الفتور


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها الأخ العزيز: أعرني سمعك، فإني سوف أتحدث عن بعض الإخوة، ولعلي أُعنِّف بعض الشيء، ولكن لا بأس فهي كلمات من أخٍ إلى أخ؛ فليتحملها الإخوة إن شاء الله.

هي قصة رجل التزم فبدأ يدعو إلى الله، كان يوماً من الأيام ينصح إخوانه وجيرانه، وأهله، وزوجته، وأبناءه.

كان يوماً من الأيام إذا مرَّ في الشارع فرأى منكراً توقف فنصح. هي ذكريات مضت، أما الآن فيجلس في مجلس ويستمع فيه إلى المنكرات، ويتلذذ بها ولا يتغير، بل إن لم يكن يفعلها هو، تغيَّر الحال، وتبدلت الصورة.

كان يوماً من الأيام يقوم في المسجد يتكلم في الناس وينصح.

تذكر معي أخي في الله: يوماً من الأيام كنت تجمع الناس إلى المسجد، كنت إذا ذهبت إلى الصلاة طرقت الأبواب، تذكر عندما أعطيت فلاناً شريطاً وقلت له: استمع إليه، لعلَّ الله أن ينفعك به.

تذكر عندما كنت تجتهد في الدعوة إلى الله، وتنصح، وتذكر، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، فما الذي جرى؟!

أنا أتكلم عن ذلك الشخص الذي بدأ الفتور يدب إليه ويحسب أنه على خير، إذا نظر في المرآة فالصورة لم تتغير، واللحية لا زالت طويلة، والإزار ما زال قصيراً، -والحمد لله- ما زال يصلي، والمسكين لا يشعر أنه قد فتر في الدعوة إلى الله، بدأ يتهرب من جميع المسئوليات، بل إن وكِّلتْ إليه مسئولية في الدعوة إلى الله تهرب منها وتنصَّل، وتركها إلى غيره .. يقول الله عز وجل عن همِّ الدعوة وذلك الرجل: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] أتعرف ما هي الأمانة؟ إنها أمانة هذا الدين.

استمراء المنكرات

أخي في الله: مالك بدأت تستمع إلى المنكرات؟! تمرُّ في السوق فتكلمها وتكلمك .. نعوذ بالله! ألم تكن في يوم من الأيام تقول لها: احتجبي، استتري بارك الله فيكِ؟ أما الآن فتغير الحال، بدأت أنت الذي تكلمها، بدأت أنت الذي تختلي بها، ما الذي جرى؟!

إن جلستُ معك أرى حديثك قد تغير، بدأت تتكلم في الدنيا، كنت يوماً من الأيام لا همَّ لك إلا الدعوة، كان حديثك: المسلمون في بلاد كذا، المسلمون يُقتلون، الناس في ضلال، الناس في ضياع، كان هذا حديثك في السابق، أما اليوم فلا أراك تتكلم إلا عن الصفق في الأسواق، وعن أخبار المباريات، وعن أسعار العملات، وعن التجارة، وعن البيع، وعن الشراء، وعن الدنيا، وكأنك لم تسمع أو تناسيت قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة:38] إذا قيل لك: تعال معنا ندعو إلى الله، قلت: عندي الآن الزوجة، والأولاد، والبيت، والسيارة، والأثاث، والمزرعة، وغيرها من الأعذار!

نناديك أن تدعو إلى الله؛ فتعرض .. مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38] تغير حديثك، بدأت تتكلم، لكنَّ العمل لا أثر له، وتحسن الجدل، والكلام، إن جلست في مجلس وكأنك أكبر الدعاة وكأنك أفضل المجاهدين، لكن لا نراك بعد هذا المجلس تفعل شيئاً، نرى الكلام تحسنه أما العمل فلا تتقنه .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3] بل وصل بك الأمر إلى الجدل فأصبحت لا تتقن إلا الجدل، تجادل في كل أمر، وتنتقد كل شخص، وكأنك المبرأ من العيوب، وكأنك الذي يُسأل ولا يسأل.

احذر الرجوع إلى الوراء

نراك قد انقطعت غيرتك؛ فلا تنكر منكرا، بل إن جلست في مجلس أُدير فيه المنكر واستُمِعَ فيه إلى الحرام ضحكت وابتسمت، وقلت: سيقوم بهذا الأمر غيري، أو لا فائدة، أو غيرها من الأعذار.

