دور المرأة في التربية والدعوة إلى الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن المسلمين لما صحوا من غفلتهم رأوا الهوة بينهم وبين الإسلام عميقة، فقد علموا أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أيقنوا أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشدنا لمنع هذه الفجوة، ويقودنا في المقام الأول -كي نصلح أحوالنا- إلى أن نسلك نفس النهج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الاهتمام بتربية الجيل الأول -الجيل القرآني الفريد- ببناء المجتمع المسلم، وبناء النواة الأساسية له، ألا وهي الفرد المسلم، وكثرت بعد ما يسمى بالصحوة الإسلامية البيوت الإسلامية، وتضاعف عددها عن ذي قبل عشرات، بل مئات المرات، هذه البيوت ينتظر منها أن تقدم اللبنات، أولئك الأفذاذ الذين يشكلون أعمدة رأسية في البناء؛ كي تحمل ثقل هذا البناء فيما بعد، واليوم يعد البيت من أهم المؤسسات التربوية، ودوره أخطر من دور المدرسة والشارع والمجتمع بإعلامه وأنديته وأجهزته، فالبيت يتسلم الطفل من البداية في أهم وأخطر مراحل حياته، فالطفل يولد على الفطرة كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، فإذا قدر لهذا المولود بيئة سليمة نقية حافظت على هذه الأمانة، وهي نقاء الفطرة وصفاؤها، ورسخت في قلبه العقيدة والتوحيد والولاء لله عز وجل ولرسوله.

وأذكر هنا قصة ذكرها أستاذنا الدكتور محمد الصبار حفظه الله تعالى عن الشيخ مالك بن نبي الفيلسوف الجزائري المعروف، فقد جاءه رجل ولدت له بنت، فسأله عن نصائحه وتوجيهاته في تربية البنت، فقال: كم عمرها؟ قال: ثلاثة أشهر. قال: فاتك القطار، فاتك القطار.

فقال بعد ذلك: ظننت أني كنت مبالغاً في هذا الجواب الذي أجبت به ذلك المستنصح. يقول: لكنني لما تأملت حال الناس وجدت أن ما قلته عين الإصابة، وأنني لم أخطئ ولم أبالغ في قولي لهذا الرجل: فاتك القطار؛ لأنه تأخر عن الاستعداد لتربية ابنته لمدة ثلاثة شهور أو تزيد.

يقول: وذلك أن الأم إذا عودت طفلها من اللحظات الأولى على أنه كلما صرخ تلقمه الثدي كي يرضع وتسكته بذلك فإن هذا يشب على نفس هذا الأسلوب التربوي، فكلما ضربه اليهود تراه يفزع إلى مجلس الأمن صارخاً وباكياً!

ففي الحقيقة أن الطفل شديد الصلة ولصيق الصلة بأمه التي تعد العماد الأساسي للعملية التربوية، وأي خطأ ترتكبه الأم الجاهلة خاصة في هذه المراحل الأولى فإنه ينعكس في مراحل بعيدة جداً من حياة هذا الصغير.

والغربيون نجحوا أيما نجاح في دراسة هذه الأمور وتحليلها ودراستها من الناحية النفسية، حتى عرف عنهم أن الأم تبدأ في تربية الطفل قبل أن يولد، فإن الأم في فترة معينة من مراحل نمو الجنين وهو في بطنها تبدأ تمرنه وتعوده على حركات معينة تفعلها، بل إنها تكلمه حتى يتعود على صوتها وهو في داخل رحمها، وتعوده على بعض التعبيرات حتى إذا ما خرج يكون قد ألف هذا الصوت، وتقفز لذلك مراحل كثيرة.

أما نحن فنظل ننظر إلى الطفل في أغلب أحوالنا على أنه مضغة لحم، وأنه لعبة ملهية نتسلى بها ونضحك بها، ويشب على المبالغة في التدليل الذي يفسده، ونعامله دائماً على أنه طفل، وعلى أنه صغير، نحقره ونهمله ولا نهتم به، وهذه من التربية المنحرفة.

فالطفل يبدأ حينما يولد بالتعرف على الأم، فأول ما يبدأ يتعرف على أمه برائحتها، ثم بعد ذلك يتعرف على أمه بصوتها، وتكون لغة الأم هي أول ما يخلده ذلك الطفل.

