أسماء الله الحسنى - المصور


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين!

الاسم الثامن عشر من أسماء ربنا الحسنى (المصور), وهذا الاسم المبارك ورد في القرآن مرة واحدة في خواتيم سورة الحشر، قال تعالى: هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ[الحشر:24], وورد الفعل في سور من القرآن، كقول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ[آل عمران:6]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:6-8], وكذلك قول ربنا جل جلاله: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ[غافر:64], وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ[الأعراف:11].

فإذا آمنا بأن من أسماء ربنا جل جلاله المصور, فإن لهذا الإيمان آثاراً ومنها:

أولاً: أن نعتقد يقيناً أن الله تعالى هو الخالق وحده وكل ما عداه مخلوق: قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[الرعد:16]، وقال تعالى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[فاطر:3], والمخلوقات كلها حادثة مسبوقة بالعدم, كما قال الله عز وجل: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا[الإنسان:1].

ولذلك الكلام الذي يدرس للطلاب بأن المادة لا تفنى ولا تخلق من العدم, هذا هو عين الإلحاد, كل ما سوى الله فان, وكل ما سوى الله عز وجل مسبوق بعدم, وكل ما سوى الله حادث, أما الأول الذي ليس قبله شيء فهو الله, والآخر الذي ليس بعده شيء هو الله جل جلاله, كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ))[القصص:88].

ثانياً: نؤمن كذلك بأن الله عز وجل لم يزل خالقاً كيف شاء ومتى شاء، قال تعالى: كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ[آل عمران:47] وقال سبحانه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ[القصص:68]، وقال أيضاً: ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ[البروج:15-16].

فالله عز وجل متى ما شاء خلق, فخلق ما شاء على الوجه الذي يشاء, كيف يشاء؛ ولذلك نحن نؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان, ولكن الله عز وجل يحدث فيهما حيناً بعد حين؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح ), وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: ( لقيت إبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام, وأخبرهم أن الجنة عذبة الماء, طيبة التربة, وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ), يعني: كلما قلت هذه الكلمات الأربع يغرس الله لك غرساً في الجنة.

ثالثاً: نؤمن بأن خلق الله عظيم محكم لا يستطيع بشر أن يخلق مثله فضلاً عن أن يخلق أفضل منه, قال سبحانه: هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ[لقمان:11]، وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ[فاطر:40], بل تحداهم ربنا جل جلاله بأن معبوداتهم من دون الله لن يستطيعوا أن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ولو تعاونوا عليه.

ولعظمة خلق الله وعدم مشابهته حرم الله علينا تصوير ذوات الأرواح, التصوير بمعنى: النحت, وإلا أكثر سؤال الناس عن ما يسمى بالتصوير الفوتوغرافي, وهذا التصوير كما قال علماؤنا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

قسم جائز باتفاق, وقسم محرم باتفاق, وقسم محل اجتهاد, أما الجائز باتفاق فهو ما تدعو إليه ضرورة الناس, كصور الجوازات والبطاقات وما أشبه ذلك.

وأما القسم المحرم باتفاق فهي الصور التي يراد بها تعظيم غير الله, والصور التي يراد بها إثارة الشهوات وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين والمؤمنات.

وأما محل الخلاف فالصور التي لا تدعو إليها ضرورة ولا تشتمل على محرم, كالصور التي تكون في المناسبات الاجتماعية, مثلاً جماعة من الناس في رحلة من الرحلات, في حفل من الحفلات, في اجتماع وما أشبه ذلك, فيصور هذا اللقاء ويعطى لكل واحد منهم نسخة.

وأكثر العلماء المعاصرين على أن هذا ليس داخلاً في النهي, وليس داخلاً في الوعيد الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ).

أو في قول الله عز وجل كما في الحديث القدسي: ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة, فليخلقوا شعيرة, يقال للمصور يوم القيامة: انفخ فيه الروح وليس بنافخ )؛ وذلك لأنه لم يقصد مضاهاة خلق الله عز وجل.

وكل من رأى الصورة لن يقول هذا صنع فلان, وإنما يقولون: هذه صورة فلان, وبعض العلماء قاسوها على المرآة, والمرآة ليست إلا حبساً للظل؛ ولذلك ليست داخلة في النهي إن شاء الله.

قال بعض الملاحدة: أنا أخلق, والجنون فنون, قالوا له: أرنا خلقك! فأخذ الخبيث لحماً فجعله شرائح ثم وضع بينه روثاً, أي جعل فيه بعض القاذورات, ثم جعله في علبة وأغلقها, ثم دفعه إلى من يحفظه عنده، فحفظه ثلاثة أيام, فما النتيجة؟

تكاثر الدود في تلك العلبة، فجاء ففتح العلبة أمام الناس, وإذا فيها دود كثير فقال: هذا خلقي, وطبعاً يمكن لأحد الحاضرين من العقلاء أن يقول له: هذا هراء وباطل ومنكر, أنت مجنون! لكن بعض الموفقين قال له: كم عدده؟ فلم يدر، فقال: كم عدد الذكور وكم عدد الإناث؟ فلم يدر، فقال له: هل تقوم برزقه؟ فلم يأت بشيء، فقال له: الخالق الذي أحصى كل شيء عدداً جل جلاله: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[الطلاق:12] جل جلاله, وعرف الذكر من الأنثى, ورزق ما خلق, وعلم مدة بقائه, وعلم نفاد عمره، قال تعالى: اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ[الروم:40].

هذا هو الإيمان وهذا هو الإنسان الموفق, يعرف كيف يفحم الملحد والكافر عدو الله ورسوله؛ ولذلك بعض الناس قال: سلوني عن ما تحت العرش؟ يعني: كل ما تحت العرش سلوني عنه فأنا به عليم! وأحد من الناس قال له: أين أمعاء النملة؟ فسكت ولم يدر ما يقول، ثم قال له: قال الله لآدم و حواء : قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا[طه:123], أين هبطا؟ فلم يدر مع أن هذا كله تحت العرش, قال تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ[يوسف:76]، وقال سبحانه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85].

وحبذا للعاقل أن يعرف قدره, وأن يلزم غرزه, وألا يعدو طوره, وأن يعرف الفروق بين الخالق والمخلوق, فالله جل جلاله لم يخلق هذا الخلق عبثاً, قال سبحانه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا[المؤمنون:115], وقال أيضاً: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ[الأنبياء:16] وقال أيضاً: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ[ص:27].

فالله جل جلاله خلق السموات والأرض بحكمته وعلمه وقدرته, وخلق الجن والإنس لعبادته: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56].

أسأل الله أن يوفقنا لطاعته! وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

المصور: اسم فاعل من التصوير, وأما معناه في حق الله عز وجل فقد قال ابن جرير الطبري رحمه الله: المصور خلقه كيف شاء, وكيف يشاء, كما في قوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8], قال الطبري رحمه الله: أي: صرفك وأمالك إلى أي صورة شاء, إما إلى صورة حسنة, وإما إلى صورة قبيحة, أو إلى صورة بعض قراباته.

وقال ابن كثير رحمه الله: المصور أي الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فكان, على الصورة التي يريد, والصورة التي يختار.

وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: المصور هو الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ليتعارفوا بها, فقال: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ[غافر:64], أي: أنشأ خلقه على صور مختلفة, وهيئات متباينة من الطول والقصر والحسن والقبح, والذكورة والأنوثة, فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ))[الانفطار:8], إلى الأشكال والهيئات التي توافق حكمته ورحمته وعلمه جل جلاله, والتي تتناسب مع مصالح الخلق ومنافعهم.

وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في الفرق بين الخالق والبارئ والمصور: فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ[ص:71], والبارئ الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير, وليس كل من قدر شيئاً أوجده إلا الله عز وجل، والمصور المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها, ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات, كلٌ في صورة تخصه.