تفسير سورة غافر [1-4]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:1-3].

هذه سورة مكية تشتمل على خمس وثمانين آية كلها نزلت على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام من الروح الأمين جبريل عليه السلام عن الله جل جلاله، ومنها بضع آيات -اثنتان أو ثلاث- هن مدنيات. وتسمى سورة المؤمن، وتسمى سورة غافر، وسميت سورة المؤمن لما فيها من ذكر المؤمن ومقامه ومكانته، وسميت سورة غافر باسم الله الغافر المذكور في بداية السورة، وهو من باب تسمية الكل باسم الجزء، والسور التي مضت معنا كلها كذلك، وعلى هذه الطريقة وهذا المنوال تسمى الآية ببعض ما فيها.

قال عنها ابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين رضي الله عنهم: لكل شيء لب ولباب القرآن سورة المؤمن، وقالوا عن سور (حم): الحواميم عرائس القرآن الكريم، وقالوا عنها: هي روضات وجنات القرآن، وقالوا عنها: هي ديباجة القرآن، وذلك لما اشتملت عليه هذه السور الكريمة من ذكر لصفات الله جل جلاله، وما أعد الله للمؤمنين، وما أوعد به الكافرين، ولما فيها كذلك من نعوت وصفات لذات الله جل جلاله العلي الكريم، وفي سنن أبي داود ومسند البزار وجامع الترمذي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي وأول سورة حم يعصمه الله في ذلك اليوم من كل سوء)، آية الكرسي معروفة، وبداية هذه السورة غافر قوله: حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:1-3]، من قرأها في يومه وقرأ معها آية الكرسي صانه الله وحفظه، وجنبه كل سوء في ذلك اليوم.

حم [غافر:1] حاء وميم من الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد مضى تفسيرها وشرحها وبيانها ابتداءً من سورة البقرة إلى هذه السورة المباركة، وقد قالوا: هي أسماء من أسماء الله ذي الجلال والإكرام.

وقالوا: هي رموز لمعان، وأتينا بتفسير الزمخشري ومن كان له من معاصرين، وحققنا قولهم في أن الحاء والميم وهذه الحروف المقطعة التي افتتحت بها السور أو كثير من السور هي من حروف الهجاء العربية، وكأنها جواب لمن يسأل: لمَ الإعجاز في القرآن؟! فالقرآن نزل بلغة العرب، ولغة العرب يتقنها الكثير من العرب وغيرهم، منذ كان العرب في الدنيا، فما الإعجاز؟ وكأن الجواب: القرآن الكريم -وهو كلام الله ذي الجلال والإكرام- ركب ونظم من هذه الحروف؛ حروف التهجي العربية، ومع ذلك فإن هذه الحروف التي ركب منها القرآن تعرفونها وما استطاع أحد منكم أن يعارض القرآن ويتكلم بمثل فصاحته وبلاغته وإعجازه، فليصنع إن شاء، ولو شاء لما استطاع ولرجع بخفي حنين ذليلاً خاسئاً؛ لأن كلام الله جل جلاله بينه وبين كلام غيره من المخلوقين ما بين الخالق والمخلوق، ولو أن ذلك بلغة العرب التي يتقنها أهلها ومتكلموها، ومع ذلك فالنظم ذلك وبلاغة ذلك، وإعجاز ذلك في اللفظ والمعنى ما يعجز عنه كل فرد ملائكة وجناً وإنساً، وقد تحدى الله وقت نزول القرآن على أن يأتي الناس والجن بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وقد جئنا نحن بعد نزوله بـ (1400) عام، فكان هذا الإعجاز المعجزة الأولى والدائمة السرمدية إلى يوم القيامة من معجزات القرآن، وأن الأمر كما تحدى الله وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مضت كل هذه القرون والتعجيز لا يزال قائماً، والبشر والخلق كلهم لا يزالون عاجزين، وقد حاول مجانين ضائعي العقل قبل أن يكونوا ضائعي الدين أن يقولوا مثل ذلك، لقد حاول ذلك الكذاب المتنبئ مسيلمة الكذاب فأتى بالقول المضحك الذي يضحك الثكالى، وجاء بمثل ذلك فيما زعموا المعري ، ومع ذلك فقد جاء بالقول المضحك الذي لا يكاد يقبله عاقل فضلاً عن الاعتراف بفصاحته وبلاغته فكيف بإعجازه.