ومن المعلوم أيضاً أن أثر غياب الأم بالذات في هذه المراحل الأولى من التغذية يفوق أثر غياب الأب على الأطفال، ونلمح ذلك من حكمة الشريعة الحنيفية حينما شرعت حق الحضانة في هذه المراحل الأولى للأم؛ لأن الأب لا يستطيع أن يقدم ما تقدمه هذه الأم.

ومما يدل على خطورة هذه المرحلة طول الفترة التي يقضيها الطفل في البيت أطول من غيرها، كذلك الوالدان هما أقرب الناس إلى الطفل، وينحصر الطفل في مصادر التلقي التي يتلقى منها القيم والمفاهيم والآداب والأخلاق فقط بصفة أساسية في والديه، ويكون أبواه في عينيه أعظم إنسانين في الوجود، فيتلقى كل ما يلقيان إليه بقبول مطلق، لذلك فإن مهمة الأبوين ومهمة الأم المسلمة والأسرة المسلمة في المقام الأول هي المحافظة على هذه الفطرة التي فطر الله تبارك وتعالى عليها الطفل.

مرحلة الطفولة الإنسانية في بني الإنسان أطول منها في سائر الكائنات الحية الأخرى، وما كان ذلك كذلك إلا من أجل أن تتوافر فترة أطول لتربية هذا الكائن المتميز، مما يؤكد خطورة وظيفة البيت في التربية؛ لأن المدارس الإسلامية في العالم الإسلامي الآن قليلة مع وجود كثير من القيود، وفي بعض البلاد تقوم المدارس التي تصنع المستقبل عن طريق صياغة عقول هذه الأجيال وهؤلاء الأبطال، فهي في الحقيقة لا تقصر فقط في تربيتهم التربية الإسلامية التي تؤهلهم كي يكونوا جنوداً لدين الله تبارك وتعالى، ولكي يحملوا الرسالة التي حملها أجدادهم وآباؤهم، وإنما تقوم بالعكس، تقوم بدور تخريبي لإفساد فطرة الأبناء عن طريق المناهج المسمومة، ومن ذلك ما يحصل من بذر بذور الشك في الدين والإيمان، والطعن في الإسلام، وتحطيم حاجز الولاء والبراء بين المسلمين والكافرين، ونسف أخلاق الإسلام نسفاً، وزرع الأفكار العلمانية والأفكار الشركية، ونفخ روح النعرات الإقليمية -خصوصاً الوطنية منها- كالنعرة الفرعونية، وغير ذلك من النعرات، وكذلك تهوين المعاصي على الأبناء.

فنشاهد أن مناهج التعليم تقوم أساساً بدور تخريبي هدام، وكان حرياً بمن شاركوا في فتح هذا الشر المستطير وأعلنوا المؤامرة على التعليم، كان الأولى -لو أن هذه الأمة بقي فيها حياة وغيرة على دينها- أن يحاكموا محاكمة مجرمي الحرب بتهمة الخيانة العظمى؛ لأنهم يدمرون الدين في نفوس الأجيال، ويقتلون الرابطة بينهم وبين دينهم، ويريدون أن يخرجوا أجيالاً تكره الله وتكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أولى من أن يصعد أحدهم إلى منصب أعلى أن يحاكم بتهمة الخيانة العظمى لله ولرسوله وللمؤمنين، ولن نستطرد، وأذكر مثلاً واحداً على موضوع المؤامرة على التعليم والمناهج التعليمية التي يدرسها الآن أبناؤنا:

فهناك كتاب (قواعد اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي) وهو تابع لوزارة التربية والتعليم بمصر، وفي هذا الكتاب فقرة يقرؤها الطلاب والطالبات، ويطلب منهم استخراج بعض الأحكام النحوية واللغوية منها، هذه الفقرة مقتبسة من كتاب (إلى ولدي) لـأحمد أمين، يقول فيها:

قال الأب لأحد أصدقائه متحسراً على الماضي: رحم الله زماناً كان فيه الأب آمر الأسرة وناهيها، فلا راد لقوله، ولا مناهض لرأيه، ينادي فإذا كل من في البيت يتسابقون إلى ندائه، تحدثه الزوجة ويحدثه الابن في إذلال، أما البنت فتحدثه وهي غاضة طرفها من الحياء. فأجابه ذلك الصديق قائلاً: إن أبناءك خلقوا لزمان غير زمانك، لقد نشأت في جو الخيل والطاعة والتقليد، ونشئوا في جو الحرية والتطور والتجديد، فأنت ابن الماضي، وهم رجال المستقبل!

