أرشيف المقالات

صور من برِّ أهل العلم بوالديهم - فهد بن عبد العزيز الشويرخ

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
{بسم الله الرحمن الرحيم  }
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فبر الوالدين من أفضل القربات إلى الله، وأحبِّ الأعمال إليه، فعن عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه قال: «سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها) قلتُ: ثم أي؟ قال: ( بر الوالدين ) قلتُ: ثم أي؟ قال: ( الجهاد في سبيل الله)» [متفق عليه].
وبر الوالدين كان وصفاً لأولياء الله، وعلى رأسهم: أنبياء الله ورسله عليهم السلام، قال الله جل جلاله عن نبيه عيسى عليه السلام: ﴿ { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي}  ﴾ [سورة مريم / 32].
وقال الله سبحانه وتعالى عن نبيه يحيى بن زكريا عليه السلام: ﴿  {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ}  ﴾ [سورة مريم/ 14].
ومن أولياء الله أهل العلم ، الذين ضربوا بسهم وافر في برهم بوالديهم، في صور متعددة، قد يعجب البعض منها، لكن إذا علم العبد أن أولئك الصفوة يبتغون رضا الله الكريم، ورضاه سبحانه وتعالى مقرون برضا الوالدين، زال عجبه.
لقد ذكر في كتب السير والتراجم صور من برهم بوالديهم يسّر الله جمع شيءٍ منها
ترك الرحلة لطلب العلم إرضاءً للوالدة:
فالحافظ أحمد بن علي بن مسلم رحمه الله، استأذن أمه في الرحلة إلى الإمام قتيبة، فلم تأذن له، فلما ماتت رحل إليه، فوجده قد مات، وكانوا يعزونه على هذا، فقال: هذا ثمرة العلم، إني اخترت رضا الوالدة.
وبندار بن بشار بن عثمان بن كيسان رحمه الله يقول: أردت الخروج - يعني الرحلة - فمنعتني أمي فأطعتها فبورك لي فيه.
والإمام ابن عساكر رحمه الله، صاحب تاريخ دمشق، سئل عن تأخره عن الرحلة إلى أصبهان فقال: استأذنت أمي في الرحلة إليها فما أذنت.
أعتق رقبتين لأنه علا صوته على صوت والدته:
الإمام ابن عون رحمه الله، نادته أمه، فأجابها، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين.
لا يفعل شيئاً وهو في الستين من عمره إلا برضا والدته:
الشيخ علي الجراعي رحمه الله، كان مطيعاً لوالدته، لا يفعل شيئاً وهو بالستين سنة حتى يشاورها ولا يروح موضعاً إلا بإذنها ويخدمها خدمة بليغة.
يتولى جميع شؤون جدته:
الشيخ إبراهيم بن عبدالرحمن بن عبدالعزيز الحصين رحمه الله، كان باراً بجدته، حيث كان يتولى جميع شؤونها، من إعانتها على الأكل والشرب، وكان إذا أراد الصعود بها إلى سطح المنزل، يقوم برش الماء في السطح، لتلطيف الهواء لها، ويحملها بيديه، وعندما توفيت بكى، فلما سئل عن سبب بكائه؟ مع أنه كان باراً بها أحسن البرّ، قال: كان البرُّ بها باباً من أبواب الجنة ، فلما ماتت أغلق ذلك الباب.
يحمل والدته لقضاء حاجتها:
الشيخ حمود بن عبدالله التويجري رحمه الله، كان باراً بأمه، فقد كان يحملها لمكان قضاء حاجتها، ولما ألمَّ بها المرض ، أصبح ينام معها في غرفتها، ليؤنسها بعد استئذان أهله، وقد استمرَّ مرضها سنتين رحمها الله.
ترك قيادة السيارة مع تمكنه من ذلك إرضاءً لوالدته:
الشيخ عبدالرحمن عبدالله الفريان رحمه الله، طلبت منه والدته وحلفت عليه بأن يترك قيادة السيارة مع أنه حاصل على رخصة للقيادة ويتقن القيادة إلا أنها ــــ(42)
رحمها الله خشيت عليه أن يصيبه مكروه فالتزم رغبتها طوال حياته مع أنها شاقة جداً عليه.
يوصل والدته للحرم بنفسه حتى بعد أن أصبح وزيراً:
الشيخ حسن بن عبدالله حسن آل الشيخ رحمه الله، كان باراً بوالدته، وكان يوصلها للحرم بنفسه، حتى بعد ما صار وزيراً، وتوفيت رحمها الله، ورأسها على يده اليسرى.
