر : ما الآية؟ قال: تصبح الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها شعاع حتى ترتفع ].

فسئل أبي رضي الله عنه عن الآية أو العلامة التي يستدل بها عليها، فقال: تكون الشمس في صبيحتها كالطست لا شعاع لها، معناه: أنه يمكن رؤيتها كلها ليس فيها الشعاع الذي ينبعث منها، وإنما تكون ظاهرة بارزة للناس، فلا يكون هناك الشعاع الذي يسترسل منها، ويمتد منها كالخيوط، وإنما تكون كالطست مستديرة ترى جميع أطرافها وأجزائها دون أن يكون هناك شعاع يمنع من رؤية هيئتها وشكلها.

ولعله عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم العلامة وجربها، أو نظر في الليالي فوجدها كذلك، ولهذا فإن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، ولا شك أنها أرجى الليالي وأقربها، ولكن لا يقطع بذلك؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نصوص عديدة تدل على ليالي أخرى، وقد وقعت في زمنه صلى الله عليه وسلم في ليلة واحد وعشرين، ولهذا يظهر والله أعلم أنها ليست ثابتة مستقرة في ليلة في جميع السنين؛ لأنها حصلت فعلاً في ليلة واحد وعشرين في زمنه صلى الله عليه وسلم، وجاءت نصوص أخرى عنه: (التمسوها في السبع الأواخر) والسبع الأواخر ليست فيها ليلة واحد وعشرين، ومعنى هذا: أن ليلة القدر تكون في سبع وعشرين لكن لا يقطع بذلك ولا يجزم به.

ويمكن أن تكون في الأشفاع والأوتار؛ ففي بعض الأحاديث أنها تكون في التسع الباقية، إذا ذهبت ليلة واحد وعشرين جاءت ليلة اثنين وعشرين وهي شفع، فهي تكون في العشر الأواخر ولكنها تكون في الأوتار أرجى، وفي ليلة سبع وعشرين أرجى من غيرها.

تراجم رجال إسناد حديث: (... والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني...)

قوله: [ حدثنا سليمان بن حرب ].

سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ومسدد ].

مسدد ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ المعنى قالا: حدثنا حماد بن زيد ].

هو حماد بن زيد بن درهم ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عاصم ].

هو عاصم بن بهدلة ابن أبي النجود ، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ عن زر ].

هو زر بن حبيش ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي بن كعب ].

أبي بن كعب رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث: (... أو القابلة يريد ليلة ثلاث وعشرين)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن محمد بن مسلم الزهري عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس ، عن أبيه رضي الله عنه قال: (كنت في مجلس بني سلمة وأنا أصغرهم، فقالوا: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان، فخرجت فوافيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب، ثم قمت بباب بيته فمر بي، فقال: ادخل، فدخلت، فأوتي بعشائه فرآني أكف عنه من قلته، فلما فرغ قال: ناولني نعلي، فقام وقمت معه، فقال: كأن لك حاجة، قلت: أجل، أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر، فقال: كم الليلة؟ فقلت: اثنتان وعشرون، قال: هي الليلة، ثم رجع فقال: أو القابلة. يريد ليلة ثلاث وعشرين) ].

أورد أبو داود حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه: أن بني سلمة اجتمعوا وهو معهم وهو أصغرهم، فقالوا: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فذهب إليه ووقف عند بابه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادخل، فطلب العشاء وأوتي به، ورآه يكف عن الأكل لقلته -الذي هو للنبي صلى الله عليه وسلم- ثم قال له: ناولني نعلي، فناوله إياهما وخرج، قال: كأن لك حاجة، قال: نعم، أرسلني رهط من بني سلمة يسألون عن ليلة القدر، فقال: أي ليلة هذه؟ فقال: اثنتان وعشرون، وكان ذلك في يوم واحد وعشرين أو في المغرب ليلة اثنين وعشرين، فقال: هي هذه الليلة، ثم قال: أو التي بعدها. يعني: ليلة ثلاث وعشرين، فهذا الحديث يدل على أن ليلة القدر تكون إما في ليلة اثنان وعشرون وإما في ثلاث وعشرون تتحرى في هذه الليالي.

تراجم رجال إسناد حديث: (... أو القابلة يريد ليلة ثلاث وعشرين)

قوله: [ حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي ].

أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي صدوق، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي .

[ حدثنا أبي ].

وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ حدثنا إبراهيم بن طهمان ].

إبراهيم بن طهمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عباد بن إسحاق ].

عباد بن إسحاق هو عبد الرحمن بن إسحاق يقال له: عباد وهو صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

(عن محمد بن مسلم الزهري ].

محمد بن مسلم الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس ].

ضمرة بن عبد الله بن أنيس مقبول، أخرج حديثه أبو داود والنسائي .

