تفسير سورة الزخرف [67-73]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].

الأخلاء: جمع خليل، وهم الأصدقاء والأحباب المتحابون في الدنيا، فإنهم في الآخرة بعضهم أعداء لبعض إلا المتقين.

فالأخلاء والأحباب الذين تكون محبتهم ومودتهم مقصورة على الدنيا، في يوم القيامة ينقلب بعضهم على بعض عدواً، فيشتم بعضهم بعضاً، ويهجر بعضهم بعضاً، ويسب بعضهم بعضاً بأقبح الصفات والنعوت.

لكن الإخلاء المتقون، والأحباب في الله، والإخوان في الله تبقى أخوتهم وخلتهم في الدنيا والآخرة، بل وتزداد في الآخرة؛ لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (المتحابون في الله هم على منابر من نور يوم القيامة)، وفي الحديث الشريف: (سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم- أخوان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه)، فاللذان تحابا في الله واتفقا عليه يكونان يوم القيامة في ظل العرش مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه والصالحين من أتباعهم.

يقول علي كرم الله وجهه: هنالك خليلان مؤمنان وخليلان كافران: أما الخليلان المؤمنان فيموت أحدهما فيقول: يا رب إن خليلي فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويخبرني بيوم لقائك، ويدعوني إلى الطاعة والحسنات، ويأمرني بالبعد عن الشر والمخالفات والسيئات فيا رب كما أكرمتني أكرمه، وكما أحسنت إليّ فأحسن إليه، فيأتي خليل هذا المؤمن، ويلتقي وإياه في الآخرة فيسأل: كيف خليلك؟

فيقول: كان نعم الصاحب لي، وكان نعم الخليل لي، كان يأمرني بطاعة الله ورسوله، ويخبرني بلقاء ربي، ويبعدني عن أهل الأدواء والأشرار، ويقول الثاني له مثل ذلك.

والخليلان الكافران يموت أحدهما فيقول: يا رب إن خليلي فلاناً كان يبعدني عنك، ويأمرني بالمنكر، وينهاني عن المعروف، ويأمرني بالباطل وبمصاحبة الأشرار، فخذه إليك وعامله كما عاملني، فيلتقيان يوم القيامة، فينعت أحدهما الآخر بأنه كان بئس الصاحب والخليل.

ففي يوم القيامة الأخلاء الكفرة أعداء بعضهم لبعض حينما كانت خلتهم للشيطان، فكم من غريب في يوم القيامة إلا المتقين الصالحين المؤمنين، فخلتهم وأخوتهم ستدوم بدوام الآخرة، ويكونون على منابر من نور كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم.

يقول ربنا جل جلاله: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف:68]، في يوم القيامة يعرض العباد على الله فيصيبهم الفزع وهم لا يدرون أللجنة مآلهم أم إلى النار مصيرهم، فتنادي الملائكة بأمر الله: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف:68]، فتطاول أعناق المسلمين والكافرين والمنافقين فيقولون: نحن عباد ربنا فلا خوف علينا ولا حزن، ولكن عندما يقول الله جل جلاله: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف:69]، يفزع الكفار والمنافقون لرعبهم، فلا ينتفع بهذا النداء غير المؤمنين بآيات الله ورسله وكتبه، بما جاء عن الله من الآيات البينات، وما جاء من أدلة واضحات تقطع بصدق الرسل والأنبياء، وما جاء عن الله من أوامر ونواه.

وكان المسلمون مستسلمين لأمر الله، مطيعين له، حيث أمرهم بالخير فعلوه جهد طاقتهم، وحيث نهاهم عن المنكر تركوه بكل ما يستطيعون.

فالمؤمنون بالله ورسله وكتبه يؤمنهم الله من الفزع الأكبر، فلا هم ولا حزن ولا خوف بتطمين الله لهم حينما يحزن الناس ويفزعون ويخافون على أنفسهم أن يكونوا في العذاب خالدين.

والمراد بـ الْيَوْمَ [الزخرف:68] أي: يوم القيامة، يوم العرض على الله.

فعباد الرحمن المؤمنون به المحسنون لا يخافون الفزع الأكبر، ولا يخافون الحزن، ولا يخافون الآلام، فالله قد أمنهم، وأنزل هذا الكتاب الكريم المعجز على خاتم الأنبياء ليبشرهم بهذا التأمين من الدنيا إلى الآخرة.

