Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

من الطارق؟


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام: من الطارق؟! هذه الكلمات أسأل الله تبارك وتعالى أن يفتح لها القلوب، وأسأل الله جل وعلا أن لا يفرق هذا الجمع إلا بذنبٍ مغفور، وأسأله تبارك وتعالى كما جمعنا في هذا الجمع الكريم أن يجمعنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجمعني وإياكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

الموت يزورك بلا موعد

أيها الإخوة الكرام: كم من الناس من يعيش في هذه الدنيا يلهو ويلعب، ينام ويستيقظ، يأكل ويشرب، ينكح النساء وينجب الأبناء، ويظن هذا المسكين أنه في هذه الدنيا مخلد، يظن أنه لما يجمع المال ويبني القصور يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:3] يظن أنه سوف يعيش أبداً في هذه الدنيا، والمسكين لا يدري أنه في تلك الليلة الموعودة، أو في ذلك اليوم الأخير لعله كان جالساً مع أولاده وبناته الصغار يداعبهم ويلاعبهم، المسكين ما صلى ظهراً ولا عصراً، ما صلى لله عز وجل، ولعله قضى ليلته في الحرام، أو بالنظر إلى النساء، أو باستماع الأغاني، ثم داعب أهله وأولاده ثم ذهب إلى الفراش بعد أن قال لهم: أيقظوني للعمل، ولا يفكر في صلاة الفجر، ولا في قيام الليل، بل لربما نام على جنابة، فإذا به أثناء النوم يأتيه شيءٌ غريب فيقول له: من أنت؟! قال: أنا ملك الموت -ما الذي جاء بك؟! طرق البيت ودخل بغير استئذان، إنه الطارق، ما الذي جاء بك؟!- جئت أنتزع الروح، وأقبض الأمانة، الأمر سريع، والخطب فضيع، وهذا المسكين يقول للملك: أمهلني دقائق، حتى أصلي ركعتين أتوب بها إلى الله، ما اغتسلت من جنابة، عندي أموال لا زالت من الربا لم أرجعها، ولم أنفقها في الحلال، عندي بعض المظالم لم أرجعها إلى أصحابها.

أمهلني دقائق، أرجع فأصلي لله ركعات، أسجد لله سجدة أتوب بها: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99].

ما الذي حدث؟ إن الروح بدأت تخرج، وبدأ ينزعها ملك الموت، فخرجت من رجليه؛ ما بال الرجلين بدأتا تبردان.. يصيح.. جاءت الزوجة فقالت له: ما بالك يا فلان؟ ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ ينظر إليها ولا يستطيع أن يجيب، حشرجت نفسه في صدره، وبدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة.. بكت الزوجة، ونادت الأولاد، ونادت من في البيت، جاء الأولاد الصغار، بدأت البنت تبكي وتنطرح على صدره وتقول: أبتِ! ما لك لا تجيب؟ وجاء الولد وهو يقول: يا أبتِ قبل قليل كنت تداعبنا، كنت تلاعبنا، كنت تضاحكنا، ما لك الآن لا تجيب؟ ينظر بعينين دامعتين، وهو لا يستطيع حراكاً.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] من هؤلاء؟ إنهم ملائكة سود الوجوه؛ لسود صحائفه، وسود أعماله، وسواد قلبه.. جاء الله بملائكة سود، من أنتم؟! إنهم من سوف يشيعونه إلى الملأ الأعلى، بدأت الروح تخرج، بدأت تتوزع في الجسد، وبدأ ملك الموت ينتزع وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً [النازعات:1]* وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:2].

بدأ ينزع الروح وهي تتقطع وتقطع معها المفاصل والعروق، وهو يصيح ويبكي ولكن..

جاء الأب، جاء الحبيب، جاء الخل، جاء الأخ، جاء الأولاد، جاءت البنات.. انطرحوا على صدره، بكوا حوله، جاء الأب بالطبيب لعل الطبيب يسعفه وهو في اللحظات الأخيرة، تظنه بم يفكر؟ يفكر في دنياه، يسمع القلب يضرب الضربات الأخيرة.

دقات قلب المرء قائلة له     إن الحياة دقائقٌ وثواني

إن الحياة دقائق ذهبت، وثوانٍ مضت، وأعوامٌ ذهبت وانصرمت، ماذا فعلت فيها يا عبد الله؟

مسكين.. قبل قليل كان يضحك ويلعب، وكان يلهو ويفرح.

وعد أهله وأولاده بالسفر هذه السنة، كان يقول لهم قبل قليل: سوف نسافر إلى بلد كذا وكذا، وكان يجمع الأموال ويعد العدة للسفر، وكان يوعد الزوجة بتأثيث هذه الغرفة، وبشراء ذلك البيت، بل كان يحسب الرصيد حتى يأتيه بمال ليتزوج الزوجة الثانية، أو ليشتري سيارة أخرى أو يبني قصراً، أو يؤثث بيتاً، ولكن مسكين.. كل هذا ذهب بلمح البصر.

لا أحد ينفعك عند سكرات الموت

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26] وصلت الروح إلى الترقوة والعينان تبصران، ولكنه لا يستطيع حراكاً كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26]* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27].

من يداويه؟ من يعالجه؟ من يطببه؟ ما بال هذا الطارق لم يستأذني؟ ما باله جاءني بغتة؟ ما باله لم يخبرني حتى أرجع المظالم إلى أهلها؟ لِمَ لم يحدثني قبلها بفترة حتى أتوب؟ وقد كان كلما نصح وكلما وعظ: يا فلان! اتق الله، يا فلان! استقم على أمر الله، يقول: إن شاء الله قبل أن أموت.

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26]* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27]* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] المسكين تأكد أن الأمر انتهى، وعلم أن الدنيا قد انقضت، حياة الزوجة والبيت والأثاث، والسيارات والمراكب، الجلوس في الدواوين إلى آخر الليل، الأفلام والمسلسلات، المباريات على الأرصفة، الأرصدة الضخمة، كلها ذهبت وولت بلمح البصر، وصارت أغلى أمنية له أن يرجع للدنيا ليركع ركعة، وغاية ما يتمنى أن يؤخر لحظات ليتوب إلى الله، ولكن كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا[المؤمنون:100] كلمة يقولها كما كان يقولها في الدنيا، كلما وقع بمصيبة قال: ربي لئن كشفت عني المصيبة تبت، فلما انكشفت رجع على حاله، كذب على الله جل وعلا مرات ومرات، كلما ضاقت به الأمور قال: رب لئن فرجتها عني لأرجعن إليك ولأتوبن، فلما انفردت الأمور رجع إلى ذنوبه ومعاصيه كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

يسمع الزوجة تقول له: لمن تتركنا؟! ولمن تخلفنا يا فلان؟ تذهب وتتركني مع أولادك الصغار، فمن يربيهم؟ من يطعمهم؟ من يسقيهم؟ يا فلان! أجبني، والبنت الصغيرة تقول له: يا أبتِ لِمَ لا تجيب؟ يا أبتِ من يوصلني إلى المدرسة؟ يا أبت! من يشتري لي اللعبة التي وعدتني إياها؟ والابن يقول له: يا أبتِ! ألم تعدني قبل ساعاتٍ وقبل لحظات بسفرٍ إلى بلد كذا؟ ألم تخبرني أنك سوف تأخذني غداً إلى هذا المكان؟ يا أبتِ لم لا تجيب؟ وهو جثة هامدة، لم يبق فيه إلا عينان تبصران، ولا يستطيع أن يحرك ساكناً: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28].

ثم غسل وكفن وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29]* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاق [القيامة:30] ثم صلي عليه وحمل على الأعناق، فإن كان فاجراً، يقول وهو محمول على الأعناق: يا ويلها، يا ويلها، أين تذهبون بها؟ يا ويلها ما صلت! يا ويلها ما خشعت! يا ويلها ما تابت! يا ويلها ما ندمت! يا ويلها كانت تصر على المعاصي والذنوب! كانت تقلب بصرها في الحرام، يا ويلها طالما مشت إلى الفجور، وإلى المعاصي، وإلى الحرام والخنا والزنا! يا ويلها كانت تخطط للذنوب والحرام، يا ويلها أين تذهبون بها؟ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاق [القيامة:30].

فإذا به يوضع وتخيل -عبد الله- فلعل هذه الليلة التي تسمعني بها هي الأخيرة! [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء]].

شدة خوف السلف من الموت

أخي الكريم: هل رأيت مصرعاً كهذا؟ هل رأيت رجلاً كهذا الرجل؟ كان يأمل ويحلم، ويخطط، ولكن الأجل كان أقرب من حلمه.

