عقيدة الولاء والبراء [3]


الحلقة مفرغة

التفصيل في حكم الهجرة لمن كان يعيش تحت سلطان الإسلام أو سلطان الكفر

جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال صلى الله عليه وسلم: (ويحك! إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً) أخرجه الشيخان. قوله صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي وقد جاء يسأله عن الهجرة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ويحك) وهذه كلمة ترحم وتوجع، تقال لمن وقع في مصيبة لا يستحقها. وقوله: ( إن شأن الهجرة شديد ) أي: إن القيام بحق الهجرة شديد، وفي لفظ مسلم : (إن شأن الهجرة لشديد) بالتوكيد باللام، أي: لا يقدر على الهجرة كل الناس، فهذه عبادة من أشق وأعظم العبادات، فلا يقدر عليها إلا القليل من الناس، ولا يقدر عليها كل الناس. ثم أرشده صلى الله عليه وسلم إلى عمل دون ذلك يمكن أن يطيقه من الأعمال الصالحة، وهو أقل من الهجرة في تكاليفها، فقال: ( فهل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فهل تؤدي صدقتها؟ ) يعني: تعطي الزكاة لمستحقيها، وتؤدي كذلك الواجبات الأخرى وفرائض الدين الواجبة عليك؟ ( قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار ) المقصود بالبحار هنا: القرى والمدن، أي: اعمل من وراء القرى والمدن، سواءً كنت مقيماً في بلدك أو غيرها من أقصى بلاد الإسلام، يعني: اسكن ما شئت من بلاد المسلمين، واسكن حيث شئت من البلاد التي تكون الغلبة فيها والعلو لأحكام الإسلام، والقرية تسمى البحرة لاتساعها؛ لأنها تشبه البحر في اتساعها. يعني: إن أديت الفرائض والواجبات، فاعمل في أي مكان شئت من القرى أو المدن حتى لو كانت في أقصى بلاد المسلمين. قال: (فإن الله لن يترك من عمل شيئاً) يعني: لن ينقصك من صواب عملك شيئاً. وهذا الحديث يشعر بأن المسلم الذي يؤدي فريضة الله سبحانه وتعالى عليه في ماله ونفسه، لا بأس بعدم هجرته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاعمل من وراء البحار )؛ لأنه دله عن البديل عن الهجرة، وأنه ينال من عمله أجراً عظيماً، وقوله: ( اعمل من وراء البحار ) يعني: أي أعمال أخرى، من إقام الصلاة أو إيتاء الزكاة أو غيرها من واجبات الدين، وهذا محله في البلد الذي لم يكن تحت حكم عدو الدين، أما إذا كان سيقعد في بلد يحكم فيه أعداء الإسلام، وستجري عليه أحكام الكفر؛ فلا يجوز ذلك، ولا يصح أن يستدل بهذا الحديث على أن عدم الهجرة لا بأس به كما هو ظاهر هذا الحديث؛ لأن المقصود به مكان يعلوه أحكام الإسلام وليس أحكام الكفر. أما من كان تحت سلطة الكفرة، بحيث يخاف على دينه وأهله وماله، فإن الهجرة لا تزال واجبة عليه إلى قيام الساعة، ولا حجة له في الحديث السابق، ولا حجة له أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)؛ لأن المعنى: لا تجب الهجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فمن مكث في مكة بعد الفتح فلا تجب عليه الهجرة إلى المدينة؛ لأن مكة بعد الفتح صارت دار إسلام، فانتفت العلة الموجبة للهجرة. وقيل: المقصود أن فضيلة الهجرة الكاملة فاتت بالفتح؛ لأن في الصحيحين عن مجاشع بن مسعود رضي الله عنه قال: (انطلقت بـأبي معبد -وهو شقيقه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: مضت الهجرة لأهلها، أبايعه على الإسلام والجهاد)، وهذا يدل على أن هذا الحديث كان بعد فتح مكة، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( مضت الهجرة لأهلها ) يعني: فاز بالثواب الأكمل وحاز الغنيمة الكبرى من سبق بالهجرة قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فبقيت مزية الهجرة كما بقيت مزية الإنفاق كما في قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، يعني: فضيلة الهجرة إلى المدينة لها منقبة عظيمة، ولها فضائل عظيمة، ولكن