خطب ومحاضرات
الخلوة والاختلاط
الحلقة مفرغة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كلامنا يدور حول قضية فتنة المرأة واحتياطات الإسلام إزاءها؛ إذ أول معالم الفتنة في بني إسرائيل كانت بالنساء، وهناك احتياطات شرعها الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة، وينبغي أن يعلم أن حفظ العرض من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والشريعة تسير في اتجاهين لمنع وقوع الفاحشة، فهناك إجراءات وقائية وهناك إجراءات علاجية.
أما الإجراءات الوقائية فهي تحريم الزنا وبيان أنه خراب للدنيا وللدين، وهناك جملة من الآيات والأحاديث والآثار في الحث على العفة والتحذير من الفاحشة وبيان عاقبتها الوخيمة في الدنيا والآخرة.
وأعظم الإجراءات التي شرعها الإسلام لحماية المسلمين من هذه الفتنة هو الاجتهاد في إصلاح القلب؛ فإن ذلك هو أعظم رادع عن المعاصي.
ومن هذه الإجراءات منع الزواج ممن عرف -أو عرفت بالفاحشة- إذا لم يتب، فلا يجوز نكاح الزانية أو الزاني، كما قال تبارك وتعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً [النور:3] يعني: فاسقة مثله أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] لا تعتقد تحريم هذا الفعل أصلاً، أو العكس كما في الآية الكريمة، إذاً هذا يدل على أن الكفاءة في العفة شرط في الزواج، الكفاءة في العفة أن تكون مثله، فلا يزوج العفيف من فاسقة، ولا يزوج الفاسق من امرأة صالحة عفيفة؛ لعدم وجود التكافؤ، قال تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ [النور:3] يعني: فاسق مثلها مستهتر أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3] يعتقد تحريم ذلك، وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] أما أهل الإيمان فإنه يحرم على المؤمن أن يتزوج زانية، وكذلك بالنسبة للمؤمنة.
تحريم البذاءة وفحش القول وسوء الظن بالمسلمين وقذفهم
تحريم إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد
تحريم غياب الرجل عن زوجته مدة طويلة
فرض الحجاب على النساء
تحريم التبرج وإظهار الزينة وتشريع الاستئذان
الأمر بغض البصر
تحريم مس المرأة الأجنبية ومصافحتها
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)، فالمقصود بالحديث أن من الناس من يكون إتيانه لهذا الأمر المحرم إتياناً حقيقياً بفعل الفاحشة الكبرى، ومنها ما يكون -كما قال الإمام النووي- مجازياً دون ذلك، لكن أطلق عليه هذا اللفظ تنفيراً منه، (فالعينان زناهما النظر) بأن ينظر الإنسان إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، وما أوفر حظ الذين يجلسون أمام الفيديو والتلفاز وهذه الأشياء ينظرون إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، والنظر للأجنبية في حد ذاته بشهوة لا شك أنه داخل في زنا العين.
(والأذنان زناهما الاستماع) الكلام الفاحش والماجن، (واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش) البطش معناه: اللمس (والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) فيكون زناً حقيقياً إذا وقعت الفاحشة.
الشاهد في الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (واليد زناها البطش) ، والبطش هو المس باليد، بأن يمس امرأة أجنبية بيده، أما من تساهل في مصافحة النساء واحتج بطهارة قلبه فيقول: أنا قلبي طاهر، ونيتي سليمة فنقول: الإسلام لم يكل الناس إلى نواياهم الحسنة ولا إلى ضمائرهم، وإنما شرع من الإجراءات الصارمة ما يحسم باب الفتنة حتى لا يصير الأمر محتملاً، فلذلك لا تقبل دعوى طهارة القلب وسلامة النية، مع أن الظاهر يخالف ذلك، لا تقبل دعوى من ادعى أن قلبه سليم وقلبه طاهر ويدعي أنه لا يتأثر بذلك، فمن فعل مثل هذا فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وأقوى دليل على كذبه في هذه الدعوى أن أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأخوفهم لله وأرعاهم لحدود الله يقول وهو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أمس أيدي النساء) ويقول (إني لا أصافح النساء)، ويمتنع من ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقتضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء، مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم، كيف وقد قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]؟! وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها) أي: يملك نكاحها. فلا ينبغي الالتفات بعد ذلك إلى بعض الناس الذين يتساهلون في هذا الباب انصياعاً أمام الضغوط الاجتماعية الواقعة من الناس، لأن بعض الناس يتساهل جداً في هذا الأمر ويحاول أن يتنصل من هذا الحكم الشرعي بحجج واهية ساقطة لا تحتاج إلى أن نبذل جهداً ووقتاً في إسقاطها، وبعض الناس قد يتهاونون بهذا الحكم بزعم أنهم يستحيون من إحراج من تمد يدها للمصافحة، غافلين عن أن هذا ليس حياء؛ لأن الحياء خير كله، والذي يأتي بالشر لا يمكن أن يكون خيراً، فإنه لا يأتي الخير إلا بالخير، فالحياء الذي يحبه الله هو الحياء الشرعي الذي يمنع من الحرام، فالحياء الشرعي في هذا الموضع هو حياؤك من الله، أن تستحي من الله أن تمد يدك إلى امرأة أجنبية فتصافحها، أما إذا دفعك حياؤك من الناس أو من هذه المرأة إلى أن تمد يدك وتصافحها فإنك استحييت من الخلق وضيعت الحياء منه تبارك وتعالى، فهذا يسمى عجزاً وليس حياءً، هذا عجز وتهاون وخذلان وليس حياءً، يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء ويأمر به ويحث عليه، ومع ذلك فلا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكاً بقوله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53]، فهذا هو نهاية الحياء.
يعني: كان صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فنهاية الحياء أن لا يستحي الإنسان من الحق، فهذا نهاية الحياء وكماله وحسنه واعتداله، فإن من غلب عليه الحياء حتى منعه من الحق فقد ترك الحياء من الخالق واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حرم منافع الحياء واتصف بالنفاق والرياء، والحياء من الله هو الأصل والأساس؛ فإن الله أحق أن يستحيا منه.
تحريم الخلوة بالأجنبية
فأمثال هؤلاء ينبغي أن نضعهم في الموضع اللائق بهم، فلا نقول: إنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً كما وصفهم الله تبارك وتعالى، لا أن نفتتن بهم وأن نجعلهم القدوة ونرتضيهم قدوة بدلاً من سلفنا الصالح الذين هم خير قدوة رحمهم الله تعالى أجمعين.
خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدرجة الهلاك، فينبغي في هذا الباب أن لا يأمن الإنسان على نفسه ولا من نفسه، بل الإنسان كما قال بعض السلف: من أعطى من نفسه أسباب الفتنة أولاً لم ينج آخراً، وإن كان جاهداً، فالشيطان -كما ذكرنا- لا يأتيك مباشرة ويأمرك بالحرام، لكنه يستدرجك خطوة بعد خطوة ويستنزلك درجة بعد درجة إلى أن يهون عندك ما كنت تستفظع إتيانه أو فعله، ولذلك قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، وقال تبارك وتعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، وقال عز وجل أيضاً: وَلا تَقْرَبُوا الزنا [الإسراء:32]، وإنما قال: (تقربوا) لأنه عبارة عن خطوات، فالزنا حرام وكل ما أدى إليه حرام كما سنشرح ذلك بالتفصيل، فالإنسان عليه أن يتصرف في هذا الباب كأن سبعاً ضارياً كامن في داخله، وإنه إذا أتى شيئاً من هذه المحرمات فإن هذا السبع يخرج ويهلكه ويوقعه فيما حرم الله تبارك وتعالى، ولذلك فإن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدعاة للهلاك ومدرجة للإثم والفجور، وكيف لا يكون كذلك والفرصة سانحة وقد تركت الخلوة لهذه الأمور أن تستيقظ، فأي فعل من الأفعال يمر بمراحل عدة، أولها: مرحلة النزوع أو الرغبة أو الميل إلى الفعل، ثم مرحلة الوجدان أن يجد الشخص ويعزم على الفعل، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التنفيذ، وهذا الباب هو الذي نتكلم فيه باب الافتتان بهذه الشهوة، فهناك طبيعة في هذا الكائن البشري، أن الإنسان إذا اتقدت نار الشهوة واستيقظ فيه الحيوان فإنه يندفع إلى الفعل إن لم تحجزه التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى، فمن ثم رأينا القرآن الكريم ينهى عن الاقتراب من أسباب الزنا فيعالج هذه الجريمة الخلقية بحجز النفس عن أسبابها، يقول تبارك وتعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزنا [الإسراء:32] بينما نلاحظ أن هذا فعلاً هو دين الفطرة، فالله سبحانه وتعالى لم ينهنا في آية أو في حديث عن أكل الطين أو الرمل -مثلاً- أو شرب البول؛ لأن في فطرتنا نفوراً من هذه الأشياء، فلذلك الشرع ما تعرض لهذا واكتفى بوجود النفور، فالخطر من تعاطي مثل هذه الأشياء لم يتعرض له أصلاً بنهي، كذلك لما نهانا عن القتل ما قال: ولا تقربوا القتل. وإنما قال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151] مع أن القتل جريمة بشعة والقتل من أعظم الكبائر والجرائم بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، لكن النفس بطبيعتها تأبى القتل وتنكره، فلذلك أتى النهي عن الفعل مباشرة فقال تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) أما في هذا الوزر خاصة فإن الله سبحانه وتعالى قال فيه: (ولا تقربوا) فينبغي للأخوة في حوارهم مع الناس أن ينبهوا لهذا الأمر، كحكاية: (إن قلبي سليم) و(نيتي سليمة) و(قلبي طاهر وما يؤذي أحد) كل هذا الكلام لأن الإنسان لا يستحضر أن مجرد الخلوة معصية، حتى لو وجد رجل وامرأة في مكان في خلوة ولم يخطر ببال أي منهما أي شيء فقد ارتكبا الوزر وسجلت ودونت المعصية في حقهما؛ لأن الخلوة في ذاتها حرام، وليست حراماً فقط إذا أدت إلى الفاحشة، لكن الخلوة لذاتها حرام، والحكمة من تحريمها أنها ذريعة للفاحشة وذريعة إلى القيل والقال والطعن في الأعراض، ولذلك قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا) فهذا كله يرينا إلى أي حد يسد الإسلام على هذه الجريمة كل من منفذ، ويحجب النفس عن أسبابها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية وشدد في ذلك، فالإسلام جعل بين الرجال وبين النساء الأجانب أسلاكاً شائكة، وهذه الأسلاك الشائكة كي تحجب الأجانب من الرجال عن النساء وقاية للطرفين من هذه الفتنة، وتأكد أنك إذا تتبعت خطوات ومراحل أي قصة في جريدة حصل فيها انتهاك للعرض أو العدوان عليه أو الوقوع في هذه الفاحشة -والعياذ بالله-، إذا تتبعت القصة من أولها ستجد أن البداية كانت ثغرة في الأسلاك الشائكة، ثغرة بسيطة في الأسلاك الشائكة مر وعبر من خلالها الشيطان وتسبب في وقوع هذا الفحش، فالبداية تكون في أن الله أمره من ضمن الأسلاك الشائكة بغض البصر، فلم يمتثل أمر الله وأطلق بصره، فوقع في العشق -مثلاً- وما يتلوه من ترك الدين والدنيا، أمره الله بأن لا يمس أجنبية فصافح المرأة الأجنبية وتلا ذلك ما تلاه من الحرام، نهاه عن الدخول عن المغيبة التي غاب زوجها، نهاه عن الخلوة