وكل إنسان على نفسه بصيرة، فالإنسان أدرى بنفسه، أمؤمن حقاً؟ أمخلص في إيمانه حقاً؟ فيعبد الله مخلصاً دون رياء ولا تسميع، فإن كان كذلك ومات على هذا فيرجو كل خير وكل فوز وكل نصر، فيدخل تحت قوله تعالى: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف:68-69].

و(الذين آمنوا) بدل عن (يا عبادِ) أي: يا عبادي الذين آمنوا بآياتنا، فهم الذين نودوا، وهم الذين شرفوا وكرموا بالنداء الإلهي، والتأمين الإلهي، فهم عباد الله المسلمون المؤمنون، الذين أمنهم الله في الدنيا مبشراً لهم على لسان آخر الأنبياء فيما أنزله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

هؤلاء العباد المؤمنون بآيات ربهم المحسنون المسلمون الدائنون بدين الحق، المؤمنون برسول الله خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام ومن جاء قبله من الأنبياء والرسل؛ تفصيلاً بمن ذكر اسمه، وإجمالاً بمن لم يذكر.

فالله ينادي عباده المؤمنين، ناسباً إياهم إلى ذاته الشريفة ومقامه العظيم، بأن يطمئنوا ولا يحزنوا ولا يخافوا.

ويقال لهم نتيجة ذلك يوم القيامة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:70].

فالجنة لكم خلقت، ولكم أعدت، وأنتم فيها خالدون خلوداً لا موت فيه ولا حزن ولا ملل ولا سأم، ادخلوها أنتم وأزواجكم المؤمنات بالله مثل إيمانكم، المسلمات بالله مثل إسلامكم، فكما اجتمعتم في الدنيا على طاعة الله والإيمان بالله ورسوله، كذلك تجتمعون في الجنة غير مكلفين بشيء، إن هي إلا اللذائذ، ولكم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون أبداً سرمداً.

وفسروا الأزواج بالنظراء، أي: ادخلوا أنتم ونظراؤكم، والأصل في معنى الزوج النظير، ويقال للزوجة زوج، كما يقال للرجل زوج، أي: أنهما اشتركا في الأولاد والحياة، واشتركا في قيام البيت، واشتركا في القيام بشئون الدنيا والآخرة، فكما اشتركا في ذلك في الدنيا، فإنهما يشتركان كذلك في الآخرة في الجنان.

اللهم اجعلنا منهم، وأكرمنا بما أكرمتهم، وأحينا مسلمين، وأمتنا كذلك محسنين لنفوز بهذا النداء الكريم: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:68-70].

ومعنى: (تحبرون) أي: تنعمون، وتكرمون، وتفرحون، وهو مأخوذ من الحبور والسرور والبهجة، كما وصفهم الله بقوله: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24] أي: ترى في وجوههم نضرتها وجمالها وبهاء النعمة، والرضا الإلهي والرحمة الإلهية.

قال تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71].

يقول ربنا واصفاً لهؤلاء الأزواج الذكران منهم والإناث عندما ينادون فيها بأنهم لا يخافون ولا يحزنون، فيؤمرون من قبل الملائكة بأمر الله أن يدخلوا الجنان متنعمين مسرورين مكرمين.

وقوله تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ [الزخرف:71] أي: من قبل الولدان الذين هم خدمهم وحشمهم، كأنهم اللؤلؤ المكنون، ومن زوجات طاهرات.

وقوله تعالى: بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف:71] أي: موائد الطعام تكون من ذهب، والأكواب: جمع الكوب، وهو الكأس الذي لا أُذن له ولا خرطوم ولا مقبض، ويسمى عندنا الفنجان.

هذه الأكواب كذلك من ذهب، وهم يطاف عليهم بالمآكل والمشارب، ولابد للأكل من شراب، ولا يكون شراب بلا طعام.

هذه الجنة يصفها الله بقوله: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71]، في الجنة كل ما تشتهيه نفس الإنسان، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أنواع لحوم الطيور، ولحوم الحيوانات التي تمشي على أربع، ولحوم الحيوانات العائمة، ومن أنواع الفواكه والمطاعم والمشارب والملابس مما تشتهيه نفس الإنسان وتلذ عينه برؤيتها والتمتع بها تمتعاً عينياً وتمتعاً نفسياً.

