آفات اللسان


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه، إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً؛ إذا ذُكر ذكر).

فقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المؤمن: (إذا ذُكر ذكر)، إشارة إلى ما بينه الله تبارك وتعالى في قوله: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9].

ثم بين في آية أخرى من الذين ينتفعون بالذكرى، فقال عز وجل: وَذَكِّر ْفَإِنّ َالذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، فقد يقع المؤمن في الأخطاء، لكنه إذا ذكر بآيات الله عز وجل فإنه يتذكر وينتفع بهذه الذكرى، كما قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

وهناك فرق بين التعليم وبين التذكير؛ فالإنسان يتعلم ما كان جاهلاً إياه من قبل، أما الذكرى فقد يكون عند الإنسان معلومات، لكنه يحتاج إلى التذكير بها، وإلى إيقاظ معانيها في قلبه، فكلنا يعلم أنه يموت، لكن ليس كلنا يعتبر ويتذكر حقيقة الموت، ولا ينفعل بها إلا إذا ذُكر بذلك.

ومن نعمة الله سبحانه وتعالى علينا أن هذا الإسلام ليس ديناً يتعامل مع النظريات المثالية أو الخيالية، وإنما هو دين يتعامل مع الواقع البشري الحي، وإذا كلفنا الإسلام بشيء فهو لابد داخل طوقنا، وفي استطاعتنا؛ إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

ومن رحمة الله عز وجل أنه أرسل إلينا من أنفسنا رسولاً من البشر، ولو كان أرسل إلينا ملكاً -بفرض وقوع ذلك- فربما إذا ندب الملك هؤلاء البشر إلى أن يغيروا أخلاقهم ويتمثلوا الحق في سلوكهم ربما قالوا: أنت ملك، وأما نحن فبشر، ولابد من أن نقع في الذنوب والتقصير.

أما وقد جاءنا رسول من أنفسنا وهو بشر مثلنا تمثل فيه وتحقق فيه النموذج الأعلى والأكمل للبشرية على الإطلاق، وليس هذا فحسب، بل جعله الله عز وجل قدوة لنا وأسوة نقتدي بها، فقال عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، ثم انفعل صحابته الأبرار رضي الله تعالى عنهم بهذه الأسوة الحسنة وتأثروا بها، وبذلك استحقوا أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، فخير أمة وأفضل أمة وأكمل الأمم على الإطلاق هم الصحابة الأطهار، ثم من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن المسلمين دائماً ننظر إلى السلف الصالح وإلى الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان على أنهم قمة شامخة عالية، وكل ما نرجوه هو أنا نحاول أن نرتقي بقدر الاستطاعة ونرتفع إلى مستواهم؛ فالاقتداء بالسلف وبالصحابة ليس رجوعاً إلى الوراء، وليس رجعية، لكنه تسامٍ وترقٍ وصعود إلى أعلى.

فينبغي محاولة اللحاق بهم في أخلاقهم وفي عباداتهم وفي جهادهم رضي الله تعالى عنهم.

وإذا كان من الوظائف الأساسية للرسول صلى الله عليه وسلم تزكية النفوس، كما قال الله عنه: وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] فإنه عليه الصلاة والسلام بين أيضاً أن من مقاصد بعثته الأساسية ما شرحه وفسره بقوله: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)، فهذا من المقاصد الرئيسية لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الإنسان مهما كان فيه من العيوب فبفضل الله سبحانه وتعالى وبمجاهدة النفس وبالاستهداء بنور الوحيين، فإنه يستطيع أن يتغير إلى أكمل صورة؛ وباب الفضائل مفتوح على مصراعيه، وكل من عنده همة وعزيمة على أن يلجه فإنه يستطيع أن يلجه، ولن يكبله أحد، وفي ذلك يقول الشاعر:

إذا أعجبتك خصال امرئٍ فكنه يكن منك ما يعجبك

فليس لدى المجد والمكرما ت إذا جئتها حاجب يحجبك

يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) يعني: أنه مهما كان عند الإنسان صعوبة في أخلاقه أو في طباعه، وهو غير راضٍ عنها، فإنه يستطيع بالاستعانة بالله سبحانه وبالاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فعليه أن يغيرها إلى أحسن الأخلاق؛ وبالتالي ينال أعلى الدرجات؛ فإن العبد ينال بحسن الخلق ما لا يناله بالعبادة والصيام والقيام.

والحقيقة أننا نطرق كثيراً باب الموسم العظيم المبارك موسم شهر رمضان المعظم، والذي فيه كثير من الفضائل والخيرات التي لا يحرم منها إلا محروم، وهو فرصة لتحسين الأخلاق، وشهر رمضان إذا نظرنا إليه من أي زاوية نجد أنه شهر البركات والخيرات العامة والخاصة على جميع الناس، حتى نجد أن الإنسان مهما كان شريراً فبمجرد أن يدخل عليه شهر رمضان نجد أن ذروة الشر تقل عنده، وعند الناس جميعاً، فالحقيقة أنه فرصة عظيمة، فنقول للمدخنين: هذه فرصتكم للإقلاع عن التدخين، وكذا نقول للنهمين الشرهين في الطعام: هذه فرصتكم لمكافحة شهوة الطعام.

وفي مجتمع الملتزمين ما زلنا جميعاً نشكو من آفات خطيرة جداً نحتاج إلى استغلال هذا الشهر من أجل مقاومتها ومجاهدتها.

وما أكثر ما نسمع أسئلة حينما يحل شهر رمضان: هل البخور يؤثر في الصيام؟ وهل الطيب يؤثر في الصيام؟ هل كذا يؤثر في الصيام؟ ونهتم دائماً بما يؤثر في الصيام من هذه الأمور، وقلَّ أن نجد من يصرف همه إلى هذا العضو الخطير في بدنه وهو اللسان الذي هو بلا شك يؤثر في الصيام تأثيراً شديداً جداً بنقصان الأجر، حتى وصل الأمر أن بعض العلماء يفتي -وفتواه شاذة- أن من اغتاب الناس فقد أفطر وبطل صيامه بذلك، ونحن لا نقول بهذا بالضبط، لكن نقول: هي تؤثر في الصيام بلا شك، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).

إذاً: هذا حديث يبين لنا أنه ينبغي أن يصاحب الصوم تزكية للنفس وتطهير للسان من آفاته.

إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالقول الحسن فقال عز وجل: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53]، ففي هذه الآية الأمر بإحسان الكلام، وأن ينطق الإنسان بالخير.

وقال تبارك وتعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، فانتظمت هذه الآية بعمومها المسلم واليهودي والنصراني وغيرهم.

وعن عطاء في قوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] قال: للناس كلهم المشرك وغيره. فحتى المشرك عليك أن تحسن خلقك وألفاظك معه.

وعن أبي سنان قال: قلت لـسعيد بن جبير رحمه الله: المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي -أي: هو الذي يبدأني بالخير ويسلم علي- أفأرد عليه؟ فقال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن نحو من ذلك، فقال: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه. أي: لو قال لي فرعون الذي هو شر البشر في عصر موسى عليه السلام خيراً لرددت عليه خيراً مثله، فإن هذا هو أدب القرآن، كما قال تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86].

ففرعون الذي كان شر الخلق في زمن موسى عليه السلام، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى أرسل إليه نبيين كريمين وأمرهما باللين معه فقال عز وجل: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فإذا كان هذا مع فرعون، فكيف بغيره؟!

وبعض الإخوة إذا أحسن خلقه مع الكافر يظن أنه مفرط في دينه، وأن هذا تنازل عن الإيمان وعن مقتضيات الإيمان، وهذا غير صحيح، فأنت لا تواليه بسبب كفره، بل أنت تعاديه وتبغضه، لكنك تعطيه حقه إذا كان قريباً أو جاراً أو إذا تعاملت معه؛ فحسن الخلق مع كل الناس مندوب إليه ومأمور به، وليس في ذلك ما يقدح في الدين.

وكان من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يذم أحداً ولا يعيبه صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (وخالق الناس بخلق حسن).

وبمناسبة هذه الكلمة التي قالها أبو سنان لـسعيد بن جبير : المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي أفأرد عليه؟ فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن نحو من ذلك، فقال: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه. يعني: فإذا كان الإحسان في مقابلة إحسان كمن أدى إليك خدمة معينة فلا مانع من أن تشكره بأن تقول له: شكراً لك، حتى لا يكون دعاءً وهو لا يستحق ذلك، لكن اذكر له أي عبارة فيها نوع من المجاملة؛ فهذا الخلق هو الذي يليق بالمسلم.

وأتذكر حادثة حصلت بسبب سوء فهم بعض الإخوة لهذا الأمر؛ لأنه كان يظن أن حسن الخلق مع الكافر تنازل في الدين أو ضعف في الإيمان، وذلك أني كنت في بريطانيا، فحكى لي بعض الإخوة الأفاضل قصة حصلت من شابين ضلا الطريق في منطقة معينة، وكانا يبحثان عن العنوان، والناس هناك فيهم صفة جيدة في موضوع دلالة الناس الذين يبحثون عن الطريق مثلاً، أو يحتاجون معرفة شيء معين.

المهم أنهما سألا رجلاً كبيراً في السن عن العنوان أو المكان الذي يبحثان عنه، فالرجل لم يكتف بأن شرح لهما خريطة المكان أو الموضع الذي يطلبانه، وإنما سار معهما مسافة كبيرة واصطحبهما حتى أوصلهما إلى المكان الذي يريدان، فوقف الرجل فإذا بالأخوين ينصرفان عمداً، فالرجل استنكر هذا الموقف جداً، فأراد أن يعاتبهما عتاباً يسيراً فقال لهما: عندنا نحن معشر الإنكليز أن من أدى إلينا معروفاً فإننا نقول له: نشكرك، وكأنه يريد أن يقول: فماذا عندكم فالأخ قال له: أنا أعرف هذا جيداً، وأنا متعمد ألا أقول لك: شكراً؛ لأنك كافر! إلى آخر هذا الأسلوب، وبلا شك أن هذا تنفير.

وأنا لا أريد أن أخرج عن الموضوع؛ لأننا حتى الآن لا نزال في المقدمة، ولكن بلا شك أن سوء الخلق بالذات يكون له تأثير ضار في الصد عند سبيل الله عز وجل، فلا تظن أنك إذا فعلت ذلك أنك في عافية، قال الله عز وجل في أواخر سورة النحل: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:94]، فهذه آية في غاية الروعة في الحث على حسن الخلق حتى مع الكفار، فقوله: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ)، أي: إياكم أن تستغلوا الأيمان والحلف باسم الله سبحانه وتعالى وتجعلوها وسيلة لخداع الناس، فالناس حينما يرونكم تحلفون وتعظمون اسم الله عز وجل يثقون أنكم صادقون فيما تريدون، وأنكم ملتزمون بما تحلفون عليه، فإياكم أن تستغلوا الأيمان والحلف وتجعلوها سبيلاً للإفساد بينكم ونقض العهود والمواثيق.

وقوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، أي: أن أول ضرر أنه تزل قدم بعد ثبوتها، فبعدما كنتم ثابتين على الصراط المستقيم تزلون وتنحرفون عنه، وهذا انحراف يخصكم أنتم في أنفسكم، وليس هذا فحسب، بل تفقدون اسم الإيمان والتقوى والاستقامة إلى الاعوجاج والزلل، وأيضاً تذوقون السوء، ولكم عقاب عند الله عز وجل؛ لأنكم بسوء خلقكم ونقضكم العهود واتخاذ الأيمان للإفساد وخداع الناس تنفرون عن الدين، فالكفار إذا رأوكم تفعلون ذلك قالوا: لو كان في دينهم خيراً لأدبهم، ولزجرهم عن هذا الشر الذي فعلوه وعن هذه الخديعة والخيانة، فهذا يترتب عليه تشويه الدين في نظر هؤلاء الناس الذين يفترض أنكم تدعونهم بسلوككم وأخلاقكم أكثر مما تدعونهم بأقوالكم، فيترتب على ذلك أن ينفر هؤلاء الناس عن الإسلام، وبالتالي ستبوءون أنتم بوزر صدهم عن سبيل الله؛ ولذلك يقول تبارك وتعالى: وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:94] أي: بسوء الخلق.

وفي واقعة ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه ما يدل على أثر حسن الخلق؛ فإنه كان شديد العداوة للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام خير معلم على وجه الأرض، فأتي بـثمامة بعد أن أسر، فأمر به أن يوثق ويقيد في سارية من سواري المسجد، وبقي على ذلك ثلاثة أيام.

إنها حكمة عظيمة من خير معلم وخير مربٍ في تاريخ البشر كلهم أجمعين عليه الصلاة والسلام، هذه الحكمة هي أن ثمامة بن أثال ربط في المسجد حتى يعلم أن المسجد هو مجلس الوزراء وهو مجلس الشعب ومجلس الشورى وغرفة العمليات ومكان العبادة ومكان التدريب على الجهاد، وكل شيء كان يتم في المسجد، فأراد أن يلقنه درساً في كيفية أخلاق المسلمين، وفي كيفية تعامل الصحابة مع بعضهم البعض، وكيف يعبدون الله؟ وكيف يحيي بعضهم بعضاً؟ وهكذا، فإنه إذا رأى هذا فسيكون سبيلاً إلى اقتناعه بالإسلام.