بالمرأة وعن السفر معها، أو نهى عن سفر المرأة وحدها، فتجد أن هذه الأسلاك الشائكة حصل فيها ثغرة، ومن خلالها نفذ الشيطان فأوقع العباد في حبائله، فإذاً هذا كله يتطرق مع الحكمة العظيمة في صيانة الأعراض، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)، ومنها حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالهما الشيطان) وهذا يعم جميع الرجال (ألا لا يخلون رجل) يعني: أي رجل (بامرأة) أي امرأة، فالحديث يعم جميع الرجال ولو كانوا صالحين ومن أولياء الله، أو مسنين شيوخاً هرمين فهم فيدخلون في الحديث؛ لأن الحديث قال: (لا يخلون رجل بامرأة) سواء أكانوا رجالاً صالحين أم مسنين، أو كانت النساء صالحات أو عجائز، ومنها حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان) فإذا قال الصادق المصدوق: (فإن ثالثهما الشيطان) فقطعاً يكون ثالثهما الشيطان، ومن قال: قلبي سليم وقلبي طاهر وأنا لا أتأثر بهذا نقول له: كذبت وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندخل على المغيبات) والمغيبة: هي المرأة التي غاب زوجها في جهاد أو في سفر أو غير ذلك من الأسباب. متى غاب زوجها فيحرم على الرجل أن يدخل عليها لا في جمع زكاة ولا في علاج ولا في غير ذلك من الأسباب، يحرم أن يخلو بها، وعنه رضي الله عنه قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل على النساء بغير إذن أزواجهن)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان)، وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلجوا على المغيبات؛ فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) (لا تلجوا على المغيبات) يعني: لا تدخلوا على المغيبات (فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) فقد تكون القرابة إلى المرأة أو إلى زوجها سبيلاً إلى سهولة الدخول عليها أو الخلوة بها كابن العم وابن الخال مثلاً، فلما يكون قريباً إذا دخل البيت لا يستنكر ذلك أحد، لذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك تحذيراً خاصاً؛ لأن هذا يسهل كثيراً من الفساد، ليس فقط الفساد الذي يمكن أن يكون بمواقعة الفواحش، ولكن الفساد الذي قد ينشأ من التخبيب والإيقاع بين المرأة وزوجها، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) والحمو هو قريب الزوج الذي لا يحل للمرأة أن يدخل عليها والذي هو أجنبي عنها فلا يدخل في ذلك أبو الزوج؛ لأن أبا الزوج من محارمها، لكن المقصود به أخو الزوج، وابن عمه، وابن خاله وغير ذلك.
(فقال: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) والعرب إذا أرادت التحذير من أي شيء وصفه بأنه هو نفس الموت، فمعنى (الحمو الموت) أن دخول الحمو على المرأة يفسد الحياة الزوجية كما يفسد الموت البدن، وقد حكى الإجماع على تحريم الخلوة بالأجنبية غير واحد من العلماء، منهم النووي والحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، قال النووي: وكذا لو كان معها من لا يستحيا منه لصغره.
والحقيقة أن كل خطوة من الخطوات التي نناقشها مع هؤلاء الناس الذين يجادلون في حكم الله ويصفون الإسلام بأنه دين شهواني وأن هؤلاء المتدينين ما وراءهم مشكلة تشغل بالهم إلا كذا وكذا، مع أن واقع هؤلاء الناس المريض الموجود في المجتمع نتيجة الانحراف عن الإسلام واقع ملموس وليس مجرد أساطير تحكى، وليس أمراً مدعى، لكنه واقع ملموس، نلمحه في كل المرافق وما يترتب عليه من الفساد. فما من شك أن الباحثين أو الأطباء الذين يتعاملون مع المرضى -خاصة الأطباء النفسيين والذين يعملون في التشريع الجنائي أو المرافق الجنائية- يطلعون على هذه الفظائع التي تحصل في المجتمع نتيجة التسيب في الاختلاط وفي التداخل وفي تعدي حدود الله تبارك وتعالى، ولا نريد أن نفصل حتى لا نقع في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، لكن هذا واقع ملموس يئن منه من بقي في قلبه شيء من الحياة.