من يهن يسهل الهوان عليه     ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ

نعم. القلب بدأ يموت، حتى أصبح لا يتأثر بالجروح، نراك كلما ناديناك إلى الدعوة، إلى عمل أو مشروع خيري: يا فلان، شارك معنا، ضع يدك في أيدينا، نحتاج إليك. تقول: أنا مشغول! تخدع نفسك، لا تخدع غيرها! تتظاهر بالشغل وإن فتشت في نفسك فلا ترى إلا ضياع الوقت في النوم والأكل واللعب والسفر في المباحات، وفي أمور الدنيا .. ضاع وقتك، وضاع عمرك أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].

إن دخلت في عملٍ في الدعوة إلى الله تغيرت، وأصبحت لا تعرف إلا الفوضى، تأتي يوماً وتتركنا أياماً، وتظن أنك على خير .. إن بدأت في عمل لا تلبث أن تتركه إلى غيره، أصبحت لا تعرف إلا الفوضى في الدعوة إلى الله وكأن الأمر لعب وضحك.. ألا تذكر آخر آية كنت تحفظها؟ لا أدري هل نسيتها أم تناسيتها؟ في آخر سورة الصف التي بدأها الله بالقتال وختمها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ [الصف:14] سل نفسك وحاسبها من صباحك إلى ليلك: هل أنت من أنصار الله؟ أم أنت من الذين لا همَّ لهم في الدنيا إلا المباح؟ ما الفرق بينك وبين جارك؟ ما الفرق بينك وبين فلان الذي كنت تنكر عليه؟ كنت يوماً من الأيام ترأف لحاله، فما الفرق اليوم بينك وبينه؟

أصبح الظاهر: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا [المنافقون:4] إن جلس في مجلس تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] لكنَّ الحقيقة كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4].

اسمح لي -أيها الأخ العزيز- فلعلي قد عنفت عليك بعض الشيء، ولكن سماعها مني أفضل من سماعها من غيري.

أخي في الله: مالك بدأت تستمع إلى المنكرات؟! تمرُّ في السوق فتكلمها وتكلمك .. نعوذ بالله! ألم تكن في يوم من الأيام تقول لها: احتجبي، استتري بارك الله فيكِ؟ أما الآن فتغير الحال، بدأت أنت الذي تكلمها، بدأت أنت الذي تختلي بها، ما الذي جرى؟!

إن جلستُ معك أرى حديثك قد تغير، بدأت تتكلم في الدنيا، كنت يوماً من الأيام لا همَّ لك إلا الدعوة، كان حديثك: المسلمون في بلاد كذا، المسلمون يُقتلون، الناس في ضلال، الناس في ضياع، كان هذا حديثك في السابق، أما اليوم فلا أراك تتكلم إلا عن الصفق في الأسواق، وعن أخبار المباريات، وعن أسعار العملات، وعن التجارة، وعن البيع، وعن الشراء، وعن الدنيا، وكأنك لم تسمع أو تناسيت قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة:38] إذا قيل لك: تعال معنا ندعو إلى الله، قلت: عندي الآن الزوجة، والأولاد، والبيت، والسيارة، والأثاث، والمزرعة، وغيرها من الأعذار!

نناديك أن تدعو إلى الله؛ فتعرض .. مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38] تغير حديثك، بدأت تتكلم، لكنَّ العمل لا أثر له، وتحسن الجدل، والكلام، إن جلست في مجلس وكأنك أكبر الدعاة وكأنك أفضل المجاهدين، لكن لا نراك بعد هذا المجلس تفعل شيئاً، نرى الكلام تحسنه أما العمل فلا تتقنه .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3] بل وصل بك الأمر إلى الجدل فأصبحت لا تتقن إلا الجدل، تجادل في كل أمر، وتنتقد كل شخص، وكأنك المبرأ من العيوب، وكأنك الذي يُسأل ولا يسأل.

نراك قد انقطعت غيرتك؛ فلا تنكر منكرا، بل إن جلست في مجلس أُدير فيه المنكر واستُمِعَ فيه إلى الحرام ضحكت وابتسمت، وقلت: سيقوم بهذا الأمر غيري، أو لا فائدة، أو غيرها من الأعذار.