هذه الحروف منها ترتب القرآن، وهو مشتمل على هذه الحروف، ولم يأت بسواها ولم ينطق إلا بها، فمن استطاع فليفعل، وهيهات هيهات لقد أعجزه الله جل جلاله، وعجزت كل هذه القرون أن تأتي بسورة مثله.

تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:2] الكتاب إذا أطلق فلا ينصرف إلا إلى القرآن الكريم، هذا الذي نتشرف بمدارسته وببيانه وبتفسيره في هذا المكان المقدس في بيت الله الحرام باتجاه الكعبة المشرفة، وهذا القرآن الكريم هو تنزيل من الله العزيز العليم، فالله هو الذي نزله، وهو الذي قاله، وهو الذي تكلم به، وهو الذي أوحى به إلى محمد سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، نزل به إليه الروح الأمين عن الله جل جلاله، فهو كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكل من شك في ذلك -فضلاً على الإنكار- يكون كافراً حلال الدم، إن كان مسلماً فقد ارتد، وإن كان كافراً من الأصل فهو كافر على كل اعتبار، ولا يزيده ذلك إلا كفراً وبعداً عن الله، وإصراراً على الجحود والكفر.

تَنزِيلُ الْكِتَابِ [غافر:2] أي: تنزيل القرآن تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:2]، وهو منزل من الله على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:2] العزيز الذي لا يغالب، والعزيز الذي لا يظلم أحد في جنابه، والعزيز الذي من اعتز به عز، ومن اعتز بغيره ذل كما أخبر نبينا صلى الله عليه وعلى آله، (العليم) بكل شيء، ما خفي وما أعلن، ما بقي في الضمائر والنفوس ولم يتحدث به لسان، وما نطق به، وما أعلن، وهو العليم جل جلاله بما كان وما يكون، وما لو كان كيف يكون، هذا العليم جل جلاله هو الذي أنزل من علمه على قلب نبيه وعقله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وهذا المعنى مما يكرر ومما يؤكد ومما يذكر بعد بضع آيات وفي كثير من السور وفي كثير من الآي، وهو ما وصف به كتاب الله، وأنه متشابه مثاني، أي: يثنى ويكرر؛ تبعاً للقاعدة العربية: ما تكرر تقرر، فالشيء إذا تكرر أصبح قراراً ثابتاً، ويصبح قاعدة لا تقبل نزاعاً ولا جدالاً، وهذا من ذاك.

فالقرآن الكريم هو كلام الله جل جلاله بجميع آيه وحركاته ووقفاته وسوره، والكل أنزل من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، كما أنزل كتباً قبله على رسل آخرين، كالزبور والتوراة والإنجيل على داود وموسى وعيسى عليهم وعلى نبينا أفضل الضلاة وأزكى السلام.

غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:3].

قوله: (غافر الذنب) أي: الذي يغفر ذنب المذنب إذا استغفر، والذي يغفر الذنوب جميعاً إذا جاء المذنب وهو موحد غير كافر، والذي يغفر لمن استغفره حتى من ذنوب الشرك ومن الكفر بالله إذا تاب وأناب، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فهو غافر الذنب الذي مضى، قابل التوب بما يستقبل من أيام، فمن تاب إليه تاب عليه، فهو يقبل توبة من كانت توبته توبة نصوحاً، وكان صادق التوبة، وعلامة صدق التوبة: أن يندم الإنسان على ما صدر عنه من ذلك، وأن يعزم في نفسه على ألا يعود، وأن يصلح ما أفسده، وأن يحسن مكان كل شيء، وليستبدل سيئاته حسنات، فهذا عسى الله أن يتوب عليه، وقد وعد ربنا بالمغفرة والتوبة ولا يخلف الله الميعاد، قال تعالى: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111].

غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3] أي: يقبل توبة من تاب، ويغفر الذنب من المذنب إذا استغفره، وهو مع ذلك شديد العقاب، وكثيراً ما يقرن الله في آيه وسور كتابه بين الرحمة وبين العذاب، وبين العقاب وبين المغفرة؛ ليبقى المؤمن طوال مدة حياته يحيا بين الرجاء والأمل، يأمل إذا أحسن وتاب واستغفر، ويخاف ويهاب إذا أذنب فلم يستغفر ولم يتب.

شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3] لمن مات ولم يستغفر، ولمن مات على الشرك والكفر، على أن الله قد يغفر الذنوب حتى لمن لم يستغفر إذا لم يكن فيها شرك، والمغفرة بيد الله إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهو قد خلق النار والجنة لتمتلئ هذه وتمتلئ هذه، ومن العقائد المقطوع بها: أن النار ستمتلئ بالمذنبين من المسلمين ومن الكافرين المشركين، ولكن مآل المسلم على أي حال هو الخروج من النار، ومآل الكافر الذي مات على الكفر البقاء في جهنم خالداً فيها أبداً، وهؤلاء الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة سيعيشون زمناً في الجنة وأثر حريق النار على جباههم، ويعرفون بين سكان الجنة الذين سبقوهم: بالجهنميين، وهم سيتألمون من ذلك، وسيدعون ربهم، ويكثرون الدعاء والضراعة أن يزيل عنهم تلك العلامة التي ميزتهم عن المؤمنين الذين دخلوا الجنة من أول مرة، فيستجيب الله دعاءهم ويزيل عنهم تلك الصفة المؤذية لهم جزئياً، ويصبحون وغيرهم على شاكلة واحدة، فيغفر الله لكل مذنب استغفره، ولكل عائد عاد إليه. وهو شديد العقاب وشديد الانتقام، وشديد العذاب لمن مات على كفره، ولمن مات ولم يستغفر من ذنبه.

ذِي الطَّوْلِ [غافر:3] الطول: الغنى والسعة، وربنا واسع الغنى، واسع المغفرة، والطول: هو المنُّ والإنعام، فهو واسع المن وواسع الإكرام والإنعام، والكل بمعنىً واحد، فربنا جل جلاله عندما يغفر الذنوب ويعلي الدرجات يوسع الرحمة، ويوسع الإنعام، ويوسع التفضل على من تفضل عليه من المؤمنين التائبين المستغفرين من سكان أهل الجنة.

(ذي الطول) الطول: الغنى، فهو الغني عن عباده؛ كفر من كفر وآمن من آمن، فلا كفر الكافر يضره ولا إيمان المؤمن ينفعه، قال تعالى في الحديث القدسي: (إن هي إلا أعمالكم أوفيها إليكم) فمن جاء بالخير فله الخير، ومن جاء بسوى ذلك فله الضر، وإن رأى الإنسان أن يندم على ما فات فنفسه أحسن إليها، وإلا فنفسه التي أضرها وأساء إليها.

قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وجنكم وإنسكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.

يا عبادي! إن هي إلا أعمالكم أوفيها إليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه).

يقول أحد العارفين: كنت يوماً في الطريق وإذا برجل يأتيني راكباً فيتدارك مشيتي، وسمعني أتلو القرآن وأقرأ هذه الآية، فقال لي: يا عبد الله! إذا قرأت: ( غافر الذنب ) فقل: يا رب! اغفر ذنبي، وإذا قرأت: ( قابل التوب ) فقل: يا رب! اقبل توبتي، وإذا تلوت: ( شديد العقاب ) قل: يا رب! جنبني عقوبتك، وإن قرأت: ( ذي الطول ) قل: يا رب! تطول علي بنعمتك وبإنعامك وبسعة رزقك.

قال وإذا بي ألتفت فلم أره، فسألت الغادي والرائح: هل رأيتم راكباً؟ فقالوا: لا، فقالوا: لعله إياه -هذا الذي ذكرت الآثار أنه هو الخضر- فإنه سيعيش زمناً الله أعلم بمدته قبل أن يموت؛ لأنه شرب من ماء الحياة الذي من شرب منه طال عمره آلاف السنين.

لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:3] (لا إله) أي: معبود بحق إلا هو، ولا رزاق سواه، ولا مميت ولا محيي غيره، ولا مدبر لأمر الخلق غيره، ولا رب ولا خالق ولا رازق إلا الله جل جلاله وعز مقامه.

إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:3] إلى الله مصيرنا ومعادنا وعودتنا، فنحن قد أحيانا الله ثم يميتنا ثم يحيينا فيكون مصيرنا إليه، والحساب والعرض عليه: إما إلى جنة وإما إلى نار، وما يقوله المشركون، وما يقوله عباد الأصنام: من أحياء أو أموات فكل ذلك ضلال في ضلال، وباطل في باطل، ما أنزل الله به من سلطان، إن هو إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

قال تعالى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غافر:4].

يقول ربنا لهؤلاء المشركين: ألا يجادلوا ولا ينازعوا ولا يتلاعبوا بالقول بلا دليل ولا برهان، بمثل ما يقوله المشركون للأنبياء: هل يكون النبي بشراً؟ لِمَ لم يكن النبي ملكاً؟ ولِمَ يأكل النبي الطعام ويمشي في الأسواق؟ ولِمَ النبي لم تكن معه ملائكة تصدقه؟ ولِمَ لا تفجر له أنهار وأرزاق تكون له؟ فيجادلون بمثل هذا الجدال والكلام الباطل، وبمثل هذا الغث من القول الذي لا يعود على صاحبه إلا بالكفر، وبتشتيت العقل، وبالإصرار على الوثنية والشرك بالله، فهذا هو الجدال المحرم.

وفي مثله يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (المراء في القرآن كفر)، فالذي يحاول أن يجادل ويقول: لِمَ أنزل القرآن على زيد ولم ينزل على عمرو؟ ولِمَ نزل بلغة العرب ولم يكن بلغة فارس؟ ولماذا نزل منجماً على ثلاث وعشرين سنة ولم ينزل في سنة واحدة؟ فهذا كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يوجد له دليل عقل أو دليل برهان، فهذا الذي قاله الكافرون الماضون، ويقوله الكافرون الحاضرون هو جدال وغث من القول، يضحك الناس على قائله، ويدل على سخافة عقله وفهمه وإدراكه، ولكن المحاورة والاستجابة والاستنزال على الحق هي التي أتى بها القرآن، كقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، ولعلا بعضهم على بعض، فلو كان للأرض عدة آلهة لحاول بعضهم أن يعلو على بعض، كما تعلو الدول والملوك المتجاورة على بعضها، وكما يعلو القوي على الضعيف، وهذا كلام حق، ولطلب هذا الموت ولأمر هذا بالحياة، فإن تم ذلك لزعزعت الأرض، ولهلك الكون، ولحار الناس ما يصنعون، فالحوار يكون بالعقل وبالدليل والبرهان بميزان كتاب الله وعلى أساسه.

وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الخلائق إلى الإيمان بالله، كأن نقول: زعموا أن النبي عليه الصلاة والسلام كاذب -وحاشاه من ذلك- مع اعترافهم أنه عاش بينهم أربعين عاماً ولم يكذب كذبة على الناس، أيكذب بعد أن بلغ الأربعين على الله؟ بل كانوا يلقبونه بالأمين والصادق، وهو رجل عاش بينهم أمياً لا يقرأ ولا يكتب مدة أربعين عاماً، وإذا به في يوم من الأيام يصبح يعلم من العلوم من أولها وآخرها: علوم الأولين والآخرين، فمن أين ذلك؟ ومن الذي علمه؟ ومن أفهمه؟ فهذا دليل عقلي على أنه رسول من الله خاصة، وقد جاءهم.

وقال صلى الله عليه وسلم: (وأنا في غار حراء أتحنث إذا بملك جاءني فقال لي: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فكررها ثلاثاً، ثم ضمني إليه حتى كادت ضلوعي تتداخل بعضها في بعض، فقال لي: اقرأ، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:1-2]).

هذا الذي أتى به القرآن بدليل العقول هو ما يؤكده العقل والبيان والفهم والعلم، وأما الجدال: لم أتى محمد بالنبوة ولم يأت بها أبو لهب؟ وقولهم: لِمَ لم ينزل القرآن على عظيم من القريتين: وهما مكة والطائف؟ فأجاب عليهم الله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32]، ومن قال لهم: إن أبا لهب عظيم؟! ومن قال: إن أبا جهل عظيم؟! فالعظمة يجعلها الله فيمن يشاء من عباده، قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فلستم أنتم من تقسمون رحمة الله، فالاستدلال بالدليل والبرهان هو ما جاء به القرآن، وأتى به الرسول عليه الصلاة والسلام.

وأما الجدال فهو من الجدل، وهو الكلام المبني على غير دليل ولا منطق ولا عقل.

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر:4] فهم الذين يجادلون بالغث من القول، وبالباطل من الاستدلال، وهم الذين يقولون مثل هذا الكلام: لم لم يُزل جبال مكة؟ ويقولون: لِمَ لم يفجر أرضها أنهاراً؟ ولِمَ كان محمد وهو من البشر ولم يكن النبي ملكاً؟ ولِمَ لم تنزل الرسالة على عظيم من القريتين؟

وهذا كله غث من القول، وجدل باطل، وقد دل على عقول هؤلاء الضعفاء، وهو الجدال الذي كرهه الله، وزيفه الله، ومنعه، وهو الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (جدال في القرآن كفر)، فلا جدال في آيات الله، قال تعالى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر:4]، فلا يجادل بمثل هذا الغث من القول، وبمثل هذا الباطل من الكلام إلا الكافرون.

يقول ربنا: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غافر:4]، وكأن إنساناً يسأل ويقول: إن كان أمثال هؤلاء كافرين فلِمَ أغناهم وخصهم الله؟ ولِمَ ملكهم وغلبهم الله؟ قال الله لنا في مثل هذا: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غافر:4] أي: لا تغتر بهذا، إن هو إلا ذكرى واستدراج لزيادة العذاب، فتنقلهم وسياحتهم وسفرياتهم للتجارة وللزراعة، وللضرب في الأرض، وللتحكم والظلم والقهر ما ذلك إلا استدراج يستدرجهم الله جل جلاله؛ ليزدادوا عذاباً ويزدادوا عقوبة، وتكون الحجة البالغة لله، وقد أمهلهم ولم يهملهم، فقد أعطاهم سنوات مهلة لعل الكافر أن يؤمن، وإذا بالسنوات لم تزدهم إلا كفراً، ولم تزدهم إلا إصراراً على الكفر، وهو ما يسمى الاستدراج، وهي فتنة فتنهم الله وابتلاهم واختبرهم بها، فمن سبقت له العناية من الله تنبه وتاب وأناب وعاد إلى الله، ومن اغتر بذلك وقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] وبمعرفتي، وبعقلي، وبدهائي، وقد أعطاني الله ما أعطانيه في الدنيا، وهو سيعطيني يوم القيامة أكثر مما أعطاني في الدنيا، فذلك من تلاعب الشيطان به، ومن ضياع عقله، ومن ذهاب إيمانه.