تلك المنزلة التي نالها المهاجرون والأنصار هي خاصة بالهجرة من مكة أو غيرها من البلاد إلى المدينة قبل الفتح، فهؤلاء الذين سبقوا بالأجر الأعظم من تلك الهجرة. فلا ينبغي للإنسان أن يستدل بمثل هذه الأحاديث على عدم وجوب الهجرة، وعلى أن الهجرة انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم أو بفتح مكة، فإن المقصود بهذه الأحاديث أنه لا بأس بعدم الهجرة لمن كان يعيش تحت سلطان الإسلام، وليس لمن يعيش تحت سلطان الكفر. وقد روى البخاري أن عبيد بن عمير سأل عائشة رضي الله عنها عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية. ومعنى قول عائشة رضي الله عنها: (فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام) أن حكم الإسلام اتسع وشمل البلاد، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وعلاهم حكم الله، وشريعة الإسلام، ولكن جهاد ونية، فإن الهجرة قد مضت لأهلها، فهذا يدل على أن موضوع هذه الأحاديث حين كان المسلم مقيماً تحت حكم الإسلام، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعيش ويقيم وسط الكفار، مستدلاً بمثل هذه الأحاديث على أنه لا هجرة بعد الفتح أو إن شأن الهجرة شديد، ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! أين الهجرة إليك، حيث كنت أم إلى أرض معلومة، أم لقوم خاصة، أم إذا مت انقطعت؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: أين السائل عن الهجرة؟! قال: هأنذا يا رسول الله، قال: إذا أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، فأنت مهاجر، وإن مت بالحضرمة، قال: يعني أرضاً باليمامة)، وفي رواية له: (الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضرمة) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) يعني: ما ارتفع علم الجهاد، وقام المسلمون بمقاتلة أعدائهم.

أحكام الهجرة باعتبار الدارين

الهجرة شرعاً هي: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، هذه هي الهجرة الواجبة شرعاً إلى قيام الساعة، فلا يصح الاستدلال بالأحاديث التي ذكرناها آنفاً أو التي فيها أن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه. ونحن الآن في زمان الفتن، والهجرة بلاشك واجبة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ونحن في أوضاع ما مرت الأمة الإسلامية بمثلها من قبل، وبعض العلماء يرى أن تقسيم البلاد إلى دار كفر ودار إسلام، ما ينبغي أن يتواجد إلا عند وجود دار الإسلام، يعني: لا يوجد دار كفر حتى يوجد دار إسلام، وإن كان في هذا الكلام تفصيل، والمشكلة اليوم أن المسلم يقع في حيرة شديدة، لكن بلا شك أن الإقامة في بعض البلاد الإسلامية تكون الفتن فيها أقل من بلاد الكفر، والمسألة نسبية، فبالنسبة لغيرها من بلاد الكفر تكون الفتن فيها أقل من الفتن في غيرها، ويستطيع المسلم أن يحافظ على دينه وأن يسلم من الفتن الشائعة، وأن يقوم ببعض الشعائر والمظاهر الإسلامية، مع أن بعض هذه البلاد الإسلامية التي يمكن أن يهاجر إليها المسلم تجد فيها حكومات سائرة في طريق العلمانية، ورفض الإسلام، والتآمر عليه، حتى أنهم يمنعون من هاجر إلى هذه البلاد تديناً، ففي بعض البلاد المعروفة يستجلبون الكفار من كل بلاد الأرض حتى الهندوس، ويستعملونهم، ويستأمنونهم في الطب مثلاً على أعراض المسلمات، وفي البيوت تعمل الخادمات وأكثرهن من عباد البقر، ويفسدن في داخل بيوت المسلمين، لكن المسلم الذي يسافر إلى هذه البلاد مهاجراً تديناً بهذه الهجرة، سواءً إلى مكة أو المدينة، فربما إذا لم يكن له وضع قانوني معين يشحن مع السيارات إلى المطار ويطرد من تلك البلاد، وإن كانت هجرته تديناً، والمدينة ومكة هما دار إسلام إلى قيام الساعة، وهما أقل البلاد فتناً بفضل الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يقف