من يهن يسهل الهوان عليه     ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ

نعم. القلب بدأ يموت، حتى أصبح لا يتأثر بالجروح، نراك كلما ناديناك إلى الدعوة، إلى عمل أو مشروع خيري: يا فلان، شارك معنا، ضع يدك في أيدينا، نحتاج إليك. تقول: أنا مشغول! تخدع نفسك، لا تخدع غيرها! تتظاهر بالشغل وإن فتشت في نفسك فلا ترى إلا ضياع الوقت في النوم والأكل واللعب والسفر في المباحات، وفي أمور الدنيا .. ضاع وقتك، وضاع عمرك أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].

إن دخلت في عملٍ في الدعوة إلى الله تغيرت، وأصبحت لا تعرف إلا الفوضى، تأتي يوماً وتتركنا أياماً، وتظن أنك على خير .. إن بدأت في عمل لا تلبث أن تتركه إلى غيره، أصبحت لا تعرف إلا الفوضى في الدعوة إلى الله وكأن الأمر لعب وضحك.. ألا تذكر آخر آية كنت تحفظها؟ لا أدري هل نسيتها أم تناسيتها؟ في آخر سورة الصف التي بدأها الله بالقتال وختمها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ [الصف:14] سل نفسك وحاسبها من صباحك إلى ليلك: هل أنت من أنصار الله؟ أم أنت من الذين لا همَّ لهم في الدنيا إلا المباح؟ ما الفرق بينك وبين جارك؟ ما الفرق بينك وبين فلان الذي كنت تنكر عليه؟ كنت يوماً من الأيام ترأف لحاله، فما الفرق اليوم بينك وبينه؟

أصبح الظاهر: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا [المنافقون:4] إن جلس في مجلس تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] لكنَّ الحقيقة كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4].

اسمح لي -أيها الأخ العزيز- فلعلي قد عنفت عليك بعض الشيء، ولكن سماعها مني أفضل من سماعها من غيري.

سوف أتطرق إلى بعض الأسباب، فلعل ما عندك يكون منها أو من غيرها، فاسمع وصارح نفسك.

واعلم أن الله عز وجل يقول: بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14] كل منا يحاسب نفسه.

عدم الإخلاص لله تعالى

لعل السبب: أنك كنت تدعو إلى الله، فدخل في قلبك شيء لغير الله.

لعلك يوماً من الأيام أردت أن يشير الناس إليك بالبنان، أو أردت أن تحصل على المناصب، أو أردت أن تدعو لكن دخل في قلبك شيءٌ لغير الله، إنه الرياء، وما أدراك ما الرياء!

من الذي يتعثر في الدعوة إلى الله؟ إنما يتعثر من لم يخلص عمله لله، وإلا فالدين ما زال بحاجة إلى رجال، والدعوة ما زالت بحاجة إلى دعاة، الدين لا زال يضربه ويشتمه ويسبه كثيرٌ من الناس .. ما الذي جرى؟ لعلك لم تكن مخلصاً لله، أو أخلصت ودخل في قلبك شيء، لعلها الدنيا: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) ألم تعلم أن رسولك -هو خير الناس على وجه الأرض- مات ولم يخلِّف إلا بغلة وبعض الدراهم، ودرعاً مرهونة عند يهودي، كان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه .. يمر الهلال تلو الهلال تلو الهلال ولا يوقد في بيته شيء، ويأتي عائشة في الصباح. فيقول لها: (هل عندكم طعام فتقول: لا) بيت أفضل الخلق ليس فيه طعام! وأنت لا هم لك في اليوم والليلة إلا أن تجمع الطعام والأموال، والرصيد، والسيارة ليست كسيارة فلان، والسفر إلى الخارج، وغيرها من الترهات والتفاهات.

يأتيها ويقول لها: (هل عندكم طعام؟ فتقول: لا. فيقول: فإني صائم) الله أكبر!

ويربط عمر بن الخطاب بطنه وهي تقرقر ويقول لها: [قرقري أو لا تقرقري فوالله لن أشبع حتى يشبع عيال المسلمين].

ألم تتذكر قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ [الحديد:20]؟

ألم تعلم أن أبا أيوب الأنصاري يقول: [جاهدنا مع رسول الله، فقلنا بيننا وبين أنفسنا: إن أموالنا قد ضاعت -ضيعوا المزارع والبيوت من أجل الجهاد في سبيل الله- لو أنَّا التفتنا إلى أموالنا وأقمنا فيها فأصلحنا ما بها- لقد جاهدوا مع رسول الله، ولكن أرادوا أن يصلحوا بعض ما هلك من أموالهم- فأنزل الله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] ويروى عن أبي أيوب أنه ما زال بعد هذه الآية يغزو في سبيل الله حتى قبضه الله].

