شرح سنن أبي داود [113]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: في الدعاء في الركوع والسجود.

حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح ومحمد بن سلمة قالوا: حدثنا ابن وهب أخبرنا عمرو -يعني: ابن الحارث - عن عمارة بن غزية عن سمي مولى أبي بكر أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء) ].

أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: باب في الدعاء في الركوع والسجود.

الدعاء: هو طلب الشيء من الله وسؤال الله الأشياء، كسؤاله المغفرة، وسؤاله من خيري الدنيا والآخرة، فهذا أجل دعاء، وهناك أدعية وأذكار، فالأذكار هي التي فيها ثناء على الله عز وجل وتعظيم وتمجيد لله، وقد سبق أن مر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: (سبح الله وهلله وكبره، قال: هذه لربي فما لي؟ قال: قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني) فهذا فيه ذكر ودعاء، فهو شيء لله وشيء للعبد، ولهذا جاء في الحديث القدسي يقول الله عز وجل: (قسمت الصلاة -أي: قراءة الفاتحة- بيني وبين عبدي نصفين) فنصفها لله عز وجل وهو ثناء وتعظيم لله عز وجل، ونصفها للعبد وهي مطالب قال عز وجل: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:1-5] هذه لله وقوله عز وجل: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:5-7] هذه مطالب للعبد، ولهذا يقول فيها: (ولعبدي ما سأل) أي: أنها سؤال وطلب، فكونه يقول: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فهذا طلب للعون من الله، وكونه يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] يعني: يطلب الهداية، فالدعاء سؤال، أما الذكر فهو ثناء وتعظيم لله سبحانه وتعالى.

إذاً: هذه الترجمة التي ذكرها أبو داود هنا تتعلق بالدعاء والسؤال، وأما الترجمة السابقة فكلها في بيان ما يقوله في ركوعه وسجوده من الذكر الذي فيه التعظيم والثناء لله عز وجل.

أورد أبو داود حديث أبي هريرة : (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) وهذا فيه بيان أن حالة السجود هي أخص أحوال العبد، وأقرب ما يكون فيها صلة بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه في غاية الخضوع والذلة لله سبحانه وتعالى، فيكون بذلك مخبتاً راجياً سائلاً؛ لأنه في حالة غاية التذلل لله سبحانه وتعالى؛ لأنه يضع أشرف شيء فيه وهو وجهه -جبهته وأنفه- على الأرض؛ خضوعاً لله وذلاً له سبحانه وتعالى، فيكون عند ذلك مأموراً بأن يكثر من الدعاء؛ لأن هذا أقرب أحوال العبد صلة بربه، وأرجى ما يكون في الدعاء أن يكون ساجداً مخبتاً لله سبحانه وتعالى، وقد صار على هذه الهيئة التي هي الخضوع والذل لله سبحانه وتعالى، ويكون فيها أغلب أعضائه أو أكثر جسمه على الأرض، بخلاف الأحوال الأخرى فهو إما قائم أو راكع أو جالس، ولكن حالة السجود أكثره على الأرض وأشرف شيء فيه على الأرض، ولهذا في السجود القدمان والركبتان واليدان والوجه كل ذلك موضوع على الأرض، والإنسان مأمور بأن يسجد على هذه الأعضاء، ولهذا قيل لأماكن الصلاة: مساجد، ما قيل لها: مراكع، ولا مواقف، ولا مجالس نسبة للجلوس بين السجدتين أو الجلوس في التشهد أو الركوع أو القيام في الصلاة وبعد الركوع، وإنما قيل: لمواضع الصلاة مساجد؛ لأن هذه هي الهيئة التي يكون فيها أكثر أعضاء جسم الإنسان متمكناً من الأرض.

وقد سبق أن مر: (أنه كان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى) يعني: كون الإنسان في غاية التذلل والخضوع، ويأتي بهذا الوصف المناسب لعلو وعظمة الله عز وجل، وأنه العلي الأعلى سبحانه وتعالى، فهذا دليل على أن السجود يكثر فيه من الدعاء، ويمكن أن يطول ويأتي بالأدعية الكثيرة المتنوعة، وقد جاء أيضاً في الحديث الذي سيأتي: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم).