[ عن عبد الله بن أنيس ].

عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

يقول في الذخائر: نسبه إلى أبي داود فقط، ونسبه المنذري إلى للنسائي أيضاً، وجاءت زيادة عند المنذري يقول: قال أبو داود : هذا حديث غريب، ويروى عنه أنه قال: لم يرو الزهري عن ضمرة غير هذا الحديث.

شرح حديث عبد الله بن أنيس: (... انزل ليلة ثلاث وعشرين)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير أخبرنا محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن إبراهيم عن ابن عبد الله بن أنيس الجهني عن أبيه رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إن لي بادية أكون فيها وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد؟ فقال: انزل ليلة ثلاث وعشرين، فقلت لابنه: كيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر، فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلي الصبح، فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها فلحق بباديته).

يمكن أن يكون المقصود بـ: (لحاجة) يعني: من الحاجات غير الضرورية، أما الحاجات الضرورية فلابد من الخروج لها، كأن يقضي حاجته، ولكن المقصود الحاجة التي يستغنى عنها أو يمكن تأخيرها، أو الصبر عنها.

أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وفيه: أنه كان ببادية، وأنه كان يصلي بحمد لله، ويريد ليلة من ليالي رمضان أن ينزل يصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له: (انزل ليلة ثلاث وعشرين)، فلما كانت الليلة جاء فدخل بعد عصر اثنين وعشرين، ولم يخرج إلا صبيحة ثلاث وعشرين، وهذا فيه دلالة على أن هذه الليلة هي من الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر.

تراجم رجال إسناد حديث (.. انزل ليلة ثلاث وعشرين..)

قوله: [ حدثنا أحمد بن يونس ].

أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا زهير ].

هو زهير بن معاوية ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا محمد بن إسحاق ].

هو محمد بن إسحاق المدني ، صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ حدثنا محمد بن إبراهيم ].

هو محمد بن إبراهيم التيمي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عبد الله بن أنيس الجهني عن أبيه].

ابن عبد الله هو ضمرة الذي مر في الإسناد السابق، وقد مر ذكرهما.

شرح حديث: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب أخبرنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى، وفي سابعة تبقى، وفي خامسة تبقى).

أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى..)، يعني: ليلة اثنين وعشرين تاسعة؛ لأنه إذا مضى واحد وعشرون بقي تسع، تصير اثنين وعشرين.

(في خامسة تبقى).

أي: ليلة خمس وعشرين، وهذا على احتمال التمام للشهر، يعني: على أن الشهر تام تكون ليلة اثنين وعشرين هي التاسعة، وعلى احتمال أن الشهر تسع وعشرون فليلة واحد وعشرين هي التاسعة.

(في سابعة تبقى).

ليلة واحد وعشرين وليلة اثنين وعشرين، وكذلك سابعة تبقى تكون ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين.

(في خامسة تبقى).

على اعتبار أن الشهر كامل تكون ليلة خمسة وعشرين، وإذا كان ناقصاً تكون ليلة أربع وعشرين، معناها: تصير هذه الأيام متصلة، واحد وعشرون، اثنان وعشرون، ثلاث وعشرون، أربع وعشرون، خمس وعشرون، كلها محتملة على اعتبار التمام والكمال.

تراجم رجال إسناد حديث: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان...)

قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ].

هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا وهيب ].

هو وهيب بن خالد ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا أيوب ].

هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عكرمة ].

هو عكرمة مولى ابن عباس ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عباس ].

هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ليلة القدر.

حدثنا سليمان بن حرب ومسدد المعنى قالا: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم عن زر قال: قلت لـأبي بن كعب رضي الله عنه: أخبرني عن ليلة القدر يا أبا المنذر ! فإن صاحبنا سئل عنها فقال: من يقم الحول يصبها، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن ، والله لقد علم أنها في رمضان -زاد مسدد : ولكن كره أن يتكلوا، أو أحب ألا يتكلوا، ثم اتفقا- والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني، قلت: يا أبا المنذر ! أنى علمت ذلك؟ قال: بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لـزر : ما الآية؟ قال: تصبح الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها شعاع حتى ترتفع ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في ليلة القدر].

بعد ما ذكر ما يتعلق بقيام رمضان ومنه ليلة القدر أخرجها في باب خاص لعظم شأنها، ولما ورد فيها من النصوص، وقد جاءت نصوص تتعلق بها، فأورد جملة من النصوص في هذا الباب.

وليلة القدر جاء عظم شأنها في القرآن الكريم، وأنزل الله فيها سورة تتلى في كتاب الله عز وجل فقال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:1-5]، وهي ليلة مباركة التي قال الله عز وجل: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3].