هؤلاء الطواغيت ليحولوا دون هجرة المسلمين إلى هذه البلاد التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن (الإيمان يأرز إلى المدينة أو إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل). وبعض إخواننا المسلمين من الأوربيين أو الأمريكيين بعدما يسلمون يذهبون إلى مكة والمدينة، ويقيمون فيها بنية أنه إذا خرج الدجال يحتمون بمكة والمدينة؛ كما ثبت في الحديث أنه لا يدخلهما المسيح الدجال، وهذه من فضائل مكة والمدينة. أيضاً: تأتي مشكلة من ناحية أخرى، وهي أن بعض حكومات البلاد المسلمة أصبحت وكأنها ارتدت عن الإسلام، فيؤذي الصالحين، لكن بعض ديار الكفر التي لم يدخلها الإسلام أصلاً مثل أغلب دول أوروبا وأميركا قد لا يؤذى المسلم فيها، فيفتن فتنة أخرى حيث يجد هناك من الحرية التي تجيزها نظم هذه البلاد ما لا يجده في بلاد المسلمين، فقد يفتتن بعض الناس بهذه الأشياء، ويتعامون عن كثير من الاعتبارات الأخرى، فلا يحسنون تقدير هذه الأمور. ولا شك أن المسلم إذا أقام في بلاد المسلمين يسلم من الفتن أكثر من البلاد الكافرة، لكنه قد لا يسلم من أن يطرد منها، وقد رأيت بعيني كثيراً من الأفغان أيام الانقلاب الشيوعي في أفغانستان يأوون إلى مكة والمدينة هرباً من الحكم الشيوعي الكافر هناك، لكنهم كانوا يعتقلون في السعودية ويطردون ويعادون إلى حكم الكفار الشيوعين في أفغانستان بالقوة! فكان بعض الناس منهم يتخلفون من العمرة أو الحج ويمكثون هناك، وهنا أذكر بعض أبيات شعر قرأتها لشاعر يحرض على مطاردة هؤلاء الأجانب، فيقول وهو يخاطب الناموسة: فيا ناموستي والصلح خير فأنت رفيقة من عهد هود أقيمي بيننا أهلاً وسهلاً ولكن للأذية لا تعودي عليك عليك بالغرباء علينا وسيبي الرادف الأصل السعودي يعني: يسلط الناموسة ويقول: نعمل اتفاق بأن تتركي السعودي الأصلي، وعليك بالغرباء علينا من هؤلاء الناس الذين يأوون إلى هذه البلاد، وكل هذا من مؤامرات أعداء الإسلام، حيث جعلوا الحدود السياسية والفواصل بين ديار المسلمين، ومزقونا كما تمزق قطعة الجبن، وكل حاكم أخذ جزءاً من بلاد المسلمين يصبغها بصبغته حتى لا تلتحم أمة المسلمين ثانية، بينما تجد الحدود في بعض البلاد الأوروبية ليست مثل هذا التقسيم، وإنما هي عبارة عن شارع، وفي وسطه صف واحد من الطوب يفصل بينهما، بحيث أن الإنسان إذا خطا بقدمه خطوة انتقل من بلد إلى بلد آخر، فهذه هي الحدود عندهم بمنتهى الحرية، وتجد السيارات تمر بين هذه البلاد والأخرى، وغابت الحدود السياسية هذه. لكن في بلاد المسلمين وضعوا الحواجز النفسية والحواجز المادية، وصنعوا المشاكل على الحدود حتى يحصل الاقتتال بين المسلمين كما هو معلوم من سياسة فرق تسد، حتى لا يلتئم شمل هذه الأمة، وكل هذا يحصل نتيجة النظم المعرضة عن الإسلام. نعود إلى الموضوع الذي نتحدث فيه، وهو أن المسلم الآن في فتنة بين هذين الأمرين، بين بعض البلاد الإسلامية التي إذا ذهب إليها يطرد منها إن لم يكن له وضع قانوني يمكنه من الإقامة مثلاً، ومع ذلك يظل مهدداً بالطرد في أي وقت، وإما أن يذهب إلى البلاد الأوروبية حيث الفتنة في دينه، وحيث الفساد المعلوم هناك، وحيث الفتنة أيضاً بمدى الحرية التي قد يتمتع بها ولا يجدها في ديار المسلمين. ومع ذلك إذا أنصف الإنسان وتأمل في أحوالنا مثلاً هنا في مصر، يجد أن أكثر الناس الذين يذهبون إلى البلاد الأوروبية أو إلى البلاد الأخرى العربية يغبطوننا على ما نحن فيه من العافية من الكثير من البلاء ولله الحمد، مع العناء الذي نعانيه هنا في بلادنا، ولكن يوجد كثير من الخير والبركة هنا في الشباب المسلم الملتزم، والدعوة التي تؤتي ثمارها في كل حين بإذن ربها، فهذا مما يطمئن الإنسان مادام أنه يستطيع أن يؤثر فيمن حوله، وينشط في سبيل هذه الدعوة، وفي ذلك خير كثير لمن كان يرجو ثواب الله سبحانه وتعالى.