تراجم رجال إسناد حديث (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء)

قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح ].

أحمد بن صالح مر ذكره، وأحمد بن عمرو بن السرح هو المصري أيضاً وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ ومحمد بن سلمة ].

هو محمد بن سلمة المرادي المصري أيضاً وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

و محمد بن سلمة المرادي هو من شيوخ أبي داود ، وهناك شخص بجانب محمد بن سلمة لم يدركه أبو داود ، بل هو من طبقة شيوخ شيوخه، فإذا جاء محمد بن سلمة في شيوخه فالمراد به المصري، وإذا جاء في طبقة شيوخ شيوخه فالمراد به الحراني الباهلي ؛ لأنه كثيراً ما يأتي بدون نسبة فيقال: محمد بن سلمة.

[ قالوا: حدثنا ابن وهب أخبرنا عمرو -يعني ابن الحارث - ].

ابن وهب مر ذكره، وعمرو بن الحارث هو المصري أيضاً، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمارة بن غزية ].

عمارة بن غزية، لا بأس به، وهذه الكلمة بمعنى: صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن سمي مولى أبي بكر ].

هو سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

ذكر أسباب الولاء وأنواعه

إن من أنواع علوم الحديث معرفة المولى، وهو يكون من أسفل ومن أعلى؛ لأنه يقال للسيد: مولى، وهو المولى من أعلى، ويقال للعبد: مولى، أو العتيق مولى وهو المولى من أسفل، كما أن الولاء يكون بسبب العتق، وبسبب الإسلام، وبسبب الحلف، فقد يكون مولاهم بسبب الحلف، وقد يكون مولاهم بسبب العتق، وقد يكون مولاهم بسبب الإسلام على يديه، كما قيل عن البخاري : الجعفي نسبة إلى الجعفيين؛ لأن أحد أجداده أسلم على يد واحد من الجعفيين، فصار النسب بالولاء للجعفيين.

و أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام هو أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم.

أما ولاء الحلف فهو: كون قبيلة تحالف قبيلة أخرى، فينسب الشخص إليها ولاءً؛ لأنه ليس منها، ولهذا إذا كان الشخص من القبيلة يقولون: من أنفسهم، مثل ما يقولون في ترجمة مسلم بن الحجاج : مسلم بن الحجاج القشيري من أنفسهم، يعني: أن أصله منهم، ونسبته إليهم نسبة نسب، وليست نسبة ولاء، لكن الجعفي مولاهم، قد يكون مولى بسبب الإسلام، أي: أنه أسلم على يد إنسان منهم، أو مولاهم بسبب العتق، أو مولاهم بسبب المحالفة، كون قبيلة تدخل مع قبيلة في الحلف، فينسب أفرادها إلى تلك القبيلة، لا أنهم من أصلها ولكنهم محالفون لها.

تابع تراجم رجال إسناد حديث (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء)

قوله: [ أنه سمع أبا صالح ذكوان ].

وهنا جمع بين اسمه وكنيته، وهو يأتي كثيراً بذكر كنيته، وقد يؤتى بنسبته، وهو السمان أو الزيات ؛ لأنه كان يجلب الزيت والسمن فلقب بـالسمان والزيات .

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.

شرح حديث (...فأما الركوع فعظموا الرب فيه وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد قال حدثنا سفيان عن سليمان بن سحيم عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه فقال: أيها الناس! إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وإني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا الرب فيه، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم) ].

أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر) يعني: في مرض موته صلى الله عليه وسلم، والستارة: هي التي تكون على الباب، ولهذا لا بأس أن يكون على الأبواب ستار بحيث إذا فتح الباب تمنع من أن يُرى ما كان في الداخل، وكذلك الشبابيك لا بأس أن يكون عليها ستائر حتى إذا فتح الشباك فهناك ستارة تمنع من الرؤية إلى الداخل، وهذا يدل على أن اتخاذ الستائر على الأبواب والشبابيك لا بأس بها؛ لأن لها حاجة، ولكن الذي لا حاجة له والذي لا يصلح ولا ينبغي هو ستر الجدران، وذلك بأن يوضع عليها ستائر؛ فهذه زيادة لا حاجة إليها، وهو صرف للمال في غير حاجة إليه، وأما كونه يضع الستائر على الشبابيك والأبواب فلا بأس بذلك.

إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وهو يصلي بالناس في مرض موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤية الصالحة يراها المسلم أو ترى له).

مبشرات النبوة هي التي يحصل البدء بها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ومن المعلوم أن الرؤيا بالنسبة للأنبياء يحصل فيها إخبار عن أمور مغيبة، وهي وحي؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وغيرهم رؤاهم ليست وحياً، ولكن الرؤيا يمكن أن يستدل بها على أمر مستقبل، أو يتوقع أن يحصل أمر مستقبل، فهي تدل عليه، والمستقبل من أمور الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن قد يعرف عن طريق الرؤيا حصول شيء يحصل في المستقبل بسبب الرؤيا، وعندما تقع الرؤيا تكون مطابقة للشيء الذي يحصل في المستقبل، مثل: قصة صاحبي يوسف في السجن، فإن كل واحد منهما رأى رؤيا، وقصها وهي كلها تخبر عن أمر مستقبل أو ترشد إلى أمر مستقبل، وكان تأويل هذه الرؤيا طبقاً للشيء الذي رؤي، فأحدهما رأى أنه يعصر خمراً، وكان تعبيرها أنه يعصر خمراً، فالرؤيا منها ما يأتي تأويلها مطابقاً للشيء الذي رآه في المنام، وقد تكون الرؤيا على سبيل ضرب المثال لا تطابق الذي يراه في المنام، وهي رؤيا الشخص الثاني الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه، فهذا لم يحمل خبزاً حقيقة، ولكنه صلب وقطع رأسه، ثم أتت الطير وأكلت من رأسه، فكلها إخبار عن أمر مستقبل.

قوله: [ (يراها المسلم أو ترى له) ] يعني: يكون فيها إشارة إلى شيء يحصل في المستقبل، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، وعن طريق الوحي يمكن أن يعرف شيئاً من الغيب، مثل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن أمور كثيرة تقع في المستقبل، ومنها ما قد وقع، ومنها ما لم يقع.

قوله: [ (يراها المسلم أو ترى له) ].

يعني: يراها المسلم نفسه، فيرى أنه يحصل له كذا وكذا، أو شخص آخر من الناس يراها له، كأن يقول: إن فلاناً حصل له كذا.

والرؤيا قد تكون أضغاث أحلام؛ لأنه ليس كل ما يجري في المنام يقال له: رؤيا، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد صلاة الفجر مباشرة يسأل أصحابه يقول: (من رأى منكم رؤيا يقصها؟) فإذا رأى شخص رؤيا وقصها مباشرة لم تكن ذهب منها شيء، ففي مرة من المرات أخبر صلى الله عليه وسلم عن رؤيا طويلة رآها، كما في حديث عبد الرحمن بن سمرة الطويل في رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم.

أيضاً: إذا كانت الرؤيا طيبة فإنه يخبر بها، وإذا كانت غير ذلك فلا يخبر بها أحداً؛ لأنه قد يترتب عليها فتنة أو مضرة أو ما إلى ذلك.

والرؤيا الصالحة إذا استبشر بها العبد وفرح فليس عليه من حرج، لكن لا ينبغي للناس أن يهتموا بالرؤى وأن يحرصوا عليها، وأن يكون الإنسان فقط مشغولاً يحب أن يرى رؤيا أو كذا إلى آخره، لا، الرؤيا تأتي دون قصد، وأحياناً قد يشغل الإنسان نفسه في شيء ثم يراه في المنام؛ بسبب أنه مشغول به دائماً وأبداً.

قوله: [ (وإني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً) ].

الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال: (نهيت)، فالناهي له هو الله عز وجل، وإذا قال: (أمرت)، فالآمر له هو الله عز وجل، بخلاف الصحابة إذا قالوا: أمرنا أو نهينا فإن الآمر لهم والناهي لهم هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأمره ونهيه إنما هو من عند الله كما قال الله عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، لكن هم يسندون الخبر إلى من علمهم وأرشدهم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يسند ذلك إلى من أمره ونهاه، وهو الله عز وجل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأمره وينهاه هو الله، والصحابة الذي يأمرهم وينهاهم هو الرسول صلى الله عليه وسلم.