وبالفعل أن هذا هو الذي تم، (فلما سأله أول يوم: كيف تجدك يا ثمامة ! قال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وفي اليوم الثاني قال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وفي اليوم الثالث عفا عنه النبي عليه الصلاة والسلام وأطلقه، فذهب ثمامة إلى مكان معين فاغتسل، ثم أتى وشهد شهادة الحق، رضي الله تعالى عنه).

الشاهد من هذا: أنه لولا أنه عاش وانغمس في مجتمع الصحابة ورأى أخلاقهم وسلوكياتهم لما كان انجذب إلى الإسلام.

يقول عليه الصلاة والسلام: (وخالق الناس بخلق حسن) أي: كل الناس، وليس فقط المسلمين؛ فحسن خلق المسلم -كما سنتناوله إن شاء الله تعالى- يتعدى حتى يشمل البهائم والحيوانات.

ونحن سنركز على آفات اللسان، وبالذات آفات اللسان المتعلقة بالغيبة التي هي آفة شائعة ومتوغلة في المجتمعات، ولا نكاد نستثني أحداً، حتى مجتمعات الملتزمين والملتزمات.

فلا شك أن أعظم حقوق المسلم على الإطلاق هي صيانة عرضه ورعاية حرمته، فإن تحريم النيل من عرض المسلم أصل شرعي متين واجب بالضرورة من دين الإسلام، وحفظ العرض واحد من الضرورات الخمس التي جاءت من أجلها الشرائع.

خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعظم حشد تم في الإسلام على الإطلاق، وكان يزيد عن مائة ألف نفس من الصحابة الكرام رضي الله عنهم في حجة الوداع فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟).

والأعراض: جمع عرض، والعرض هو كل موضع يقبل المدح أو الذم في الإنسان، فأي شيء من صفات الإنسان يمكن أن يمدح أو يذم سواء كان في نفسه أو في سلفه من آبائه وأجداده أو من يلزمه أمره، أو هيئة مشيته أو طريقة كلامه أو ملابسه أو أي شيء يخص المسلم مما إذا ذكر فيه بسوء يسوءه ذلك، فهذا هو عرضه.

وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص ويثلم.

قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ويده تشمل أشياء كثيرة: تشمل الضرب، وتشمل الكتابة، وتشمل كل شيء يمكن أن يترتب عليه أذية مسلم.

قال سفيان بن حصين : كنت جالساً عند إياس بن معاوية ، فمر رجل فنلت منه، فقال لي: اسكت، ثم قال لي: يا سفيان ! هل غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: غزوت الترك؟ قلت: لا، قال: سلم منك الروم وسلم منك الترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال: فما عدت إلى ذلك بعد.

وقال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة)، ومثل هذه الضمانة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تعلق إلا على أمر عظيم جسيم.

ونظر عبد الله بن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك). أي: أن حرمة المؤمن عند الله سبحانه وتعالى أعظم من حرمة الكعبة المشرفة.

وقال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:11-12] يعني: هل منكم من يطيق ذلك من الناحية الطبيعية؟ وطبع الإنسان هل يقبل أن يكون أخوه المسلم ميتاً وهو يأتي بسكين ويقطع من لحم أخيه ويأكله؟! فأنتم لا تحبون ذلك، وأنتم تكرهونه طبعاً، فكما كرهتموه طبعاً فاكرهوه شرعاً.

وبين صلى الله عليه وسلم أن حد الغيبة أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه، وقال صلى الله عليه وسلم: (الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره).

وبعض الناس يلبس الشيطان عليهم؛ لأن الشيطان واقف لهم بالمرصاد، وكل باب من أبواب الخير يريد أن يغلقه عليهم، وكل باب من أبواب الشر يريد أن يفتحه ويوسعه لهم بالتبريرات والتسويغات والمعاذير، فمثلاً تسمع واحداً يتكلم على واحد فتقول له: اتق الله! فهذه غيبة، فيقول لك: أنا مستعد أن أقول هذا الكلام أمامه!

فيقال لهذا المسكين: حتى لو كنت مستعداً أن تقوله أمامه فهذه هي الغيبة التي حرمها الله، وإنما الفارق أنك إذا قلته أمامه وقعت في خطأ آخر وهو أذية أخيك المسلم ومواجهته بما يكره، وإذا كان أمام ناس فتكون قد فضحته وأسأت إليه أكثر ولم تستر عليه، وإذا كان في غيبته فهذه هي الغيبة، فإنه لم يستثن الرسول عليه الصلاة والسلام شئياً، ولم يقل مثلاً: الغيبة أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه إلا إذا كنت تقوى على أن تواجهه بذلك، فحتى لو كنت تزعم أن هذه من الشجاعة وأنك تستطيع أن تواجهه بذلك فهي غيبة، وليس لها اسم آخر غير الغيبة، وهي الذنب المحرم الذي أجمع العلماء على تحريمه، فحد الغيبة: أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه.

والفرق بين الغيبة والبهتان هو كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابي: (أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، أي هذا هو البهتان.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يُطعم، ولا يرحل حتى يرحل له) قوله: (لا يأكل) يعني: ليس هو الذي يعد طعامه، فإنه لا يأكل حتى يُعد له الطعام، وقوله: (ولا يرحل حتى يرحل له) أي: وإذا أراد أن يركب الدابة فإن غيره يضع الرحل الذي يوضع على الدابة، ويقوم بخدمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتبتموه)، فالمفروض أنك أيها الإنسان! تكون منتبهاً في أي مجلس تجلسه، وإذا كان سيقع من أحد غيبة فعليك أن تنصحه وتبين له أنها غيبة، وقد يقع بينك وبينه نوع من الوحشة في أول جلسة، لكنه سوف يعرف أنك لست ممن يحب المشاركة في أكل لحوم الناس، فعلى الأقل سيكفيك شره إن لم يتب إلى الأبد؛ لأنه إذا وجد في كل مجلس فيه غيبة من يزجره وينبهه إلى خطورة هذه المعصية فسيراجع نفسه بلا شك، أو يكف عن أعراض الناس، لكن الذي يحصل أنها توافق أهواء الجالسين، وقد يسوغونها في مصلحة الدعوة، وهذه من الأبواب الشيطانية، وبالتالي يحصل تمكن من هذه الآفة في هذا المجتمع، قالوا: (لا يأكل حتى يُطعم، ولا يرحل حتى يرحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتموه، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا بما فيه؟ فقال: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه) أي: حسبك من الشر أن تغتابه بأن تذكر ما فيه، فهل تريد كذلك أن تبهته، وتفتري عليه الكذب أيضاً؟ بل يكفيك حظاً من الإثم أن تذكر أخاك بما فيه، وأن تغتابه.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية كذا وكذا)، قال بعض الرواة: تعني: أنها قصيرة، مع أن عائشة ضرتها، وقد يقع من التحاسد والتنافس بين الضرائر ما يغتفر، لكن مع ذلك ما سكت؛ رعاية لحرمة المسلمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته!) أي: لو أن هذه الكلمة تجسدت وخلطت بماء البحر لعكرت ماء البحر وأفسدته، إنها كلمة واحدة، لكنها غيبة.

الإجماع على تحريم الغيبة

قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: والإجماع على أنها من الكبائر، وأنه يجب التوبة منها إلى الله تعالى.

والحقيقة أن حكاية الإجماع في هذا فيه نظر.

لكن هنا تعبير آخر أكثر دقه، وهو أن علماء الشافعية نصوا على أن الغيبة إذا كانت في أهل العلم وحملة القرآن الكريم فهي كبيرة وإلا فصغيرة.

وقال الفقيه ابن حجر الهيتمي رحمه الله: كل منهما -أي: الغيبة والنميمة- حرام بالإجماع، وإنما الخلاف في الغيبة، هل هي كبيرة أم صغيرة؟

وقال آخرون: إن كانت في طلبة العلم وحملة القرآن فهي كبيرة وإلا كانت صغيرة.

وعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)، والجزاء من جنس العمل.

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً؛ أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه).

عذاب القبر بسبب الغيبة

وعن جابر رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فهبت ريح منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين). وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، فأيكم يأتيني بجريدة؟ فاستبقنا، فسبقته، فأتيت بجريدة، فكسرها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة وعلى ذا القبر قطعة، وقال: إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول). وعن قتادة رضي الله عنه قال: ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم) يعني: يعذبون أنفسهم بأيديهم، وفيها أظافر من نحاس، وبها يخمشون الوجوه، (فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم).