الانشغال بالأهل والمال

لعلك تعتذر بزوجتك وكأنك أول من تزوج، ألم تعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أكثر من امرأة واحدة؟

تعتذر بأولادك وكأنك الوحيد الذي أنجب الأولاد وملك الأموال وأثث البيوت .. ألم تعلم أن المنافقين عندما كان يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد كانوا يقولون: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح:11]؟ كانوا يتعذرون بالأزواج، وبالأولاد، وبالبيوت يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً [الأحزاب:13].

نعم، لأهلك عليك حق، ولنفسك عليك حق، ولزوجك عليك حق، ولربك عليك حق، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه. كم تقضي وقتاً مع أهلك؟ وكم تقضي في الدعوة إلى الله؟ حاسب نفسك وكن منصفاً، وعادلاً.

أما تذكرت قصة حنظلة؟ أظنك سمعتها مراراً كلاماً يقال، لكنها في الحياة بلا تطبيق .. حنظلة ذلك الصحابي الجليل في ليلة عرسه وزواجه يجامع زوجته، ويسمع منادي الجهاد: يا خيل الله! اركبي. فينتفض من عند زوجته، ويقوم ليجاهد في سبيل الله فيقتل، فتغسله الملائكة!! أتذكر تلك القصة أم أنك نسيتها؟

ألا تعرف قصة صهيب الرومي الذي خرج من مكة، وترك أمواله، وترك كل ما كان يتعب في الحياة الدنيا من أجله، مَنَعه المشركون فقال: ماذا تريدون؟ خذوا أموالي فهي في مكان كذا وكذا، واتركوني أهاجر إلى الله ورسوله. وهاجر وحيداً فريداً، ترك كل أمواله، فإذا به يقدم المدينة فينظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستبشراً فيقول له: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى! ).

يقول لك إخوانك: نريد منك بعض المال للدعوة إلى الله، فتقول: لا أستطيع عندي سيارة، وعندي بيت، وعندي أثاث، وعندي القسيمة، وعندي وعندي ...

الصحبة والذنوب والمعاصي

لا أدري ما هو السبب الذي غيرك بهذه الصورة؛ حتى أصبحت تظن أن المجالس لشرب الشاي والقهوة من دون الدعوة إلى الله؟ أصبحت تظن أنَّ هذا المجلس تستمع فيه إلى درس ثم ترجع فيه إلى البيت فتصبح به داعياً إلى الله؟ مسكين إن ظننت هذا الظن!

لا أدري ما السبب الذي أوصلك إلى هذه الحال؟ لعلها صُحْبَتُك لذوي إرادات ضعيفة، وهمم دنيئة، لعلك كنت تصاحب أناساً لا هم لهم إلا التجارة، والمال، والسفر، والبيوت، والعقارات، كنت تخالطهم حتى أصبحت مثلهم، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله) وقل لي من تجالس أخبرك من أنت.

لعل السبب هو الذنوب والمعاصي، فانظر إلى نفسك، وحاسبها، وتذكر: يوماً من الأيام قمت لصلاة الفجر، واستمعت إلى الأذان، فرجعت ونمت، لعله السبب الذي به خذلك الله عن الدعوة إليه.

استمع إلى ما قاله ابن القيم رحمه الله، يقول: ومن عقوباتها -أي: المعاصي- أنها تضعف سير القلب إلى الله وإلى الدار الآخرة. تضعف السير، لا تجعلك تسير، ولا تتقدم في الدعوة إلى الله أو تعوقك وتوقفك وتعطلك عن السير، فلا تجعلك تخطو إلى الله خطوة، حتى لا تستطيع أن تنصح نصيحة واحدة بسبب الذنوب والمعاصي.

أتذكُر تلك الليلة عندما أغلقت على نفسك الباب ففعلت فعلتك التي فعلت؟ أتذكر ذلك اليوم عندما فتحت الجريدة فنظرت إليها؟ ومسكين أنت تظن أنه لا يراك أحد .. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14]. يقول ابن القيم متمماً كلامه: هذا إن لم ترده عن وجهته إلى الوراء. أي: الذنوب والمعاصي .. وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46] ثبطهم الله عندما علم ما في قلوبهم من الذنوب والمعاصي، ولعلها هي التي أقعدتك بعض الشيء.