أورد أبو داود حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الذي فيه أنها في رمضان، وأنها ليلة (27) من الشهر، وبين رضي الله عنه العلامة التي أرشدهم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن الشمس في صبيحتها لا شعاع لها.

قوله: [ عن زر أنه قال: قلت لـأبي بن كعب : أخبرني عن ليلة القدر يا أبا المنذر ، فإن صاحبنا سئل عنها فقال: من يقم الحول يصبها ].

قال زر بن حبيش رحمة الله عليه لـأبي بن كعب : يا أبا المنذر ! أخبرني عن ليلة القدر، فإن صاحبنا -أي: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- سئل عنها فقال: من يقم الحول يصبها. يعني: من يكون مواصلاً على قيام الليل في جميع أيام السنة فإنه يوافقها ويصيبها؛ لأنها في السنة، فقال أبي رضي الله عنه: رحم الله أبا عبد الرحمن كره أن يعرفوها ويتكلوا عليها ويتركوا العمل في غيرها، فأراد أن يكون عملهم في طول السنة، وفي جميع الليالي؛ لأن العمل الدائم والمستمر فيه الخير الكثير، وفيه موافقة هذه الليلة المباركة.

لكن الأمر الذي لا شك فيه أنها في رمضان وفي العشر الأواخر منه، ولهذا أخبر أبي رضي الله عنه بعدما ترحم على أبي عبد الرحمن وبين أن السبب الذي جعله يقول هذا الكلام، هو: جعل الناس يجتهدون في العبادة طول العام، وفي جميع ليالي السنة، وكل يصلي لنفسه، ولذلك يوافق ليلة القدر، وقال: إن أبا عبد الرحمن يعلم أنها في رمضان.

[ والله لقد علم أنها في رمضان، ولكن كره أن يتكلوا أو أحب ألا يتكلوا ]. شك من الراوي.

يقول أبي : إن عبد الله بن مسعود يعلم أنها في رمضان، ولكن ما الذي دفعه إلى أن قال: من يقم السنة يدركها؟ هذا كلام صحيح، فهو لم يقل: إنها تكون في جميع أيام السنة ومنها رمضان ومنها العشر الأواخر، فمن تحصل منه المداومة على العمل في جميع الليالي فإنه لا بد وأن يدركها، يحصلها، يمر عليها.

(ولكن كره أن يتكلوا) معناه: أنهم ربما يتكاسلوا ولا يشتغلوا في جميع الليالي، وإذا جاءت تلك الليلة اجتهدوا فيها وتركوا ما سواها، ولعل هذا هو السر الذي من أجله لم يأت تحديدها بليلة معينة من العشر الأواخر، لكنها في جميع العشر الأواخر، والإنسان إذا اجتهد في العشر الأواخر فإنه يحصلها.

قوله: [ والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني ].

يقول ذلك أبي ولا يستثني، يعني: لا يقول: إن شاء الله، والاستثناء هو قول: إن شاء الله في اليمين، يعني: أنه متحقق من أنها في ليلة سبع وعشرين.

قوله: [ قلت: يا أبا المنذر ! أنّى علمت ذلك؟ قال: بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لـزر : ما الآية؟ قال: تصبح الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها شعاع حتى ترتفع ].

فسئل أبي رضي الله عنه عن الآية أو العلامة التي يستدل بها عليها، فقال: تكون الشمس في صبيحتها كالطست لا شعاع لها، معناه: أنه يمكن رؤيتها كلها ليس فيها الشعاع الذي ينبعث منها، وإنما تكون ظاهرة بارزة للناس، فلا يكون هناك الشعاع الذي يسترسل منها، ويمتد منها كالخيوط، وإنما تكون كالطست مستديرة ترى جميع أطرافها وأجزائها دون أن يكون هناك شعاع يمنع من رؤية هيئتها وشكلها.

ولعله عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم العلامة وجربها، أو نظر في الليالي فوجدها كذلك، ولهذا فإن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، ولا شك أنها أرجى الليالي وأقربها، ولكن لا يقطع بذلك؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نصوص عديدة تدل على ليالي أخرى، وقد وقعت في زمنه صلى الله عليه وسلم في ليلة واحد وعشرين، ولهذا يظهر والله أعلم أنها ليست ثابتة مستقرة في ليلة في جميع السنين؛ لأنها حصلت فعلاً في ليلة واحد وعشرين في زمنه صلى الله عليه وسلم، وجاءت نصوص أخرى عنه: (التمسوها في السبع الأواخر) والسبع الأواخر ليست فيها ليلة واحد وعشرين، ومعنى هذا: أن ليلة القدر تكون في سبع وعشرين لكن لا يقطع بذلك ولا يجزم به.

ويمكن أن تكون في الأشفاع والأوتار؛ ففي بعض الأحاديث أنها تكون في التسع الباقية، إذا ذهبت ليلة واحد وعشرين جاءت ليلة اثنين وعشرين وهي شفع، فهي تكون في العشر الأواخر ولكنها تكون في الأوتار أرجى، وفي ليلة سبع وعشرين أرجى من غيرها.

قوله: [ حدثنا سليمان بن حرب ].

سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ومسدد ].

مسدد ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ المعنى قالا: حدثنا حماد بن زيد ].

هو حماد بن زيد بن درهم ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عاصم ].

هو عاصم بن بهدلة ابن أبي النجود ، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

[ عن زر ].

هو زر بن حبيش ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي بن كعب ].

أبي بن كعب رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن محمد بن مسلم الزهري عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس ، عن أبيه رضي الله عنه قال: (كنت في مجلس بني سلمة وأنا أصغرهم، فقالوا: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان، فخرجت فوافيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب، ثم قمت بباب بيته فمر بي، فقال: ادخل، فدخلت، فأوتي بعشائه فرآني أكف عنه من قلته، فلما فرغ قال: ناولني نعلي، فقام وقمت معه، فقال: كأن لك حاجة، قلت: أجل، أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر، فقال: كم الليلة؟ فقلت: اثنتان وعشرون، قال: هي الليلة، ثم رجع فقال: أو القابلة. يريد ليلة ثلاث وعشرين) ].

أورد أبو داود حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه: أن بني سلمة اجتمعوا وهو معهم وهو أصغرهم، فقالوا: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فذهب إليه ووقف عند بابه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادخل، فطلب العشاء وأوتي به، ورآه يكف عن الأكل لقلته -الذي هو للنبي صلى الله عليه وسلم- ثم قال له: ناولني نعلي، فناوله إياهما وخرج، قال: كأن لك حاجة، قال: نعم، أرسلني رهط من بني سلمة يسألون عن ليلة القدر، فقال: أي ليلة هذه؟ فقال: اثنتان وعشرون، وكان ذلك في يوم واحد وعشرين أو في المغرب ليلة اثنين وعشرين، فقال: هي هذه الليلة، ثم قال: أو التي بعدها. يعني: ليلة ثلاث وعشرين، فهذا الحديث يدل على أن ليلة القدر تكون إما في ليلة اثنان وعشرون وإما في ثلاث وعشرون تتحرى في هذه الليالي.

قوله: [ حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي ].

أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي صدوق، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي .

[ حدثنا أبي ].

وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ حدثنا إبراهيم بن طهمان ].

إبراهيم بن طهمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عباد بن إسحاق ].

عباد بن إسحاق هو عبد الرحمن بن إسحاق يقال له: عباد وهو صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

(عن محمد بن مسلم الزهري ].

محمد بن مسلم الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس ].

ضمرة بن عبد الله بن أنيس مقبول، أخرج حديثه أبو داود والنسائي .

[ عن عبد الله بن أنيس ].

عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

يقول في الذخائر: نسبه إلى أبي داود فقط، ونسبه المنذري إلى للنسائي أيضاً، وجاءت زيادة عند المنذري يقول: قال أبو داود : هذا حديث غريب، ويروى عنه أنه قال: لم يرو الزهري عن ضمرة غير هذا الحديث.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير أخبرنا محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن إبراهيم عن ابن عبد الله بن أنيس الجهني عن أبيه رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إن لي بادية أكون فيها وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد؟ فقال: انزل ليلة ثلاث وعشرين، فقلت لابنه: كيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر، فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلي الصبح، فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها فلحق بباديته).

يمكن أن يكون المقصود بـ: (لحاجة) يعني: من الحاجات غير الضرورية، أما الحاجات الضرورية فلابد من الخروج لها، كأن يقضي حاجته، ولكن المقصود الحاجة التي يستغنى عنها أو يمكن تأخيرها، أو الصبر عنها.

أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وفيه: أنه كان ببادية، وأنه كان يصلي بحمد لله، ويريد ليلة من ليالي رمضان أن ينزل يصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له: (انزل ليلة ثلاث وعشرين)، فلما كانت الليلة جاء فدخل بعد عصر اثنين وعشرين، ولم يخرج إلا صبيحة ثلاث وعشرين، وهذا فيه دلالة على أن هذه الليلة هي من الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر.

قوله: [ حدثنا أحمد بن يونس ].

أحمد بن يونس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا زهير ].

هو زهير بن معاوية ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا محمد بن إسحاق ].

هو محمد بن إسحاق المدني ، صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ حدثنا محمد بن إبراهيم ].

هو محمد بن إبراهيم التيمي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عبد الله بن أنيس الجهني عن أبيه].

ابن عبد الله هو ضمرة الذي مر في الإسناد السابق، وقد مر ذكرهما.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2893 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2844 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2838 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2734 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2707 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2697 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2688 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2680 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2657 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2652 استماع