الحسن البصري رأى رجلاً يصرع فيموت، فرجع إلى البيت، فقيل له: يا أبا سعيد.. العشاء! فلم يجبهم، ثم قالوا له: يا أبا سعيد.. العشاء! فلم يجبهم، ثم قالوا له: يا أبا سعيد.. العشاء رحمك الله! قال: [كلوا عشاءكم؛ فإني رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه] كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35].

تخيل نفسك -يا عبد الله- على الفراش، تتنازع الروح! بل تخيل بحادث سيارة، لعلك قلت للأهل: سوف أذهب وأشتري لكم الأغراض ثم آتي إلى البيت، ولكنه الحادث الأخير، تخيل وأنت ذاهبٌ وخلفت الصلاة خلفك، وتركتها وضيعتها، ذاهبٌ إلى أين؟ لتشتري الحرام، أو لتجلس مع أصحاب السوء، أو لتذهب إلى الملاعب والملاهي، تاركاً خلفك الصلاة والمؤذن ينادي، فإذا بملك الموت ينتظرك: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].

عمر بن عبد العزيز، كان في كل ليلة يجلس ويجمع حوله الفقهاء والعلماء، فيتذاكرون الموت والدار الآخرة، فيبكي ويبكون وكأنما جنازة مرت بينهم، أوكأنهم شيعوا جنازة.

الموت، هادم اللذات -يا عبد الله- لا يستأذنك ولا يخبرك، بل يأتيك بغتة، بل وتخرج نفسك فلتة.

عبد الله! لن تدرك أن تتوب إلا إذا وفقك الله، لا تقل: غداً أتوب، ولا تقل: في العام القادم، ولا تقل: إذا اعتمرت، ولا تقل: إن شاء الله إذا حججت، ولا تقل: إذا تزوجت، ولا تقل: إذا فعلت كذا وكذا أتوب إلى الله، وما يدريك أنك سوف تدرك هذه الأيام.

تفكر في مشيبك والمآبِ     ودفنك بعد عزك بالتراب

إذا وافيت قبراً أنت فيه     تقيم به إلى يوم الحسابِ

وفي أوصال جسمك حين تبقى     مقطعة ممزقة الإهابِ

فلولا القبر صار عليك ستراً     لأنتنت الأباطح والروابي

خلقت من التراب فصرت حيا     وعلمت الفصيح من الخطابِ

فطلق هذه الدنيا ثلاثاً     وبادر قبل موتك بالمتابِ

نصحتك فاستمع قولي ونصحي      فمثلك قد يبل على الصوابِ

خلقنا للممات ولو تركنا     لضاق بنا الفسيح من الرحابِ

ينادى في صبيحة كل يومٍ     لدول الموت وابنوا للخرابِ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5] كم من الناس من فضحه الله؛ كان يتظاهر أمام الناس بالصلاح، وسيماه سيماء المتدين، ولكنه للأسف بينه وبين نفسه معصية يصر عليها! كان إذا جاء إلى البيت يغلق على نفسه البيت ويطفئ الأضواء ويرتكبها، وإذا خاطبته نفسه قال: الله غفور رحيم، والمسكين ما كان يدري أن ملك الموت قد دخل عليه في تلك اللحظة وقبض روحه واستل نفسه من بين جنبيه.

أيها الإخوة الكرام: كم من الناس من يعيش في هذه الدنيا يلهو ويلعب، ينام ويستيقظ، يأكل ويشرب، ينكح النساء وينجب الأبناء، ويظن هذا المسكين أنه في هذه الدنيا مخلد، يظن أنه لما يجمع المال ويبني القصور يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:3] يظن أنه سوف يعيش أبداً في هذه الدنيا، والمسكين لا يدري أنه في تلك الليلة الموعودة، أو في ذلك اليوم الأخير لعله كان جالساً مع أولاده وبناته الصغار يداعبهم ويلاعبهم، المسكين ما صلى ظهراً ولا عصراً، ما صلى لله عز وجل، ولعله قضى ليلته في الحرام، أو بالنظر إلى النساء، أو باستماع الأغاني، ثم داعب أهله وأولاده ثم ذهب إلى الفراش بعد أن قال لهم: أيقظوني للعمل، ولا يفكر في صلاة الفجر، ولا في قيام الليل، بل لربما نام على جنابة، فإذا به أثناء النوم يأتيه شيءٌ غريب فيقول له: من أنت؟! قال: أنا ملك الموت -ما الذي جاء بك؟! طرق البيت ودخل بغير استئذان، إنه الطارق، ما الذي جاء بك؟!- جئت أنتزع الروح، وأقبض الأمانة، الأمر سريع، والخطب فضيع، وهذا المسكين يقول للملك: أمهلني دقائق، حتى أصلي ركعتين أتوب بها إلى الله، ما اغتسلت من جنابة، عندي أموال لا زالت من الربا لم أرجعها، ولم أنفقها في الحلال، عندي بعض المظالم لم أرجعها إلى أصحابها.

أمهلني دقائق، أرجع فأصلي لله ركعات، أسجد لله سجدة أتوب بها: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99].

ما الذي حدث؟ إن الروح بدأت تخرج، وبدأ ينزعها ملك الموت، فخرجت من رجليه؛ ما بال الرجلين بدأتا تبردان.. يصيح.. جاءت الزوجة فقالت له: ما بالك يا فلان؟ ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ ينظر إليها ولا يستطيع أن يجيب، حشرجت نفسه في صدره، وبدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة.. بكت الزوجة، ونادت الأولاد، ونادت من في البيت، جاء الأولاد الصغار، بدأت البنت تبكي وتنطرح على صدره وتقول: أبتِ! ما لك لا تجيب؟ وجاء الولد وهو يقول: يا أبتِ قبل قليل كنت تداعبنا، كنت تلاعبنا، كنت تضاحكنا، ما لك الآن لا تجيب؟ ينظر بعينين دامعتين، وهو لا يستطيع حراكاً.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] من هؤلاء؟ إنهم ملائكة سود الوجوه؛ لسود صحائفه، وسود أعماله، وسواد قلبه.. جاء الله بملائكة سود، من أنتم؟! إنهم من سوف يشيعونه إلى الملأ الأعلى، بدأت الروح تخرج، بدأت تتوزع في الجسد، وبدأ ملك الموت ينتزع وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً [النازعات:1]* وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:2].

بدأ ينزع الروح وهي تتقطع وتقطع معها المفاصل والعروق، وهو يصيح ويبكي ولكن..

جاء الأب، جاء الحبيب، جاء الخل، جاء الأخ، جاء الأولاد، جاءت البنات.. انطرحوا على صدره، بكوا حوله، جاء الأب بالطبيب لعل الطبيب يسعفه وهو في اللحظات الأخيرة، تظنه بم يفكر؟ يفكر في دنياه، يسمع القلب يضرب الضربات الأخيرة.

دقات قلب المرء قائلة له     إن الحياة دقائقٌ وثواني

إن الحياة دقائق ذهبت، وثوانٍ مضت، وأعوامٌ ذهبت وانصرمت، ماذا فعلت فيها يا عبد الله؟

مسكين.. قبل قليل كان يضحك ويلعب، وكان يلهو ويفرح.

وعد أهله وأولاده بالسفر هذه السنة، كان يقول لهم قبل قليل: سوف نسافر إلى بلد كذا وكذا، وكان يجمع الأموال ويعد العدة للسفر، وكان يوعد الزوجة بتأثيث هذه الغرفة، وبشراء ذلك البيت، بل كان يحسب الرصيد حتى يأتيه بمال ليتزوج الزوجة الثانية، أو ليشتري سيارة أخرى أو يبني قصراً، أو يؤثث بيتاً، ولكن مسكين.. كل هذا ذهب بلمح البصر.

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26] وصلت الروح إلى الترقوة والعينان تبصران، ولكنه لا يستطيع حراكاً كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26]* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27].

من يداويه؟ من يعالجه؟ من يطببه؟ ما بال هذا الطارق لم يستأذني؟ ما باله جاءني بغتة؟ ما باله لم يخبرني حتى أرجع المظالم إلى أهلها؟ لِمَ لم يحدثني قبلها بفترة حتى أتوب؟ وقد كان كلما نصح وكلما وعظ: يا فلان! اتق الله، يا فلان! استقم على أمر الله، يقول: إن شاء الله قبل أن أموت.

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26]* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27]* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] المسكين تأكد أن الأمر انتهى، وعلم أن الدنيا قد انقضت، حياة الزوجة والبيت والأثاث، والسيارات والمراكب، الجلوس في الدواوين إلى آخر الليل، الأفلام والمسلسلات، المباريات على الأرصفة، الأرصدة الضخمة، كلها ذهبت وولت بلمح البصر، وصارت أغلى أمنية له أن يرجع للدنيا ليركع ركعة، وغاية ما يتمنى أن يؤخر لحظات ليتوب إلى الله، ولكن كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا[المؤمنون:100] كلمة يقولها كما كان يقولها في الدنيا، كلما وقع بمصيبة قال: ربي لئن كشفت عني المصيبة تبت، فلما انكشفت رجع على حاله، كذب على الله جل وعلا مرات ومرات، كلما ضاقت به الأمور قال: رب لئن فرجتها عني لأرجعن إليك ولأتوبن، فلما انفردت الأمور رجع إلى ذنوبه ومعاصيه كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

يسمع الزوجة تقول له: لمن تتركنا؟! ولمن تخلفنا يا فلان؟ تذهب وتتركني مع أولادك الصغار، فمن يربيهم؟ من يطعمهم؟ من يسقيهم؟ يا فلان! أجبني، والبنت الصغيرة تقول له: يا أبتِ لِمَ لا تجيب؟ يا أبتِ من يوصلني إلى المدرسة؟ يا أبت! من يشتري لي اللعبة التي وعدتني إياها؟ والابن يقول له: يا أبتِ! ألم تعدني قبل ساعاتٍ وقبل لحظات بسفرٍ إلى بلد كذا؟ ألم تخبرني أنك سوف تأخذني غداً إلى هذا المكان؟ يا أبتِ لم لا تجيب؟ وهو جثة هامدة، لم يبق فيه إلا عينان تبصران، ولا يستطيع أن يحرك ساكناً: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28].

ثم غسل وكفن وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29]* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاق [القيامة:30] ثم صلي عليه وحمل على الأعناق، فإن كان فاجراً، يقول وهو محمول على الأعناق: يا ويلها، يا ويلها، أين تذهبون بها؟ يا ويلها ما صلت! يا ويلها ما خشعت! يا ويلها ما تابت! يا ويلها ما ندمت! يا ويلها كانت تصر على المعاصي والذنوب! كانت تقلب بصرها في الحرام، يا ويلها طالما مشت إلى الفجور، وإلى المعاصي، وإلى الحرام والخنا والزنا! يا ويلها كانت تخطط للذنوب والحرام، يا ويلها أين تذهبون بها؟ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاق [القيامة:30].

فإذا به يوضع وتخيل -عبد الله- فلعل هذه الليلة التي تسمعني بها هي الأخيرة! [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء]].

أخي الكريم: هل رأيت مصرعاً كهذا؟ هل رأيت رجلاً كهذا الرجل؟ كان يأمل ويحلم، ويخطط، ولكن الأجل كان أقرب من حلمه.

الحسن البصري رأى رجلاً يصرع فيموت، فرجع إلى البيت، فقيل له: يا أبا سعيد.. العشاء! فلم يجبهم، ثم قالوا له: يا أبا سعيد.. العشاء! فلم يجبهم، ثم قالوا له: يا أبا سعيد.. العشاء رحمك الله! قال: [كلوا عشاءكم؛ فإني رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه] كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35].

تخيل نفسك -يا عبد الله- على الفراش، تتنازع الروح! بل تخيل بحادث سيارة، لعلك قلت للأهل: سوف أذهب وأشتري لكم الأغراض ثم آتي إلى البيت، ولكنه الحادث الأخير، تخيل وأنت ذاهبٌ وخلفت الصلاة خلفك، وتركتها وضيعتها، ذاهبٌ إلى أين؟ لتشتري الحرام، أو لتجلس مع أصحاب السوء، أو لتذهب إلى الملاعب والملاهي، تاركاً خلفك الصلاة والمؤذن ينادي، فإذا بملك الموت ينتظرك: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].

عمر بن عبد العزيز، كان في كل ليلة يجلس ويجمع حوله الفقهاء والعلماء، فيتذاكرون الموت والدار الآخرة، فيبكي ويبكون وكأنما جنازة مرت بينهم، أوكأنهم شيعوا جنازة.

الموت، هادم اللذات -يا عبد الله- لا يستأذنك ولا يخبرك، بل يأتيك بغتة، بل وتخرج نفسك فلتة.

عبد الله! لن تدرك أن تتوب إلا إذا وفقك الله، لا تقل: غداً أتوب، ولا تقل: في العام القادم، ولا تقل: إذا اعتمرت، ولا تقل: إن شاء الله إذا حججت، ولا تقل: إذا تزوجت، ولا تقل: إذا فعلت كذا وكذا أتوب إلى الله، وما يدريك أنك سوف تدرك هذه الأيام.

تفكر في مشيبك والمآبِ     ودفنك بعد عزك بالتراب

إذا وافيت قبراً أنت فيه     تقيم به إلى يوم الحسابِ

وفي أوصال جسمك حين تبقى     مقطعة ممزقة الإهابِ

فلولا القبر صار عليك ستراً     لأنتنت الأباطح والروابي

خلقت من التراب فصرت حيا     وعلمت الفصيح من الخطابِ

فطلق هذه الدنيا ثلاثاً     وبادر قبل موتك بالمتابِ

نصحتك فاستمع قولي ونصحي      فمثلك قد يبل على الصوابِ

خلقنا للممات ولو تركنا     لضاق بنا الفسيح من الرحابِ

ينادى في صبيحة كل يومٍ     لدول الموت وابنوا للخرابِ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5] كم من الناس من فضحه الله؛ كان يتظاهر أمام الناس بالصلاح، وسيماه سيماء المتدين، ولكنه للأسف بينه وبين نفسه معصية يصر عليها! كان إذا جاء إلى البيت يغلق على نفسه البيت ويطفئ الأضواء ويرتكبها، وإذا خاطبته نفسه قال: الله غفور رحيم، والمسكين ما كان يدري أن ملك الموت قد دخل عليه في تلك اللحظة وقبض روحه واستل نفسه من بين جنبيه.

اسمعوا إلى هذا الرجل الذي كان يصلي، وكان مع الصالحين، ولكن ضعفت نفسه، وفتر إيمانه، وقل دينه، فصار لا يحافظ إلا على الصلاة، ويرتكب كثيراً من المعاصي والذنوب، انظر كيف مكر فمكر الله به، جلس يوماً مع أصحابه أصحاب السوء، فقالوا له: يا فلان! ما رأيك أن نذهب إلى بلاد كذا؟ قال: معاذ الله! ولا زال في القلب دينٌ وإيمان، قال: معاذ الله لا أذهب معكم، فلا زالوا به يراودونه، يا فلان! تعال معنا ولا تفعل شيئاً من الحرام، تعال وتمتع ولا ترتكب شيئاً من الإثم، قال: لا لن أذهب معكم، فلا زالوا به -أصحاب السوء- حتى أقنعوه بأن يسافر معهم.

وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33] غره بالله الشيطان، فسافر إلى تلك البلاد، فكان في كل ليلة يذهب أصحابه يسهرون على الحرام والخمر والنساء، ومعاقرة الحرام، وكان يمكث في غرفته لوحده، ولا يخرج معهم، ولا يرتكب الحرام معهم، فتقاسموا بينهم، ومكروا مكراً، وقالوا: فلان لا يرتكب الحرام معنا لا بد أن نوقعه معنا في الحرام.

كيف؟

سوف نأتيه بعاهرة داعرة إلى غرفته؛ انظر لأصحاب السوء؛ قال الله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] الله عز وجل يقول لك: لا تطع أولئك النفر الذين همهم الدنيا، وغايتهم الحرام، ويجلسون على الحرام، ويمسون عليه، ويقومون عليه، مجالسهم التلفاز والستلايت، والأفلام والمسلسلات، أحاديثهم عن النساء، وعن الفحش والبذاءة، غايتهم في الدنيا الحرام والمعاصي والذنوب، لا تطعهم ولا تجالسهم ولا تصاحبهم، لا تصاحب إلا مؤمناً، لكنه -للأسف- استرسل معهم.

جاءوه في تلك الليلة الحمراء، في ذلك اليوم المشئوم، فدخلوا عليه، وأدخلوا عليه العاهرة الداعرة، وأغروها بمال أن تراوده على نفسها، ثم أغلقوا الباب عليه، فلا زال يردها وتراوده، ويدفعها وتغريه، ويمتنع وتشهيه، فإذا به في لحظة ضعف سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44-45] وفي لحظة ضعف وقع عليها فزنى بها، فلما زنى فإذا بالطارق يدخل غرفته واستل روحه، وقبض الله روحه، يبعث على ما مات عليه كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [العنكبوت:57].