عدم وضوح الهدف

لعلَّ من الأسباب: عدم وضوح الهدف .. لعلك كنت تلتزم مع إخوانك الصالحين، وتدعو إلى الله، لكن لم تعرف ما هو هدفك في الحياة، إلى متى تدعو إلى الله، ولماذا تحضر هذه الديوانية، وهذه المجالس، وهذه الدروس، وتحفظ القرآن، لماذا كل هذا؟ يقول: لا أدري إلى أين المصير؟ لا أعرف.

استمع إلى هذه القصة: إنها قصة لـعمر بن عتبة أحد السلف الصالح:

خرج مع أصحابٍ له، يقول ابن عمه فنزلنا في مَرج حسن؛ أرض خضراء .. لو نزلت فيها لتمنيت أن تنزل مع أهلك أو أصحابك لتلعبوا فيها.. قال: فنظرت إليه، فقال: ما أحسن هذا المرج! لو نادى منادٍ: يا خيل الله! اركبي فيكون رجل في أول الصف فيصاب فيقتل فيدفن في هذه الأرض. فما هي إلا لحظات، فإذا منادٍ ينادي: يا خيل الله! اركبي -انظر إلى الأمنية وكيف حققها الله له- يقول: فالتحم الصفان، فقيل لأبيه أبي عمر: القصة والخبر، فقال لهم: إليَّ بـعمر أحضروه. فهو يعرف أنه لا يتمنى شيئاً إلا ويحققه الله له، يقول: فبحثنا عنه فإذا هو مصاب، فما دفن إلا في مركب رمحه، في تلك الأرض .. هذا هو همه، وهذه هي أمنيته، لو سألته: ماذا تريد في الحياة؟ لقال: أن ينصر الله دينه، سوف أدعو إلى الله إلى آخر رمق، وأجاهد في سبيل الله، وأنفق جميع أموالي في سبيل الله، حتى ينصر الله دينه:

عش عزيزاً ومت وأنت كريمٌ     بين طعن القنا وخفق البنود

عدم الصبر على المعوقات والمصائب

ومن الأسباب: معوقات ومصائب ما تحملتها؛ فجلست وركنت، وجلست في مثل هذه المجالس تقول: للدعوة رجال، أما نحن فلسنا من أهلها.

ولعل السبب أنك أصبت بمالك، فخسرت بعض الشيء في الدنيا .. الناس قد حصلوا على العمارات والعقارات، وحصلوا الأثاث والبيوت، أما أنت فجلست تنظر إلى حالك فرحمتها، فقلت: الدنيا الدنيا، ليس لي مكان بين هؤلاء الناس، لا أستطيع الدعوة إلى الله.

لعله قد استهزأ بك رجل، أو ضحك عليك أقوام، فقلت: لا أستطيع أن أتحمل، فتقاعست عن الدعوة إلى الله.

ألم تعلم أن أصحاب نبيك كانوا يسحبون على الشوك في الشمس، وتوضع الصخور على صدر أحدهم وهو يقول: أحدٌ أحد، أحدٌ أحد. يقول ابن عباس: حتى إن أحدهم لا يستطيع الجلوس من العذاب، ومن الضرب، حتى إنَّ الكافر ليمر عليه فيقول له: هذا إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، هذا إلهي من دون الله، يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.

ألم تسمع بقصة ذلك الصحابي الذي نظر إلى أمه تطعن في فرجها برمحٍ حتى أزهقت روحها، وهو صابر محتسب، يمر عليهم عليه الصلاة والسلام فيقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).

ألم يخنق حبيبك صلى الله عليه وسلم؟ خنقه عقبة بن أبي معيط فما فكه إلا أبو بكر .. ألم يوضع على ظهره سلى الجزور فما رفعه عن ظهره إلا ابنته الصغيرة فاطمة رضي الله عنها.

ألم تسمع بـأبي ذر حينما قام للناس وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فضُرِب حتى سال منه الدم، فما فكه عنهم إلا أحد المشركين، ثم يقوم في اليوم الثاني فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فيُضرب حتى يدمى. ثم هكذا في اليوم الثالث.

