رحمة النبي للعالمين


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها قال: فذلكم مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها وهذا لفظ مسلم ، ولفظ البخاري : إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل الرجل ينزعهن ويغلبنه يتقحمن فيها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها.

هذا الحديث من النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة التي تجلي صفة الرحمة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الرحمة ملأت قلبه حتى كادت تهلك نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم حزناً وحسرة على هذه الأمة، قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، ففاضت هذه الرحمة وفاضت حتى كادت تقتل صاحبها صلى الله عليه وسلم حزناً لما يرى من انصراف الخلق عن طريق الجنة إلى طريق النار.

يقول صلى الله عليه وسلم: (مثلي) وفي بعض الألفاظ (مثلي ومثلكم) -أي مثلي ومثل الناس- (كمثل رجل استوقد) -أي: أوقد ناراً فاتقدت هذه النار واشتعلت وسرى ضوءها (فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها) الفراش جمع فراشة وهي دواب مثل البعوض تطير وتتهافت في السراج وتنجذب ناحية الضوء، فإذا رأت السراج بالليل ظنت أنها في بيت مظلم وأن السراج فوة في البيت المظلم إلى الموضع المضيء، فتظل تطلب هذا الضوء وترمي بنفسها إلى هذه الفوة، فإذا ذهبت بعيداً عنها ورأت الظلام ظنت أنها لم تصب تلك الفوة، فتعود إليها إلى أن تحترق بهذه النار التي تحسبها نوراً! والدواب جمع دابة، وهي التي تقع في النار كالفراش والبعوض والجندب حيث ينجذبن إلى النار ويقعن في هذه النار، (وجعل الرجل يحجزهن) أي: يمنعهن عن النار مخافة عليهن، ويغلبنه، فرغماً عنه تصر هذه الدواب على أن تقع في النار وتتقحمها، (فيغلبنه فيقتحمن فيها) أي: فيدخلن في النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذلكم مثلي ومثلكم) أي: ما ذكر من حال الرجل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها صار الفراش والدواب يقتحمن فيها، والرجل يمنعهن من ذلك وهن يغلبنه يقتحمن في النار، ثم زاد هذا الأمر بياناً فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا آخذ بحجزكم عن النار)، والحجز جمع حجزة، وهي مقعد الإزار، ومن السراويل هي موضع التّكّة، (وأنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار) أي: أقبلوا إلي عن النار، أقبلوا إلي ولا تنجذبوا ناحية هذه النار، ففي متابعتي السلامة منها، (فتغلبوني تقحمون فيها أو تتقحمون فيها) بحسب إحدى الروايتين، أي: تدخلون فيها هجوماً عليها من غير روية.

فشبه صلى الله عليه وسلم تساقط العصاة في نار الآخرة بجهلهم عاقبة الشهوات بتهافت الفراش في نار الدنيا بسبب جهلها وعدم تمييزها لما تقصد إليه، فهي تعتقد نفع النار وهي سبب هلاكها، فكذلك أهل الشهوات في شهواتهم الغالبة، يعتقدون أنها نافعة وهي مضرة، والعاقل منهم الذي تحقق له أنها مضرة، لكن كان أسيراً للشهوات، فإنه لا ينفعه علمه بالضرر الذي فيها عن أن يسلك طريق النار فيقتحم فيها اقتحام الفراشة في النار مع علمه بأن فيها هلاكه.

يقول بعض العلماء:

إلى الله أشكو طوع نفسي للهوى وإسرافها في غيها وعيوبها

إذا سقتها للصالحات تقاعست ودبت على كره إليها دبيبها

وتهب نحو الموبقات نشيطة إذا ساوقتها الريح ساقت هبوبها

وما هي إلا كالفراشة إنها ترى النار ناراً ثم تصلى لهيبها

فهذا الحديث من أجلى ما يبين رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة، كيف أنه يحرص أشد الحرص على إنجاء الناس من النار، وإنما يهلك من هلك رغماً عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

خلق الرحمة وصف الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن في قوله تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، وقوله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، هذا الخلق من أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وآله وسلم التي تجلت مع كل العالمين، ليس مع المؤمنين فقط، ولكن كان رحمة لجميع الأمم وجميع العالمين، الجن والإنس والدواب والطيور والحيوانات، فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة لهم أجمعين. لقد آذوه واضطهدوه وهو يقول صلى الله عليه وسلم (اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) يتمثل قول نبي سابق قال لقومه كذا. وهذا ملك الجبال جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما آذاه قومه فقال له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فيجيب صلى الله عليه وسلم قائلاً: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً). فما كان مقصوده صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يعبد الله فلا يشرك به شيء، ولا يبالي في سبيل ذلك بما أصابه، فإذا وحد معبوده حصل مقصوده، وإذا عبد محبوبه حصل مطلوبه، وإذا ذكر ربه رضي قلبه، وأما نفسه فما يبالي بما أصابه في سبيل ربه، على حد قول القائل: إن كان سركم ما قد بليت به فما لجرح إذا أرضاكم ألم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فجلس إلى الفقراء وذكرهم بالجنة، وبدا على وجوههم البشر، فحزنت لأني لم أكن منهم)؛ وذلك من شدة رحمته بالضعفاء صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح البخاري : (أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ذات يوم رجلاً أسود فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله. قال: أفلا آذنتموني -أي أفلا أعلمتموني بموته حتى أشيعه-؟ فقالوا: إنه كذا وكذا. فكأنهم حقروا من شأنه، فقال: دلوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه صلى الله عليه وسلم). وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من وجد أمه من بكائه)، فنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يدخل في الصلاة ينوي أن يطيل فيها، فإذا سمع بكاء الصبي ترك إطالة الصلاة، وما دفعه إلى التجوز في الصلاة إلا الشفقة على أمه، وقد يتبادر إلى الذهن أنه الشفقة على الصبي نفسه وبكائه، لكنه صلى الله عليه وسلم يعلم مدى شدة هذا الأمر على أمه، فيخفف في الصلاة شفقة على أمه، فما أعظم خلقه صلى الله عليه وسلم! وما أبعد كثيراً من المسلمين اليوم عن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم! فحينما يصطحب بعض الناس معه صبية صغاراً إلى المسجد فبحكم صغر سنهم لا أقول: يبكون. لكنهم يصيحون أو يتحركون أو يفعلون في المسجد أشياء هم فيها معذورون، فبمجرد تسليم الإمام نرى كثيراً من الكبار يصيحون صياحاً أشد من صياح هؤلاء الأطفال، وينتهكون حرمة المسجد، ويشنعون على أبيه، وربما طردوا الأولاد من المسجد، وفعلوا معهم وفعلوا، ولو أن الواحد منهم قُدِّر أن هذا الولد هو ولده ما تأذى منه. لقد كان الحسن يركب على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ويطيل السجود لأجل ذلك، ويقول بعدما أطال السجود: (إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله) صلى الله عليه وآله وسلم. ولما أُسر أبو عزة الشاعر أول مرة استعطف النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلق سراحه بشرط أن لا يقف بعد يوم بدر ضده صلى الله عليه وسلم، وتدور الأيام، ويحضر أبو عزة المعركة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأسره مرة أخرى ويستعطفه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بقتله، وهذا الشيء هو الذي أخذ به القانون الدولي في القرن الأخير، بأن الأسير السابق إذا أسر في معركة مرة ثانية في حربه ضد تلك الدولة فإن من حقها أن تقتله.

يقول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عنه أنس رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم. قالوا: كلنا يرحم. قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة). وعن جرير رضي الله عنه مرفوعاً: (من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يغفر لا يغفر له، ومن لا يتب لا يتب الله عليه). وقال صلى الله عليه وسلم: (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وقال للرجل الذي لم يُقبِّل أحداً من أولاده معاتباً له: (أوأملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة؟!). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (في الكبد الحارة أجر) أي: كل حيوان حي لم يؤمر بقتله، ويكون كبده حاراً من شدة العطش نتيجة الحر. وقد كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان والعيال. ويقول عليه الصلاة والسلام: (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) يعني النساء اللاتي يسبين في الحرب لا يجوز لأحد أن يفرق بين الأم وولدها من السبي.

الحيوانات ممن شملتهم رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من مثل بالحيوان) أي: من شوهه فمثل به. وعن معاوية بن قرة عن أبيه: (قال رجل: يا رسول الله! إني لأذبح الشاة فأرحمها -أي: عندما أذبح الشاة أشعر برحمة تجاهها- فقال صلى الله عليه وسلم: والشاة إن رحمتها رحمك الله) فأقره على هذا الشعور بالرحمة. وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة). ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وآله وسلم ما صح عن عبد الله بن جعفر قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخل، فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى الجمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته إلى سنامه وذفريه فسكن، فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه). وعن معاذ بن أنس عن أبيه رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (اركبوا هذه الدواب سالمة، وابتدعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي) يعني: اتركوها وخففوا عنها إذا لم تحتاجوا لركوبها، ولا تتخذوها كراسي، بل استعملوها فقط لما سخرت من أجله. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله تعالى إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم). ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه -أي: فقد شحمه ونقص وزنه وهزل حتى التصق ظهره ببطنه- فقال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة) (وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فمر ببعير مناخ على باب المسجد من أول النهار، ثم مر به آخر النهار وهو على حاله، فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله في هذه البهائم، واركبوها صحاحاً واركبوها سماناً. كالمتسخط) أي: قال ذلك متسخطاً هذا الفعل الذي فعله صاحب هذه الدابة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا قبل هذا؟! أتريد أن تميتها موتتين؟!) يعني: أفلا حددت شفرتك بعيداً عنها؟! وفي بعض الروايات: (أتريد أن تميتها موتات؟! ألا حددت شفرتك قبل أن تدمعها؟!). وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجة فرأينا حُمَّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش -يعني: جعلت ترفرف بأجنحتها حتى تقترب منهم- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها، ورأى صلى الله عليه وسلم قرية نمل قد أحرقناها فقال: من حرق هذه؟! قلنا: نحن. قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار). وصح عنه صلى الله عليه وسلم -أيضاً- قوله: (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) وخشاش الأرض الحشرات والهوام. وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب وخرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش -يعني: يلعق التراب من العطش- فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، فقالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر). وفي بعض الأحاديث -أيضاً-: (بينما كلب يطيف برَكِيَّة قد كاد يقتله العطش -الركية: هي البئر التي طويت- إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فاستقت له به فسقته إياه فغفر الله لها به).

وردت آثار كثيرة تدل على تخلق الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم والسلف الصالح بهذا الخلق الكريم، فعن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً حد شفرة أمام شاة ليذبحها فضربه عمر بالدرة، وقال: أتعذب الروح؟! ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها؟ وعن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يجر شاة ليذبحها فضربه بالدرة، وقال: سقها -لا أم لك- إلى الموت سوقاً جميلاً. وعن وهب بن كيسان أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى راعي غنم في مكان قبيح، وقد رأى ابن عمر مكاناً أمثل منه، فقال ابن عمر : ويحك يا راعي! حولها، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل راع مسئول عن رعيته). وعن معاوية بن قرة قال: كان لـأبي الدرداء جمل يقال له: دمون. فكان إذا استعاروه منه قال: لا تحملوا عليه إلا كذا وكذا فإنه لا يطيق أكثر من ذلك. فلما حضرته الوفاة قال: يا دمون! لا تخاصمني غداً عند ربي، فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما تطيق. وعن أبي عثمان الثقفي قال: كان لـعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه غلام يعمل على بغل له، ويأتيهم بدرهم كل يوم، فجاء يوماً بدرهم ونصف فقال: ما بدا لك، فقال: نفقت السوق. قال: لا، ولكن اتعبت البغل، أجمه -أي: أرحه- ثلاثة أيام. فهذه بعض الآثار التي تدل على تخلق المسلمين بخلق الرحمة الذي غرسه فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأتي مزيد بيان لمعنى قوله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، عند تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنبياء.

قال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:105-106]. يخبر تعالى عما قدره وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدارين ووراثة الأرض فيهما، كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]، وأخبر تعالى أن هذا الأمر وهذا القضاء السابق مذكور في الكتب الشرعية والقدرية، وهو كائن لا محالة، ولهذا قال عز وجل: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105] والزبور: هو الكتب التي أنزلت على الأنبياء، فهو اسم جنس لكل ما زبر -أي: كتب- من الكتب التي أنزلت على الأنبياء، وهو -أيضاً- اسم الكتاب الذي أنزل على داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قولع تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) المراد من الذكر هاهنا: أم الكتاب الذي كتب الله فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة، والمعنى أن الله تعالى كتب في التوراة والإنجيل والقرآن وفي الصحف التي أنزلت على الأنبياء جميعاً من بعدما سبقت كتابة ذلك في أم الكتاب في اللوح المحفوظ (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، من كل الأمم المؤمنة بالله تعالى، فإنه تعالى يكفل لهم السعادة والمجد والحكم والفتح، ويوليهم على أمم الأرض بالحق والعدل، وذلك في الدنيا، كما قال تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقال عز وجل: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] فهذه سنة ماضية، وكون بعض الناس يظنون أن أمر الدين أو أمر الإسلام يكون دائماً في انحسار، وأن هذا الدين يمكن أن يأتي يوم يستأصل ولا يبقى منه باقية هو أقبح الظن بالله تبارك وتعالى، وهذا هو عين ما سماه الله عز وجل في سورة الفتح وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12]، ظننتم أنه يستأصل هذا الدين، ولا يبقى منه شيء، فهذا أسوأ الظن بالله الذي يتنزه الله عز وجل عنه، وإنما الأيام دول، وإنما الله عز وجل يبتلي عباده بعضهم ببعض، كما قال عز وجل: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، فالله عز وجل قادر بكلمة (كن) أن يدمر ما على الأرض من الكفر، لكنه يشاء سبحانه وتعالى أن يبتلي العباد؛ لأن هذه دار الامتحان ودار البلاء، فكم من أمم أقوى من هذه الأمم التي تسيطر على العالم اليوم ضاعت وصارت في خبر (كان) هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98]، كم توالت أمم وقوى على ظهر هذه الأرض ثم اندثروا وكانوا في خبر (كان)، فهذه سنة الله عز وجل، فلابد من أن يمكن الله لدينه، لابد من أن تكون العاقبة في النهاية للتقوى، كما قال الله: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، ويقول عز وجل: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5]. وإذا تدبرنا آيات الله تبارك وتعالى في السابقين من المجرمين الهالكين لأيقنا بهذه الحقيقة الكونية التي هي كائنة قبل أن تخلق هذه الدنيا، وهي أن العاقبة تكون للتقوى، يقول الله عز وجل: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] هذا في الدنيا، أما في الآخرة فيورثهم أرض الجنة وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم.

كلام الشنقيطي في تفسير الآية

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]. أظهر الأقوال عندي في هذه الآية الكريمة أن الزبور الذي هو الكتاب يراد به جنس الكتاب، فالزبور هنا لا يراد به خصوص الكتاب الذي نزل على داود عليه السلام، لكن هنا المراد به جنس الكتاب، فيشمل الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل وزبور داود وغير ذلك، والمراد بالذكر أم الكتاب، وعليه فالمعنى: ولقد كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون بعد أن كتبنا ذلك في أم الكتاب، وهذا المعنى واضح لا إشكال فيه. وقيل: الزبور في الآية زبور داود، والذكر التوراة، وقيل غير ذلك، وأظهرها هو ما ذكرنا واختاره غير واحد. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك -كتاب: أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن- أن الآية قد يكون فيها قولان للعلماء، وكلاهما حق يشهد له القرآن، فنذكر الجميع؛ لأنه كله حق داخل في الآية، ومن ذلك هذه الآية الكريمة، فالمراد بالأرض في قوله هنا: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] للعلماء فيه وجهان: الأول: أن هذه الأرض التي يرثها عباد الله الصالحون هي أرض الجنة، يورثها الله يوم القيامة عباده الصالحين، وهذا القول يدل له قوله تبارك وتعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74] ومعنى إيراث الجنة ورد -أيضاً- في سورة مريم في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40]، وفي قوله عز وجل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، ويقول عز وجل: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [الحجر:23]. الوجه الثاني في تفسير الأرض: أن المراد بالأرض أرض العدو يورثها الله المؤمنين في الدنيا؛ لا أنها أرض الجنة يورثها الله يوم القيامة لعباده الصالحين. ونضيف إلى المعنى قوله تبارك وتعالى في سورة المؤمنون: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11] فقد جاء حديث في تفسير هذه الآية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل عبد له مقعد في الجنة ومقعد في النار، فحينما يدخل المؤمنون الجنة يرثون مقاعد الكافرين في الجنة؛ لأن الكافرين يذهب بهم إلى النار، ويرث الكافر مقعد المؤمن في النار.

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]. أظهر الأقوال عندي في هذه الآية الكريمة أن الزبور الذي هو الكتاب يراد به جنس الكتاب، فالزبور هنا لا يراد به خصوص الكتاب الذي نزل على داود عليه السلام، لكن هنا المراد به جنس الكتاب، فيشمل الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل وزبور داود وغير ذلك، والمراد بالذكر أم الكتاب، وعليه فالمعنى: ولقد كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون بعد أن كتبنا ذلك في أم الكتاب، وهذا المعنى واضح لا إشكال فيه. وقيل: الزبور في الآية زبور داود، والذكر التوراة، وقيل غير ذلك، وأظهرها هو ما ذكرنا واختاره غير واحد. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك -كتاب: أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن- أن الآية قد يكون فيها قولان للعلماء، وكلاهما حق يشهد له القرآن، فنذكر الجميع؛ لأنه كله حق داخل في الآية، ومن ذلك هذه الآية الكريمة، فالمراد بالأرض في قوله هنا: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] للعلماء فيه وجهان: الأول: أن هذه الأرض التي يرثها عباد الله الصالحون هي أرض الجنة، يورثها الله يوم القيامة عباده الصالحين، وهذا القول يدل له قوله تبارك وتعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74] ومعنى إيراث الجنة ورد -أيضاً- في سورة مريم في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40]، وفي قوله عز وجل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، ويقول عز وجل: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [الحجر:23]. الوجه الثاني في تفسير الأرض: أن المراد بالأرض أرض العدو يورثها الله المؤمنين في الدنيا؛ لا أنها أرض الجنة يورثها الله يوم القيامة لعباده الصالحين. ونضيف إلى المعنى قوله تبارك وتعالى في سورة المؤمنون: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11] فقد جاء حديث في تفسير هذه الآية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل عبد له مقعد في الجنة ومقعد في النار، فحينما يدخل المؤمنون الجنة يرثون مقاعد الكافرين في الجنة؛ لأن الكافرين يذهب بهم إلى النار، ويرث الكافر مقعد المؤمن في النار.

في هذه الرحمة وجهان:

الأول: أنه رحمة للمؤمنين فقط، وأما الأمم النائية عنه صلى الله عليه وسلم فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته.

الوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم، لكنهم لم يقبلوها، كما يقال: هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون دواء لهذا المرض.

قال الرازي : إنه صلى الله عليه وسلم كان رحمة في الدين والدينا، أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم؛ لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام.

ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قريناً له، قال الله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]، وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى في محاسن التأويل: كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار؛ علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين، وأكبر منة الله به على العالمين، لقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرق من الملل؛ ما بين مشبه لله بخلقه، وملحد في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح وشرك صراح، وفساد عام، وانتهاب للأموال والأرواح، واغتصاب للحقوق، وشن للغارات، ووأد للبنات، وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزلة، واعتقاد لأضاليل المتكهنة، وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامات طبقت أكناف الأرض، استمرت الأمم على هذه الحال الأجيال الطوال حتى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح، فأحدث بعد ذلك أمراً، وجعل بعد عسر يسراً، فإن النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تولت؛ وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولاً ليعتقهم من أسر الأوثان ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من النار والعار، ويرفع عنهم الأصرار، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحق، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].

قال عز وجل: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء:108]، يأمر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يبلغ المشركين ويقول لهم: (إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي: متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له؟ هذا أسلوب قصر، فيه قصر الوحي في كلمة التوحيد: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، وقصر الوحي على استئثاره تعالى بالوحدانية فيه إشارة إلى أن التوحيد هو الأصل الأصيل، وما عداه راجع إليه، فكل ما عدا (لا إله إلا الله) راجع إلى (لا إله إلا الله)، فكأن كل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام إنما المقصود بها تحقيق كلمة (لا إله إلا الله) التي هي كلمة التوحيد وكلمة النجاة، وليس معنى ذلك أن الصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاملات وكل الأحكام لا تدخل في (لا إله إلا الله)، لكن هذا إشارة إلى أن الأصل الأصيل في الدين هو توحيد الله تبارك وتعالى وتحقيق هذا التوحيد، وإذا تأملنا القرآن نجد أن القرآن من أوله إلى آخره كله في التوحيد؛ لأن القرآن إما دعوة إلى التوحيد وتنفير من ضده وهو الشرك، وإما بيان لحال الأنبياء والدعاة الذين دعوا إلى التوحيد، وبيان حال الذين اهتدوا وأسلموا في الدنيا، أو بيان حال القوم الذين أعرضوا، وكيف كان عاقبة المؤمنين في الدنيا نتيجة التزامهم بالتوحيد وحقوق التوحيد، وكيف كان عاقبة الكافرين الذين تولوا عن التوحيد وحقوقه، ثم أحوال أهل الجنة الذين استجابوا لدعوة التوحيد، وأحوال أهل النار الذين أعرضوا عن التوحيد، وإما إخبار بأوامر وتكاليف هي حقوق التوحيد، فإذا قلنا: لا إله إلا الله أي: لا يستحق أن يعبد إلا الله، فكيف إذاً نعبد الله؟

أتت الشرائع لتبني العبادات، وهي من حقوق التوحيد كما جاء في الحديث المعروف: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل)، فهذه كلها من حقوق التوحيد. إذاً: كل الرسالة موضوعها تحقيق لا إله إلا الله، فمن أجل ذلك قصر وحصر الله سبحانه وتعالى الوحي في لا إله إلا الله.

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا [الأنبياء:109] أي: تركوا ما دعوتهم إليه، فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنبياء:109]، أي: أعلمتكم؛ لأن معنى الآذان: الإعلام، (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي: أعلمتكم أني حرب لكم، كما أنكم حرب لي، أنا بريء منكم، كما أنكم برآء مني؛ وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41]، وهذا أيضاً مثل قوله تبارك وتعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58] أي: ليكن علمك وعلمهم لنبذ العهود على السواء، وهكذا هاهنا قال عز وجل: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم ببراءتي منكم، وبراءتكم مني لعلمي بذلك.

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى أيضاً في نفس هذه الآية: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: أعرضوا وصدوا عما تدعوهم إليه: فَََقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم أني حرب لكم، كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنتم برآء مني.

واستدل بنفس هذه الآيات التي ذكرنا، وبين أن معنى (آذنتكم) يعني: أعلمتكم، ومنه الأذان للصلاة وقوله تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ [التوبة:3] يعني: إعلام من الله، وقال عز وجل: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:279] أي: اعلموا، ومنه قول بعض الشعراء:

آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء

يعنى أعلمتنا ببينها، فالمقصود: (فَََقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا، وإن كان بيننا وبينكم أي عهد فقد نقضناه.

إذاً: آذنتكم أي: أعلمتكم، ويكون علمي وعلمكم بهذه الحرب سواء لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6].

فقوله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58] يعني: إن كان بينك وبين قوم عهد وميثاق وخفت منهم الخيانة فأعلمهم أولاً بأن هذا العهد انقضى ولا تغدر؛ فإن الأنبياء لا يغدرون، بل أعلمهم قبل أن تقاتلهم بأنك قد نقضت هذا العهد، فاستويت أنت وهم في العلم بذلك، فليس لفريق عهد ملزم في حق الفريق الآخر.

قال الزجاج : معنى الآية: أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، وهذا تفسير آخر، أي: كل الناس سواء في هذا الحق، لم أظهر لفريق ما كتمته عن فريق، لكنني أعلمتكم جميعاً ما أوحي إلي، ولم أكتم منه شيئاً، وكلكم سواء في العلم بما أوحي إلي، ولم أظهر لأحد شيئاً كتمته عن غيره.

معنى قوله تعالى: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون)

قال تبارك وتعالى: وَإِنْ أَدْرِي [الأنبياء:109] يعني: ما أدري، ما هي النافية وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ [الأنبياء:109] يعني ما توعدون من الفتح عليكم، وإيراث أرضكم غيركم، ولحوق الذل والصغار بعصيانكم، فـ مَا تُوعَدُونَ [الأنبياء:109] واقع لا محالة، لكن لا أدري متى هو، فهو واقع لا محالة، لكن لا علم لي بقربه ولا ببعده.

معنى قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون)