خطب ومحاضرات
في رحاب الجنة
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: معنا وإياكم في هذا المجلس المبارك -بإذن الله- وهذا المكان الذي تحفه الملائكة إلى السماء الدنيا، ونسأل الله في هذا المكان أن يذكرنا فيمن عنده، وأن يغفر لنا ذنوبنا ويكفر عنا سيئاتنا.
إن الموضوع مشوق ومحفز للنفوس، تطرب إليه الأرواح، والمؤمن يتمنى أن لو سمع مثل هذا الحديث صباح مساء، إنه: في رحاب الجنة.
أرجو منك -أيها السامع وأيتها السامعة- أن ننسى الدنيا قليلاً، أو أن نخرج منها لحظات، وكل منا ينسى أشغاله، وينسى أهل بيته، ليعش كل منا وهو يسمع هذه الأحاديث في الجنة، حتى إن الصحابة كما يقول حنظلة: [إذا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنا نرى الجنة والنار رأي العين].
هلا كنا كما كانوا؛ نرى الجنة الآن رأي العين، نعيش وإياكم عند أنهارها، في قصورها، داخل خيامها، ونعيش وإياكم ونحن نتحدث عن صفاتها، وفي رحابها.
يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحد الأعراب عما يقول في الصلاة فقال: (أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، قال: وحولها ندندن) هذا مطلوبنا، وهذه غايتنا، نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار .
الجنة التي مات لأجلها الأولون، وذهب لأجلها الشهداء الصالحون، زهقت لأجلها أنفس، وذهبت لأجلها أرواح، إنها الجنة سلعة الله: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
عرضها السماوات والأرض
فإذا به يقول عندما سمع أنه من أهل الجنة، وأنه ليس بينه وبين دخولها إلا أن يقتل في المعركة، وكانت في يده تمرات فقال لنفسه: والله إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل التمرات. وهي تمرة أو تمرتان فقط، فألقاها وتقدم إلى المعركة فقاتل حتى قتل.. إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] ومهما عملت في الدنيا من صلاة، وصيام، وعبادة، وقيام ليل فلا تظن أن هذا هو ثمن الجنة، فالجنة أغلى بكثير.. (والله لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا...).
الجنة أغلى من أن يكون عملنا ثمناً لها، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة من عنده) فأعمالنا إنما هي سبب لرحمة الله التي هي السبب الحقيقي لدخول الجنة.
اسمع إلى الجنة، وتخيل وتصور أنك قد تجاوزت الحساب، وتصور أن موازينك قد ثقلت بالحسنات، وتصور أنك قد جزت الصراط ولم يبق على دخول الجنان إلا فتح أبوابها، ثم يؤذن لهم بالدخول.
أبواب الجنة ومن يفتحها
الجنة.. من الذي يفتح له بابها؟ ثمانية أبواب بين مصراعي الباب مسيرة أربعين عاماً.
يخرج أفضل الناس وخير الخلق، سيد ولد آدم يوم القيامة محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا به يأخذ حلقة من حلقات أبواب الجنة، فيقول الملك: من أنت؟ فيقول: أنا محمد، بكل أدب وتواضع عليه الصلاة والسلام، فيقول الملك: لك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك. فتصور أن الباب قد فتح، وتخيل أنك تنظر إلى ذلك الباب، وأنك تنتظر الإذن لتدخل إلى تلك الجنان.. يقول الإمام أحمد بن حنبل لما سُئل: متى يجد العبد طعم الراحة؟
العبد في الدنيا في أذى وهم وبلاء وفتن، وهو صابر على العبادة.. متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال الإمام أحمد: عند أول قدم يضعها في الجنة.
تخيل وأنت تسمع الملائكة تسلم على المؤمنين وهم يدخلون مع آبائهم، ومع أزواجهم وذرياتهم من صلح منهم، كل عائلة إذا كانت صالحة تدخل، كل واحد يقبض بيد الآخر، مع زوجاته، مع أحبابه، مع ذريته، مع آبائهم، يقبض أحدهم بيد الآخر.. وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد:23] وتستقبلهم الملائكة عند الأبواب تقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد:24] على أي شيء صبروا؟ على صلاة الفجر، وعلى قيام الليل، صبروا على صيام التطوع، صبروا على ذكر الله، صبروا على قراءة القرآن.. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24].
أصحاب الجنة
تقول: وهل أعرف مكاني إذا دخلت فيها؟ أقول: إذا دخلت إلى الجنة تعرف مكان قصرك أكثر مما تعرف بيتك في الدنيا.
أما من ينتظرك في ذلك القصر؛ وفي تلك الخيام، وما ينتظرك من النعيم مهما تصورت فلن تعلم.. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُن [السجدة:17] مفاجآت وجوائز ونعيم عظيم لن تتصوره.. (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
أتعلم أن أدنى أهل الجنة منزلة، آخر من يخرج من النار ويدخل إلى الجنة: رجل له مثل ملك الدنيا وعشرة أمثالها!
فيا من تقاتلوا لأجل الدنيا، ونسوا الصلاة، وفرطوا في الأذكار، وهجروا القرآن لأجل حفنة من الدنيا، اعلموا أن آخر أهل الدنيا دخولاً الجنة؛ له مثل الدنيا وعشر أمثالها.
(يدخل
مناديل سعد.. أرأيت المناديل التي ترمى ولا يؤبه لها.. (مناديل
جاء في حديث: (لو أن ما يحمل ظفر من الجنة بدا -لو واحد يحمل بظفره شيئاً من الجنة، فيخرجه من الجنة، أتعرف ما الذي يحصل؟- لتزخرفت خوافق السماوات والأرض).
وفي حديث آخر: (لو أن امرأة من الحور العين اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها).. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
تصور نفسك أيها العبد المؤمن الصادق! يا من تحافظ على صلاة الفجر! يا من لك ورد من القرآن! يا من تصلي شيئاً من الليل! يا من ترفع يديك تطلب النجاة من الله! تصور نفسك وقد دخلت الجنان، تنعم فيها ولا تبأس، لا تظمأ فيها ولا تضحى، تصور ما الذي تراه؟! لا شمس في الجنة، سبحان ربي! من أين يأتي الضوء؟! وفيها ظلال، سبحان الله! ومن أين يأتي الظلال إذا لم يكن فيها شمس؟! لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الإنسان:13] أي: لا شمس، ولا برد، من أين تأتي الأنوار؟! يقول شيخ الإسلام: نور يأتي من قبل عرش الرحمن فيضيء لأهل الجنان. الله أكبر!
أنهار الجنة
تخيل أنك تجلس على ضفاف نهر من هذه الأنهار، نهر من لبن، نهر من عسل، نهر من خمر لا كخمر الدنيا.. (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) قال بعض أهل العلم: لا يدخل الجنة إذا لم يتب، وقال بعضهم: إذا دخل الجنة فإنه لا يشربها داخل الجنة، ومن قال: لا يدخل الجنة، قال: إذا استحل شرب الخمر..
ونهر من عسل، نهر من لبن أبيض من لبننا، وأحلى من طعمه في الدنيا، تخيل أنك تجلس على هذه الأنهار.. أنهار الدنيا تجري في أخاديد، أما أنهار الجنة فلا أخاديد لها، تقول: وكيف تجري؟! وكيف تسير على أرض الجنة؟! أقول لك: تسكب على أرض الجنة سكباً.
قال تعالى: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الواقعة:27-28] أتعرف ما هو السدر؟ إنه شجر فيه شوك لكنه في الجنة مخضود، ذهب شوكه وصار مكان كل شوكة ثمرة، تفتق هذه الثمرة من أكثر من سبعين لوناً لم نرَ مثلها في الدنيا: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ [الواقعة:28-31] مائة عام يسير الراكب الجواد في هذا الظل لا يقطعه، أتتصور هذا! أتتخيل هذا يا عبد الله! أي شجرة هذه؟!
يجلسون على الأرائك، إذا اشتهى ثمرة من الشجرة لا يقوم من مجلسه، تدنو له الثمرة إلى مجلسه، فيقطفها فيأكلها إذا شاء، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.. وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة:32-34] فرش ترفع من ديباج (حرير) أسرة يجلس ويتكأ عليها.