غيبة المسلم كأكل لحمه ميتاً

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل -يعني: انصرف- فوقع فيه رجل من بعده -أي: بعدما غادر المجلس اغتابه أحد الجالسين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تخلل، فقال: ومم أتخلل وما أكلت لحماً؟) وتخليل الأسنان هو: إخراج الألياف التي تعلق ما بين الثنايا، فقال له النبي عليه السلام: (إنك أكلت لحم أخيك). وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه: لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم. فالغيبة ضيافة الفساق، والفساق هم الذين لا يبالون بحرمة الله سبحانه وتعالى، ولا يبالون أن يأكلوا لحوم الناس. والمنكر قد شاع في المجتمع جداً وذاع، وقلَّ من ينكره، ونحن لا نكاد نبالي به، ولا نشعر، وقلوبنا لا تحس ناحيته بكراهية إلا من رحم الله، فحن محتاجون إلى تجديد العهد بهذه النصوص، وأن نعطي الأمور حجمها، فالأمر كما قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وكما قال تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، فالغيبة ضيافة الفساق الذين لا يتقون الله سبحانه وتعالى، كما قال بعض السلف. وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله: أنه أضاف ناساً، فلما قعدوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلاً، فقال إبراهيم : إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز. يعني: بدأتم بلحم هذا المسلم الذي اغتبتموه قبل الخبز. وعن موسى السيلاني أنه سأل سفيان الثوري رحمه الله تعالى فقال: يا أبا عبد الله ! إن الله يبغض بيت اللحميين؟ يعني: يقول له: هل ربنا سبحانه وتعالى يبغض بيت اللحميين؟ يقصد: الناس الذين يأكلون لحماً كثيراً، فنسبهم إلى اللحم، فقال له سفيان : ليس هم الذين يأكلون اللحم، ولكنهم الذين يأكلون لحوم الناس. فاللحميون هم الذين هم مغرمون بأكل لحوم الناس، لكن أن تأكل لحم البقر والغنم فهذا حلال لم يحرمه الله سبحانه وتعالى عليك مادمت تشكر نعمته، لكن المهم ألا تأكل لحوم الناس.

تنجيس الغيبة والأمر بالتطهر منها

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن أحق ما طهر الرجل لسانه، وأي واحد منا إذا أصابت النجاسة ثيابه فإنه ينظفه ويطهره، فإذا اغتاب الناس فإن هذه النجاسة تكون في لسانه، فأي الأشياء أولى أن تطهر؟ لا شك أن اللسان أولى بالتطهير، ولذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: إن أحق ما طهر الرجل لسانه.

بل إن بعض السلف كان إذا أراد التنفير من هذه المعصية أمر فاعلها بالطهارة الحقيقية، فيأمره بالمضمضة وبالوضوء تشبيهاً لها بالنجاسة الحسية، وإرشاداً إلى التحرز منها، كما يتحرز من النجاسات.

فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب، ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها؟ وهذه العبارة من أم المؤمنين تحتمل أكثر من معنى، فإذا كانت على حقيقتها فربما كانت تقصد الوضوء من أكل ما مسته النار قبل أن ينسخ، كأنها تقول لهم: أنتم تتوضئون من هذه الكلمة قبل أن ينسخ الوضوء ما مسته النار، وتحتمل الوضوء من أكل لحم الإبل، فكأنها تقول لهم: إذا توضأ أحدكم من الطعام الطيب الحلال سواء كان مما مسته النار قبل أن ينسخ أو من أكل لحم الإبل ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها، وهي أولى أنك تمضمض فمك بعدها. فإذا ما ابتليت بالغيبة فهذا أولى من أن تتمضمض من أكل لحم الإبل أو غيره.

ومثله قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لأن أتوضأ من كلمة خبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من طعام طيب).

وعن إبراهيم قال: الوضوء من الحدث وأذى المسلم، أي: كما تتوضأ من الحدث توضأ من أذى المسلم.

ويحمل هنا الوضوء على غسل الفم وتطهير اللسان.

وعن محمد بن سيرين قال: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول: توضئوا فإن بعض ما تقولون شر من الحدث.

يعني: اغسلوا وطهروا ألسنتكم، فإن بعض ما تقولون من الغيبة والنميمة شر من الحدث ومن النجاسة.

وجاء حديث في هذا، لكنه مرسل وإن كان رجاله ثقات، أخرجه ابن سعد ، وهو ما رواه معن عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم : (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، قالت صفية بنت حيي : والله يا نبي الله! لوددت أن الذي بك بي، فغمزها أزواجه) أي: أن ضرائرها غمز بعضهن لبعض أن انظرن صفية ماذا تقول للرسول عليه الصلاة والسلام: (فأبصرهن، فقال: مضمضن، فقلن: من أي شيء؟ قال: من تغامزكن بها، والله إنها لصادقة)، هنا الحديث مرسل في الحقيقة، وإذا صح ففيه إشارة أيضاً إلى موضوع المضمضة كما بينا.