العبادة في الهرج كالهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه معقل بن يسار رضي الله عنه: (العبادة في الهرج كهجرة إلي) أخرجه مسلم والترمذي. قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج) هو: الفتنة واختلاط أمور الناس، ( كهجرة إلي ) قال النووي رحمه الله: وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها -كما في مثل هذه الأزمان- ويشتغلون بالدنيا، ولا يتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى وذكره وطاعته إلا الأفراد القلائل من الناس. ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه الإمام أحمد والطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد أن رجلاً قال له: يا أبا سليمان ! اتق الله؛ فإن الفتن قد ظهرت، فقال: أما وابن الخطاب حي فلا. يعني: الفتن كان بينها وبين المسلمين باب وهو عمر ، فإذا كسر هذا الباب جاءت الفتن كما هو معلوم في التاريخ، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل فيفكر هل يجد مكاناً لم ينزل به مثلما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد. وهذا الأثر ينطبق علينا في هذا الزمان، فالإنسان عندما يتأمل في أي مكان حوله لا يجد شبراً قد خلا من الفتنة، فقد تكون جالساً في بيتك، تعتزل الناس، فيدخلون عليك الموسيقى والتلفزيون والفيديو والأغاني إلى البيت، فتجد أنه ما خلا شبر من هذه الفتن! وقد جاء تفسير الهرج في بعض الأحاديث بأنه كثرة القتل وإراقة الدماء. قال المناوي رحمه الله: ( كهجرة إلي ) يعني: من يثبت على دينه في وقت الغربة، ووقت الفتنة التي تصرف الناس عن دينهم، وتعظيمه وإقامة حدوده، يقول: فمن صبر على ذلك فثوابه كأنه هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونال الثواب الكثير، أو يقال: الهجرة في الأول كانت قليلة لعدم تمكن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل، قال ابن العربي : وجه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة. يعني: إذا لم يكن في استطاعة الإنسان أن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو لم تكن أصلاً هناك دار إسلام، أو لم يستطع أن يهاجر من دار البدعة إلى دار السنة، أو من دار الظلم إلى دار العدل فعليه انتقال نفسي بأن يهجر المعاصي، ويهجر المحرمات، فينتقل من الفتنة إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، ويهجر معاصي الله، وهذا أحد أقسام الهجرة التي تجب على كل مسلم.

جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال صلى الله عليه وسلم: (ويحك! إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً) أخرجه الشيخان. قوله صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي وقد جاء يسأله عن الهجرة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ويحك) وهذه كلمة ترحم وتوجع، تقال لمن وقع في مصيبة لا يستحقها. وقوله: ( إن شأن الهجرة شديد ) أي: إن القيام بحق الهجرة شديد، وفي لفظ مسلم : (إن شأن الهجرة لشديد) بالتوكيد باللام، أي: لا يقدر على الهجرة كل الناس، فهذه عبادة من أشق وأعظم العبادات، فلا يقدر عليها إلا القليل من الناس، ولا يقدر عليها كل الناس. ثم أرشده صلى الله عليه وسلم إلى عمل دون ذلك يمكن أن يطيقه من الأعمال الصالحة، وهو أقل من الهجرة في تكاليفها، فقال: ( فهل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فهل تؤدي صدقتها؟ ) يعني: تعطي الزكاة لمستحقيها، وتؤدي كذلك الواجبات الأخرى وفرائض الدين الواجبة عليك؟ ( قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار ) المقصود بالبحار هنا: القرى والمدن، أي: اعمل من وراء القرى والمدن، سواءً كنت مقيماً في بلدك أو غيرها من أقصى بلاد الإسلام، يعني: اسكن ما شئت من بلاد المسلمين، واسكن حيث شئت من البلاد التي تكون الغلبة فيها والعلو لأحكام الإسلام، والقرية تسمى البحرة لاتساعها؛ لأنها تشبه البحر في اتساعها. يعني: إن أديت الفرائض والواجبات، فاعمل في أي مكان شئت من القرى أو المدن حتى لو كانت في أقصى بلاد المسلمين. قال: (فإن الله لن يترك من عمل شيئاً) يعني: لن ينقصك من صواب عملك شيئاً. وهذا الحديث يشعر بأن المسلم الذي يؤدي فريضة الله سبحانه وتعالى عليه في ماله ونفسه، لا بأس بعدم هجرته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاعمل من وراء البحار )؛ لأنه دله عن البديل عن الهجرة، وأنه ينال من عمله أجراً عظيماً، وقوله: ( اعمل من وراء البحار ) يعني: أي أعمال أخرى، من إقام الصلاة أو إيتاء الزكاة أو غيرها من واجبات الدين، وهذا محله في البلد الذي لم يكن تحت حكم عدو الدين، أما إذا كان سيقعد في بلد يحكم فيه أعداء الإسلام، وستجري عليه أحكام الكفر؛ فلا يجوز ذلك، ولا يصح أن يستدل بهذا الحديث على أن عدم الهجرة لا بأس به كما هو ظاهر هذا الحديث؛ لأن المقصود به مكان يعلوه أحكام الإسلام وليس أحكام الكفر. أما من كان تحت سلطة الكفرة، بحيث يخاف على دينه وأهله وماله، فإن الهجرة لا تزال واجبة عليه إلى قيام الساعة، ولا حجة له في الحديث السابق، ولا حجة له أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)؛ لأن المعنى: لا تجب الهجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فمن مكث في مكة بعد الفتح فلا تجب عليه الهجرة إلى المدينة؛ لأن مكة بعد الفتح صارت دار إسلام، فانتفت العلة الموجبة للهجرة. وقيل: المقصود أن فضيلة الهجرة الكاملة فاتت بالفتح؛ لأن في الصحيحين عن مجاشع بن مسعود رضي الله عنه قال: (انطلقت بـأبي معبد -وهو شقيقه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: مضت الهجرة لأهلها، أبايعه على الإسلام والجهاد)، وهذا يدل على أن هذا الحديث كان بعد فتح مكة، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( مضت الهجرة لأهلها ) يعني: فاز بالثواب الأكمل وحاز الغنيمة الكبرى من سبق بالهجرة قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فبقيت مزية الهجرة كما بقيت مزية الإنفاق كما في قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، يعني: فضيلة الهجرة إلى المدينة لها منقبة عظيمة، ولها فضائل عظيمة، ولكن تلك المنزلة التي نالها المهاجرون والأنصار هي خاصة بالهجرة من مكة أو غيرها من البلاد إلى المدينة قبل الفتح، فهؤلاء الذين سبقوا بالأجر الأعظم من تلك الهجرة. فلا ينبغي للإنسان أن يستدل بمثل هذه الأحاديث على عدم وجوب الهجرة، وعلى أن الهجرة انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم أو بفتح مكة، فإن المقصود بهذه الأحاديث أنه لا بأس بعدم الهجرة لمن كان يعيش تحت سلطان الإسلام، وليس لمن يعيش تحت سلطان الكفر. وقد روى البخاري أن عبيد بن عمير سأل عائشة رضي الله عنها عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية. ومعنى قول عائشة رضي الله عنها: (فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام) أن حكم الإسلام اتسع وشمل البلاد، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وعلاهم حكم الله، وشريعة الإسلام، ولكن جهاد ونية، فإن الهجرة قد مضت لأهلها، فهذا يدل على أن موضوع هذه الأحاديث حين كان المسلم مقيماً تحت حكم الإسلام، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعيش ويقيم وسط الكفار، مستدلاً بمثل هذه الأحاديث على أنه لا هجرة بعد الفتح أو إن شأن الهجرة شديد، ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! أين الهجرة إليك، حيث كنت أم إلى أرض معلومة، أم لقوم خاصة، أم إذا مت انقطعت؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: أين السائل عن الهجرة؟! قال: هأنذا يا رسول الله، قال: إذا أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، فأنت مهاجر، وإن مت بالحضرمة، قال: يعني أرضاً باليمامة)، وفي رواية له: (الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضرمة) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) يعني: ما ارتفع علم الجهاد، وقام المسلمون بمقاتلة أعدائهم.

الهجرة شرعاً هي: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، هذه هي الهجرة الواجبة شرعاً إلى قيام الساعة، فلا يصح الاستدلال بالأحاديث التي ذكرناها آنفاً أو التي فيها أن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه. ونحن الآن في زمان الفتن، والهجرة بلاشك واجبة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ونحن في أوضاع ما مرت الأمة الإسلامية بمثلها من قبل، وبعض العلماء يرى أن تقسيم البلاد إلى دار كفر ودار إسلام، ما ينبغي أن يتواجد إلا عند وجود دار الإسلام، يعني: لا يوجد دار كفر حتى يوجد دار إسلام، وإن كان في هذا الكلام تفصيل، والمشكلة اليوم أن المسلم يقع في حيرة شديدة، لكن بلا شك أن الإقامة في بعض البلاد الإسلامية تكون الفتن فيها أقل من بلاد الكفر، والمسألة نسبية، فبالنسبة لغيرها من بلاد الكفر تكون الفتن فيها أقل من الفتن في غيرها، ويستطيع المسلم أن يحافظ على دينه وأن يسلم من الفتن الشائعة، وأن يقوم ببعض الشعائر والمظاهر الإسلامية، مع أن بعض هذه البلاد الإسلامية التي يمكن أن يهاجر إليها المسلم تجد فيها حكومات سائرة في طريق العلمانية، ورفض الإسلام، والتآمر عليه، حتى أنهم يمنعون من هاجر إلى هذه البلاد تديناً، ففي بعض البلاد المعروفة يستجلبون الكفار من كل بلاد الأرض حتى الهندوس، ويستعملونهم، ويستأمنونهم في الطب مثلاً على أعراض المسلمات، وفي البيوت تعمل الخادمات وأكثرهن من عباد البقر، ويفسدن في داخل بيوت المسلمين، لكن المسلم الذي يسافر إلى هذه البلاد مهاجراً تديناً بهذه الهجرة، سواءً إلى مكة أو المدينة، فربما إذا لم يكن له وضع قانوني معين يشحن مع السيارات إلى المطار ويطرد من تلك البلاد، وإن كانت هجرته تديناً، والمدينة ومكة هما دار إسلام إلى قيام الساعة، وهما أقل البلاد فتناً بفضل الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يقف هؤلاء الطواغيت ليحولوا دون هجرة المسلمين إلى هذه البلاد التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن (الإيمان يأرز إلى المدينة أو إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل). وبعض إخواننا المسلمين من الأوربيين أو الأمريكيين بعدما يسلمون يذهبون إلى مكة والمدينة، ويقيمون فيها بنية أنه إذا خرج الدجال يحتمون بمكة والمدينة؛ كما ثبت في الحديث أنه لا يدخلهما المسيح الدجال، وهذه من فضائل مكة والمدينة. أيضاً: تأتي مشكلة من ناحية أخرى، وهي أن بعض حكومات البلاد المسلمة أصبحت وكأنها ارتدت عن الإسلام، فيؤذي الصالحين، لكن بعض ديار الكفر التي لم يدخلها الإسلام أصلاً مثل أغلب دول أوروبا وأميركا قد لا يؤذى المسلم فيها، فيفتن فتنة أخرى حيث يجد هناك من الحرية التي تجيزها نظم هذه البلاد ما لا يجده في بلاد المسلمين، فقد يفتتن بعض الناس بهذه الأشياء، ويتعامون عن كثير من الاعتبارات الأخرى، فلا يحسنون تقدير هذه الأمور. ولا شك أن المسلم إذا أقام في بلاد المسلمين يسلم من الفتن أكثر من البلاد الكافرة، لكنه قد لا يسلم من أن يطرد منها، وقد رأيت بعيني كثيراً من الأفغان أيام الانقلاب الشيوعي في أفغانستان يأوون إلى مكة والمدينة هرباً من الحكم الشيوعي الكافر هناك، لكنهم كانوا يعتقلون في السعودية ويطردون ويعادون إلى حكم الكفار الشيوعين في أفغانستان بالقوة! فكان بعض الناس منهم يتخلفون من العمرة أو الحج ويمكثون هناك، وهنا أذكر بعض أبيات شعر قرأتها لشاعر يحرض على مطاردة هؤلاء الأجانب، فيقول وهو يخاطب الناموسة: فيا ناموستي والصلح خير فأنت رفيقة من عهد هود أقيمي بيننا أهلاً وسهلاً ولكن للأذية لا تعودي عليك عليك بالغرباء علينا وسيبي الرادف الأصل السعودي يعني: يسلط الناموسة ويقول: نعمل اتفاق بأن تتركي السعودي الأصلي، وعليك بالغرباء علينا من هؤلاء الناس الذين يأوون إلى هذه البلاد، وكل هذا من مؤامرات أعداء الإسلام، حيث جعلوا الحدود السياسية والفواصل بين ديار المسلمين، ومزقونا كما تمزق قطعة الجبن، وكل حاكم أخذ جزءاً من بلاد المسلمين يصبغها بصبغته حتى لا تلتحم أمة المسلمين ثانية، بينما تجد الحدود في بعض البلاد الأوروبية ليست مثل هذا التقسيم، وإنما هي عبارة عن شارع، وفي وسطه صف واحد من الطوب يفصل بينهما، بحيث أن الإنسان إذا خطا بقدمه خطوة انتقل من بلد إلى بلد آخر، فهذه هي الحدود عندهم بمنتهى الحرية، وتجد السيارات تمر بين هذه البلاد والأخرى، وغابت الحدود السياسية هذه. لكن في بلاد المسلمين وضعوا الحواجز النفسية والحواجز المادية، وصنعوا المشاكل على الحدود حتى يحصل الاقتتال بين المسلمين كما هو معلوم من سياسة فرق تسد، حتى لا يلتئم شمل هذه الأمة، وكل هذا يحصل نتيجة النظم المعرضة عن الإسلام. نعود إلى الموضوع الذي نتحدث فيه، وهو أن المسلم الآن في فتنة بين هذين الأمرين، بين بعض البلاد الإسلامية التي إذا ذهب إليها يطرد منها إن لم يكن له وضع قانوني يمكنه من الإقامة مثلاً، ومع ذلك يظل مهدداً بالطرد في أي وقت، وإما أن يذهب إلى البلاد الأوروبية حيث الفتنة في دينه، وحيث الفساد المعلوم هناك، وحيث الفتنة أيضاً بمدى الحرية التي قد يتمتع بها ولا يجدها في ديار المسلمين. ومع ذلك إذا أنصف الإنسان وتأمل في أحوالنا مثلاً هنا في مصر، يجد أن أكثر الناس الذين يذهبون إلى البلاد الأوروبية أو إلى البلاد الأخرى العربية يغبطوننا على ما نحن فيه من العافية من الكثير من البلاء ولله الحمد، مع العناء الذي نعانيه هنا في بلادنا، ولكن يوجد كثير من الخير والبركة هنا في الشباب المسلم الملتزم، والدعوة التي تؤتي ثمارها في كل حين بإذن ربها، فهذا مما يطمئن الإنسان مادام أنه يستطيع أن يؤثر فيمن حوله، وينشط في سبيل هذه الدعوة، وفي ذلك خير كثير لمن كان يرجو ثواب الله سبحانه وتعالى.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
عقيدة الولاء والبراء [4] 2191 استماع
عقيدة الولاء والبراء [2] 1637 استماع
عقيدة الولاء والبراء [1] 1633 استماع