يترك الدرس ليخدم ويبرَّ والده:
الإمام عبدالجليل بن أبي المواهب بن عبدالباقي رحمه الله، كان كثير البر بوالده، وشوهد مراراً، إذا كان في درسه، ومرَّ عليه والده، يقوم من الدرس، ويأخذ مداس والده منه، ويمشي خلفه، بأدب، وسكينة، وكان والده يحبه كثيراً، ويحترمه، ويدعو له، لما كان عليه من البر، وملازمة الطاعات، وكف اللسان عن اللغو.
إن هذه الصور دعوة عملية للاقتداء بأولئك، فمن بر بوالديه فليبشر بالجنان، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نمتُ فرأيتني في الجنة، فسمعت صوت قارئ يقرأ، فقلتُ:من هذا؟ قالوا:حارثة بن النعمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذاك البرُّ كذاك البرُّ وكان أبرَّ الناس بأمه)» [أخرجه أحمد]
ومن بر والديه فرج الله عنه الكرب، دليل ذلك حديث الثلاثة الذين خرجوا إلى البرية، فأخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فجاءت صخرة فسدت عليهم مدخل الغار، ولم يتمكنوا من الخروج، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى أفضل أعمال عملتموها فسلوا الله بها، لعله أن يفرج عنكم، فدعوا الله بصالح أعمالهم، فكان أحدهم باراً بوالديه، فدعا الله بذلك، ففرج الله عنهم، وتدحرجت الصخرة عن مخرج الكهف وخرجوا يمشون.
[متفق عليه]
وهذه الصور كذلك دعوة لمن غلبه هواه وأغواه شيطانه، فقابل إحسان الوالدين بالإساءة، أن يتوب ويعود إلى رشده، فليس المحسن من يقابل الإحسان بالإحسان فتلك مكافأة بالمعروف، ولكنه من يقابل الإساءة بالإحسان،فكيف بمن يقابل الإحسان بالإساءة؟!
إن مقابلة الإحسان بالإساءة، وعقوق الوالدين يدل على خبث الطبع، قال العلامة ابن الجوزي رحمه الله: غير خاف على عاقل لزوم حق المُنعم، ولا مُنعم بعد الحق سبحانه على العبد كالوالدين، فقد حملت الأم بحمله أثقالاً كثيرة، ولقيت وقت وضعه مزعجات مثيرة، وبالغت في تربيته وسهرت في مداراته، وأعرضت عن جميع شهواتها لمراداته، وقدمتها على نفسها في كل حال، وقد ضم الوالد إلى تسببه في إيجاده ومحبته بعد وجوده وشفقته في تربيته، الكسب له والإنفاق عليه، والعاقل يعرف حق المحسن ويجتهد في مكافأته، وجهل الإنسان بحقوق المنعِم من أخسّ صفاته، فإذا أضاف إلى جحد الحق المقابلة بسوء الأدب، دلّ على خُبث الطبع ولؤم الوضع وسُؤ المنقلب.
فليحذر العاق من سوء المقلب، فمن عق والديه فقد عرض نفسه لسخط الله عليه، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين) [أخرجه الترمذي] قال العلامة السعدي رحمه الله: هذا الحديث دليل على فضل بر الوالدين ووجوبه، وأنه سبب لرضا الله تعالى، وعلى التحذير من عقوق الوالدين وتحريمه، وأنه سبب لسخط الله.
عقوق الوالدين كبيرة من كبائر الذنوب ، نسأل الله السلامة والعافية، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال: (الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين) » [متفق عليه]
من عق والديه فلن ينفع غيره، فالبعد عنه والسلامة من صحبته، قال بعض الحكماء: لا تصادق عاقاً، فإنه لن يبرَّك وقد عقَّ من هو أوجب حقاً منك عليه.
يعق البعض والديه ثم يموتان وهما غير راضين عنه، ثم يندم على ذلك، سئل العلامة الشيخ محمد العثيمين: عن شخص توفي والداه، وهما غاضبان عليه، لأنه كان عاقاً لهما، فكان مما أجاب به رحمه الله: هذه القضية عبرة لمن اعتبر، تفيد أن الإنسان العاقل ينتهز الفرصة في القيام بما أوجب الله عليه، لئلا تفوته الفرصة، فقد كان بإمكان هذا السائل أن يكون باراً بوالديه قبل موتهما، ولكنه سوّف وأهمل، وفرط حتى فات الأوان، وانتقلا من الدنيا إلى الآخرة، ولكني أقول له: إن باب التوبة مفتوح، فإذا علم الله من عبده أنه قد ندم على ما صنع، واستغفر ربه، فإن الله تعالى يغفر له، ولا يترتب على فعله السابق شيء مما يكون في تركه وتضييعه، فلا إثم عليه ولا عقوبة.
اللهم وفقنا للبر بوالدينا، ومنَّ بالهداية على من كان عاقاً بوالدية، ووفقه للإنابة والتوبة
                             كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