ألم تُكسر رباعية نبيك عليه الصلاة والسلام؟ ألم يُشج وجهه؟ ألم يُطعن في عرضه؟ ألم تدمى أصبعه؟ ألم يسقط في حفرة حتى كاد أن يُقتل؟ ألم يحصل له كل هذا؟

ألم تسمع بقصة ماشطة بنت فرعون، والحديث وإن كان في إسناده شيء إلا أنه يتقوى ببعض الطرق.. (مرَّ عليه الصلاة والسلام برائحة طيبة، فقال لجبريل: ما هذه الرائحة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون قال: وما خبرها؟ قال: كانت تمشط ابنة فرعون فسقطت المدرة من يدها -المشط- فأخذتها وقالت: باسم الله، فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: ربي وربُ أبيك الله رب العالمين، قالت: أُخبر أبي. قالت: أخبريه. فأخبرت فرعون -الذي طغى، وتجبّر، وقتل الرجال، وسفك الدماء- فناداها فقال لها: أولك ربٌ غيري؟ قالت بصبر وصمود وثبات: ربي وربك الله رب العالمين -وهي تعرف أنه ليس وراءها إلا الموت- فقال: ائتوا بأولادها، فأتوا بأولادها الصغار، فبدأ يحرق أولادها واحداً تلو الآخر أمام عينها، فقالت له: لي إليك حاجة. فظن أنها سوف ترتد عن عقيدتها، فقال: وما هي؟ قالت: أن تجمع عظامي مع عظام أبنائي في ثوبٍ وتدفننا جميعاً. قال: ذلك لكِ من الحق علينا. حتى انتهى إلى رضيعٍ كانت تحمله، فأرادت أن ترمي بنفسها في الزيت الذي يغلي، فكأنها تقاعست ليس لأجلها ولكن لأجل رضيعها، فأنطق الله ذلك الرضيع في المهد -وقال ابن عباس: إن الله أنطق أربعة منهم هذا- فأنطق الله ذلك الرضيع فقال: يا أماه! عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فرمت بنفسها ورضيعها).

ألم تسمع بتلك القصص أم أنك نسيتها؟! أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ [البقرة:214] أما أنت فماذا مسك؟ وماذا أصابك؟ كلمات سمعتها من فلان، أم أنه مرضٌ أصابك، أم أن الوظيفة قد فقدتها، أم أنه بعض الدنانير قد خسرتها .. ماذا أصابك؟ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] هل هذا هو السبب الذي أوصلك إلى هذا الحال؟ ألا تتحمل المصائب؟ أم أنك لا تحتمل كلام الناس؟ أم أنها ثقلت عليك الهموم والغموم؟ مسكين إن كانت هذه حجتك!

عدم الشعور بالتحدي

ومن الأسباب: أنك لم تشعر بأن أعداء الله قد تكالبوا علينا وعلى الدعاة .. ألم تعلم أن الدعاة يسجنون، ويضربون، ويهانون؟! ألم تعلم -يا عبد الله- أن دعاة الباطل في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يفعلون، وفي الجرائد يكتبون، وفي الإعلام يتكلمون، وفي كل مكان يعملون صباحَ مساءَ سراً وجهار؟

أما معاشر الدعاة إلى الله فما يعمل أحد معم فترة إلا ويترك أخرى.

ألا تشعر بالتحدي؟ ألم تسمع قوله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].

ألا تشعر أننا في صراع، وفي حرب دائمة؟ لِمَ تركت إخوانك؟ ولِمَ تقاعست؟ ولِمَ جلست تنظر إلى المعركة من ينتصر فيها؟ ألم تعلم أن رسولك قد قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)؟ إن بعض من يتسمون بالإسلام في هذه الأيام هم أول من يحاربون الإسلام .. ألم تسمع بشيوخ تقتَّل؟ وبأطفال ييتموا؟ وبنساء ترمل؟ ألم تسمع أنَّ أخواتك في الله تهتك أعراضهن بالألوف ولا يستطعن حولاً، ولا دفعاً، وليس لهنَّ نصيراً؟ وليس لهم ذنب وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] في غياهب السجون يعذبون، الواحد منهم يهتك عرض أخته أمام عينيه ولا يستطيع أن يتحرك، وأنت جالسٌ في النعيم تشرب الشاي والقهوة، وتضحك حتى تبدو نواجذك، وإذا قيل لك: يا فلان تعال معنا.. اعمل معنا.. ادع إلى الله.. انصح جيرانك.. انصح أهلك، تقول: لا أستطيع لست لها، لست لها!

عدم العمل بما ندعو إليه

ولعل من الأسباب: أنك في البداية كنت تدعو الناس ونسيت نفسك، كنت مقصراً في الطاعات، ولا نراك في صلاة الفجر، ولا نراك تقرأ القرآن في المسجد .. منذ متى جلست بعد الفجر إلى الشروق تقرأ القرآن وتذكر الله؟ متى تصوم الإثنين والخميس؟ أو تصوم صوم التطوع؟ لعلك كنت قد قصرت في هذا؟

ألم تسمع بـعبد الله بن المبارك؛ كان من المجاهدين في سبيل الله، فإذا جاء الليل ورأى الناس قد ناموا قام يصلي لله تعالى، وكان إذا صلى العصر يجلس في المسجد يذكر الله وكأنه لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد، يذكر الله حتى غروب الشمس .. فكان في النهار مجاهداً، وفي الليل عابداً زاهداً راهباً.

ألم تسمع بـسفيان الثوري الذي كان إذا أصبح رفع رجليه على الحائط حتى يعود الدم إلى رأسه من قيام الليل! وكان في النهار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .. يصارع الطغاة، ويجاهد الظالمين، حتى إنه يخفي كراريسه في الأرض خوفاً عليها، وإذا درَّس تلاميذه فيدرسهم في الخفاء؛ حتى لا يراه أحد، وإذا جاء الليل يضع يده اليمنى على خده اليمنى فيجلس من أول الليل إلى الفجر على هذه الحال يتفكر في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، فيسأله صاحبه: أكنت على هذه الحال من أول الليل؟ قال: إي والله، ما تركتني حتى أذن الفجر وأنا على هذه الحال، أفكر في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.

ولعلَّ السبب أنك لم تحافظ على الأذكار، ولم تقرأ القرآن، ولم تجلس مع نفسك وتحاسبها.

اليأس من نصر الله

ولعل السبب أنك قد يئست من نصر الله، جلست سنوات تدعو إلى الله ثم نظرت يمنة ويسرة فإذا الدين يهان، وإذا أهل الدين مهانون، وإذا الدعوة إلى الله اضمحلت، ولعلها قَلَّتْ، فقلت: لا نستطيع أن نفعل شيئاً، فجلست في البيت وقد يئست من نصر الله .. ألم تسمع قوله تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15] ألم تسمع قوله تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]؟

جاء في صحيح مسلم: (يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد) فما بالك! أيئست من نصر الله؟

يأتي خباب فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة فيوضع فيها، ويؤتى بالمنشار فيفرق فرقتين، ويؤتى بأمشاط الحديد فيمشط ما دون لحمه وعظمه لا يرده ذلك عن دينه شيئاً، ولكنكم قوم تستعجلون) دعوت إلى الله عشر سنوات، ثم نظرت فإذا الدولة ضدك فقلت: لا فائدة، فضربت كفاً على كف وجلست في البيت! نوح عليه السلام يدعو تسعمائة وخمسين سنة، ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل، كان يدعو إلى الله بدون توقف، ولولا أن الله قال له: لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] لاستمر في الدعوة إلى الله.

الخلاف مع الإخوان

لعل السبب كان خلافاً بينك وبين إخوانك على بعض الأمور، فتركتهم واعتزلتهم، ثم جلست في البيت وقلت: هؤلاء لا يصلحون للدعوة إلى الله. وإذا كانوا لا يصلحون فأنت لا تصلح أيضاً؟ ما بالك جلست؟

ألا تستطيع أن تنفق شيئاً من جيبك وتشتري بعض الأشرطة وتوزعها للناس؟! ألا تستطيع أن تشتري بعض الكتب وتوقفها للمسلمين؟ ما بالك لا تطرق الباب على جيرانك وتدعوهم إلى الصلاة؟ هل إخوانك هم السبب؟

يقول يونس الثقفي: ما أعقل الشافعي! يقول: ناظرته يوماً فاختلفنا في المسألة فافترقنا .. وكم من الإخوان يختلفون في مسائل فيفترقون -نسأل الله العافية- يقول: فافترقنا، فلقيني يوماً -انظر إلى فقه الشافعي - فلقيني يوماً فأخذ بيدي فقال لي: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً ولو لم نتفق في مسألة؟

لنختلف في جميع المسائل لكن القلوب تبقى صافية، وتبقى الألفة، ويبقى التعاون على البر والتقوى، وتبقى الأخوة وإن اختلفنا في بعض المسائل .. فقههم يختلف عن فقهنا، وقلوبهم تختلف عن قلوبنا.

النظر إلى من هم أقل منه منزلة

لعل السبب أنك تنظر إلى من هو دونك، تنظر إلى كبار طلبة العلم وأهل الشهادات وخريجي الجامعات يجلسون في البيت ولا همَّ لهم إلا كيف يُصلِح بيته وكيف يُصلِح سيارته وكيف يجلس ويشرب الشاي والقهوة .. واليوم العشاء عند فلان، وغداً عند فلان، واليوم النزهة إلى المكان الفلاني، والسفر إلى المكان الفلاني، وكنت تقول: هذا فلان قد تخرج من جامعة شرعية، وحصل على أعلى الشهادات، وهو خطيب في المسجد وهذه حاله، فأنا أفضل منه، لأنني قد نصحت زوجتي وأبنائي. سبحان الله! تنظر إلى من هو دونك!

أسألك -أخي العزيز- أن تحاسب نفسك، وتعرف السبب، ثم تعالجها، وتسمع قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187].

أسمعت بقصة حبيب بن زيد؟ يروى أنه أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة -انظر إلى خدمة هذا الدين، وإلى التضحية في سبيل الله، وأنت ماذا فعلت حتى تكون في صفهم؟- أرسله إلى مسيلمة، فأعطاه رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب مسيلمة وقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال: أتشهد أني رسول الله؟ فرد عليه حبيب مستهزئاً: إنّ في أذني صمماً، فربطه وأراد أن يعذبه، وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن محمداً رسول الله. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إنَّ في أذني صمماً، يستهزئ به، فقال للجلاد: اقطع منه جزءاً، فقطع منه طرفاً من جسده فتدحرج، والدم يسيل منه، وقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً، فلم يزل الجلاد يقطِّعه قطعةً قطعة حتى صار قطعاً على الأرض منثورة، وهو يلفظ آخر أنفاسه ويقول: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله.

أخي العزيز: ماذا قدمت لهذا الدين؟ سمعت الخبر فماذا سيكون دورك؟ أتسمع الخبر وتقول: لهذا اليوم أعددته، وعند الله أحتسبته! نقول هذا لنسائنا وزوجاتنا، نقول لهنَّ تلك القصة، أين أنتنَّ من أم حبيب؟ ثم إنَّ أم حبيب تقول: بايع حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيراً ووفى اليوم كبيراً.

أسمعت بقصة عباد بن بشر رضي الله عنه، الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حارساً للمسلمين، هو وعمار بن ياسر، يقول عباد بن بشر لـعمار: أتريد أن تكون أول الليل حارساً أم آخره؟ فقال عمار: أنام أول الليل وأكفيك آخره، فنام عمار، وقام عباد على ثغر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فرآه أحد المشركين في الليل، فرماه بسهمٍ حتى وقع فيه، فنزعه وأكمل صلاته، والدم يسيل منه.

والآن أنت في موقفٍ في الدعوة إلى الله، أنت على ثغرٍ من ثغور المسلمين، ماذا أصابك؟ ماذا دهاك أخي في الله؟ أصابتك كلمةٌ من أحد إخوانك فتركت الدعوة وأهلها، أصابتك مصيبة، فتركت الدعوة برُمَّتِها .. ثم يصيبه المشرك بسهم آخر، فينزع السهم ويكمل صلاته، ثم يصيبه بالسهم الثالث، فينزعه ويكمل صلاته، ثم يقطع صلاته ويوقظ عماراً، فيقول عمار: ما لك رحمك الله؟ لِمَ لم توقظني من أول سهم؟ قال: كنت في سورة فما أحببت أن أقطعها، وايمُ الله لولا أني على ثغرٍ أمرني رسول الله أن أحفظه لكان قطع روحي أحب إليَّ من قطع تلك السورة.

هكذا يكون استشعار العمل، هكذا تكون الدعوة إلى الله، أما حالنا -نسأل الله العافية- فلنبك ولنندب أحوالنا.