حكم استماع الغيبة

ومن الأمور المهمة جداً أن مستمع الغيبة والمغتاب كلاهما شريك في الإثم، فإذا تواجدت في مجلس تدور فيه الغيبة كما يدار بالفاكهة على رواد المجلس فلا تظن أنك تبرأ من مثل هذا المنكر، بل لابد أن تزيله أو تزول عنه، أما أن تجلس ساكتاً فمجرد استماعك يجعلك شريكاً في هذه الغيبة.

فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (جاء الأسلمي -يعني: ماعزاً - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات، يقول: أتيت امرأة حراماً، وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إلى أن قال في الحديث: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أن يرجم فرجم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رُجم رجم الكلب، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله)، وجثة الحمار لما تتعفن وتتجيف تزيد الغازات في داخل البطن، والعضلات تشتد جداً وتتيبس، والجثة ملقاة في الأرض، والحمار رافع رجليه من التعفن، كل هذا كناية عن شدة التعفن والنتن في هذه الجيفة، قال: (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: أين فلان وفلان -يعني: هذين الرجلين اللذين تكلما بهذا الكلام- قالوا: نحن ذان يا رسول الله! فقال لهما عليه الصلاة والسلام: كلا من جيفة هذا الحمار! فقالا: يا رسول الله! غفر الله لك، من يأكل من هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده! إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها)، فالشاهد من هذا الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة).

فأول شيء نسب الوزر إليهما جميعاً، مع أن الذي تكلم هو واحد؛ كان يحدث الذي بجواره، والذي بجواره سكت، فمعناه أنه صار شريكاً له في الإثم؛ لأن السكوت علامة الرضا.

فلو قلت للمغتاب: اتق الله، فستكون قد برئت من المعصية، لكن حين تسكت أو تستحي فأنت شريك في الوزر، ومثلك مثله ولا فرق، ولذلك قال لهما: (كلا من جيفة هذا الحمار!)، وقال لهما: (ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة)، يعني: أن الأكل من الجيفة أخف؛ لأن الإنسان لو أكل من جيفة الحمار المنتن لم يؤذ مسلم، ولم ينتهك عرض مسلماً، ولم تتعلق بذمته حقوق العباد، فلا شك أن أكل لحوم الحمر المتجيفة والمنتنة خير من أكل لحوم البشر؛ لأن أكل لحوم البشر يترتب عليه هذه الأشياء التي ذكرنا.

التوبة من الغيبة

روى الضياء في الأحاديث المختارة بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت العرب يخدم بعضهم بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا لا يوائم نوم بيتكم)، يعني: وجدوا أن هذا الخادم تأخر في النوم أو أطال النوم حتى استيقظا ولم يكن قد أعد الإفطار أو الطعام، فقالا: إننا الآن في حالة سفر، والإنسان في السفر لا يتمادى في تعاطي راحة البدن؛ لأن حالة السفر تحتاج نوعاً من الأهبة والاستعداد، والإنسان لا يتصرف كأنه في بيته، فمعناه: أن النوم يكون خفيفاً، فقالا: (إن هذا لا يوائم -يعني: يوافق- نوم بيتكم) أي: أنه نائم نوماً واحداً سواء كان قاعداً في البيت أو مسافراً، (فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، وهما يستأدمانك)، يعني: يطلبان منك الإدام، والإدام هو كل ما أكل به الخبز، فلما ذهب الرجل وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (قد ائتدما، ففزعا، فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: قد ائتدما، فبأي شيء ائتدمنا؟ فقال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه في أنيابكما -وفي رواية: ثناياكما- قالا: فاستغفر لنا قال: هو فليستغفر لكما) أي: صاحب الحق.

فالإنسان إن كان لابد مصراً أن يعصي الله سبحانه وتعالى فليختر معصية يسهل عليه أن يتوب منها، لكن عند أن تختار معصية تتعلق بحق الغير فمعنى ذلك أنه لن تبرأ ذمتك إلا أن يسامحك هذا الشخص، وإذا لم يسامحك فسترد القيامة وفي عنقك حق العباد؛ لأن المعصية إذا كانت بينك وبين الله فإذا تبت إلى الله فالله يقبل التوبة عن عباده، أما إذا كانت المعصية في حق من حقوق العباد فلابد أن تستحل من صاحبها، وإما أن يستوفي حقه منك، والعملة هناك في الآخرة ليست الدينار ولا الدرهم، إنما هي الحسنات والسيئات، فيأخذ من حسناتك حتى يقضي عليها، فإذا لم يبق معك حسنات يؤخذ من سيئاته فتطرح عليك، فلماذا الإنسان يتعب في العبادة ويتعب في الحفظ والصيام والأعمال الصالحة ثم يجدها في ميزان الآخرين؟! فلذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم: المفلس.

