عقيدة الولاء والبراء [2]


الحلقة مفرغة

ثم لابد من البراءة من أهل البدع: عدم توقيرهم، عدم الإنصات لهم، عدم السماح لهم بنشر بدعتهم في الناس.

عن صالح المري قال: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه، فقال له ابن سيرين : إما أن تقوم، وإما أن أقوم. وعن سلام بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء لـأيوب : أكلمك بكلمة؟ قال: لا. ولا بنصف كلمة. وعن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز بن أبي داود وكنت في جنازته، حتى وضع عند باب الصفا، فصف الناس وجاء الثوري -أي: سفيان الثوري - فقال الناس: جاء الثوري ، فجاء حتى خرق الصفوف، والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة، ولم يصل عليه؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء.

وعن سفيان الثوري قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة. وعن سعيد الثوري قال: مرض سفيان الثوري فبكى في مرضه بكاءً شديداً، فقيل له: ما يبكيك أتجزع من الموت؟ قال: لا. ولكني مررت على قدري فسلمت عليه، فأخاف أن يحاسبني ربي عليه.

وعن فضيل بن عياض قال: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه. وعنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه: وعنه قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب البدعة إلى الله عز وجل عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.

وعن بشر بن الحارث قال: جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا في السوق، فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكراً، الحمد الله الذي أماته، هكذا قالوا.

وعن محمد بن أسلم قال: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. وعن الحسن قال: لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك.

وعن سفيان الثوري قال: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموا، وإني واثق بنفسي، فمن يأمن بغير الله على دينه طرفة عين سلبه إياه. يعني: من أمن على إيمانه سلبه الله هذا الإيمان، وقال الأوزاعي : لا تمكنوا صاحب بدعة من جبل فيورث قلوبكم من فتنته ارتياباً.

وعن أيوب قال: لقيني سعيد بن جبير فقال: ألم أرك مع طلق ؟ قلت: بلى، فما له؟ قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب : وما شاورته في ذلك، ولكن يحق للرجل المسلم إذا رأى من أخيه شيئاً يكرهه أن ينصحه.

هذه بعض النصوص في ذم أهل البدع، وفي معاداتهم.

لقد مر مبدأ الولاء والبراء بمراحل كثيرة في مكة وفي المدينة، نشير إليها باختصار: معروفة مراحل الدعوة في مكة حينما أمروا بالكف عن المشركين، والصبر والإعراض عنهم، إلى أن انتهت هذه المرحلة بنزول سورة الكافرون: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]* لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] إلى آخر السورة التي هي براءة من الشرك.

أما في العهد المدني فقد تمكنت موالاة المسلمين في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج، ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، حتى كانوا يتوارثون، وتعرض المسلمون لكيد أهل الكتاب، وكيد المنافقين، فأمروا بالبراءة منهم وعداوتهم.

لقد اتخذ الولاء والبراء مظاهر كثيرة، وسن القرآن العظيم مظاهر لهذا الأمر العظيم، فأما البراءة من المشركين، فقال الله عز وجل: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1] إلى آخر الآيات المعروفة في سورة التوبة. من مظاهر البراء من المشركين: أن الله عز وجل منعهم من دخول المسجد الحرام فقال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بعد نزول هذه الآية أن يذهب وينادي : (ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان). أيضاً من مظاهر البراءة من المشركين: منع نكاح المشركات، قال الله عز وجل: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]، وقال: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10]. أيضاً من مظاهر البراء من المشركين: منع المسلم من الإقامة في ديار الشرك بعد أن قامت دولة الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يكون بين ظهراني المشركين). أيضاً بين القرآن البراءة من أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة، وهم بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير، فأمر القرآن بمفاصلتهم والبراءة منهم، ومن ذلك قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:70-71]، وقال عز وجل: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران:98-99]، وقال عز وجل: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:59-60]، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [المائدة:68]. وقد يعتقد بعض المسلمين بأن اليهود والنصارى ليسوا كفاراً، والله عز وجل يقول: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقال عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:73-75]، وقال عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة:17]. أما المنافقون فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم علانيتهم، وأن يكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمره الله أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغهم بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يصلي عليهم، أو أن يقف على قبورهم، وذكر أنه إذا استغفر لهم فلن يغفر الله لهم، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73]، ويقول سبحانه وتعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81] وقال: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]. وقال عز وجل: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، وقال عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون:5-6]. ومن مظاهر الولاء والبراء أيضاً في المرحلة المدنية: قطع الموالاة بين المسلم وقريبه الكافر إذا كان محاداً لله ورسوله، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، إلى آخر الآية، قيل: نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح حين قتل أباه الجراح في يوم أحد، وفي أبي بكر حينما دعا ابنه للمبارزة في يوم بدر، وفي عمر حين قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر، وفي علي وحمزة حينما قاتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر، وقيل غير ذلك.

