المرأة مجاهدة صابرة


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

لقد انبهرت المرأة المسلمة بتكريم الله تبارك وتعالى لها في الكتاب وفي السنة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رفع ذكر المرأة ومكانتها في الإسلام إلى أبعد مما يطمح خيالها ويصبو أملها، وقد ساق الله عز وجل لها من آي الذكر الحكيم ما بهر سناه بصرها، وملكت محجته نفسها، واستقادت بلاغته وحسن مساقه قلبها، وأنصفت المرأة بما وصف به الله رحمته وعزته وناره وجنته وما أعد للصابرات والمحسنات من جزيل الأجر ورفيع المنزلة.

كيف انبهرت المرأة بهذا التكريم لها الذي جاء في الكتاب والسنة؟! لقد أثار ذلك عاطفتها، وأصاب وجدانها، وأنار بصيرتها، فكان حقاً لذلك أن يصيب حبة قلبها، ويجول في مجال دمها، ويتأسد بين أحناء ضلوعها، فكيف انبهر النساء بهذا الإسلام وبهذا الدين وبهذا التوحيد؟! ثم ماذا كان المقابل الذي بذلته المرأة في سبيل هذا التكريم؟! لقد كان أول قلب خفق بالإسلام وبهذا الدين حينما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتألق بنوره قلب امرأة من نساء العرب، إنها خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها.

ما كانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها امرأة من سواء النساء، بل لقد هُيئ لها من جلال الحكمة وبعد الرأي إلى زكاء الحسب وذكاء القلب ما عز على الأكثرين من الرجال، فلم تأخذ الدين مشايعة، ولم تتلقه مجاملة، بل أخذته عن تأثر به وظمأ إليه، فتأثرت أم المؤمنين خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها بهذا الدين تأثراً نفذ إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يبعث الغبطة والسكينة عند تدافع النوب واشتداد الخطوب، ثم أعقبها جمهور النساء، فتأثرن بهذا الدين تأثراً هان وراءه كل شيء.

فعن عبد الله بن جعفر قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة ، فيحسن عليها الثناء).

وكما جاء في الحديث: (إن حسن العهد من الإيمان).

وتقول عائشة أيضاً: (كان عليه الصلاة والسلام وفياً أشد الوفاء لـخديجة ، خاصة بعد موتها رضي الله عنها، فكان يحسن عليها الثناء، فذكرها يوماً من الأيام فاحتملتني الغيرة -أي: أخذتها الغيرة- من خديجة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أخلف الله لك خيراً منها. فغضب صلى الله عليه وسلم حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أخلف الله لي خيراً منها؛ لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء. فقلت بيني وبين نفسي: لا أذكرها بسوء أبداً، ) ويكفي خديجة رضي الله تعالى عنها أن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشرها ببيت في الجنة، حيث يقول: (بشر خديجة بنت خويلد ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب).

فبشرت بالجنة رضي الله عنها في حياتها.

إذاً: فأول قلب تلقى هذه الدعوة بالتصديق والإيمان واليقين هو قلب امرأة، وهي خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها.

وكذلك أول من سبق إلى هذا الدين بعد خديجة رضي الله عنها طوائف من نساء العرب اللائي استهن بما أصابهن في سبيل الله من ظلم وذل وآلام، لقد كان لقريش انبساط بالأذى على من آمن من أولئك الضعاف، حتى لقد تجاوزوا به حد التعذيب والإيلام إلى التأنق في التمثيل.

ومن أولئك النساء اللواتي استعذبن العذاب في سبيل عقيدتهن وإيمانهن سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، كانت سابعة سبعة في الإسلام، فكما كان أول قلب خفق بالإسلام هو قلب أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها فقد كان أول دم أريق في سبيل الله هو دم سمية بنت خياط رضي الله عنها، فهي أول شهيد في الإسلام، وقد كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة والتهبت الرمضاء خرجوا بـسمية مع عمار ابنها وزوجها ياسر إلى الصحراء وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال الملتهبة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بـعمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة).

حتى إن عماراً -وهو رجل- أخذ بالرخصة، حيث أجرى على لسانه كلمة الكفر عند الإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد عذره الله وأمثاله بقوله تبارك وتعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].

أما أمه سمية وهي امرأة فإنها لم تترخص بهذه الرخصة، وإنما صبرت على العذاب في سبيل الله، وأبت أن تعطي القوم ما سألوا من الكفر بعد الإيمان، ثم إن الخبيث النذل أبو جهل بن هشام أنفذ حربته في موضع العفة منها فماتت رضي الله عنها، وكانت أول شهيدة في الإسلام.

قال الحافظ ابن حجر : أخرج ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد قال: (أول شهيد في الإسلام سمية والدة عمار بن ياسر وكانت عجوزاً كبيرة ضعيفة، ولما قتل أبو جهل يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمار : قتل الله قاتل أمك).

وغير سمية كثيرات احتملن فوق ما احتمل الرجال، فمن المؤمنات الأوائل من كانت تلقى ثم تحمى لها مكاوي الحديد ثم توضع بين أعطاف جلدها، ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى يذهب بصرها، وقد عذب بهذا العذاب زنيرة جارية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هو وجماعة من قريش يتولون تعذيبها كما ذكرنا، ولما ذهب بصرها من لعب الأطفال بعينها قال المشركون: ما أزال بصرها إلا اللات والعزى. فقالت لهم: والله ما هو كذلك، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من الله، والله قادر على أن يرد علي بصري. قيل: فرد الله عليها بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد). فبدل أن يعتقدوا أن هذه الكرامة من الله لهذه المرأة الصالحة قالوا -والعياذ بالله-: هذا من سحر محمد. وقد قام أبو بكر رضي الله عنه بشرائها ثم أعتقها، فهي من الذين اشتراهم وأعتقهم أبو بكر رضي الله عنه، فقد كان أعتق سبعة ممن كانوا يعذبون في الله في بداية الإسلام، منهم: بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة، وجارية بني مؤمل، والنهدية وابنتها.

و أم عبيس من هؤلاء المؤمنات اللاتي كان المشركون يعذبونهن، فقد كانوا يجعلونها تشرب كمية كبيرة من العسل، ثم يوثقونها بالأغلال ثم يلقونها بين الرمال ولها حر يذيب اللحم ويصهر العظم، حتى تموت من العطش ويقتلها الظمأ، وممن فعلوا بهن ذلك أم شريك بنت جابر بن حكيم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم. قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء لا موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعموني ولا يسقوني، فنزلوا منزلاً، فكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع علي منه ثم عاد، ففي المرة الثانية تناولت بيدي، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلاً ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلاً ثم رفع، فصنع ذلك مراراً حتى رويت، ثم صببت سائره على جسدي وثيابي من شدة الحر، فلما استيقظوا فإذا هم بأثر الماء ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: فككت الوثاق والقيود وأخذت سقاءنا فشربت منه! فقلت: لا والله ما فعلت ذلك، ولكن كان من الأمر كذا وكذا. فقالوا: لأن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا من ساعتهم) وهذا -أيضاً- كرامة من الله عز وجل لهذه المرأة الصالحة.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يسلم يتولى تعذيب جارية مسلمة لبني مؤمل، فلا يزال يضربها بالسياط حتى إذا مل وتعب من كثرة الضرب قال لها: إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالاً. فتقول له: كذلك فعل الله بك. أي: بل الله هو الذي يصرفك عني.

وهذه أم كلثوم بنت عقبةعقبة أبوها هو سيد من سادات قريش- هي الوحيدة التي آمنت في بيتها أول الإسلام، وفارقت خدرها ومستقر أمنها تحت جنح الليل، خرجت وحدها فريدة شريدة تطوي بها قدماها ثنايا الجبال وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها ودار هجرتها، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعقبتها بعد ذلك أمها.

وهذه أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها حينما أتاها أبوها أبو سفيان ولم يكن قد أسلم بعد، فدخل عليها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته، فقال: يا بنية! ما أدري: أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟! فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم.

تأثرت المرأة كذلك بأدب الإسلام، وخرجت عما احتكم به في الجاهلية من العادات النافرة والتقليد الذميم، ومعلوم جزع النساء عند المصائب وما يصدر منهن فيها -خاصة في أيام الجاهلية- من العويل والنواح والصراخ ونحو ذلك لمدة طويلة تصل إلى سنة وأكثر، فجاء الإسلام وتأثرت المرأة بهداية الإسلام واعتصمت بالصبر، وغير الإسلام هذه العادات الجاهلية التي كانت مستقرة في النساء.

موقف الخنساء من المصائب في الجاهلية والإسلام

إذا تأملنا قصة الخنساء رضي الله تبارك وتعالى عنها، وما ذهب به الدهر من حديث جزعها وتصدع قلبها واضطراب حشاها على أخيها صخر لوجدنا عجباً، ومعلومة مراثيها لأخيها صخر، لكن عندما صارت مؤمنة استحال كل ذلك الجزع والفزع من قضاء الله إلى صبر صاغه الإيمان وجمله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا، فهاهم أبناؤها وهم أشطار كبدها ونياط قلبها خرجوا إلى وقعة القادسية، وكانوا أربعة أبناء، فكان مما أوصتهم به قولها: (يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم وما غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، اصبروا وصابرو ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها وجللت ناراً على أرواقها فيمموا وطيسها - الوطيس هو المعركة أو الضرب فيها- وجالدوا رئيسها -أي: أصلها- عند احتدام خميسه تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة). فلما كشرت الحرب عن أنيابها تدافعوا إليها وتواقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحداً في إثر واحد، ولما وافتها النعاة بخبر أبنائها الأربعة لم تزد على أن قالت: (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته). فانظر كيف غير الإسلام والإيمان سلوكها، من هذه المراثي التي ملأت بها الدنيا لأخيها صخر في الجاهلية إلى هذه الكلمة العظيمة التي قالتها في الإسلام.

موقف معاذة العدوية من مقتل زوجها وولدها في الجهاد

عن حماد بن سلمة قال: حكى ثابت البناني أن صلة بن أشيم -وكان رجلاً من الصالحين- كان في مغزى، وكان معه ابن له، أي: كانا يجاهدان في سبيل الله.

فقال: أي بني! تقدم فقاتل حتى أحتسبك. فحمل ابنه على الأعداء فقاتل حتى قتل، ثم تقدم صلة بن أشيم نفسه فقتل رضي الله عنه، فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية -وهي من النساء الصالحات- فقالت لهن: إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.

وقالت أم الأسود بنت يزيد العدوية -وكانت معاذة قد أرضعتها-: قالت لي معاذة لما قتل أبو الصهباء وقتل ولدها: والله -يا بنية- ما محبتي لبقائي في الدنيا لرغيد عيش ولا لروح نسيم، ولكن والله أحب البقاء لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل، لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.

فهي رحمها الله تتمنى أن يطول عمرها حتى تستكثر الأعمال التي تبلغ بها درجتي ولدها وزوجها الشهيدين.

موقف أم سليم من موت ابنها وصبرها على ذلك

وهذه أم سليم الرميصاء أو الغميصاء من الصالحات العظيمات اللائي لهن شأن عظيم جداً، وكانت من السابقات إلى الإسلام؛ لأنها أسلمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فبايعته حين مقدمه إلى المدينة، وكان إسلامها مراغمة لزوجها مالك بن النضر ، وكان ولدها أنس بن مالك يومئذ طفلاً رضيعاً، فكانت تقول له: قل: لا إله إلا الله. قل: أشهد أن محمداً رسول الله. فجعل ينطق بذلك أول ما ينطق، فكان ذلك مما يثير الغضب في نفس مالك أبيه، فيقول لها: لا تفسدي عليّ ولدي. فتقول: إني لا أفسده. ثم إنه خرج عنها إلى الشام، وهنالك لقي عدواً له فقتله عدوه، فلما بلغها قتله وكانت شابة حدثة وكثر خطابها قالت: لا جرم لا أفطم أنساً حتى يدع ثديي، ولا أتزوج حتى يجلس في المجالس ويأمرني. فوفت بعهدها وبرت، وكان ولدها أنس بن مالك يعرف لها تلك المنة ويقول: جزى الله أمي عني خيراً لقد أحسنت ولايتي. حتى إذا شب أنس تقدم لخطبتها أبو طلحة زيد بن سهل وكان مشركاً فأبت، ثم قالت له يوماً: أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبة تأتي بها النجار فينجرها لك هل يضرك؟ هل ينفعك؟ وأكثرت من عتبه، فوقع في قلبه الذي قالت، فأتاها فقال: لقد وقع في قلبي الذي قلت. وآمن بين يديها فقالت: إني أتزوجك ولا أريد منك صداقاً غير الإسلام.

قال ثابت: فما سمعت من امرأة قط كانت أكرم مهراً من أم سليم لقد كان مهرها الإسلام.

نعم لقد كان أكرم وأشرف وأغلى مهر في الدنيا؛ لأنها تزوجته على أن يدخل في دين الإسلام.

حدث أنس بن مالك عن أمه أم سليم بنت ملحان الأنصارية زوج أبي طلحة زيد بن سهل قال: (مرض أخ لي من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينا أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه. فرجع من المسجد وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان. وقدمت له عشاءه فتعشى هو وأصحابه الذي قدموا معه، ثم أتما ليلتهما على أحسن حال، فلما كان آخر الليل قالت:يا أبا طلحة ! ألم تر إلى آل فلان استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طُلبت منهم شق عليهم! قال: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلاناً كان عارية من الله فقبضه إليه. فاسترجع وحمد الله وقال: والله ما أدعك تغلبينني على الصبر. حتى إذا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حضر عنده اشتكى له كيف أنها تصنعت له حتى وقع عليها وابنه ميت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكما في غابر ليلتكما) فحملت منه تلك الليلة عبد الله بن أبي طلحة ، ولم يكن في الأنصار شاب أفضل منه، ولم يمت عبد الله بن أبي طلحة حتى رزق عشرة من البنين كلهم حفظ القرآن وأبلى -أي: جاهد في سبيل الله تبارك وتعالى- واستشهد عبد الله بن أبي طلحة في الجهاد بفارس.

موقف نفيسة بنت الحسن من ظلم الولاة ومناصحتهم

من مواقف النساء المسلمات -أيضاً- في الصبر والجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وقع من السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، أقامت بمصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق ، وقيل: مع أبيها الحسن الذي عين والياً على مصر من قبل أبي جعفر المنصور وفي ذات يوم هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون ، فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا: في الغد. فكتبت رقعة ووقفت بها في طريقه وقالت: يا أحمد بن طولون. فلما رآها عرفها فترجل عن فرسه، وأخذ منها الرقعة وقرأها، وكانت قد كتبت له في هذه الرقعة: ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم فعسفتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة، لا سيما في قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227] فرجع عن ظلمه لوقته.

موقف أم عقيل حين عزيت بموت ولدها عقيل

وحكى -أيضاً- الإمام أبو الفرج بن الجوزي قال: قال الأصمعي : خرجت أنا وصديق لي إلى البادية فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم ضالون عن الطريق أتيناكم فأنسنا بكم. فقالت: يا هؤلاء! ولوا وجوهكم عني حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل. ففعلنا، فألقت لنا مسحاً -أي: فراشاً- فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني. ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها، إلى أن رأت شخصاً قادماً من بعيد، فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني وأما الراكب فليس بابني. فوقف الراكب عليها فقال: يا أم عقيل! أعظم الله أجرك في عقيل. قالت: ويحك مات ابني؟! قال: نعم. قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم. تعني: انزل حتى تؤدي حق الضيافة لهؤلاء القوم. ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت -أي: لبست مثل العمامة على رأسها- فقالت: يا هؤلاء! هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً؟ قلت: نعم. قالت: اقرأ علي من كتاب الله آيات أتعزى بها. قلت: يقول الله عز وجل في كتابه: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].

قالت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ قلت: آلله إنها لفي كتاب الله هكذا. قالت: السلام عليكم. ثم صفت قدميها وصلت ركعات، ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عقيلاً -تقول ذلك ثلاث مرات- اللهم! إني فعلت ما أمرتني به فأنجز لي ما وعدتني.

موقف امرأة عبد الله بن الفرج حين مات زوجها عبد الله

لما مات عبد الله بن الفرج لم تعلم زوجته إخوانه بموته، وكان إخوانه جالسين بالباب ينتظرون الدخول عليه في علته، فلما مات لم تجزع، بل صبرت صبراً عظيماً، حيث قامت وغسلته وكفنته في كساء كان له، ونزعت فرد باب من أبواب بيته وشدته بشريط، ثم قالت لإخوانه: قد مات وقد فرغت من تجهيزه، فدخلوا فاحتملوه إلى قبره، وأغلقت الباب خلفهم.

موقف صفية بنت عبد المطلب وصبرها على أخيها حمزة

نذكر صبر صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم والدة الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وشقيقة حمزة ، وأمها هالة بنت وهب خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في أحداث أحد عن بعض الرواة قوله: (خرجت صفية يوم أحد في طليعة النسوة اللواتي خرجن في خدمة المجاهدين ومداواة الجرحى، ولما انهزم المسلمون بعد أن خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات، سواء أكان النصر أم كان غير ذلك، وانفض أكثر الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق حوله سوى القلائل من أصحابه قامت صفية رضي الله عنها وبيدها رمح تضرب به في وجوه الفارين من الأعداء المشركين، وتقول لهم: انهزمتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشفق عليها، فقال لابنها الزبير بن العوام : القها فأرجعها، لا ترى ما بشقيقها حمزة وقد مثل به، فلقيها الزبير فقال: يا أم! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي. فقالت صفية : ولم؟! فقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله عز وجل قليل، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله تعالى. وعاد الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال: خل سبيلها، فأتت صفية حمزة فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فدفن).

موقف صفية بنت عبد المطلب وشجاعتها يوم الخندق

صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم هي أول امرأة قتلت رجلاً من المشركين، فإنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخندق جعل نساءه في حصن يقال له: فارع. فجاء إنسان من اليهود فرقى الحصن حتى أطل على النساء، فقالت صفية بنت عبد المطلب : فقمت إليه فضربته حتى قطعت رأسه، فأخذت رأسه فرميت به عليهم. حتى توقع الرعب في اليهود.

وفي رواية أخرى: فأخذت عموداً فنزلت إليه حتى فتحت الباب قليلاً قليلاً فحملت عليه بالعمود فقتلته. فانظر إلى شجاعتها.

موقف نساء الأنصار من قتلى أحد وتفضيلهن سلامة النبي صلى الله عليه وسلم

في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد إلى المدينة خرج الناس من المدينة للاستفسار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ذويهم الذين اشتركوا معه في معركة أحد، وكان من بينهم امرأة من بني دينار قتل يوم أحد أبوها وزوجها وأخوها وابنها، فلما نعوا إليها لم تكترث كثيراً، وإنما كانت قلقة على حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنساها هذا القلق كل أحد، فكانوا يقولون لها: قتل أبوك. فتقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويقولون لها: قتل ابنك. فتقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويقولون: قتل أخوك. فتقول: ما فعل رسول الله؟ ويقولون: قتل زوجك. فتقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون لها: خيراً يا أم فلان، فهو بحمد الله كما تحبين. فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه. فلما رأته سالماً قالت: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله. أي: قليلة وحقيرة في جانب سلامته صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية: أن الدينارية هذه جاءت إلى مصارع القوم في المعركة، فمرت بأبيها وابنها وأخيها وزوجها وهم صرعى، وكلما مرت على واحد منهم سألت وقالت: من هذا؟ قيل لها: هذا أبوك هذا ابنك هذا زوجك هذا أخوك. فلم تكترث، بل صارت تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: هو أمامك. حتى جاءته، وأخذته بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب. أي: إذا سلمت فما أبالي بما يصيبني بعد ذلك. رضي الله تبارك وتعالى عنها.

(وقبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت أم سعد بن معاذ سيد الأنصار رضي الله عنه تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فرسه، وسعد آخذ بلجامها، فقال سعد : يا رسول الله! أمي. فقال: مرحباً بها، فوقف لها، فلما دنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عزاها بابنها عمرو بن معاذ ؛ لأنه استشهد في غزوة أحد وله اثنتان وثلاثون سنة، فقالت: أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتريت المصيبة. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل من قتل بأحد وقال لـأم سعد : يا أم سعد! أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً، فقالت: رضينا يا رسول الله ومن يبكي عليهم بعد هذا؟! ثم قالت: يا رسول الله! ادع لمن خلفوا منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم! أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا).

موقف نسيبة بنت كعب في غزوة أحد وما بعدها

وهذه نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله تبارك وتعالى عنها، -وكنيتها أم عمارة - الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية النجارية المازنية المدنية، كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكائين.

يقول: الحافظ الذهبي في ترجمتها في سير أعلام النبلاء: شهدت أم عمارة ليلة العقبة وأحداً والحديبية ويوم حنين ويوم اليمامة. وجاهدت وفعلت الأفاعيل، قطعت يدها في الجهاد رضي الله تبارك وتعالى عنها، شهدت أحداً مع زوجها غزية بن عمرو ومع ولديها، خرجت يوم أحد تسقي الظمأى وتسقي الجرحى، وكانت غرة الحرب وطلعتها للمسلمين، ثم أشاحت بوجهها عنهم فتناوشتهم سيوف المشركين تنهل من نحورهم وتطعن في ظهورهم، فانكشفوا وولوا مدبرين إلا عشرة أو نحوهم وقفوا يدرءون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحولون دون الوصول إليه، هنالك جاء دور نسيبة ، فانتضت سيفها واحتملت قوسها، وذهبت تصول وتجول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنزع عن القوس، وتضرب بالسيف، وحولها من الغر المذاويد علي وأبو بكر وعمر وسعد وطلحة والزبير وعباس وولداها وزوجها، فكانت من أظهر القوم أثراً وأعظمهم موقفاً، كانت لا ترى الخطر يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون سداده وملء لهوته، حتى قال: عليه الصلاة والسلام (ما التفت يميناًولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني).

وكان ضمرة بن سعيد المازني يحدث عن جدته -وكانت قد شهدت أحداً- أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لمقام نسيبة بنت كعب خير من مقام فلان وفلان).

وكانت تراها يومئذ تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً، وكانت تقول: (إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها، فداوته سنة -تعني أن هذا الكافر ضربها على عنقها ضربة ظلت جرحاً تتداوى منه سنة كاملة- ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى حمراء الأسد. فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم) رضي الله عنها ورحمها.

تقول أم عمارة : رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بقي إلا في نفير ما يتمون عشرة، أنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً ومعه ترس، فقال: ألق ترسك إلى من يقاتل. فألقاه فأخذته، فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم إن شاء الله.

تقول: غلبنا من كانوا يركبون الخيول من الكفار، لكن لو كانوا يقاتلوننا على الأرض كما نفعل نحن لأصبناهم إن شاء الله. فتعتذر عن شدة القتال بأن الكفار كانوا أصحاب خيل.

ثم تقول: فيقبل رجل على فرس فيضربني، وترست له فلم يصنع شيئاً وولى، فأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا ابن أم عمارة ! أمك أمك، لما وقع ذلك الرجل من الفرس، قالت: فعاونني عليه أي أن ابنها عاونها على ذلك الكافر، تقول: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب)، وشعوب اسم من أسماء الموت كالمنية، أي: أوردته موارد الموت والهلكة.

يقول عبد الله بن زيد : جرحت يومئذ جرحاً، وجعل الدم لا يرقأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعصب جرحك. فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقوها، فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وسلم واقف، وبعدما ربطت جرحي قالت: انهض بني فضارب القوم. وجعل يقول النبي عليه الصلاة والسلام: من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة ؟! فأقبل الذي جرح ابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ضارب ابنك. قالت: فأعترض له فأضرب ساقه فبرك، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى رأيت نواجذه، وقال: استقدت يا أم عمارة -يعني: أخذت القود والقصاص من ضارب ولدك- تقول: ثم أقبلنا نعله بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أظفرك) ويقول عبد الله بن زيد بن عاصم أيضاً: (شهدت أحداً، فلما تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دنوت منه أنا وأمي نذب عنه، فقال: ابن أم عمارة! قلت: نعم. قال: ارم فرميت بين يديه رجلاً بحجر وهو على فرس، فأصبت عين الفرس، فاضطرب الفرس فوقع هو وصاحبه، فجعلت أعلوه بالحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، ونظر إلى جرح أمي على عاتقها فقال: أمك أمك، اعصب جرحها، اللهم! اجعلهم رفقائي في الجنة. فبعدما سمع هذا الدعاء قال: قلت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا).

وكان لأم عمارة ولدان: أحدهما: عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الذي حكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قتل يوم الحرة، والثاني: حبيب بن زيد بن عاصم الذي أرسله النبي عليه الصلاة والسلام رسولاً إلى مسيلمة الكذاب، فكان مسيلمة يقول له: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول له: لا أسمع. فيقول: وما تقول في محمد؟ يقول: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقطع جسده عضواً عضواً ليرتد عن دينه، لكنه لم يرتد حتى مات تحت العذاب وهو ثابت على دينه.

وبلغها مقتله فاحتسبته عند الله، وأقسمت أن تقاتل مسيلمة حتى يقتل أو تقتل، فذهبت إلى اليمامة واشتركت في الموقعة التي قتل فيها مسيلمة، وأبلت بلاءً حسناً حتى قطعت يدها، ثم عادت من المعركة بيد واحدة، واستمر جرحها ينزف دماً حتى أدركتها الوفاة رضي الله تبارك وتعالى عنها.

موقف أم إبراهيم في دفع ولدها للجهاد والاستشهاد

وحديث النساء المجاهدات يطول جداً، لكن نقتصر نختم بهذه القصة التي رواها صاحب (فكاهة الأذواق من مشارع الأشواق في فضائل الجهاد).

يقول: كان بالبصرة نساء عابدات، وكان منهن أم إبراهيم الهاشمية، فأغار العدو على ثغر من ثغور الإسلام، فانتدب الناس للجهاد، فقام عبد الواحد بن زيد أحد الأئمة البصريين في الناس خطيباً، فحضهم على الجهاد، وكانت أم إبراهيم هذه حاضرة مجلسه، وتمادى عبد الواحد في كلامه مرغباً الناس في الجهاد، ثم ذكر الحور العين وذكر ما قيل فيهن، وكان مما قال في وصف حوراء:

غادة ذات دلال ومرح يجد الناعت فيها ما اقترح

خلقت من كل شيء حسن طيب فالليث فيها مطرح

زانها الله بوجه جمعت فيه أوصاف غريبات الملح

وبعين كحلها من غنجها وبخد مسكه فيه رشح

ناعم يجري على صفحته نضرة الملك ولألاء الفرح

أترى خاطبها يسمعها إذ تدير الكأس طوراً والقدح

في رياض مونق نرجسها كلما هبت له الريح نفح

وهي تدعوه بود صادق ملئ القلب به حتى طفح

يا حبيباً لست أهوى غيره بالخواتيم يتم المفتتح

لا تكونن كمن جد إلى منتهى حاجته ثم جمح

لا فما يخطب مثلي من سها إنما يخطب مثلي من ألح

فماج الناس بعضهم في بعض واضطرب المجلس، فوثبت أم إبراهيم من وسط الناس، وقالت لـعبد الواحد : يا أبا عبيد ! ألست تعرف ولدي إبراهيم ورؤساء أهل البصرة يخطبونه على بناتهم وأنا أضن به عليهن؟ فقد والله أعجبتني هذه الجارية، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فكرر ما ذكرت من حسنها وجمالها. فأخذ عبد الواحد في وصف حوراء ثم أنشد:

تولد نور النور من نور وجهها فمازج طيب الطيب من خالص العطر

فلو وطأت بالنعل منها على الحصى لأعشبت الأقطار من غير ما قطر

ولو شئت عقد الخصر منها عقدته فغصن من الريحان ذي ورق خضر

ولو تفلت في البحر شهد رضابها لطاب لأهل البر شرب من البحر

يكاد اختلاس اللحظ يجرح خدها بجارح وهم القلب من خارج الستر

فاضطرب الناس أكثر، ووثبت أم إبراهيم وقالت لـعبد الواحد :يا أبا عبيد ! قد والله أعجبتني هذه الجارية، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فهل لك أن تزوجه منها هذه الساعة وتأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار، ويخرج معك في هذه الغزوة فلعل الله يرزقه الشهادة، فيكون شفيعاً لي ولأبيه في يوم القيامة؟

فقال لها عبد الواحد : لأن فعلت لتفوزن أنت وولدك وأبو ولدك فوزاً عظيماً. ثم نادت ولدها: يا إبراهيم ، فوثب من وسط الناس وقال لها: لبيك يا أماه قالت: أي بني! أرضيت بهذه الجارية زوجة ببذل مهجتك في سبيله وترك العود في الذنوب؟ فقال الفتى: إي والله -يا أماه- رضيت أي رضا. فقالت: اللهم! إني أشهدك أني زوجت ولدي هذا من هذه الجارية ببذل مهجته في سبيل الله وترك العود في الذنوب، فتقبله مني يا أرحم الراحمين. ثم انصرفت فجاءت بعشرة آلاف دينار وقالت: يا أبا عبيد! هذا مهر الجارية تجهز به وجهز الغزاة في سبيل الله تعالى. وانصرفت فابتاعت لولدها فرساً جيداً، واستجادت له سلاحاً، فلما خرج معه عبد الواحد خرج إبراهيم يعدو إلى الجهاد، والقراء حوله يقرءون: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].

قال: فلما أرادت فراق ولدها دفعت إليه كفناً وحنوطاً. -والحنوط: الطيب الذي مع الكفن- وقالت له: يا بني! إذا أردت لقاء العدو فتكفن بهذا الكفن وتحنط بهذا الحنوط، وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمته إلى صدرها وقبلته بين عينيه، وقالت له: يا بني! لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة.

قال عبد الواحد: فلما بلغنا بلاد العدو ونودي في النفير وبرز الناس للقتال برز إبراهيم في المقدمة، فقتل من العدو خلقاً كثيراً، ثم اجتمعوا عليه فقتل. قال عبد الواحد : فلما أردنا الرجوع إلى البصرة قلت لأصحابي: لا تخبروا أم إبراهيم بخبر ولدها حتى ألقاها بحسن العزاء؛ لئلا تجزع فيذهب أجرها. قال: فلما وصلنا البصرة خرج الناس يتلقوننا، وخرجت أم إبراهيم فيمن خرج. قال عبد الواحد : فلما نظرت إلي قالت يا أبا عبيد ! هل قبلت مني هديتي فأهنأ أم ردت علي فأعزى؟ فقلت لها: قد قبلت هديتك، إن إبراهيم حي مع الأحياء يرزق. قال: فخرت ساجدة لله شكراً وقالت: الحمد لله الذي لم يخيب ظني وتقبل نسكي مني. وانصرفت، فلما كان من الغد أتت إلى مسجد عبد الواحد فنادت: السلام عليك يا أبا عبيد! بشراك، فقلت: لا زلت مبشرة بالخير. فقالت له: رأيت البارحة ولدي إبراهيم في روضة حسناء وعليه قبة خضراء وهو على سرير من اللؤلؤ وعلى رأسه تاج وإكليل وهو يقول: يا أماه! أبشري فقد قبل المهر وزفت العروس.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

موقف الخنساء في المصائب في الجاهلية والإسلام

إذا تأملنا قصة الخنساء رضي الله تبارك وتعالى عنها، وما ذهب به الدهر من حديث جزعها وتصدع قلبها واضطراب حشاها على أخيها صخر لوجدنا عجباً، ومعلومة مراثيها لأخيها صخر، لكن عندما صارت مؤمنة استحال كل ذلك الجزع والفزع من قضاء الله إلى صبر صاغه الإيمان وجمله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا، فهاهم أبناؤها وهم أشطار كبدها ونياط قلبها خرجوا إلى وقعة القادسية، وكانوا أربعة أبناء، فكان مما أوصتهم به قولها: (يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم وما غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، اصبروا وصابرو ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها وجللت ناراً على أرواقها فيمموا وطيسها - الوطيس هو المعركة أو الضرب فيها- وجالدوا رئيسها -أي: أصلها- عند احتدام خميسه تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة).

فلما كشرت الحرب عن أنيابها تدافعوا إليها وتواقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحداً في إثر واحد، ولما وافتها النعاة بخبر أبنائها الأربعة لم تزد على أن قالت: (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته).

فانظر كيف غير الإسلام والإيمان سلوكها، من هذه المراثي التي ملأت بها الدنيا لأخيها صخر في الجاهلية إلى هذه الكلمة العظيمة التي قالتها في الإسلام.