خطب ومحاضرات
شرح سنن أبي داود [060]
الحلقة مفرغة
مقدمة فيما جاء في المواقيت
هذا باب ما جاء في المواقيت، وقد عرفنا أن الله عز وجل جعل مواقيت العبادة أموراً معلومة مشاهدة معاينة يعرفها الخاص والعام، وليست بحاجة إلى حذق وإلى فطنة وإلى دقة وإلى ذكاء، وإنما هي أمور معلومة معروفة مشاهدة للخاص والعام وللحاضر والبادي، يعرف ذلك الحضري في قريته والبدوي في فلاته، وليس فيها خفاء، ومن هذه العبادات الصلوات الخمس، فقد حددت أوقاتها بأمور مشاهدة معاينة، فالظهر إذا زالت الشمس وتحول الظل من جهة الغرب إلى جهة الشرق، فعندما يحصل انكسار الفيء بعد انتصاف النهار يبدأ وقت الظهر إلى أن يكون ظل الشيء مثله، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بتأخير صلاة الظهر إذا اشتد الحر حتى تنكسر حدة الشمس، والعصر يصليها إذا انتهى وقت الظهر بحيث يكون ظل كل شيء مثله، وانتهاء وقت صلاة العصر حين يكون ظل الشيء مثليه، أو ما لم تصفر الشمس، أو كون الشمس حية مرتفعة نقية، وهذا هو الوقت الاختياري الذي للإنسان أن يؤخر إليه، ولكن -كما هو معلوم- ينبغي للإنسان ألا يعرض نفسه لتأخير الصلاة عن وقتها الاختياري؛ لأن تأخيرها إلى قرب الوقت قد يحصل معه الفوات، فعلى الإنسان أن يحتاط لدينه ويأتي بالصلاة في أول وقتها أو بعد ما يمضي شيء من الوقت، لكن لا يكون الوقت قريباً من الانتهاء والانصرام؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والذي يقرب من انتهاء الوقت قد يحصل منه الخروج من الوقت، فالاحتياط للإنسان في دينه أن لا يؤخرها، وأما وقت الاضطرار فإنه من حين اصفرار الشمس إلى الغروب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب فقد أدرك الصلاة) يعني: أدركها مؤداة في وقتها، ما دام أنه أدرك منها مقدار ركعة، وكذلك من أدرك قبل طلوع الشمس ركعة يكون قد أدرك الفجر، أما المغرب فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصليها إذا غربت الشمس وجاء وقت إفطار الصائم، وجاء أن آخر وقتها إذا غاب الشفق أو ما لم يغب الشفق، ويأتي بعدها وقت صلاة العشاء مباشرة من غير فاصل، ويمتد وقتها إلى نصف الليل، وهذا هو الوقت الاختياري، وليس للإنسان أن يؤخرها إلى آخر الوقت بحيث يكون الوقت عرضة للخروج، ولكن ما دام أنه صلاها قبل نصف الليل فإنه يكون بذلك قد أداها، ومن نصف الليل إلى طلوع الفجر يكون الوقت الاضطراري؛ لأن الإنسان إذا نام ولم يستيقظ إلا بعد انتصاف الليل فإنه يصليها، وتكون مؤداة؛ لأنه أداها في الوقت الاضطراري.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة).
وكل الصلوات أوقاتها متصلة بعضها ببعض إما اختياراً وإما اضطراراً إلا الفجر، فإن آخر وقتها طلوع الشمس، والزمن من طلوع الشمس إلى الزوال ليس وقتاً لأي صلاة من الصلوات، ولا للظهر؛ لأن صلاة الظهر لا بد من أن تكون بعد الزوال، وصلاة الفجر لا يجوز أن تؤخر عن طلوع الشمس، ولو أخرت عن طلوع الشمس -سواءٌ أكان ذلك اختياراً أم اضطراراً- فإنها تعتبر مقضية؛ لأنها فعلت في غير وقتها، إلا أن الإنسان إذا صلى بعد طلوع الشمس مضطراً غير مفرط فإنه يكون قد أدى ما عليه قضاءً، ولكنه لا يأثم، أما إذا كان مفرطاً وحصل التأخير عن طلوع الشمس بتفريط منه فإن عليه أن يصلي، ولكنه أثم بكونه قصد التأخير أو أنه وجد منه التفريط الذي حصل بسببه التأخير.
شرح حديث ابن عباس في المواقيت
[ حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة -قال أبو داود : هو عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة - عن حكيم بن حكيم عن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي -يعني المغرب- حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد! هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين) ].
هذه الأوقات التي تؤدى فيها الصلاة، ولا تؤدى قبلها ولا بعدها، إلا إذا كانت قضاءً بحيث يكون الإنسان قد حصل له نوم أو حصل له نسيان، فإنه يصلي الصلاة إذا ذكرها، وإلا فإن الواجب إيقاع الصلاة في أوقاتها، والله عز وجل لما شرع العبادات جعل لها مواقيت واضحة بينة لا تحتاج إلى أن يعرفها أناس مختصون، بل جعلت المواقيت للعبادات من الأمور المشاهدة التي يعرفها الحاضر والبادي؛ لأنها منوطة بطلوع الفجر، وبالزوال، وبكون ظل الشيء مثله أو مثليه، وبغروب الشمس، وبمغيب الشفق.
إذاً: المواقيت ليست من الأمور الدقيقة التي لا يعرفها إلا أناس عندهم حذق وعندهم فطنة، بل كل الناس يعرفونها؛ لأنها أمور مشاهدة ومعاينة.
فالصلوات حددت أوقاتها بأمور مشاهده تحصل في اليوم والليلة، فهي تتعلق بالشمس وبطلوعها وغروبها، وكذلك الشفق الذي يكون وراءها، وبطلوع الفجر، وكذلك بالنسبة لرمضان، فهو شهر يعرف دخوله عن طريق رؤية الهلال في السماء، والصيام يبدأ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس.
والحج كذلك يكون في أوقات معلومة، وتكون مبنية على معرفة الشهر ودخوله، بحيث يكون الوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة ويوم النحر يوم العاشر، والأيام التي بعده شأنها كذلك.
إذاً: المواقيت تعرف عن طريق المشاهدة والمعاينة، وعن طريق رؤية الهلال، والمواقيت أمور مشاهدة يعرفها الخاص والعام والحضري في الحضر والبدوي في الفلاة، فإذا غابت الشمس جاء وقت الإفطار، وإذا طلع الفجر جاء وقت الإمساك وجاء وقت صلاة الفجر، وإذا زالت الشمس جاء وقت الظهر، وإذا كان ظل الشيء مثله انتهى وقت الظهر وبعد ذلك يبدأ وقت العصر، وهكذا.
أول مواقيت الصلوات الخمس
قوله: [ (الصلاة بين هذين الوقت) ] يعني: هذا أول الوقت وهذا آخره، ووقت الصلاة من هذه البداية إلى هذه النهاية.
فجبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في أول الوقت ومرة في آخر الوقت، والصلاة تؤدى بين الوقتين الذين هما بداية الوقت ونهايته، فمن أوله إلى آخره تؤدى بين ذلك.
وكان مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فرضت عليه الصلوات الخمس في السماء، فنزل عليه جبريل وصلى به الظهر في يوم من الأيام حتى جاء الفجر في أول الوقت، وفي اليوم الثاني بدأ بالظهر حتى الفجر في آخر الوقت، وفي هذا بيان أول الوقت وآخر الوقت.
قوله: [ (عند البيت)] المقصود بالبيت الكعبة.
قوله: [ (فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك) ].
الشمس تطلع من جهة الشرق والفيء يكون إلى جهة الغرب، فإذا توسطت واتجهت إلى جهة الغرب بدأ الظل يتجه إلى جهة الشرق، فإذا زالت الشمس عن الرأس وانكسر الفيء بحيث يصير الظل إلى جهة الشرق عند ذلك يبدأ وقت الظهر.
قوله: [ (وكانت قدر الشراك) ] يعني أن ظلها يكون شيئاً يسيراً تحت الجدران مثل سير النعل الذي يكون على ظاهر النعل، وهذا هو أول وقت الظهر.
قوله: [ (وصلى بي العصر حين كان ظله مثله) ].
يعني: عند انتهاء وقت الظهر؛ لأن أول وقت العصر إذا كان ظل الشيء مثله، بحيث تكون الصلاة بعد ذلك، وأما الظهر فيكون قبله، وصلاة العصر متصلة بصلاة الظهر ليس بينهما وقت، فإذا خرج وقت هذه دخل وقت هذه؛ لأنه لا فاصل بينهما، فصلاة الظهر ما لم تحضر العصر، كما جاء في بعض الأحاديث: (ما لم تحضر العصر).
وقوله: [ (حين كان ظل الشيء مثله) ]، ليس معنى ذلك أن وقت صلاة العصر يوافق آخر الظهر، بل إذا انتهى وقت الظهر دخل وقت العصر، لا أن الصلاتين متداخلتان، بحيث تكون هذه تؤدى في وقت هذه، وإنما إذا صار ظل الشيء مثله يكون الإنسان قد انتهى من صلاة الظهر.
قوله: [ (وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم) ].
يعني: عندما غربت الشمس؛ لأن إفطار الصائم يكون عند غروب الشمس.
قوله: [ (وصلى بي العشاء حين غاب الشفق) ].
الشفق هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس، بحيث يأتي الظلام الذي يكون بعد النهار، فإذا جاء ذلك الوقت دخل وقت العشاء.
قوله: [ (وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم) ].
يعني: عند طلوع الفجر؛ لأن طلوع الفجر تدخل به الصلاة ويحرم الأكل والشرب للصائم؛ لأن الأكل والشرب قبل طلوع الفجر جائز، والصلاة لا يؤتى بها قبل طلوع الفجر، وإنما يؤتى بها بعد طلوع الفجر، ومعنى هذا أن طلوع الفجر تحل به صلاة الفجر ويحرم به الأكل والشرب في حق الصائم؛ لأن عليه الإمساك من حين يدخل الوقت حين يوجد انفلاق الصبح الذي هو طلوع الفجر الثاني المعترض في الأفق الذي يستمر شيئاً فشيئاً حتى طلوع الشمس، فعندما يوجد ذلك الوقت يأتي أول وقت صلاة الفجر، وعنده ينتهي الأكل والشرب في حق من يريد الصيام.
إذاً: هذه مواقيت الصلوات التي صلاها في اليوم الأول، ففي اليوم الأول صلى الظهر عند زوال الشمس بعد الزوال حين صار الظل قدر الشراك، والعصر حين صار ظل الشيء مثله، والمغرب حين غربت الشمس، والعشاء حين غاب الشفق، والفجر حين طلع الفجر، هذه هي بداية الأوقات.
آخر مواقيت الصلوات الخمس
يعني: عندما يكون ظل الشيء مثله، بحيث يبدأ وقت العصر، وليس معنى ذلك التداخل بحيث يكون وأن آخر وقت هذه هو أول وقت هذه، بل عندما تنتهي هذه تبدأ هذه.
قوله: [ (وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه) ].
يعني: أن العصر يبدأ من كون الظل مثله إلى كون الظل مثليه.
قوله: [ (وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم) ].
ليس في هذا الموضع ذكر للوقت الثاني؛ لأنه في اليوم الأول صلى حين أفطر الصائم وفي اليوم الثاني صلى حين أفطر الصائم، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن صلاة المغرب ليس لها إلا وقت واحد، وأن وقتها ليس بطويل، ولكن جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن وقت المغرب إلى وقت العشاء، ووقت العشاء إذا غاب الشفق، فدلت الأحاديث الأخرى على أن صلاة المغرب لها وقت له بداية وله نهاية، فبدايته غروب الشمس ونهايته مغيب الشفق وحضور وقت صلاة العشاء، كما سيأتي في بعض الأحاديث الدالة على ذلك.
قوله: [ (وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل) ].
في هذه الرواية ذكر ثلث الليل ولكن جاء في الروايات الأخرى أنها إلى نصف الليل، وسيأتي ذكر بعض الأحاديث الدالة على ذلك، ولعل التفاوت بين الثلث والنصف سببه أن شخصاً قدر بالثلث وشخصاً آخر قد بالنصف، لكن جاءت الروايات المتعددة محددة ذلك بنصف الليل، وهذا هو الوقت الاختياري، ولكن -كما هو معلوم- ينبغي للإنسان أن يحرص على أن يؤدي الصلاة في أول الوقت؛ لأن تأخيرها إلى آخر الوقت قد يؤدي إلى خروجها عن وقتها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والذي يحوم حول آخر الوقت يوشك أن يخرج الوقت وهو لم يصل، فيكون بذلك قد أخرج الصلاة عن وقتها ويكون مفرطاً، ولكنه إذا بادر إلى الصلاة في أول وقتها يكون بذلك قد بادر إلى الشيء الذي كلف به.
قوله: [ (وصلى بي الفجر فأسفر) ].
يعني: صلى حتى حصل الإسفار، وجاء في بعض الأحاديث: أن وقت الفجر ما لم تطلع الشمس، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن تطلع الشمس فليضف إليها أخرى) يعني: ويكون بذلك قد أدى الصلاة في وقتها، فوقت الفجر إلى طلوع الشمس، ولكن ينبغي للإنسان المسلم أن يؤديها بغلس وأن يؤديها في أول وقتها كما جاء ذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لكنها حيث أديت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس تكون قد أديت في وقتها.
إذاً: على الإنسان أن لا يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت؛ لأن ذلك فيه قرب من النهاية، وقد يؤدي ذلك إلى التفريط وإخراج الصلاة عن وقتها، ثم إن من الصلوات ما لها وقت اضطراري ووقت اختياري، فصلاة العصر لها وقت اختياري ووقت اضطراري، فالاختياري يمتد إلى أن يكون ظل الشيء مثليه أو إلى اصفرار الشمس، أما الاضطراري فإلى غروب الشمس، بمعنى: أنه لو نام إنسان ولم يستيقظ إلا قبل غروب الشمس فإنه يصلي العصر في وقتها، وهو الوقت الاضطراري، وكذلك بالنسبة للعشاء، فامتداد وقتها إلى نصف الليل اختياري، وبعده إلى طلوع الفجر اضطراري؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط أن يؤخر الصلاة حتى يأتي وقت الصلاة التي بعدها).
قوله: [ (ثم التفت إلي فقال: يا محمد! هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين) ].
أي: وقت الصلاة بين هذين الوقتين: الوقت الأول الذي حصل في اليوم الأول، والوقت الثاني الذي حصل في اليوم والثاني، فوقت الصلاة بين هذين الوقتين، وهي أوقات اختيارية كما هو واضح.
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في المواقيت
هو مسدد بن مسرهد ، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
[ عن يحيى ].
هو يحيى بن سعيد القطان ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن سفيان ].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة ].
هو عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة ، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[ عن حكيم بن حكيم ].
حكيم بن حكيم صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[ عن نافع بن جبير بن مطعم ].
نافع بن جبير بن مطعم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن ابن عباس ].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث: (نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة ...)
قوله: [ أخبره أن عمر بن عبد العزيز كان قاعداً على المنبر فأخر العصر شيئاً -يعني: بعض التأخير- فقال له عروة بن الزبير : أما إن جبريل قد أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بوقت الصلاة. فقال له عمر: [ اعلم ما تقول ] يعني: ينبغي أن تكون متحققاً مما تقوله ومتثبتاً منه. ولعل المقصود من قوله: (اعلم ما تقول) يتعلق بذكر إخبار جبريل، وإلا فإن عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه لا يخفى عليه أن الصلاة لها وقت له بداية وله نهاية، وأن تأخيره إنما هو تأخير مبني على أن الوقت باق، فقوله: [ اعلم ما تقول ] قيل: إنه يتعلق بكون عروة أخبر أن جبريل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقت الصلاة، فعند ذلك حدث عروة بن الزبير بإسناده إلى أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه.
قوله: [ قال عروة : سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نزل جبريل صلى الله عليه وسلم فأخبرني بوقت الصلاة، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه) ].
يعني أنه أخبره بالفعل وبالقول؛ لأنه أمه في أول الوقت في اليوم الأول وفي اليوم الثاني أمه في الصلوات الخمس في آخر الوقت، أي: الوقت الاختياري بالنسبة للصلاة التي لها وقت اختياري ووقت اضطراري.
ففيه إخبار بالقول وإخبار بالفعل؛ لأنه صلى به وقال له: (الوقت ما بين هذين الوقتين) وهنا ذكر الصلوات الخمس وعدها ولم يذكر التفصيل، وإنما ذكر ذلك مجملاً بقوله: [ (صليت معه ثم صليت معه ...) ].
فتحقق الإخبار من جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم قد حصل، وأنه أخبره بالوقت وصلى معه، وإخباره به كان قولاً وفعلاً.
قوله: [ (فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم) ] يعني: فرآه يصلي الأوقات على هذا النحو الذي ذكره، وهذا ليس فيه بيان الشيء الذي فعله جبريل، وإنما فيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن جبريل أخبره بالوقت وأنه صلى معه خمس صلوات، ثم قال أبو مسعود : رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل كذا وكذا. أي: مما شاهده وعاينه، ومن المعلوم أن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مبني على ما علّمه جبريل وبما أوحى الله إليه بعد ذلك فيما فيه زيادة على ما حصل في تعليم جبريل له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد جاء في حديث جبريل أنه صلى المغرب وقتاً واحداً، ولكن جاء من قوله صلى الله عليه وسلم: (وقت المغرب ما لم يغب الشفق -أو: ما لم يحضر وقت العشاء-) فدل ذلك على أن هناك زمناً أطول من الزمن الذي ذكر فيه أنه صلى المغرب عند غروب الشمس في اليومين الأول والثاني، وعلى هذا فحديث أبي مسعود فيه الإخبار بصلاة جبريل به وإخبار جبريل له بوقت الصلاة، ثم إن أبا مسعود أخبر عما شاهده وعاينه من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [ (فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر حين تزول الشمس) ].
يعني: حين يحصل الزوال، وهو رجوع الفيء من جهة الغرب إلى جهة الشرق، وإن كان شيئاً يسيراً، كما سبق أن مر في حديث ابن عباس أنه مثل شراك النعل.
والمهم أنه إذا وجد الزوال وتحقق وجود الفيء وإن كان شيئاً يسيراً فذلك هو بداية صلاة الظهر، ولا يجوز أن تؤدى قبل الزوال، ولو أديت قبل الزوال لكانت باطلة غير صحيحة، ومن صلاها قبل الزوال فتبين له أن الزوال لم يحصل يجب عليه أن يعيدها؛ لأن الصلاة قبل وقتها لا تصح ولا تعتبر.
قوله: [ (وربما أخرها حين يشتد الحر) ].
يعني أنه كان يؤخرها إذا اشتد الحر، وقد جاء ذلك من فعله، وجاء من قوله: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة -أو عن الصلاة-؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم).
قوله: [ (ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة بيضاء قبل أن تدخلها الصفرة) ] يعني: لم تقرب من الغروب ولم يتغير لونها، بل لونها على صفائه وعلى بياضه لم يتغير بصفرة للقرب من الغروب، وإنما هي بيضاء في شدة وهجها مع وجود حرارتها، وهذا هو آخر الوقت الاختياري.
قوله: [ (فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس) ].
يعني: يمشي إلى ذي الحليفة قبل غروب الشمس، وهذا فيه تقدير بالسير.
قوله: [ (ويصلي المغرب حين تسقط الشمس) ].
يعني: يصلي المغرب حين تغيب وتذهب عن الأبصار، وهو الوقت الذي يحل فيه الأكل للصائم حيث يفطر، ويحل فيه أداء صلاة المغرب.
قوله: [ (ويصلي العشاء حين يسود الأفق) ].
يعني: يصلي العشاء حين تذهب حمرة الشفق الذي كان من آثار النهار، ويسود الأفق بالظلام الدامس الذي ليس معه شيء من علامات النهار، والشفق هو الذي يأتي بعد غروب الشمس ويتبعها ويذهب بضوئها شيئاً فشيئاً حتى يأتي الظلام الشديد.
قوله: [ (وربما أخرها حتى يجتمع الناس) ].
كان من هديه صلى الله عليه وسلم في العشاء أنه إذا رآهم بكروا وعجلوا بالحضور عجل حتى لا يشق عليهم، وإذا رآهم أخروا أو لم يكتمل حضورهم فإنه يؤخر، وقد جاء في بعض الأحاديث أن وقتها إلى ثلث الليل، وفي بعضها إلى نصف الليل، أي: خروج الوقت الاختياري.
قوله: [ (وصلى الصبح مرة بغلس) ].
يعني: في الظلام بعد طلوع الفجر في أول الوقت.
قوله: [ (ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها) ].
يعني: حين وضح النهار وتبين الإسفار.
قوله: [ (ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات ولم يعد إلى أن يسفر) ].
يعني أنه كان يحافظ على الصلاة في أول وقتها ولم يعد إلى الإسفار، وإنما فعله في بعض الأحيان لبيان الجواز ولبيان أن ذلك سائغ، ولكن الذي داوم عليه والمعروف من فعله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليها بغلس.
تراجم رجال إسناد حديث: (نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة)
هو محمد بن سلمة المرادي المصري ، ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه .
[ عن ابن وهب ].
هو عبد الله بن وهب المصري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن أسامة بن زيد الليثي ].
أسامة بن زيد الليثي صدوق يهم، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[ عن ابن شهاب ].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن عروة بن الزبير ].
هو عروة بن الزبير بن العوام ، ثقة، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن بشير بن أبي مسعود ].
بشير بن أبي مسعود له رؤية، وقيل: إنه من ثقات التابعين. أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .
[ عن أبيه ].
أبوه هو أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري الأنصاري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
حديث (نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة ...) من طرق أخرى وتراجم رجال الإسناد
أي: روى هذا الحديث عدد من أصحاب الزهري ، وهم: معمر والليث ، ومالك ، وابن عيينة ، وشعيب بن أبي حمزة لم يذكروا الوقت ولم يفسروه، أي: لم يبينوا أنه من كذا إلى كذا، وإنما ذكروه مجملاً، لا كما مر في أول الحديث في قوله: [ (صليت معه ثم صليت معه ...) ].
قوله: [روى هذا الحديث عن الزهري معمر ].
معمر هو معمر بن راشد الأزدي البصري ، ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ مالك ].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ وابن عيينة ].
هو سفيان بن عيينة المكي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ وشعيب بن أبي حمزة ].
هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ والليث بن سعد ].
هو الليث بن سعد المصري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [ وكذلك -أيضاً- روى هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة نحو رواية معمر وأصحابه، إلا أن حبيباً لم يذكر بشيراً ].
أي أن هشام بن عروة رواه عن أبيه نحو رواية معمر ، وكذلك حبيب بن أبي مرزوق رواه عن عروة نحو رواية معمر وأصحابه، يعني الذين ذكرهم بعده كما مر ذكرهم، إلا أن حبيباً لم يذكر بشير بن أبي مسعود ، بل رواه عن عروة عن أبي مسعود.
[ وكذلك -أيضاً- روى هشام بن عروة ].
هشام بن عروة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [و حبيب بن أبي مرزوق ].
حبيب بن أبي مرزوق ثقة، أخرج حديثه الترمذي والنسائي ، وما ذكر رواية أبي داود عنه، ولعل الرواية التي تذكر في التعليقات لا يرمز لرواتها، وإنما يرمز للذين رووا في الأصول.
ذكر روايات متعلقة بمواقيت الصلاة وتراجم رجالها
رواية وهب بن كيسان عن جابر هي فيما يتعلق بالمغرب، حيث جاءه في اليوم الثاني وصلى به المغرب وقتاً واحداً كما صلى في اليوم والأول.
إذاً: رواية جابر رضي الله عنه فيها أن وقت المغرب وقت واحد في اليومين الأول والثاني، وقد عرفنا أنه جاء في الأحاديث ما يدل على أن المغرب ليس وقته واحداً، بل وقته ممتد ما لم يحضر وقت العشاء حين مغيب الشفق.
قوله: [ وهب بن كيسان ].
وهب بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ عن جابر ].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [ قال أبو داود : وكذلك روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثم صلى بي المغرب -يعني من الغد- وقتاً واحداً) ].
هذا الذي جاء عن أبي هريرة هو -كذلك- فيما يتعلق بصلاة المغرب، وأن اليومين اللذين صلى فيهما جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم المغرب كان وقتهما واحداً.
قوله: [ عن أبي هريرة ].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
قوله: [ وكذلك روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص من حديث حسان بن عطية عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ].
أي: وكذلك روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص مثل الذي جاء عن جابر وعن أبي هريرة ، وهو أن وقت المغرب كان واحداً، وقال: إنه من رواية حسان بن عطية عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قوله: [ من حديث حسان بن عطية ].
حسان بن عطية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح سنن أبي داود [139] | 2890 استماع |
شرح سنن أبي داود [462] | 2842 استماع |
شرح سنن أبي داود [106] | 2835 استماع |
شرح سنن أبي داود [032] | 2731 استماع |
شرح سنن أبي داود [482] | 2702 استماع |
شرح سنن أبي داود [529] | 2693 استماع |
شرح سنن أبي داود [555] | 2686 استماع |
شرح سنن أبي داود [177] | 2679 استماع |
شرح سنن أبي داود [097] | 2654 استماع |
شرح سنن أبي داود [273] | 2650 استماع |