أما صور الموالاة المحرمة ومظاهرها، فمنها: الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم، أي: الشك في كفرهم، فمن أقبح صور الموالاة التي تهدد عقيدة المسلم، أن يشك في كفر الكافر، أي: لا يعتقد أنه كافر بهذا الشرك الذي ارتكبه، أو يشك في كفره، أو تصحيح المسلم لأي مظهر من مظاهرهم الكفرية. أيضاً من مظاهر ذلك: التولي العام، واتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياءً، أو الدخول في دينهم، يقول الله عز وجل: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28]. يقول ابن جرير رحمه الله: من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم، ويظاهرهم على المسلمين، فليس من الله في شيء، أو قد برئ من الله، وبرئ الله منه، لارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي: إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تجاروهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]. يقول ابن حزم رحمه الله: قول الله تعالى: (( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )) إنما هو على ظاهره؛ لأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين، يقول الله عز وجل: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81]. ومن صور الموالاة المحرمة: الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله، قال الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51]، ونظير هذه الآية قوله تعالى عن بعض أهل الكتاب: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:101-102]، لما اتبعوا السحر، وتركوا كتاب الله، كما يفعله اليهود وكثير من المنتسبين إلى الإسلام، فمن كان من هذه الأمة موالياً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة، كإسناده أهل الباطل، واتباعهم في شيء من فعالهم ومقالهم الباطل؛ كان له من العقاب والذم بحسب ذلك. ومن مظاهر الموالاة المحرمة مودتهم ومحبتهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة:1]. ومن ذلك أيضاً: الركون إليهم، يقول الله عز وجل: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:113]، يقول قتادة : يعني لا تودوهم ولا تطيعوهم. وقد خاطب الله عز وجل الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:74-75]، فإذا كان هنا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بمن هو دونه؟! ومن الموالاة المحرمة: مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين، يقول الله عز وجل: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، ومن أعظم ما يقع فيه المسلمون المداهنة والمجاملة على حساب إسلامهم، فأخذوا ينسلخون من دينهم شيئاً فشيئاً حتى لا يتهموا بالتعصب ولا بالتطرف، وحتى يرضى عنهم هؤلاء الكفار، الذين أخبر الله أنهم لن يرضوا حتى يترك المسلم دينه ويتنجس بكفرهم. وقال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم) الحديث. ومن ذلك: اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وأقرب شيء إلى الإنسان هو بطانة الملابس، فهي قريبة جداً من جسده، فكذلك الإنسان عندما يوالي هؤلاء الكفار، يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، كان بعض المؤمنين يصافون المنافقين أي: يصير بينهم صفاء، ويواصلون رجلاً من اليهود، فنزلت هذه الآية تحذيراً من ذلك، وبطانة الرجل خاصته، تشبيهاً لها ببطانة الثوب التي تلي بطنه؛ لأنهم يستبطنون أمره، ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم، وقد