والسنة هي من الله عز وجل، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة تدل على هذا، ومنها: حديث أنس الطويل في قضية فريضة الصدقة التي فرضها الله، فذكر فيه زكاة الأنعام وغيرها بالتفصيل، ثم قال: فرضها الله، مع أنها ليست في الكتاب وإنما هي في السنة، وهذا يدل على أنها وحي من الله عز وجل، الله تعالى هو الذي فرضها وأوحى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحديث الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الشهيد وأنه يغفر له، ثم قال بعد ذلك: (إلا الدين فإنه سارني به جبريل آنفاً) يعني: هذا الاستثناء وحي.

قوله: [ (فأما الركوع فعظموا الرب فيه) ].

أي: أكثروا من الثناء على الله عز وجل والتعظيم، لكن لا مانع أن يدعى فيه؛ لأنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي)، وهو دعاء بالإضافة إلى كونه ذكر وثناء.

قوله: [ (وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: حري وجدير أن يستجاب لكم، وفيه من الإكثار من الدعاء مثل الذي مر في الحديث الأول الذي قال فيه: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء).

وهذا الحديث كون الرسول صلى الله عليه وسلم قاله في آخر حياته وفي مرضه فيه دليل على أن الرؤيا من مبشرات النبوة، وهي التي تبقى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بحيث إذا كانت الرؤيا صادقة فقد يحصل ويتحقق ما رؤي فيها.

وقوله: [ (وإني نهيت) ].

يحتمل أن يكون في المنام، ويحتمل أن يكون في غيره؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، لكن لا يقال جزماً: إن هذا النهي إنما حصل في المنام، يمكن أن يكون في المنام ويمكن أن يكون في غيره من أنواع الوحي أو الكيفيات التي يحصل بها الوحي.

أما مسألة الاقتران بين الجمل بين قوله: [ (لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له) ] وبين قوله: [ (وإني نهيت أن أقرأ) ] فهذا إخبار عن عدة أشياء قالها صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة، فيحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الرؤيا وإلى أنه يحصل منها كذا وكذا، لاسيما وكونه في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأن هذا هو الذي سيبقى، وأن معرفة الأمور المغيبة أو الإرشاد إلى الأمور المغيبة لا يكون إلا عن طريق هذا الشيء، أما عن طريق الكهان أو ما إلى ذلك من الأشياء غير الصحيحة، والأمور المحرمة فهذا ليس من الأمور التي يمكن أن يعرف بها أمر مستقبل، وإنما عن طريق هذه الرؤيا التي هي من مبشرات النبوة، التي كانت أول ما بدأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

تراجم رجال إسناد حديث (...فأما الركوع فعظموا الرب فيه وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء...)

قوله: [ حدثنا مسدد ].

مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ حدثنا سفيان ].

سفيان بن عيينة المكي وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن سليمان بن سحيم ].

سليمان بن سحيم صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد ].

إبراهيم بن عبد الله بن معبد صدوق، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ عن أبيه ].

وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ عن ابن عباس ].

ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد مر ذكره.

حكم مخاطبة المصلي أثناء صلاته

قوله: [ (إن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستار والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: أيها الناس!) ] يحتمل أن يكونوا قد دخلوا في الصلاة أو أنهم لا زالوا يتهيئون للصلاة.

ويجوز مخاطبة المصلي إذا كان لحاجة، مثل: حديث عائشة عندما كسف الشمس وكان الناس يصلون، فسئلت وهي في الصلاة فأشارت أنها آية، يعني: أن هذه صلاة الكسوف، فيمكن عند الحاجة أنه يخاطب المصلي ويسلم عليه ولكن يرد بالإشارة.

حكم الدعاء في الركوع والسجود بما ورد في القرآن من الأدعية والدعاء بغير العربية

قوله: [ (وإني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً)] يستثنى من ذلك الدعاء في السجود بما ورد في القرآن مثل: قوله عز وجل: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] وقوله: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا [الممتحنة:5].

وقد ورد عن الإمام أحمد أنه كان يعجبه الدعاء بما ورد في القرآن، مثل: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

فينبغي للإنسان أن يتعلم الأدعية الشرعية التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان لم يتمكن فله أن يدعو بلهجته ولسانه، والله عز وجل لا تختلف عليه الألسنة، بل هو عالم بكل شيء ومحيط بكل شيء سبحانه وتعالى، لكن عليه أن يتعلم الأشياء التي لابد منها في الصلاة.

شرح حديث (كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن) ].

أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن) وجاء أنه كان يقول ذلك بعد ما أنزلت عليه سورة النصر، ما صلى صلاة إلا قال في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن) أي: ينفذ ما أمر به في القرآن؛ لأن قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر:3] تنفيذه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، وقوله: (اللهم اغفر لي) تنفيذ لقوله: وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3].

ولهذا يأتي التأويل بمعنى التنفيذ، وبمعنى حقيقة الشيء.

وهذا الحديث يدل على أن الركوع يجمع فيه بين الذكر والدعاء، وكذلك السجود، ولكن كون النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأما الركوع فعظموا الرب فيه، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء) فينبغي أن يكون الغالب في السجود أدعية، وغالب ما يكون في الركوع أذكار وتعظيم وثناء لله سبحانه وتعالى.

وقوله: [ (يتأول القرآن) ] المقصود به سورة النصر وما فيها من أوامر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتسبيح والاستغفار، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينفذ هذا، فهو ما صلى صلاة منذ أن أنزلت عليه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] إلا قال في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن) وهذا هو معنى قول عائشة رضي الله عنها في الحديث الآخر: (كان خلقه القرآن) يعني: يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، ويتأدب بالآداب الموجودة في القرآن، فخلقه مبني على القرآن وتابع للقرآن.

ومعنى قوله: [ (يتأول القرآن) ] فلفظ (القرآن) هنا المراد به إطلاق الكل وإرادة الجزء، يعني: يتأول ما جاء في القرآن من الأمر بالتسبيح والاستغفار.

تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي...)

قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ].

عثمان بن أبي شيبة الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .

[ حدثنا جرير ].

جرير بن عبد الحميد الضبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن منصور ].

منصور بن المعتمر الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي الضحى ].

مسلم بن صبيح وهو ثقة، أخرج له أصحاب الستة.

[ عن مسروق ].

مسروق بن الأجدع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عائشة ].

عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث (أن النبي كان يقول في سجوده اللهم اغفر لي ذنبي كله...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب ح وحدثنا أحمد بن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، زاد ابن السرح : علانيته وسره) ].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو من الأدعية التي كان صلى الله عليه وسلم يدعو بها في سجوده، وأنه كان يقول في سجوده: (اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله).

يعني: صغيره وكبيره؛ لأن (الدق) المقصود به الصغير أو الدقيق، و(الجل) الكبير العظيم.

قوله: [ (وأوله وآخره) ] يعني: أن الاثنين الأولين المتقابلين بالنسبة للصغر والكبر، والآخرين بالنسبة للأول والآخر، يعني: ما كان أولاً وما كان آخراً، والأمر الثالث الذي عند ابن السرح ما كان علانية وسراً، والمقصود به ما كان شيئاً ظاهراً للناس ومشاهداً وشيئاً خفياً لا يطلع عليه إلا الله عز وجل، والله تعالى هو الذي يعلم الغيب والشهادة، وهو الذي يعلم السر والعلانية، ويعلم الخفي والظاهر.

وهذا فيه بيان أن الدعاء يمكن أن يطول فيه وأن يكرر وأن يأتي فيه بالألفاظ المتقاربة؛ لأن المقام في مثل هذا لا بأس به، وإلا فإنه يمكن أن يقول: (اللهم اغفر لي ذنبي كله) ويكون هذا مغنياً عن قوله: دقه وجله وعلانيته وسره وأوله وآخره، لكن ذكر التفاصيل في الأدعية هذا من الأمور المطلوبة.

تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي كان يقول في سجوده اللهم اغفر لي ذنبي كله...)

قوله: [ حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب ح وحدثنا




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2894 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2846 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2839 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2734 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2707 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2698 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2689 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2681 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2658 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2653 استماع