تفسير سورة الحجرات [7-10]


الحلقة مفرغة

قال الله ربنا جل جلاله: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7-8].

في هذه السورة الكريمة يعلم الله جل جلاله عباده المؤمنين الأدب مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيعلمهم كيف يجالسونه، وكيف يحدثونه، وكيف ينصتون إليه، وكيف يكون بعضهم مع بعض في الأخلاق.

يقول تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ)، وهم يعلمون ذلك، ولكن الله تعالى يذكرهم بهذا ليبني عليه آداباً وليبني عليه أخلاقاً ليتلزموها ويعملوا بها، فقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ)، أي وقروه، وعزروه، وعظموه، وأنصتوا إليه، وأطيعوا قوله، واقتدوا بفعله، والتزموا طاعته، ولا تقدموا عليه، ولا تكثروا عليه الإشارة والقول.

قال تعالى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات:7]، أي: لو يطيعكم في كثير مما اقترحتم عليه؛ لكان في ذلك عنتكم ومشقتكم وإثمكم وعذابكم، فالله جل جلاله جعل النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم فهو يختار لهم الأكرم والأصلح، واستشارته لهم إنما هي تطييب لنفوسهم وامتثال لأمر الله له: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] .

فقوله: (لَعَنِتُّمْ) مأخوذ من العنت، وهو المشقة والإثم والعذاب، فإذا استشاركم فأشيروا، فإن قبل فذاك، وإلا فما عليكم إلا السمع والطاعة.

يقول تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7].

أي: يا أيها الذين آمنوا! إن الله هو الذي حبب إليكم الإيمان، فحملكم على حبه والتزامه، والعمل به، وكونكم مؤمنين ومسلمين هو من تحبيب الله ذلك لكم.

وقوله تعالى: (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) جعله زيناً مقبولاً، فالواحد منا عندما يقول: (لا إله إلا الله) فيلتزم بها قولاً وعملاً يشعر بأن الله جل جلاله أكرمه بهذا الإيمان، فحببه إليه، وزينه في قلبه، وجعله يعتقد أن كل ما على وجه الأرض من أديان وملل سماوية نسخت، أو أرضية اخترعت وكانت من الشيطان، أشرف منها الإيمان بالله، والإيمان بمحمد رسول الله، فهو أشرف ما يعيش به، والذي أكرمه بذلك وحببه إليه وزينه في قلبه هو الله جل جلاله.

قوله تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، أي: كره إليكم الكبائر، وكره إليكم العظائم، وجميع أنواع المعاصي.

فالذين أكرمهم الله فحبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، هم الذين كره الله إليهم الكفر فاجتنبوه وتركوه، وكره إليهم الفسوق، وهو الخروج عن أمر الله، وعن طاعة الله بأنواع الكبائر والعظائم.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7] أي: الذين أرشدهم الله وأصلحهم فأصبحوا ذوي رشاد، وذوي صلاح، وذوي هداية.

قال تعالى: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:8].

فليس ذلك من قبل أنفسهم، ولكن ذلك فضل من الله ونعمة، فتحبيب الإيمان وتكريه الكفر والعصيان فضل من الله، ونعمة منه تفضل بها على المؤمنين وأنعم بها على المؤمنين.

قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:8]، عليم بمن يصلحه ذلك، حكيم في أقواله، حكيم في أفعاله، حكيم في قدره.

والحكيم: الذي يضع الأمور في مواضعها، فالله جل جلاله هو المتفضل على المؤمن حيث حبب إليه الإيمان وجعله مؤمناً، وأبعده عن الكفر وجعله عدواً للكفر والمعاصي، فذلك من فضل الله، وذلك من نعمة الله، والله هو العليم بعباده وما يصلحهم، والحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها.

يقول تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].

إن المؤمنين إخوة، فكل من قال: (لا إله إلا الله) هو أقرب إليك من أخيك لأبيك وأمك إن لم يكن مؤمناً، فالله ربط بين قلوب المؤمنين فجعلهم إخوة، وأعطاهم من الحقوق ما للإخوة من مواساة وإكرام وإعانة، ومن أجل ذلك قال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9].

أي: إن فئتان وجماعتان من المؤمنين اقتتلوا فقاتلت إحداهما الأخرى وطغت عليها فأصلحوا بينهما، ولا تكونوا مع إحداهما على الأخرى، ولا تتحزبوا بباطل، ولا تناصروا على الفساد وقتل المؤمنين، بل كل واحد فيهما أخ لكم وقريب لكم، فأصلحوا بين الفئتين والطائفتين اللتين اقتتلا.

معنى قوله تعالى: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ...)

قال تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9].

فإن أبت إحدى الفئتين وإحدى الطائفتين الصلح والخضوع للحق، فقاتلوها، حتى تجبروها على الاستسلام وعلى الخضوع للحق.

فقوله تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ) أي: ظلمت وانتقلت من الصلح إلى البغي والفساد وظلم المسلمين.

وقوله تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى [الحجرات:9]، أي: بغت طائفة على طائفة فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، أي: قاتلوا الفئة الباغية الظالمة المعتدية، ولا ينتهي قتالكم لها وحربكم عليها حتى تخضع لأمر الله.

فقوله تعالى: حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9] أي: حتى تعود إلى الحق وتحقيق الأخوة، فالأخ لا يظلم أخاه ولا يقاتله.

وفي الحديث: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).

وفي الحديث: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا) ، أي: الإسلام علانية، والإيمان في القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام.

معنى قوله تعالى: (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ....)

قال تعالى: فَإِنْ فَاءَتْ [الحجرات:9]، فإن عادت للحق، ورمت السلاح فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا [الحجرات:9]، أصلحوا بين هاتين الفئتين والطائفتين بالعدل، ولا تنحازوا لجانب على آخر، فأصحاب الطائفتين إخوة لكم برابطة الدين ورابطة الإسلام، فإن فاءت هذه الباغية فاعدلوا بينهما (وَأَقْسِطُوا).

يقال: القسط والإقساط، والإقساط: العدل، والقسط: الظلم، فقوله تعالى: (وَأَقْسِطُوا) أي: اعدلوا عندما تحكمون بين الفئتين بعد رمي السلاح وإلقائه، فانظروا لمعرفة القاتل من المقتول، والضائع ماله، والمنتهكة حرمته، فخذوا له حقه ممن ظلمه.

أي: فليكن إصلاحكم وحكمكم بالعدل الذي لا ظلم فيه، وبالقسط الذي لا حيف فيه.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، أي: يحب العادلين، وفي الحديث النبوي أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المقسطون على منابر من نور يوم القيامة على يمين عرش الله).

وبالعدل قامت السموات والأرض، وقد قال ربنا جل جلاله في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا).

فالله جل جلاله لا يسئل عما يفعل، وقد حرم الظلم على نفسه وأمر بالعدل، وهو أحكم الحاكمين جل جلاله، فهو يأمر الناس بالعدل وبالقسط وبعدم الظلم.

وبغي الباغي لا يخرجه عن الإيمان، والآية صريحة في ذلك.

ذكر من يوصف بالبغي

ولا يوصف بالبغي الكافر، وكثيراً ما يقال: إسرائيل باغية، والحق أنها مرتكبة أعظم من البغي، فإسرائيل كافرة لعينة أخت القردة والخنازير وعبد الطاغوت.

فالبغي إنما يوصف به المسلم، فالمسلم عندما يظلم أخاه ويقاتل أخاه يقال له: باغ، أما الكافر فيقال عنه: كافر أعلن الحرب على الله، وأعلنها على رسول الله، فيقاتل لكفره، ويقاتل لظلمه.

وأحكام البغاة أخذت من حروب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لما بغى عليه أهل الشام، وقاموا في وجهه وأنكروا خلافته، فكانوا بغاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر الذي رواه أكثر من عشرة من الأصحاب: (ويح عمار ! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار).

فالنبي يصف من قتل عماراً بالبغي، وقد قتله أهل الشام المتمردون على علي وخلافة علي، فكانوا البغاة، وكان جيش علي هو الداعي إلى الجنة وأولئك الدعاة إلى النار، وهم البغاة.

وحكم الله في الباغي عندما ينتصر عليه أن لا تؤخذ أمواله غنائم، ولا أولاده إماءً وعبيداً، ولا يجهز على جريح، ولا يلاحق مدبر، وإنما ذاك مع الكفار، فهم الذين تؤخذ أموالهم غنائم وأولادهم أرقاء وعبيداً إن شاء الحاكم والإمام ذلك، ورآه من مصلحة المسلمين، وأما البغاة فإنما يقاتلون ليخضعوا للحق وليخضعوا للعدل، فإن خضعوا واستسلموا رفع السيف عنهم، ثم يطالبون بعد ذلك بما أزهقوا من أرواح واستلبوا من أموال وهتكوا من حرمات، وهنا يقول الله جل جلاله: فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا [الحجرات:9]، أي: أصلحوا بين الفئتين المتقاتلتين العائدتين إلى الحق، واحكموا بينهما بالعدل بلا ظلم ولا حيف ولا انحياز لواحدة دون الأخرى.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، وإذا أحب الله شيئاً أحب فاعله، وإذا كره الله شيئاً كان مرتكبه آثماً، وكان مرتكبه ظالماً.

قال تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9].

فإن أبت إحدى الفئتين وإحدى الطائفتين الصلح والخضوع للحق، فقاتلوها، حتى تجبروها على الاستسلام وعلى الخضوع للحق.

فقوله تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ) أي: ظلمت وانتقلت من الصلح إلى البغي والفساد وظلم المسلمين.

وقوله تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى [الحجرات:9]، أي: بغت طائفة على طائفة فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، أي: قاتلوا الفئة الباغية الظالمة المعتدية، ولا ينتهي قتالكم لها وحربكم عليها حتى تخضع لأمر الله.

فقوله تعالى: حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9] أي: حتى تعود إلى الحق وتحقيق الأخوة، فالأخ لا يظلم أخاه ولا يقاتله.

وفي الحديث: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).

وفي الحديث: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا) ، أي: الإسلام علانية، والإيمان في القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام.




استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الحجرات [11-12] 1906 استماع
تفسير سورة الحجرات [14-18] 1315 استماع
تفسير سورة الحجرات [1-3] 1086 استماع
تفسير سورة الحجرات [4-7] 1075 استماع
تفسير سورة الحجرات [12-13] 878 استماع