بين الله العلة في النهي عن اتخاذهم بطانة فقال: (( لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا )) أي: لا يفترون ولا يتركون جهدهم فيما يوردكم الشر والفساد، ثم إنهم ليرجون ما يشق عليك من الذل والهلاك. ومن الموالاة المحرمة: طاعتهم فيما يأمرون ويشيرون به، يقول عز وجل: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، وقال عز وجل: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]. ومن ذلك: مجالستهم والركون إليهم وقت استهزائهم بآيات الله، ولذلك نهى الله عن مجالستهم فقال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، فإذا جالستموهم وهم يشتمون دين الله، أو يطعنون في فرائضه؛ فإنكم إذاً مثلهم، يعني: إن لم تقوموا عنهم في هذه الحال. ومن ذلك: توليتهم أمراً من أمور المسلمين، كالإمارة والكتابة وغيرها، بحيث يكونون رؤساء على المسلمين، ويكون لهم سلطان على ديار المسلمين، فإنهم لن يألوا المسلمين خبالاً وتآمراً عليهم، فالتولية شقيقة الولاية، لابد أن تؤدي إلى تمكين ونصرة، وتوليتهم فيه نوع من مناصرتهم ومحبتهم، وقد حسم الله الأمر أن من تولاهم فإنه منهم، فلا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم. وهناك حادثة مشهورة وقعت أيام الملك الصالح إسماعيل ، فقد كان في دولته رجل نصراني يسمى محاضر الدولة أبا الفضل بن دخان ، ولم يكن في المباشرين أمكن منه، وكان قذاة في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين، وبلغ من أمره أنه وقع على رجل نصراني أسلم، فرده إلى دين النصرانية، وأخرجه من الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الفرنجة بأخبار المسلمين وأعمالهم، وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها، فكان مجلسه معموراً برسل الفرنج والنصارى وكانوا هم المقربين لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحمل لهم الأدرار والضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون عند الباب لا يؤذن لهم! وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام، وحدث أن اجتمع في مجلس الملك الصالح أكابر الناس من الكتاب والقضاة والعلماء، فسأل السلطان بعض الجماعة عن أمر أفضى به إلى ذكر مفاسد النصارى، فبسط لسانه في ذلك، وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق، يعني: يقول الجاحد عليهم: الخيانة عشرة أجزاء، تسعة أجزاء منها في أهل الذمة، ويقول بعض العلماء حينما رأى في بعض مراحل التاريخ الإسلامي تمكنهم من المسلمين: بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام من حاد عن دين النبي محمد أله بأمر المسلمين قيام إلا تكن أسيافهم مشهورة فينا فتلك سيوفهم أقلام ومن جملة كلامه أنه قال: إن النصارى لا يعرفون الحساب، ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة، والثلاثة واحداً، والله تعالى يقول: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ . فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء وقال في قصيدة له: كيف يدري الحساب من جعل الوا حد رب الورى تعالى ثلاثة ثم قال: كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده؟! ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً وأخذ لنفسه اثنين، ولاسيما وهو يعتقد ذلك قربة وديانة؟! والمقصود أن من الموالاة، توليتهم والإعجاب بهم واستئمانهم، وقد خونهم الله، يقول عز وجل: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:7

خطبة القاضي ابن الزكي بعد فتح بيت المقدس

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ [الإسراء:111]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15]، الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل:59]. لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70]، َلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:18]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]ً، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر:74]، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الجاثية:36]. فالحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر إجهاره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]. وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان .. إلى آخر الخطبة. وكانت أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان بعد يوم الفتح بثمان، فنصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وجاء الحق، وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البؤس، وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس، وعبد الله الأحد الصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع. هذه خطبة الجمعة بعد فتح بيت المقدس، قال ابن كثير : ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، فلم يكن عين خطيب، فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي من السلطان صلاح الدين الأيوبي وهو في قبة الصخرة، أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيباً، فلبس الخلعة السوداء، وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات، فافتتح هذه الخطبة بقوله: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، ثم أورد تحميدات القرآن كلها على هذا النسق الذي ذكرناه. هذه عودة إلى تاريخنا البعيد، رجعنا فيها أربعاً وعشرين وثمانمائة سنة إلى الوراء، وتوجهنا إلى أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، المسجد الذي لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السماوات، ثم عاد إليه، ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق، وهو أرض المحشر، والمنشر يوم التلاق، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، وقد أسس على التقوى من أول يوم.

إسقاط الأعلام الأجنبية في عهد السلطان عبد المجيد

في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في سنة ستين وثمانمائة وألف، حيث حدث أيضاً حادث في بيت المقدس حينما عين السلطان العثماني عبد المجيد والياً وأمره بتعمير القدس في سنة ستين وثمانمائة وألف من الميلاد، وهذا الوالي كان اسمه سالم باشا وكان هذا الوالي الذي عين من قبل السلطان قد أجاز لبعض الدول الأجنبية أن ترفع أعلامها على قنصلياتها في بيت المقدس؛ لأنها كانت قد حاربت في دولة تركيا ضد روسيا القيصرية، فقام الأهالي ضده، وهاجت الدنيا وماجت، وأجبروا هذا الوالي على العدول عن هذا القرار، فطويت الأعلام الأجنبية في القدس في الحال. هذه من الحوادث التي يذكرها التاريخ، ونتذكرها نحن اليوم حين نذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه ثوبان رضي الله عنه: (توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) . فهذا هو الداء، وهذا هو الدواء يصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه المهابة التي ردها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، وأعز بها دين الله عز وجل، لكن لما وقع هذا المرض في قلوب المسلمين، وهو حب الدنيا وكراهية الموت، صاروا نهباً للأمم؛ لأن هذه الأمة لا عزة لها إلا بالإسلام، والعرب بدون الإسلام لابد أن يكونوا في مؤخرة الأمم، فلا يصلحهم إلا الإسلام، فأي حل غير الإسلام والعودة إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن ينهضوا، وهذا أمر قطعي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، فلا علاج إلا القرآن والسنة والإسلام كما أنزله الله عز وجل، وكما طبقته خير القرون من هذه الأمة . هذا الخير الذي تمثل في العزة الإسلامية التي بعثها صلاح الدين الأيوبي ، والتي تبعث حتى اليوم في نفسية الأوروبيين الهلع والخوف والجبن من أن يعود المسلمون إلى إسلامهم؛ لأنهم حينئذ لن يكون لأعداء الإسلام أي طاقة يواجهون بها المسلمين إن عادوا إلى إسلامهم. فأخوف ما يخافون هو عودة المسلمين إلى الإسلام، فلابد من الأخذ بكل الأسباب التي تدمر هذا السبب من أسباب القوة، سواء بتشويش فهمهم للإسلام وتشويهه، أو بالقهر والجبروت والتسلط، أو غير ذلك من الأسباب التي نراها. وهذه الرهبة التي زالت من قلوب الأعداء من أمم اليوم، يكفي أن نستدل على خطرها عليهم بما نعلم عن الأمهات في إيطاليا، فإن الأمهات في إيطاليا إذا أرادت الأم أن ترعب ابنها أو تخيفه فتقول له: إذا لم تسكت سآتيك بـصلاح الدين ! حتى اليوم يخافون من ذكر صلاح الدين ، ومن فهم صلاح الدين ومن منهج صلاح الدين رحمه الله تعالى الذي أدبهم وأعطاهم درساً لا ينسونه حتى اليوم. فالداء كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم) ، لماذا؟ لأننا نطلب العزة في غير الإسلام، (وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، فالإسلام هو الطريق الصحيح لعودة هذه الأمة إلى سيرتها الأولى، وإلى عزتها، وإلى قوتها، وقد جاء أن عائذ بن عمرو جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب قبل أن يسلم، فقال بعض الصحابة: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان ، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو ولا يعلى) . فمجرد أن قدموا ذكر أبي سفيان وهو لم يكن قد أسلم بعد، على ذكر صحابي مسلم جليل أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قالوا: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو ، قال النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليهم ذلك: (هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان ، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو ولا يعلى) .

عزة عمر بن الخطاب بدينه عند دخوله بيت المقدس

جاء في القصة المشهورة التي رواها الحاكم من طريق ابن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح ، فأتوا على مخاضة -وهي تشبه البحيرة- وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين! أأنت تفعل هذا تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك -أي: أهل بيت المقدس؛ لأنه كان ذاهباً ليستلم المدينة- فقال عمر الذي فتح بيت المقدس أول فتح قال: أوه! -وهذا اسم فعل بمعنى: أتوجع من هذه الكلمة- لو قال ذا غيرك يا أبا عبيدة ! لجعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله. ففي أي عصر من العصور، أو مكان من الأمكنة إذا أراد المسلمون أن يعيدوا عزهم بغير الإسلام لابد أن يذلوا، وهذه قاعدة مقررة، يقول: إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله. وفي رواية أخرى قال: يا أمير المؤمنين! تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر : إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العزة بغيره.

اعتزاز ربعي بن عامر بدينه عند الفرس

وهذا ربعي بن عامر يرسله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قبل القادسية رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير -وهذا كله يبين ما هي مقاييس المسلمين وما هي مقاييس غيرهم- وأظهر اليواقيت واللالئ الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل ربعي بثياب رثة وفرس قصيرة، ولم يزل ربعي راكباً هذه الفرس حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم : ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

تدريس اللغة العربية للبعثات النصرانية رغم أنف الكنيسة

حينما كانت البعثات الطلابية النصرانية تصل إلى ديار الإسلام وحواضره لتلقي العلم، وذلك رغم أنف أهل الكنيسة، ورجال الكنيسة، كان أقارب هؤلاء الطلاب ورجال الكنائس يبذلون كل جهدهم لوضع حواجز نفسية في نفوس هؤلاء الطلاب وعقولهم، حتى تحول دون تأثرهم بالإسلام وبخواص المسلمين إذا دخلوا بلادهم ليتلقوا العلوم التي تفوق فيها المسلمون آنذاك. ولقد بلغ من حرص الكنيسة على هذا أنها في ذلك الوقت أصدرت قراراً كنسياً تقول فيه: إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يبدءون كلامهم بلغات بلادهم، ثم يكملون كلامهم باللغة العربية؛ لنعلم أنهم تعلموا في مدارس المسلمين، أي: أنهم كانوا يعدونها مفخرة، فكان الرجل إذا عاد إلى قومه يبدأ كلامه بالإنجليزية أو الألمانية أو غيرها، ثم يكمل باللغة العربية حتى يكون ذلك مدعاة للفخر أنه سافر إلى بلاد المسلمين، وتعلم من المسلمين، ونطق بلغة المسلمين، فأصدرت الكنيسة تقول: إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يبدءون كلامهم بلغات بلادهم، ثم يكملون كلامهم باللغة العربية لنعلم أنهم تعلموا في مدارس المسلمين، هؤلاء إن لم يكفوا عن ذلك، فستصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان. هذا أيضاً من الملامح التي تدل إلى أي مدى وصلت عزة المسلمين وقوتهم حينما استمسكوا بالإسلام.

مسلم يرفض مصافحة موشي ديان وزير الدفاع اليهودي

كان موشى ديان وزير الدفاع اليهودي في بعض جولاته منذ زمن، فلقي مجموعة من الشباب المسلم في حي من أحياء قرية عربية مسلمة، فصافحهم بخبث وهدوء غادر، لكن واحداً من هؤلاء الشباب أبى أن يصافحه، وقال له: أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لابد آت بإذن الله، لتتحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتقاتلن اليهود أنتم شرقي النهر وهم غربيه)، فابتسم ديان الماكر وقال: حقاً سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً، ولكن إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه، ويقدر قيمه الحضارية، وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل. وهذا القول يبين ويؤكد لنا هذه الحقيقة وهي: أن المسلمين ليس لهم عز، وليس لهم مخرج إلا في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولن تتحقق فينا هذه النبوءة حتى نراجع ديننا، وهي الواردة في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الرواية الأخرى: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله! فمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا. ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ [الإسراء:111]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15]، الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل:59]. لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70]، َلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:18]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]ً، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر:74]، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الجاثية:36]. فالحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر إجهاره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]. وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان .. إلى آخر الخطبة. وكانت أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان بعد يوم الفتح بثمان، فنصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وجاء الحق، وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البؤس، وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس، وعبد الله الأحد الصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع. هذه خطبة الجمعة بعد فتح بيت المقدس، قال ابن كثير : ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، فلم يكن عين خطيب، فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي من السلطان صلاح الدين الأيوبي وهو في قبة الصخرة، أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيباً، فلبس الخلعة السوداء، وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات، فافتتح هذه الخطبة بقوله: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، ثم أورد تحميدات القرآن كلها على هذا النسق الذي ذكرناه. هذه عودة إلى تاريخنا البعيد، رجعنا فيها أربعاً وعشرين وثمانمائة سنة إلى الوراء، وتوجهنا إلى أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، المسجد الذي لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السماوات، ثم عاد إليه، ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق، وهو أرض المحشر، والمنشر يوم التلاق، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، وقد أسس على التقوى من أول يوم.

في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في سنة ستين وثمانمائة وألف، حيث حدث أيضاً حادث في بيت المقدس حينما عين السلطان العثماني عبد المجيد والياً وأمره بتعمير القدس في سنة ستين وثمانمائة وألف من الميلاد، وهذا الوالي كان اسمه سالم باشا وكان هذا الوالي الذي عين من قبل السلطان قد أجاز لبعض الدول الأجنبية أن ترفع أعلامها على قنصلياتها في بيت المقدس؛ لأنها كانت قد حاربت في دولة تركيا ضد روسيا القيصرية، فقام الأهالي ضده، وهاجت الدنيا وماجت، وأجبروا هذا الوالي على العدول عن هذا القرار، فطويت الأعلام الأجنبية في القدس في الحال. هذه من الحوادث التي يذكرها التاريخ، ونتذكرها نحن اليوم حين نذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه ثوبان رضي الله عنه: (توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) . فهذا هو الداء، وهذا هو الدواء يصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه المهابة التي ردها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، وأعز بها دين الله عز وجل، لكن لما وقع هذا المرض في قلوب المسلمين، وهو حب الدنيا وكراهية الموت، صاروا نهباً للأمم؛ لأن هذه الأمة لا عزة لها إلا بالإسلام، والعرب بدون الإسلام لابد أن يكونوا في مؤخرة الأمم، فلا يصلحهم إلا الإسلام، فأي حل غير الإسلام والعودة إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن ينهضوا، وهذا أمر قطعي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، فلا علاج إلا القرآن والسنة والإسلام كما أنزله الله عز وجل، وكما طبقته خير القرون من هذه الأمة . هذا الخير الذي تمثل في العزة الإسلامية التي بعثها صلاح الدين الأيوبي ، والتي تبعث حتى اليوم في نفسية الأوروبيين الهلع والخوف والجبن من أن يعود المسلمون إلى إسلامهم؛ لأنهم حينئذ لن يكون لأعداء الإسلام أي طاقة يواجهون بها المسلمين إن عادوا إلى إسلامهم. فأخوف ما يخافون هو عودة المسلمين إلى الإسلام، فلابد من الأخذ بكل الأسباب التي تدمر هذا السبب من أسباب القوة، سواء بتشويش فهمهم للإسلام وتشويهه، أو بالقهر والجبروت والتسلط، أو غير ذلك من الأسباب التي نراها. وهذه الرهبة التي زالت من قلوب الأعداء من أمم اليوم، يكفي أن نستدل على خطرها عليهم بما نعلم عن الأمهات في إيطاليا، فإن الأمهات في إيطاليا إذا أرادت الأم أن ترعب ابنها أو تخيفه فتقول له: إذا لم تسكت سآتيك بـصلاح الدين ! حتى اليوم يخافون من ذكر صلاح الدين ، ومن فهم صلاح الدين ومن منهج صلاح الدين رحمه الله تعالى الذي أدبهم وأعطاهم درساً لا ينسونه حتى اليوم. فالداء كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم) ، لماذا؟ لأننا نطلب العزة في غير الإسلام، (وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، فالإسلام هو الطريق الصحيح لعودة هذه الأمة إلى سيرتها الأولى، وإلى عزتها، وإلى قوتها، وقد جاء أن عائذ بن عمرو جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب قبل أن يسلم، فقال بعض الصحابة: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان ، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو ولا يعلى) . فمجرد أن قدموا ذكر أبي سفيان وهو لم يكن قد أسلم بعد، على ذكر صحابي مسلم جليل أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قالوا: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو ، قال النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليهم ذلك: (هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان ، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو ولا يعلى) .