يقول الإمام النووي: وكذا لو كان معهما من لا يستحيا منه لصغره. لو كان مع المرأة طفل -مثلاً- سنه سنتين أو ثلاث سنوات هذا لا يستحيا منه ولا يدرك شيئاً، وبالتالي فلا يفسد وجوده الخلوة؛ لأن وجوده كالعدم، وكذا أيضاً لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام، يقول الإمام الأبي رحمه الله تعالى: لا تعرض المرأة نفسها بالخلوة مع أحد وإن قل الزمن لعدم الأمن لا سيما مع فساد الزمن، والمرأة فتنة إلا فيما جبلت عليه النفوس من النفرة من محارم النسب.
يقول الشاعر:
لا يأمنن على النساء أخ أخا ما في الرجال على النساء أمين
إن الأمين وإن تعفف جهده لا بد أن بنظرة سيخون
تحريم سفر المرأة بدون محرم
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم. ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتب في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك)، فأمره أن يترك الجهاد وينطلق كي يصحب امرأته في الحج، وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى (النساء لحم على وضم) والوضم: ما وقيت به به اللحم عن الأرض من خشب أو حصير يعني الشيء مثل السفرة على الأرض تضع عليه اللحم كي تحمي اللحم أن ينتقل عليه التراب مثلاً، سواء قطعة خشبة أو قطعة حصير، فهذا هو الوضم، فمعنى قول الإمام ابن العربي : (النساء لحم على وضم إلا ما ذُبَّ عنه) أن اللحم إذا تركته على وضم فإن الذباب يجتمع عليه ويلوثه ويفسده، إذا تركت اللحم على الوضم دون أن تدفع عنه الذباب أو تغطيه بشيء فإنه سيأوي إليه الذباب ويفسده، فهكذا أيضاً (النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه)، فيقف معها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها يذب عنها هذه الذئاب البشرية وهؤلاء الذباب ويحميها من هؤلاء، كما يقول الشاعر:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي مربض المستأسد الحامي
لأن أمثال هؤلاء الذئاب من البشر أو الكلاب من البشر إذا رأوا المرأة معها من يحميها فإنهم لا يجرءون عن أن يقتربوا منها.
تعدو الذئاب على من لا كلاب له.
الكلاب التي تستعمل الحراسة، يعني عدم وجود الحرس.
وتتقي مربض المستأسد الحامي.
أي: الذي يقف كالأسد يحمي عرضه.
يقول ابن العربي: كل أحد يشتهيهن وهن لا مدفع عندهن، بل ربما كان الأمر إلى التخلي والاسترسال أقرب من الاعتصام، فحد الله عليهن بالحجاب وقطع الكلام وحرم السلام، وباعد الأشباح إلا مع من يستبيحها وهو الزوج، أو يمنع منها وهم أولو المحرمية، ولما لم يكن ذلك من تصرفهن جعل الأصل قرارها في البيت، فلما لم يجد مفراً من أن يخرجن لقضاء حاجتهن أذن لهن فيه بشرط صحبة من يحميهن، وذلك في مكان المخالفة وهو السفر مقر الخلوة ومعدن الوحدة).
السفر غالباً يكون فيه وحدة ويكون فيه خلوة، فإذا تركت وحدها تتعرض لما لا تطيق، وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كبيرة. أي: حتى لو كانت امرأة كبيرة؛ فإن السفلة والسقطة من الناس لا يرتدعون حتى عن الكبيرة، كما يقول الشاعر:
ولكل ساقطة في الحي لاقطة وكل كاسدة يوماً لها سوق
فيقول النووي : قد قالوا: (لكل ساقطة لاقطة) ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطتهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته وحيائه.
فتباً لهؤلاء الذين يطلقون لبناتهم ولنسائهم العنان يسافرن دون محرم، ويجعلون من علامات المرأة المتحررة المتنورة أنها تسافر دون محرم! وأنها الآن تجهر وتفخر بأنها تسافر بدون محرم، ويخلون برجال أجانب مدعين أن الظروف تغيرت، وأن المرأة اكتسبت من التعليم ومن الحرية ما يجعلها موضع ثقة أبيها وزوجها، ما هذا إلا فكر خبيث دس إلينا ليفسد حياتنا، وما هي إلا حجج واهية ينطق بها الشيطان على ألسنة هؤلاء الذين انعدمت عندهم غيرة الرجولة والشهامة، فضلاً عن كرامة المسلم ونخوته، يقول فضيلة الدكتور الصباغ حفظه الله تعالى: ومثل الذين يتهاونون في الخلوة والاختلاط الآثم بدعوى أنهم ربوا على الاستجابة بنداء الفضيلة ورعاية الخلق مثل قوم وضعوا كمية من البارود بجانب نار متوقدة، ثم ادعوا أن الانفجار لا يكون؛ لأننا كتبنا ورقة وضعناها فوق البارود تحذيراً من الاشتعال والإحراق!! هل هذه الورقة يكون لها قيمة؟! النار موجودة بجانب البنزين أو البارود، ويقول: إن المانع من الانفجار هو هذه الورقة.
يعني أن هذه حجة واهية مثل هذه الورقة التي لا قيمة لها؛ لأنه متى ما اقترب البنزين من النار فالنتيجة معروفة في الغالب، فهذا خيال بعيد عن الواقع، ومغالطة للنفس وطبيعة الحياة وأحداثها، أنه متى حصل تسيب وتهاون في نظام الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء فالنتيجة معروفة.
ونحن إذا كنا نتكلم من خمسين سنة عندما كانت دعوة تحرير المرأة ونشر هذا الفساد في بلاد المسلمين ما زالت قائمة، وعندما خضنا التجربة كان يمكن أن الكلام فعلاً يحتمل، ولذلك خدع به كثير من الناس، لكن الآن المفروض أن القضية ليست محل خلاف في أن هذا من أفسد المناهج، أي: الاختلاط والإباحية التي إلى الآن نرى ثمرتها، وسنحاول أن نتكلم فيما بعد عن ذلك بالتفصيل إن شاء الله.
فالموضوع أخذ باستدراج، ففي البداية كانت المعركة حول كشف وجه المرأة، وزجوا ببعض الشيوخ في المعركة، وجعل يقول: الشرع يبيح كشف وجه المرأة، وهؤلاء الناس متزمتون أو متشددون، ويحرفون الآيات عن مواضعها.
وينحرفون في تفسير نصوص الشريعة إلى أن ينصروا هذا المذهب المرجوح القائل بإباحة كشف وجه المرأة، ثم إذا فرغوا من ذلك ترقوا إلى خطوة أخرى، إلى الآن وصل الأمر إلى ما نحن عليه الآن، فالآن المفروض أن كل شيء انكشف، وأن كل سوءات منهج تحرير المرأة ومناهج الإباحية الآن صارت تجربة خضناها وصار عندنا رصيد من الحقائق المريرة نعيشها ونحياها، فالكل منا يجد ثمرات مرة لتحرير المرأة ويراها في الطرقات وفي المواصلات وفي المرافق وفي الوظائف وفي الجامعات وفي المدارس وفي الهيئات، في كل مكان في بلادنا نرى الثمرات المريرة لا المرأة نضجت ولا المرأة حصلت خيراً، بل المرأة الآن عادت تحلم من جديد بأن تستقر في بيتها وتعود إلى مملكتها، فكل هذا الكلام مغالطات خطابية، فقط يقال للتغرير بالنفس، والمفروض أنه الآن انتهى دور الكلام الخطابي؛ لأن الواقع يقطع كل من يجادل في هذه الحقائق، فإننا ما ذقنا من هذا كله إلا الانحدار، وإذا لم يحصل وقوف لهذا التيار من الانحلال والفساد فالنهاية ستكون كما حصل في تركيا، حينما ثبتت على هذا الطريق الذي يُعلم جيداً أن من قطع الخطوات الأولى فيه لا بد أن تنتهي به إلى الإباحية المطلقة، وقد سمعت من بعض الناس أن البلاد الأوربية تخشى على فسادها من شبكات البث التركية من الفساد الذي فيها! فبعد ما كانت تبث النور لكل أوروبا ودخل الملايين من أهل أوروبا في
إن من تلك الإجراءات: تحريم البذاءة والفحش من القول، ومنها تحريم سوء الظن بالمسلم، ووجوب حسن الظن بالمسلمين، خاصة إذا سمع الإنسان أحداً يقذف أحداً في عرضه، فيجب على الذي يستمع وجوباً مؤكداً بالقرآن الكريم أن يقول له: إذا لم تأت بأربعة شهداء فأنت عند الله من الكاذبين، أنت عند الله كاذب. فلا ينبغي أبداً للمسلم الذي يخشى الله سبحانه وتعالى في أي مجلس وفي أي ظرف أن يتكلم بكلمة واحدة أو حرفاً في المشاركة أو الإقرار في قذف عرض أي مسلم معصوم، إلا إذا كان هناك أربعة شهود وتحققت شروط هذه الشهادة، وإلا فيجب عليك أن تقطع كلامه وأن تواجهه وأن لا تستحي منه، بل تجهر بقول الله تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ [النور:13] قل له: أنت كاذب مهما ادعيت صدقك حتى لو كان هذا الشخص من أعدل الناس عندك، متى ما تجرأ على الخوض في أعراض الناس وليس معه الشهود الشرعيون فإنك تقول له: أنت كاذب بنص القرآن (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ). والعلماء ذكروا أنه لو شهد أربعة رجال على الفاحشة بكل شروطها المطلوبة شرعاً، ثم حينما أتى بهم القاضي أو الحاكم واستشهدهم فشهد ثلاثة شهادة قاطعة ومؤكدة، والرابع تلعثم فإن الأربعة يقام عليهم الحد بالقذف، أي: لو أن ثلاثة شهدوا لا يجوز لهم أن يتكلموا، وإذا تكلموا فإنه يقام عليهم حد القذف، فالأربعة إذا شهدوا وواحد منهم تلعثم وتردد ولم يجزم بالشهادة المطلوبة فالجميع يقام عليهم الحد؛ لأن أمر الأعراض -كما ذكرنا- ليس بالأمر الهين، فينبغي أن تعلم خطورة القذف أو الطعن في عرض المعصوم وكيف تكون آثاره متعدية تتوقف لا على المرأة ولا على الرجل، بل تتعدى إلى العائلة كلها، وإلى كل من يمد لهم بقرابة، فمثل هذا الأذى ومثل هذا العدوان شرع الله سبحانه وتعالى فيه مثل هذه الإجراءات الصارمة لحفظ كرامة المرأة والرجل، ومن هذه الإجراءات تحريم قذف المؤمن أو المؤمنة بالفاحشة، وتشريع العقوبة الزاجرة لمن يفعل ذلك.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
قصتنا مع اليهود | 2633 استماع |
دعوى الجاهلية | 2566 استماع |
شروط الحجاب الشرعي | 2564 استماع |
التجديد في الإسلام | 2518 استماع |
تكفير المعين وتكفير الجنس | 2510 استماع |
محنة فلسطين [2] | 2469 استماع |
انتحار أم استشهاد | 2442 استماع |
تفسير آية الكرسي | 2407 استماع |
الموت خاتمتك أيها الإنسان | 2403 استماع |
وإن عدتم عدنا | 2400 استماع |