يجتمع أهل الجنان يتحدثون، فإذا بهم يتذاكرون الدنيا، وأحزانها، ومصائبها وآلامها، يوم صبروا على الجهاد، وصبروا على طاعة الله، يوم جلسوا في المساجد يذكرون الله، يذكر بعضهم بعضاً.. أتذكرون القيام في رمضان؟ أتذكرون مجالس الذكر في ذلك المسجد؟ أتذكرون حين ذهبنا إلى العمرة وحججنا بيت الله؟ أتذكرون أيام الجهاد؟ قَالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26] أي: خائفين من الله فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27].
الشوق إلى الجنة
يأتي جبريل إلى رسول الله ويخيره؛ وقد جاءت منيته، واقتربت وفاته: أتريد أن تعيش أكثر أم تلتحق بالرفيق الأعلى؟ ماذا سيختار. هل سيختار هذه الدنيا الفانية؟ هل سيختار هذه الدنيا التي فيها الهم والغم والنكد والأحزان والأمراض؟ قال: بل الرفيق الأعلى، وحقاً كما قال، قبض عليه الصلاة والسلام، واختار الآخرة على هذه الدنيا الفانية.. مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].
الحور العين
يغنين لأزواجهن، بل أخبر الله أنهن: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56].. إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً [الواقعة:35-36] مهما وطأها الرجل ترجع بكراً.. عُرُباً أَتْرَاباً [الواقعة:37] نفس السن: لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:38] أي: لأهل الصلاة، لأهل الذكر، الذين صبروا عن الحرام، وغضوا أبصارهم عن الحرام.
وإذا سأل النساء: هذا للرجال فمالنا؟ أما المرأة الصالحة إذا دخلت الجنة فإنها تكون سيدة على الحور العين، وجمالها لا يقارن بجمال الحور العين، وحسنها وكرامتها أعظم بكثير من الحور العين، لمن هذا؟ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:38-40] قال بعضهم يصف تلك الحور:
فلو أن حوراً في الدياجي تبسمت لجلَّى دجى الظلماء في الأرض نورها |
ولو مُزِجَ الماء الأجاج بريقهـا لأصبح عذباً سلسبيلاً بحورها |
ونصيفها -أي: خمارها- خير من الدنيا وما فيها.
يا من فرط في الصلاة لأجل شيء من الدنيا! يا من ضيع القرآن من أجل حطام الدنيا! ألا تعقل.. ألا تفكر.. ألا تنتبه لنفسك؟!
مالك بن دينار قال له رجل: رأيت فيما يرى النائم.. رأى رؤيا يُكلم عابداً زاهداً، تقياً لله، رجلاً ورعاً يسمى مالك بن دينار، يقول له رجل: يا إمام! رأيت فيما يرى النائم أن منادياً ينادي: الرحيل الرحيل، فما رأيت رجلاً يرتحل إلا محمد بن واسع؛ أحد الصالحين، أحد العباد، أحد الزهاد، يقول: ما رأيت أحداً يرتحل إلا محمد بن واسع . فصاح مالك وبكى، ومن شدة البكاء سقط على الأرض مغشياً عليه.. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10] هناك من سبق، هناك من وصل، هناك من بشر بالجنة وهو على الأرض يمشي.. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:11-12] ألسابقون بجمع المال، أم السابقون بالشهوات، أم السابقون بالطعام والشراب؟ لا وربي، بل السابقون بقيام الليل، بالصلوات الخمس، بصلاة الفجر في الجماعات، السابقون بذكر الله.
يمشي النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فإذا به يقول للصحابة: (سبق المفردون، قالوا: من المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة) فأين الذاكرون؟ النخلة في الدنيا يزرعها الإنسان شهوراً، ويتعب عليها شهوراً؛ لأجل أن يحصل على شيء من ثمارها وربما لا يحصل، أما في الجنة فما من شجرة إلا وساقها ذهب، ونخلة بالجنة لا تريد منك إلا ثواني معدودة.. (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة) الله أكبر!
كم تنتظر في الدنيا لأجل بيت من البيوت، أو شقة تسكنها؟ كم تجمع، وكم تتعب، وكم تنصب، ولا بد منها، هذه متطلبات الدنيا والحياة، أما بيوت الجنة؛ فلبنة من ذهب ولبنة من فضة.. لا كذهب الدنيا وفضتها، وملاطها ممسوحة بالمسك، الله أكبر!
ما راحتها، ما جمالها، ما منظرها؟ إنه ذهب وفضة ومسك.. كيف تحصل على بيت في الجنة؟ (من قرأ (قل هو الله أحد) عشر مرات بني له بيت في الجنة) كم مرة فعلتها اليوم؟ كم مرة صنعتها اليوم؟
أرأيت كم نحن مفرطون في الأجور والحسنات، وكم ضيعنا من الأوقات، وكم ضيعنا من الأعمار؟
إن بعض الناس لا يحلو له في سيارته من بيته إلى العمل، أو في أي مشوار إلا أن يضع أشرطة الأغاني والطرب والموسيقى، ولو استغل هذه الأوقات بذكر الله، وبقراءة القرآن، وباستماع الدروس والمواعظ، لكم قد بنيت له بيوت وبيوت في الجنة، وغرست له أشجار وأشجار في الجنة، ولكن: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:56].
طعام أهل الجنة وشرابهم
حديث أهل الجنة
ولما أرادت تلك الفتاة أن تتحجب، وأن تلتزم بدين الله وبشرع الله، وأن تقبل على الصلاة وتلتزم مع الصالحات؛ جاءتها فلانة فقالت لها: يا فلانة! ضحكوا عليك، يا فلانة! استهزءوا بك، يا فلانة! غرروا بك، لنتمتع بشبابنا، لنتمتع مع الرجال الشباب، ثم بعدها نتوب.
وجاء ذلك الشاب وأراد أن يضيع هذا الصالح فقال له: يا فلان اصبر! لنلهو بهذه الدنيا؛ لنتمتع بها، ثم بعدها نتوب، لكنه بفضل الله ما سمع كلامه، وأصر على التوبة، وتمسك بالهداية، واختلط بالصالحين، والتزمت هي مع الصالحات، وتحجبت وتسترت، وما سمع أحد منهما كلام ذلك الرجل الضال، أو تلك الفتاة الضالة، فإذا به يسأل: هل رآه منكم أحد؟ ما رآه أحد.
وفجأة تُكشف لهم النار وهم في الجنة، إنا لله وإنا إليه راجعون! إنها النار بلظاها وسمومها وحرها، لا يصلهم منها شيء ولكنهم يرونها، فإذا به يرى صاحبه في النار يحترق، أو هي ترى صاحبتها في النار تحترق، فإذا بالحديث بين هذا وهذا، كلاهما يرى الآخر، هذا يحدث هذا، وهذا يرد على هذا، الله أكبر! يقول له: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات:56] وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57] أي: لولا أن الله ثبتني وعصمني وصبرت مع الصالحين لكنت معك الآن في النار.. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ [الصافات:50-51] في الجنة إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:51] صاحب يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:52-53] متى سيأتينا الموت؟ إلى الآن في الحياة متسع، أنت شباب تمتع بهذه الدنيا، يغرر به أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53] هل تصدق بالحساب؟ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54] انكشفت النار.. فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:55-57] نعمة الله، هو الذي يثبت، وهو الذي يهدي، وهو الذي يعصم.
وجعل الله لك أسباباً: صحبة صالحة، مساجد، حلق علم، ذكر الله، قراءة قرآن.. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57] ثم يلتفت إلى أهل الجنة وهو سعيد متمتع فيقول: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ [الصافات:58] هل حقاً ليس في الجنة موت: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:58-61] لمثل هذا الموقف، لمثل هذا النعيم، لمثل تلك الجنان فليعمل العاملون، لا مرض، لا سقم، لا هم، لا غم، لا مصائب.
تخيل وأنت في الجنة متنعم، تلهو وتمرح، وتأكل وتشرب، وتجامع ما شئت من النساء، حتى النوم ليس هناك نوم في الجنة، حتى النوم منعوا من النوم لأنه موتة صغرى، وليس في الجنة موت حتى يتنعموا بما يشاءون في تلك الجنان.
الزيادة لأهل الجنة
سوف نبدأ وإياكم بشيء من أوصافها، ثم لا تعجب حين تسمع أن عمير بن الحمام؛ وهو رجل كبير، قبل بدر يسمع صفة من صفاتها، وهي: أن عرضها كعرض السماء والأرض، فقال: (بخ بخ! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما حملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا شيء إلا رجاء أن أكون من أهلها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يزف إليه بشارة: فإنك من أهلها) الله أكبر! الله أكبر! يبشر إنساناً من أهل الأرض أنه من أهل الجنة، هل يريد حياة في الدنيا بعدها؟! هل يريد أن يعيش في الدنيا؟! إذا كانت الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فلم يعيش الإنسان إذا علم أنه من أهل الجنة؟!
فإذا به يقول عندما سمع أنه من أهل الجنة، وأنه ليس بينه وبين دخولها إلا أن يقتل في المعركة، وكانت في يده تمرات فقال لنفسه: والله إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل التمرات. وهي تمرة أو تمرتان فقط، فألقاها وتقدم إلى المعركة فقاتل حتى قتل.. إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] ومهما عملت في الدنيا من صلاة، وصيام، وعبادة، وقيام ليل فلا تظن أن هذا هو ثمن الجنة، فالجنة أغلى بكثير.. (والله لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا...).
الجنة أغلى من أن يكون عملنا ثمناً لها، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة من عنده) فأعمالنا إنما هي سبب لرحمة الله التي هي السبب الحقيقي لدخول الجنة.
اسمع إلى الجنة، وتخيل وتصور أنك قد تجاوزت الحساب، وتصور أن موازينك قد ثقلت بالحسنات، وتصور أنك قد جزت الصراط ولم يبق على دخول الجنان إلا فتح أبوابها، ثم يؤذن لهم بالدخول.
الجنة لها ثمانية أبواب، تصور أنك تنتظر دخولها وهي تتلألأ من بعيد، وريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً، لو ابتعدت عنها أربعين سنة شممت رائحتها.
الجنة.. من الذي يفتح له بابها؟ ثمانية أبواب بين مصراعي الباب مسيرة أربعين عاماً.
يخرج أفضل الناس وخير الخلق، سيد ولد آدم يوم القيامة محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا به يأخذ حلقة من حلقات أبواب الجنة، فيقول الملك: من أنت؟ فيقول: أنا محمد، بكل أدب وتواضع عليه الصلاة والسلام، فيقول الملك: لك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك. فتصور أن الباب قد فتح، وتخيل أنك تنظر إلى ذلك الباب، وأنك تنتظر الإذن لتدخل إلى تلك الجنان.. يقول الإمام أحمد بن حنبل لما سُئل: متى يجد العبد طعم الراحة؟
العبد في الدنيا في أذى وهم وبلاء وفتن، وهو صابر على العبادة.. متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال الإمام أحمد: عند أول قدم يضعها في الجنة.
تخيل وأنت تسمع الملائكة تسلم على المؤمنين وهم يدخلون مع آبائهم، ومع أزواجهم وذرياتهم من صلح منهم، كل عائلة إذا كانت صالحة تدخل، كل واحد يقبض بيد الآخر، مع زوجاته، مع أحبابه، مع ذريته، مع آبائهم، يقبض أحدهم بيد الآخر.. وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد:23] وتستقبلهم الملائكة عند الأبواب تقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد:24] على أي شيء صبروا؟ على صلاة الفجر، وعلى قيام الليل، صبروا على صيام التطوع، صبروا على ذكر الله، صبروا على قراءة القرآن.. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24].
استمع المزيد من الشيخ نبيل العوضي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رسالة إلى كل من ابتلي بمس أو سحر أو عين | 2683 استماع |
فرصة للتوبة | 2630 استماع |
فصة برصيصا | 2597 استماع |
التوحيد | 2594 استماع |
قصة الفاروق الحلقة السادسة | 2528 استماع |
العبادة في رمضان | 2486 استماع |
الوقت وأهميته | 2467 استماع |
دعاة الفساد | 2460 استماع |
لنخرج العباد من عبادة العباد | 2456 استماع |
لقاء مع الشيخ المغامسي | 2438 استماع |