الشاهد أيضاً من هذا الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: (قد ائتدما) والخطاب موجه إلى الاثنين، مع أن واحداً منهما هو الذي تكلم، فنسب الوزر إليهما جميعاً.

إذاً: القاعدة: أن مستمع الغيبة والمغتاب شريكان في الإثم والوزر.

يقول الشاعر:

وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به

فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه

عذاب القبر من الغيبة

وعن جابر رضي الله عنه قال: {كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فهبت ريح منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين}.

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: {بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، فأيكم يأتيني بجريدة؟ فاستبقنا، فسبقته، فأتيت بجريدة، فكسرها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة وعلى ذا القبر قطعة، وقال: إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة والبول}.

وعن قتادة رضي الله عنه قال: ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم} يعني: يعذبون أنفسهم بأيديهم، وفيها أظافر من نحاس، وبها يخمشون الوجوه، {فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم}.

غيبة المسلم كأكل لحمه ميتا

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: {كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل -يعني: انصرف- فوقع فيه رجل من بعده -أي: بعدما غادر المجلس اغتابه أحد الجالسين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تخلل، فقال: ومم أتخلل وما أكلت لحماً؟} وتخليل الأسنان هو: إخراج الألياف التي تعلق ما بين الثنايا، فقال له النبي عليه السلام: {إنك أكلت لحم أخيك}.

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه: لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم.

فالغيبة ضيافة الفساق، والفساق هم الذين لا يبالون بحرمة الله سبحانه وتعالى، ولا يبالون أن يأكلوا لحوم الناس.

والمنكر قد شاع في المجتمع جداً وذاع، وقلَّ من ينكره، ونحن لا نكاد نبالي به، ولا نشعر، وقلوبنا لا تحس ناحيته بكراهية إلا من رحم الله، فحن محتاجون إلى تجديد العهد بهذه النصوص، وأن نعطي الأمور حجمها، فالأمر كما قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وكما قال تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، فالغيبة ضيافة الفساق الذين لا يتقون الله سبحانه وتعالى، كما قال بعض السلف.

وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله: أنه أضاف ناساً، فلما قعدوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلاً، فقال إبراهيم : إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز. يعني: بدأتم بلحم هذا المسلم الذي اغتبتموه قبل الخبز.

وعن موسى السيلاني أنه سأل سفيان الثوري رحمه الله تعالى فقال: يا أبا عبد الله ! إن الله يبغض بيت اللحميين؟ يعني: يقول له: هل ربنا سبحانه وتعالى يبغض بيت اللحميين؟ يقصد: الناس الذين يأكلون لحماً كثيراً، فنسبهم إلى اللحم، فقال له سفيان : ليس هم الذين يأكلون اللحم، ولكنهم الذين يأكلون لحوم الناس.

فاللحميون هم الذين هم مغرمون بأكل لحوم الناس، لكن أن تأكل لحم البقر والغنم فهذا حلال لم يحرمه الله سبحانه وتعالى عليك مادمت تشكر نعمته، لكن المهم ألا تأكل لحوم الناس.

قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: والإجماع على أنها من الكبائر، وأنه يجب التوبة منها إلى الله تعالى.

والحقيقة أن حكاية الإجماع في هذا فيه نظر.

لكن هنا تعبير آخر أكثر دقه، وهو أن علماء الشافعية نصوا على أن الغيبة إذا كانت في أهل العلم وحملة القرآن الكريم فهي كبيرة وإلا فصغيرة.

وقال الفقيه ابن حجر الهيتمي رحمه الله: كل منهما -أي: الغيبة والنميمة- حرام بالإجماع، وإنما الخلاف في الغيبة، هل هي كبيرة أم صغيرة؟

وقال آخرون: إن كانت في طلبة العلم وحملة القرآن فهي كبيرة وإلا كانت صغيرة.

وعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)، والجزاء من جنس العمل.

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الربا اثنان وسبعون باباً؛ أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه).