أرشيف المقالات

تفسير الزركشي لآيات من سورة ص

مدة قراءة المادة : 26 دقائق .
تفسير الزركشي لآيات من سورة ص


﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ [ص: 3]
قوله تعالى: ﴿ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾، أي: ليس حين مهرب[1].
 
﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ [ص: 6].
قوله تعالى: ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ﴾ ، فقيل لهم في الجواب: ﴿ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [فصلت: 24] [2].

وأما قوله تعالى: ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا ﴾، فقيل: إنها مفسّرة؛ لأن الانطلاق متضمّن لمعنى القول.
 
وقال الخليل: يريدون أنهم انطلقوا في الكلام بهذا، وهو امشوا، أي أكثروا، يقال: أمشى الرجل ومشى، إذا كثرت ماشيته، فهو لا يريد: انطلقوا بالمشي الذي هو انتقال؛ إنما يريد: قالوا هذا.

وقيل: عبارة عن الأخذ في القول فيكون بمنزلة صريحه، وأَنْ: مفسرة، وقيل: مصدرية[3].

﴿ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴾ [ص: 8]
قوله تعالى: ﴿ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ﴾ أي: ما أنزل[4].
 
وقوله تعالى: ﴿ بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴾، أنهم لم يذوقوه إلى الآن وأن ذوقهم له متوقع[5].

﴿ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ [ص: 14]
قوله تعالى: ﴿ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ ﴾، فلأنه ذكر قرونًا وأممًا، وختم ذكرهم بقوم تُبَّع، فلو قال: كلٌّ كذبوا، لعاد إلى أقرب مذكور، فكان يُتوهم أن الأخبار عن قوم تُبَّع خاصة، فلما قال: ﴿ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ﴾ علم أنه يريد كل فريق منهم كذب؛ لأن إفراد الخبر عن "كل" حيث وقع إنما يدل على هذا المعنى[6].

﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾ [ص: 21]
قوله تعالى: ﴿ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾، أي: نزلوا عليه من علو[7].

﴿ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾ [ص: 22]
قوله تعالى: ﴿ لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ﴾ ، كنى داود بخصم على لسان مَلَكين تعريضًا[8].

﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾ [ص: 23]
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ﴾، فكنى بالمرأة عن النعجة، كعادة العرب أنها تكني بها عن المرأة[9].
 
﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26]
قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾، مقدمتان ونتيجة؛ لأن اتباع الهوى يوجب الضلال، والضلال يوجب سوء العذاب، فأنتج أن اتباع الهوى يوجب سوء العذاب[10].
 
﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص: 28].
قوله تعالى: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ ، أورد بعضهم أن أصل التشبيه، يشبه الأدنى بالأعلى فيقال: "أفتجعل المجرمين كالمسلمين والفجار كالمتقين" فلم خولفت القاعدة! يقال: فيه وجهان:
 
أحدهما: أن الكفار كانوا يقولون: نحن نسود في الآخرة كما نسود في الدنيا، ويكونون أتباعًا لنا، فكما أعزنا الله في هذه الدار يعزنا في الآخرة، فجاء الجواب على معتقدهم أنهم أعلى وغيرهم أدنى.

الثاني: لما قيل قبل الآية: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [ص: 27] [11]، أي يظنون أن الأمر يهمل، وأن لا حشر ولا نشر، أم لم يظنوا ذلك، ولكن يظنون أنا نجعل المؤمنين كالمجرمين، والمتقين كالفجار[12].
 
قوله تعالى: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾، أي: في سوء الحال[13].
 
قوله تعالى: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾، فالنقل والتصيير راجعان إلى الحال، أي لا تجعل حال هؤلاء مثل حال هؤلاء ولا تنقلها إليها[14].
 
﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]
قال القاضي أبو المعالي عزيزي بن عبدالملك رحمه الله: وسماه - أي القرآن – مباركًا فقال:﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ﴾ [15].
 
﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30]
وقوله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ﴾، فسليمان هو المخصوص الممدوح، وإنما لم يكرر لأنه تقدم منصوبًا، وقوله تعالى: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ التقدير: نعم العبد أيوب، أو نعم العبد هو؛ لأن القصة في ذكر أيوب، فإن قدرت نعم العبد هو، لم يكن "هو" عائدًا على العبد بل على أيوب[16].
 
فأما تقديمه في قوله تعالى: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ فإن الممدوح – هنا - بـ"نعم العبد" هو سليمان - عليه السلام - وقد تقدم ذكره، وكذلك أيوب في الآية الآخرى والمخصوص بالمدح في الآيتين ضمير سليمان وأيوب وتقديره نعم العبد هو إنه أواب[17].

﴿ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴾ [ص: 32]
قوله تعالى: ﴿ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴾، أي: الشمس[18].
 
وقوله ﴿ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴾، يعني الشمس، وقيل: بل سبق ما يدل عليها وهو العشي؛ لأن العشي: ما بين زوال الشمس وغروبها، والمعنى: إذ عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب، وقيل: فاعل "توارت" ضمير "الصافنات"، ذكره ابن مالك وابن العربي في "الفتوحات"[19] ويرجحه أن اتفاق الضمائر أولى من تخالفها[20].
 
قال رحمه الله: من معاني "عن" الاستعلاء، نحو قوله تعالى: ﴿ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ﴾ ، أي: قدمته عليه، وقيل: على بابها، أي: منصرفًا عن ذكر ربي.
 
وحكى الرمَّاني عن أبي عبيدة[21] أن "أحببت": من أحب البعير إحبابًا، إذا برك فلم يقم، فـ "عن" متعلقة باعتبار معناه التضمين، أي تثبطت عن ذكر ربي، وعلى هذا فـ "حب الخير" مفعول لأجله[22].
 
وزعم الفارسي[23] في "تذكرته" في قوله: ﴿ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ﴾، أنه بمعنى حب الخيل، وسميت الخيل خيرًا لما يتصل بها من العز والمنعة، كما روى: "الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ"[24]، وحينئذ فالمصدر مضاف إلى المفعول به[25].
 
﴿ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾ [ص: 33]
قوله تعالى: ﴿ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾، أي يمسح السوق مسحًا[26].

﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾[ص: 44]
قوله تعالى: ﴿ فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ ﴾، فقيل "الواو" زائدة[27]، ويحتمل أن يكون مجزومًا على جواب الأمر، بتقدير اضرب به ولا تحنث.
 
ويحتمل أن يكون نهيًا، قال ابن فارس: والأول أجود[28].
 
﴿ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 49]
قوله تعالى: ﴿ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 49] ، فإن هذا القرآن نوع من الذكر، لما انتهى ذكر الأنبياء وهو نوع من التنزيل أراد أن يذكر نوعًا آخر وهو ذكر الجنة وأهلها، فقال ﴿ هَذَا ذِكْرٌ ﴾، فأكد تلك الإخباريات باسم الإشارة، تقول أشير عليك بكذا، ثم تقول بعده: هذا الذي عندي والأمر إليك.
وقال ﴿ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴾، كما يقول المصنِّف: هذا باب يشرع في باب آخر، ولذلك لما فرغ من ذكر أهل الجنة قال ﴿ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ﴾ [ص: 55] [29].

﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ﴾ [ص: 51]
قوله تعالى: ﴿ بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ﴾، أي: كثير، بدليل ما قبله[30].

﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 53]
قوله تعالى: ﴿ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ ﴾ [ص: 52، 53] أي: يقال لهم هذا[31].
 
﴿ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ﴾ [ص: 59]
قوله تعالى: ﴿ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ﴾ [ص: 59]، فالظاهر أن الكلام كله من كلام الزبانية، والأمر ليس كذلك[32].
 
﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ [ص: 73، 74]
قوله تعالى: ﴿ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ [ص: 73، 74]، عد إبليس من الملائكة مع أنه كان من الجن؛ تغليبًا لكونه جنيًّا واحدًا فيما بينهم، ولأن حمل الاستثناء على الاتصال هو الأصل، ويدل على كونه من غير الملائكة ما رواه مسلم في صحيحه: "خلقت الملائكة من نور والجن من النار"[33].

وقيل: إنه كان مَلَكا فسلب الملكية، وأجيب عن كونه من الجن بأنه اسم لنوع من الملائكة.
 
قال الزمخشري[34]: كان مختلطًا بهم، فحينئذ عمته الدعوة بالخلطة لا بالجنس، فيكون من تغليب الأكثر، هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا ولم يجعل "إلا" بمعنى "لكن"[35].

﴿ قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴾ [ص: 75]
قوله تعالى: ﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ قال السهيلي[36]: اليد في الأصل كالمصدر، عبارة عن صفة لموصوف، ولذلك مدح سبحانه وتعالى بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله: ﴿ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ [ص: 45][37]، ولم يمدحهم بالجوارح؛ لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر، قال: وإذا ثبت هذا فصح قول الأشعري: إن اليدين في قوله تعالى: ﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ صفة ورد بها الشرع، ولم يقل إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون من أصحابه، ولا بمعنى النعمة، ولا قَطع بشيء من التأويلات تحرزًا منه عن مخالفة السلف، وقطع بأنها صفة تحرزًا عن مذاهب المشبهة.

فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يعلمون إذ اليد بمعنى الصفة لا يعرفونه، ولذلك لم يسأل أحد منهم عن معناها، ولا خاف على نفسه توهُّم التشبيه، ولا احتاج إلى شرح وتنبيه، وكذلك الكفار، لو كان لا يُعقل عندهم إلا في الجارحة لتعلَّقوا بها في دعوى التناقض، واحتجوا بها على الرسول، ولقالوا: زعمتَ أن الله ليس كمثله شيء، ثم تخبر أن له يدًا، ولما لم ينقل ذلك عن مؤمن ولا كافر، عُلِم أن الأمر عندهم كان جليًّا لا خفاء به، لأنها صفة سميت الجارحة بها مجازًا، ثم استمر المجاز فيها حتى نسيت الحقيقة، وربّ مجاز كثير استعمل حتى نسي أصله، وتركت صفته، والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة إلا أنها أخص، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فاليد أخص من معنى القدرة، ولذا كان فيها تشريف لازم.

وقال البغوي[38] في تفسير قوله تعالى: ﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ : في تحقيق الله التثنية في اليد دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة، وإنما هما صفتان من صفات ذاته، قال مجاهد[39]: اليد – هاهنا - بمعنى التأكيد، والصلة مجازه لِمَا خَلَقْتُ كقوله: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ﴾ [الرحمن: 27] [40]، قال البغوي[41]: وهذا تأويل غير قوي؛ لأنها لو كانت صلة لكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني، وكذلك في القدرة والنعمة لا يكون لآدم في الخلق مزيَّةٌ على إبليس، وأما قوله تعالى: ﴿ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ﴾ [يس: 71] [42]، فإن العرب تسمي الاثنين جمعًا كقوله تعالى: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا ﴾ [الحج: 19] [43].

قال رحمه الله: وقع خلاف في أن إبليس من الملائكة أم لا؟ والتحقيق أنه ليس منهم عنصرًا، ففي صحيح مسلم: "خُلِقَتِ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدم مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ"[44]، وهو منهم حكمًا لدخوله في الخطاب بالأمر بالسجود معهم، ولو كان من غيرهم لم يدخل معهم[45].

قوله تعالى: ﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾، والمراد: آدم[46].
 
﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ﴾ [ص: 84]
قوله تعالى: ﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ﴾ [ص: 84] ، فالأول قسم بمنزلة "والحق"، وجوابه: ﴿ لَأَمْلَأَنَّ ﴾ وقوله: ﴿ وَالْحَقَّ أَقُولُ ﴾، توكيد للقسم[47].



[1] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات - لات 4/ 221.


[2] سورة فصلت:24.
البرهان: معرفة تفسيره وتأويله 2/ 123.


[3] البرهان: الكلام على المفردات من الأدوات - أن المفتوحة الهمزة الساكنة النون 4/ 143.


[4] المصدر السابق: أقسام معنى الكلام - استفهام الإنكار 2/ 204.


[5] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات - لما 4/ 232-233


[6] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات - كل 4/ 199.


[7] المصدر السابق: معرفة تقسيمه بحسب سوره وترتيب السور والآيات 1/ 186.


[8] المصدر السابق: الكنايات والتعريض في القرآن - أسباب الكناية فطنة المخاطب 2/ 187.


[9] البرهان: الكنايات والتعريض في القرآن - أسباب الكناية فطنة المخاطب 2/ 188.


[10] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنونه البليغة - تفصيل ترتيب المقدمات والنتائج 3/ 287.


[11] سورة ص: 27.


[12] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - قواعد تتعلق بالتشبيه 3/ 263.


[13] المصدر السابق: 3/ 264.


[14] المصدر السابق: لفظ "جعل" 4/ 86.



[15] المصدر السابق: معرفة أسمائه واشتقاقاتها 1/ 192.


[16] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنونه البليغة - حذف المخصوص في باب نعم إذا علم من سياق الكلام 3/ 104.


[17] المصدر السابق: الاهتمام عند المخاطب 3/ 171.


[18] البرهان: حذف الفاعل 3/ 94.


[19] ذكر د.
المرعشلي في تحقيق "البرهان" بأن المقصود "أحكام القرآن"؛ لأن كتاب "الفتوحات" في التصوف لا في علوم القرآن 4/ 24، انظر قوله في أحكام القرآن 4/ 67.


[20] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - قاعدة في الضمائر 4/ 20.


[21] قال أبو عبيدة: "إني أحببت" مجازه أحببته حبًا ثم أضاف الحب إلى الخير، أ.هـ.
انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة، الناشر: مكتبة الخانجي - القاهرة، ج/ 2 ص/ 186.


[22] البرهان: الكلام على المفردات من الأدوات - عن 4/ 178.


[23] ذكر د.
يوسف المرعشلي في تحقيق "البرهان" بأن الكتاب مخطوط وكبير في مجلدات لخصه أبو الفتح عثمان بن جني" البرهان بتحقيق د.
يوسف المرعشلي 2/ 394".


[24] جزء من حديث «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ والْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، رواه البخاري من حديث عروة البارقي، كتاب فرض الخمس - باب "أحلت لي الغنائم" ص/ 768، رقم الحديث 3119، ومسلم من حديث جرير بن عبدالله، كتاب الإمارة، باب "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، ص/ 906، رقم الحديث 1872 واللفظ للبخاري.


[25] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - الإبدال 3/ 240.


[26] البرهان: زيادة الباء 3/ 56.


[27] لايوجد في القرآن الكريم أحرف زائدة من حيث المعنى، أما من حيث الإعراب فنعم، فعلى سبيل المثال: قوله تبارك وتعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46] الباء من حيث الإعراب زائدة، ولهذا لو كانت الجملة في غير القرآن وقلت: وما ربك ظلاماً للعبيد استقام الكلام، لكن من حيث المعنى لا؛ لأننا لو قلنا: في القرآن شيء زائد من حيث المعنى، لزم أن يكون في الكلام ما هو لغو لا فائدة منه.


[28] الصاحبي في فقه اللغة، ص/ 91، وعبارته: "وتكون الواو مقحمةً كقوله جلَّ ثناؤه ﭽ ﭟﭠﭡﭢ ﭼ أراد - والله أعلم - فاضرب به لاتحنث، جزمًا على جواب الأمر".

البرهان: الكلام على المفردات من الأدوات - الواو الغير عاملة 4/ 268.


[29] سورة ص:55.
البرهان: معرفة المناسبات بين الآيات - أنواع ارتباط الآي ببعضها 1/ 50، 4/ 59.


[30] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة- حذف الصفة 3/ 102.


[31] المصدر السابق: حذف القول 3/ 127.


[32] قال الطبري رحمه الله في تفسيره: وهذا خبر من الله عن قيلِ الطاغين الذين كانوا قد دخلوا النار قبل هذا الفوج المقتحِم للفوج المقتَحم فيها عليهم.
انظر: تفسير الطبري 20/ 134.

البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة- المدرج 3/ 187.


[33] رواه مسلم من حديث عائشة ل، كتاب الزهد والرقائق، باب "أحاديث متفرقة"، ص/ 1364، رقم الحديث 2996.


[34] الكشاف 5/ 281.


[35] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة _ تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس 3/ 195.


[36] لم أقف على قوله.


[37] سورة ص: 45.


[38] هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي المفسر، تقدمت ترجمته عند تفسير الآية رقم 129 من سورة الشعراء، انظر قوله في: تفسير البغوي المسمى "معالم التنزيل"، دار ابن حزم - بيروت/ لبنان، ط/ 1 ت/ 1423هـ - 2002م، ص/ 387.


[39] هو مجاهد بن جبر، الإمام، شيخ القراء والمفسرين، أبو الحجاج المكي، الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، ويقال: مولى عبد الله بن السائب القارئ.
روى عن ابن عباس، فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه، وعن أبي هريرة، وعائشة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وعدَّه، تلا عليه جماعة: منهم ابن كثير الداري، وحدث عنه عكرمة، وطاووس، وعطاء، وهم من أقرانه، وقال يحيى بن معين، وطائفة: مجاهد ثقة، مات وهو ساجد سنة ثنتين ومائة، وقيل غير ذلك.
تهذيب سير أعلام النبلاء 1/ 158، رقم الترجمة 553.
ذكر د.
يوسف المرعشلي في تحقيق "البرهان" بأن قول مجاهد ليس في تفسيره المطبوع 2/ 214.


[40] سورة الرحمن: 27.


[41] لم أقف على قول البغوي المشار إليه في تفسيره، لكن ما نقله الزركشي رحمه الله ذكره الثعلبي في تفسيره 8/ 216.


[42] سورة يس: 71.


[43] سورة الحج:19.
البرهان: حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات 2/ 57.


[44] رواه مسلم من حديث عائشة ل، كتاب الزهد والرقائق، باب "أحاديث متفرقة"، ص/ 1364 رقم الحديث 2996.


[45] البرهان: أساليب القرآن وفنونه البليغة - للتوكيد الصناعي 2/ 239.


[46] المصدر السابق: الكلام على المفردات من الأدوات - ما الاسمية 4/ 243.


[47] المصدر السابق: أساليب القرآن وفنونه البليغة - القسم 3/ 32.

شارك الخبر

المرئيات-١