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن آخر إنسان يدخل الجنة ويخرج من النار رجل من الموحدين، يكون قد أذنب ما شاء الله له من كبائر، فيعذب في جهنم ثم يخرج منها، فكل من مات وهو يقول: لا إله إلا الله، ناطقاً بها لسانه، معتقداً بها جنانه، كان مآله الجنة، إما أن يغفر الله له ولا يدخل النار، والأمر أمر الله: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ [العنكبوت:21]، يغفر لمن يشاء ويحاسب من يشاء، وإما أن يعذب ما شاء الله له تمحيصاً له وتأديباً، والنتيجة الجنة.

وعندما يشتد عليه العذاب النفسي بأن يبقى وحده في جهنم وهو من الموحدين ووجهه إلى النار، يقول: (يا رب، هذه النار قد لفحني حرها، وآذاني لهيبها، وطال بي مكثها، فيا رب وجه وجهي إلى الجنة عسى أن يؤثر علي نعيمها، فيقول له الرب: عاهدني ألا تسألني مرة أخرى، يقول: يا رب وذاتك العلية ومقامك العظيم لا أطلب شيئاً سوى ذلك، فيستجيب الله له، فيوجه وجهه إلى الجنان فيستريح بالنعيم، وإذا به لا يستطيع أن يصبر على ذلك فيدعو الله ويتضرع إليه، فيقول: يا رب! أنت المسئول والمطلوب لا غيرك، أطلب منك أن تخرجني من النار وتضعني على باب الجنة، فيقول الله له: ما أغدرك يا إنسان، ألم تعطني المواثيق والعهود أنك لا تسألني شيئاً؟ يقول: يا رب، كرمك أكبر مني وأكبر من مواثيقي، ويعطيه من العهود والمواثيق، فيخرجه الله من النار! ويوقفه على باب الجنة، ويستريح من عذاب الله ويجد الرائحة، فيرى الناس يتمتعون وهو بعيد عنهم، فيضرع إلى الله ويصرخ ويقول: يا رب، كرمك أوسع مني، وجودك أكبر مني، أدخلني الجنة ولا تجعلني أذل خلقك، ويقول الله ما قال له في المرة الأولى والثانية، ثم بعد ذلك يدخله الجنة ويقول له: تمنّ؟ فيقول: أريد وأريد كذا وكذا، فيذكره الله ويسدد أمانيه فيقول ما ذكره الله به، وإذا بالجواد الكريم الغفور الرحيم يقول له: لك ما تمنيت ومثله معه).

يروي الحديث أبو هريرة في مجلس من الأصحاب والأتباع، فيقول له أبو سعيد : سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: (لك ما تمنيت وعشرة أمثاله)، فيؤكد أبو هريرة ويقول: هذا الذي سمعت، ويؤكد أبو سعيد ويقول: هذا الذي سمعت، فكلاهما صادق، وهما من الأصحاب الذين قال عنهم الله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119].

فآخر من يدخل الجنة وهو أكثر المؤمنين عذاباً لمقامه الطويل في النار له مثل نعيم الدنيا عشر مرات، وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام ما له من أجور وما له من حور عين بقوله: (ما بين أملاكه وقصوره مسافة ألفي عام) أي: بالتنقل بين ذلك، فهذا أقل أهل الجنة متعة بما في الجنان من خيرات وأرزاق ومتاع، وللموحد علامة في جبينه، فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أن النار لا تحرق جباههم)، تكريماً للجبهة التي تسجد لله موحدة ذاكرة عابدة، وعندما يؤمر حرس النار بأن يخرجوا الموحدين فإنهم يعرفونهم بهذه العلامة، وعندما يدخلون الجنة تنقلب عليهم هذه العلامة علامة بؤس وحزن وألم، ويقال عنهم (الجنهميون) الذين كانوا يوماً ما في جهنم، فيضرعون إلى الله ويبكون من هذه السمة التي أحزنتهم وآلمتهم ولا ألم ولا حزن في الجنة، فيكرمهم الله بإزالة تلك العلامة ويكونون كغيرهم، فلا يعرفون من دخل الأول ولا من دخل الآخر، فهذا آخر موحد يدخل الجنة له فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يطاف عليهم بسبعين ألف صحفة من ذهب، فيها من أنواع الطعام ومن أشكاله وألوانه ما لا تنقطع شهوته من أول مائدة إلى آخرها، ثم يقول وهو مبتهج لا يكاد يعرف ما يخرج منه، يقول: يا رب، هذا كثير وأريد أن أضيف جميع أهل الجنة على مائدتي، وهو لا يعلم إلا بعد زمن أن مائدته هي أقل موائد سكان أهل الجنة، وهم فوقه درجات).

ومن المعلوم في الشريعة: أنه كما أن النار دركات فالجنة كذلك درجات، وما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، ولا ندري هل من أعوام الدنيا أو من أعوام الآخرة؟ التي يكون اليوم فيها: كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].

وقد يتساءل بعض المسلمين ويقول: نحن إذا مكثنا يوماً أو يومين فإننا نشعر بالملل إن كنا بلا شغل، والجنة لا شغل فيها ولا عمل ولا عبادة ولا تكليف، فلماذا لا نمل؟

والجواب: لو فرضنا أن إنساناً أعطي حريته في التصرف في الأرض وأخذ يتنقل من قارة إلى قارة، ومن باخرة إلى طائرة إلى قطار إلى سيارة، إلى أخ إلى صديق إلى حميم إلى قريب، وهو في كل اجتماع وكل دورة وكل جلسة يكون فيها ما ليس في الأولى، فإنه لا يمل ولا يكل، فكيف بالآخرة؟

فأهل الجنة يتزاورون فينزل من في الدرجة العليا إلى من هو في الأسفل، وهكذا تجدهم من مكان إلى مكان، فالإنسان بزوجة واحدة إن كانت مطيعة تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، تجده يشعر معها بغاية البهجة، فكيف إذا كان عنده من الحور العين اثنتان وسبعون حورية، الواحدة منهن إذا أطلت على الدنيا عطرت الدنيا بريحها وبطيبها، فكيف بهن جميعاً؟ وهو يتنقل من واحدة لواحدة وهن مقصورات في الخيام، يقلن له: نحن الراضيات فلا نغضب، ونحن المقيمات فلا نخرج، ونحن الدائمات في طاعتك وفي خدمتك وفي البر بك، ثم إذا دخل يجدهن يتغزلن فيه: خرجت وأنت جميل! وعدت وأنت أجمل! وأكمل، وعدت كذا .. وكذا.

وفي الدنيا إخوان في الله وأقارب، فنرى آباءنا وأمهاتنا، فكيف إذا رأينا هناك الآباء، وآباء الآباء، والأجداد وأجداد الأجداد والأم وأم الأم، وبقية الأمهات؟ فسنتعرف هناك بفضل الله وكرمه على خلق كثيرين هم لنا أقارب قبل أن يكونوا أصدقاء وإخواناً، ونحن في الدنيا لم ندركهم ولم نعرفهم ولم نرَ إلا اسمهم، فكيف يمل ويسأم الإنسان؟ وأعظم نعمة في الجنة وألذها النظر إلى وجه الله تعالى: (عندما يتجلى الحق لهم، ويقول لهم: هل أزيدكم؟ فيقولون: يا رب قد أعطيتنا وأمتعتنا وأكرمتنا، فيكشف عن وجهه الكريم).

فتكون تلك اللذة لذة روحية تبتهج بها النفس أعواماً، وذاك حين يقول ربنا جل جلاله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وجوه تعرف فيها نضرة النعيم وراحة النعيم، وجمال النعيم، ونعمة النعيم، وهي في هذه الحالة إلى ربها ناظرة، أما غير المؤمنين فهم في الأصل محجوبون لا يرون الله تعالى.

وفئات من مذاهب المسلمين المبتدعة ينكرون رؤية الحق، وقال أهل السنة والجماعة : كفى هؤلاء حرماناً أن يمنعوا هذه الرؤية التي أنكروها، مع أنها في القرآن نصاً، وفي الأحاديث النبوية ثابتة تواتراً، ولا ينكرها إلا جاهل ومخذول، مبعد عن نعيمها، وعن روحيتها.

قال تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71].

هذه الجنة التي كما وصفها الله: فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71]، وكما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

فالمسلمون فيها خالدون، قال الله تعالى: وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]، وخاطب الله المسلمين بخطاب الحضور تكريماً لهم.

قال تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72].

يقول جل جلاله: تلك الجنة التي أصبحت من أملاكهم، وداراً من دارهم.

ونحن نقول: نرجو فضل الله وكرمه فتكون داراً من دارنا، فنحن نوحد الله، ونؤمن بخاتم الأنبياء وبالرسل قبله، فنرجو الله أن نكون من أهلها فضلاً وكرماً.

يقول تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ [الزخرف:72] أي: التي وصفها بما وصفها به، أن فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين بما فيها من صحاف الذهب وأكواب الذهب والغلمان الذين كأنهم اللؤلؤ المكنون، وما فيها من الحور العين، ومن الزوجات المؤمنات الصالحات اللاتي كن في دار الدنيا كذلك.

وقوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، أي: بسبب أعمالكم فضلاً من الله وكرماً، وبسبب توحيدكم وإيمانكم وإسلامكم، ولكن هذا السبب كان بفضل الله، وكان بكرم الله، وكما يقول الحكيم: إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك.

فالله خلقك ووفقك للإيمان وللهداية، ووفقك للدوام على ذلك والرسوخ فيه، ثم وعدك على ما أعطاك وأنعم عليك لأنك عملت وعملت، فلك الجنة خالداً فيها، فأنت أحد وارثيها، وأحد ملاكها، وأحد قطانها والمقيمين فيها.

والمعروف في الإرث أنه يقال: يرث الولد أباه، ويرث العالم رسول الله في الدعوة إلى الله وفي العلوم والمعارف، وورثت الدولة أراضي غيرها، فالجنة ورثناها عن الكفار، قال عليه الصلاة والسلام: (لكل إنسان منزله من الجنة والنار).

أما المؤمن فيأخذ منزله من الجنة ويرث منزل الكافر من الجنة؛ لأن هذه المنزلة لا يدخلها الكافر، فالله قد حرم الجنة على الكافرين، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] فمكانه في الجنة يرثه المؤمن فيزيده على مكانه، والكافر يأخذ مكانه الأصلي في النار ويرث مكان المسلم فيها كذلك.

فإذاً: الإرث يكون إرثاً لمن كان يمكن أن يؤمن ويسلم ولكنه كفر ومات على الكفر، فلا ترجى له مغفرة ويحرم عليه دخول الجنة.

قال تعالى: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف:73]، والطعام بلا فاكهة لا يكفي، فلابد من تمام الطعام أن يكون فيه من أنواع اللحوم والمشهيات والمقبلات والماء، والفواكه للتفكه بها ولهضم الطعام، وهكذا في الجنة، فقد ذكر الله الطعام والشراب: (جاء بدوي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله! إني أحب الإبل، فهل في الجنة إبل؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن أنت دخلت الجنة فلك من الإبل ما تشتهيه وما تريده وما تتصوره بما تريد وبما تشاء، فسر البدوي بأن فيها إبلاً، وجاء رجل آخر وقال: يا رسول الله! إني أحب الخيل، فهل في الجنة خيل؟ قال: نعم، إن أنت دخلت الجنة فلك فيها من أنواع الخيل ما تريد وما تشاء).

ففي الجنة أنواع الفواكه جميعها؛ بما تعرف وبما لا تعرف، وبكل الأشكال والألوان والطعوم واللذائذ.

في دنيانا نجد فاكهة في بلاد العرب لا نجدها في غيرها، ونجد فاكهة في أرض أوروبا أو أرض أمريكا أو بلاد المسلمين البعيدة لم نرها في بلاد العرب ولم نرها في بلاد المسلمين القريبة، أشكال وألوان وكلها لذيذة وطيبة.

وهناك فاكهة رأيتها في جزيرة (هونك رهن) -من جزر الصين- رائحتها قبيحة يبتعد عنها الإنسان، ولكن إذا أزيلت قشرتها انقلبت رائحتها إلى رائحة طيبة، أما طعمها فهي من ألذ ما يكون من الفواكه، إضافة إلى ذلك فإن لها خصائص ومنافع، ومن منافعها أنها تزيد في الباءة عند الرجال وكل المتزوجين في الأغلب.