هذا أنموذج عابر؛ لأنه ليس من صلب موضوعنا الآن حتى نكثر ذكر الأمثلة، لكن الشاهد أن أبناءنا يربون على العقوق، على التمرد على الأبوين، على التحرر من سلطان الدين، على إفساد هذه الفطرة التي يودعها الله تبارك وتعالى أمانة في أعناق الآباء وأعناق هذه الأمة.

فهذا مما يجسد أهمية حماية الأجيال والأبناء من هذه اللوثة العقائدية الخطيرة.

وبعض المناهج في بعض البلاد الإسلامية لا توجد فيها أصلاً مقررات دينية، أو بعضها الآخر قد يقدم للطلاب مقررات تعليمية دينية، لكن بعد أن يحصل لها عملية تحريف وتبديل، وتسخير الدين من أجل خدمة قيم هذه النظم وأهدافها.

وحينما نتأمل واقعنا اليوم فنحن نجزم أن كل انحراف موجود فينا إنما منشؤه البعد عن هذه التربية الإسلامية، وأن هذا الانحراف لا يمكن تصحيحه إلا بالتربية الإسلامية، مصداق ذلك في قوله تبارك وتعالى: ِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

إن لم نتدارك خطورة مناهج التعليم فسيخرج من أصلابنا ملاحدة، هذه المناهج تخرج أناساً لا علاقة لهم بالدين، فإن لم يستدرك المسلمون والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى والأمهات بشكل خاص ثم الآباء هذه الأشياء فإننا على خطر عظيم، وهو أن يخرج من أصلابنا ملاحدة وزنادقة يبغضون الله ورسوله، ويصير الإسلام أشد غربة مما هو عليه الآن، فواجب البيت إزاء هذا الخطر هو في شكل من أشكاله وقائي، وفي الشكل الآخر هو علاجي

فالوقائي قبل الالتحاق بالمدرسة، يأتي دور البيت في التربية قبل أن يلتحق الطفل بالمدرسة.

والعلاجي حيث يجب أن يطعم في البيت كما نفعل في تطعيم الأطفال ضد الأمراض والأوبئة، كذلك ينبغي أن يقوم البيت بإعطاء مضادات لهذه السموم التي تعطى لأبنائنا، والتي يتجرعها في المدرسة.

إن تربية الأطفال التربية الوقائية والعلاجية بجانب تربيتهم على القيم الإسلامية التي يستقونها من الأسرة تعين على أن يتغلب على كثير من هذه العقبات.

ثم أيضاً يجب التحذير من قرناء السوء، وقبل ذلك على الرجل إذا أراد أن يتزوج أن يسأل عن العائلة، فيقول: ما شأن عائلتها؟ كيف عائلتها؟ هل هم أناس طيبون؟ ولا ينبغي أن يسأل عن المال ولا الحسب، لكن يسأل عن دور العائلة في الأخلاق والآداب والتربية.

فعلى أي الأحوال إذا استمر الأمر على هذا الإهمال الموجود في الخلية الأولى التي هي الأسرة والأطفال فنخشى أن يخرج من أصلاب المؤمنين ملاحدة، كهؤلاء الملاحدة الذين يخرجون الآن ويعملون معاولهم في عقول الأمة، في الإعلام، وفي الصحافة، وفيما يسمى بالأدب وغير ذلك، فهؤلاء يحملون أسماء إسلامية، وآباؤهم كانوا مسلمين، لكنهم حرموا من هذه التربية، وربوا على أعين أعداء الإسلام، فخرجوا أعداء لله ورسوله والمؤمنين.

ولقد وصل أمر إهمال الدين في التعليم إلى حد أن خريج الجامعة في الغالب لا يتقن قراءة القرآن، وقد يلحن في فاتحة الكتاب إن كان يصلي، علاوة على جهله بالوضوء وبالصلاة والفرائض المتعينة عليه، لماذا؟

لأنه حرم من هذا التعليم.

ومعلوم أنه إذا لم يتعلمه في البيت أو المدرسة فإنه يخرج بهذه الصورة الشوهاء.

حينما نتحدث عن موضوع التربية وخطورة موقع الأسرة يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ولا بد من أن نكون أكثر تحديداً في ألفاظنا، وفي ربط المهام وإناطتها بالمسئولين عنها، فإذا كنا نقول: إنه لا مخرج من الوضع الذي نحن فيه إلا بالتربية فإننا نتدرج إلى القول بأن البيت هو أول مؤسسة تربوية، ثم لا بد أن نكون صرحاء، ونجزم أيضاً بأن الأم هي العماد في العملية التربوية، فإن الواقع الذي نعيشه يؤكد خطورة موقع الأم اليوم في عملية التربية أكثر من الرجل، وفي الواقع الذي نعيشه ربما بعض الناس تكون نفوسهم مهيأة لأن يتبوأ الرجل منصبه الطبيعي، وذلك بقوامته وأنه القيم على كل شيء، بما في ذلك تربية الأولاد، هذا هو المطلوب، وربما بعض الناس يحظون بمثل هذا، لكن الواقع الذي تعيشه عامة الأمة الآن هو أن عملية التربية صارت بسبب أن الأب في الغالب في خارج البيت يكابد مشاق الحياة ويكدح بحثاً عن الرزق الحلال من أجل أن يوفر نفقة البيت ونفقة الأولاد، ويغلب على الأسر الآن في العام الأغلب إهمال الآباء لمسئولياتهم التربوية، فمن حيث الواقع صارت الأم هي المتولية لعملية التربية.

إذاً إذا لم تكن الأم من الأمهات الهاربات، والأم الهاربة هي التي يسمونها الأم العالمة العاملة، فالأم هذه في الحقيقة ليست عاملة؛ لأن عملها في بيتها، وهذه الوظيفة هي أخطر وأقدس وظيفة على الإطلاق، فهذه امرأة هاربة من محل وظيفتها الأساسية وليست امرأة عاملة.

ومما يرشح وظيفة الأم ويؤكد خطورتها أن الأم أكثر ملازمة للطفل من الأب، كذلك الأم أقدر من الأب على معايشة الطفل وتلبية احتياجاته بحب وحنان فطري غرسه الله سبحانه وتعالى في قلبها، فهي تضحي بكل شيء حتى بحياتها في سبيل ولدها الذي هو قطعة من بدنها، ولذلك يلاحظ عندما يرجع الأب من العمل منهك القوى مكدوداً من سعيه في طلب الرزق الحلال أن كل همه أن تكف الأم الضوضاء التي يحدثها الأولاد؛ لأنه يريد أن يستريح أو ينام أو يأكل، فتراه يقول: كفي عني شر هؤلاء الأولاد وضوضاءهم. بخلاف الأم فإنها تكون راضية مطمئنة، فالأم طول عمرها لا تشتكي أبداً، بل تضحي بكل أنواع التضحية، أما الأب فربما إذا كلفته الأم أن يحمل الرضيع -مثلاً- لدقائق معدودات فإنه يضج، وليس عنده صبر في الغالب على مثل هذا، إلا من شاء الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الصبر، ومن أجل ذلك نوه القرآن بمكانة الأم، كما في قوله عز وجل: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، فالأم عبارة عن موظف متفرغ تماماً لهذه الوظيفة الخطيرة، والوظيفة الأساسية للأم بعد عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته هي رعاية الأطفال وتربيتهم.

مما يجسد خطورة هذه القضية أيضاً في الحقل الإسلامي أنه إذا لم توجد الأم المسلمة أو الأخت التي ربيت تربية إسلامية أنه إذا أراد شخص ملتزم أو داعية أن يتزوج فتزوج امرأة غير ملتزمة فإنها تؤثر عليه بالسلب إذا تزوجها ولم تكن على نفس المستوى من القوة في الدين، فإنه ربما تجذبه إلى الوراء، وتشده إلى الأرض حتى يتراجع عن دعوته، ويسقط بتأثير هذه الفتنة على الدرب كثير من الأزواج، وهذه إحدى سلبيات عدم الاهتمام بتربية الأخت أو الأم المسلمة.

وعلى أي الأحول كل هذه الاعتبارات تؤكد ضرورة إعداد الأم إعداداً يتناسب مع مهمتها، فإنشاء الأم المسلمة الواعية الفاهمة هو شيء خطير وعظيم؛ لأنه يعطي النموذج العملي لإعادة الفطرة إلى حقيقتها، مما يؤكد خطورة موقع الأم المسلمة في بناء المجتمع المسلم.

لقد اهتم أعداء الإسلام بدارسة الأم المسلمة، فهذا قائد الطيران الإسرائيلي في حرب عام سبعة وستين وستمائة وألف من الميلاد أعد رسالة ماجستير، أو رسالة في دراسة عليا، هذه الدراسة كانت حول المرأة العربية، فلماذا يهتمون بالمرأة العربية؟ لماذا تعقد هذه الدراسات؟!

إنه من أجل إفسادها، ومن أجل تعطيلها عن وظيفتها الحقيقية والخطيرة، ولأنها تدير داخل البيت مصنع الأبطال والمجاهدين، مصنع الأمهات الصالحات والزوجات التقيات، فهي التي تهز المهد بيمينها، فربما كان هذا الذي يركض في المهد هو الذي سيهز العالم فيما بعد بقوته وعلمه وبأسه وسطوته، ليس هو قطعة لحم ملهية، بل يمكن أن تكون هناك أمم تنتظر أن ينقذها هذا الولد أو هذا الابن مما هي فيه من الذل والهوان.

لقد أدرك الغرب أهمية دور المرأة في بناء الأسرة، فالآن تجد الإعلانات في العالم الغربي كله، في أمريكا وأوروبا تنادي بعود المرأة إلى البيت بمنتهى الصراحة والقوة، بعد أن ثبت فشل هذا الاتجاه وهذه النظرية التي تدعو إلى هروب المرأة من البيت.

ولقد اعتاد بعض الأطباء الأمريكيين -وهو طبيب أطفال- أنه إذا أتته أم من الأمهات الأمريكيات بطفلها المريض أن يكتب في ورقة العلاج: العلاج هو العودة إلى الأم الحقيقية.

إن فطر القوم قد فسدت بسبب هروب المرأة من وظيفتها الأساسية وخوضها فيما ليس من مجالها.

وعلى أي الأحوال فهروب المرأة من بيتها وتخليها عن وظيفة التربية مع انشغال الأب الذي يدفع ثمنه هم الأولاد، ثم المرأة نفسها، ثم زوجها، ثم الأمة بأسرها.

يقول الشاعر:

ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا

إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا

إن التربية هي وسيلة التغيير الأساسية؛ لأن الوسائل الأخرى لإحداث التغيير في المجتمعات إنما تتعامل فقط مع أمور نظرية بصفة أساسية، أعني التغيير الاجتماعي أو العسكري أو الثورة الاجتماعية، إنما تتعامل مع أمور ظاهرية، أما النصوص فلا تتغير بهذه الأساليب، النصوص لا تتغير إلا عن طريق التربية، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونحن حينما نخاطب بهذا المستوى من الأعمار أعمار شباب الصحوة الإسلامية فمن الخطأ أن نقول: نحن نحتاج إلى تربية مع التعاون مع مثل هذا السن فمما يؤسف له أننا بحاجة إلى إعادة تربية الشباب الذي ينتقل من مرحلة عدم الالتزام بالدين إلى الالتزام بالدين، فهو بالفعل قد ربي طبقاً لما نشأ عليه منذ الصغر في بيته، ثم في المدرسة، ثم في الجامعة، ثم في اختلاطه بالمجتمع.

فنحن الآن -فيما يتعلق بالكبار- نحتاج إلى إعادة تربيتهم من جديد، نحتاج أولاً إلى هدم ركام الأفكار المضادة المستقرة منذ فترة، ثم إعادة بناء الشخصية وفق المنهج الرباني كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تصفية العقيدة والقيم والمفاهيم، وبالتالي يتغير السلوك، ثم تأتي الابتلاءات والمحن التي هي سنة كونية من الله سبحانه وتعالى، فيصلب عود المرء ويثبت أمره على دينه ويشغل بذلك، لكننا لا نريد أن نغفل هذا الأمر، وصحيح أننا ننشغل الآن كثيراً بطلب العلم، وبأمور الدعوة، ولكن في الحقيقة ينبغي أن يكون نظرنا إلى الأساس أكثر، أن نعطي الأمور أولوياتها التي تستحقها، ولا ينبغي أن ننظر إلى هذا نظرة احتقار أو ازدراء، أو أن هذا الكلام مثل الواجب في التربية الوطنية، أو التربية القومية، أو كلام صحف، إنما نقول: الأطفال هم المستقبل، وهذه الحقيقة.

لقد كنا في يوم من الأيام أطفالاً، وأي إنسان أدى دوراً من الأدوار فقد كان طفلاً، وظهر حسب التربية فيما بعد، كما هو معلوم أن المستقبل الحقيقي للدعوة والأمة الإسلامية إنما يصنعه هؤلاء الأطفال إن أحسنا تربيتهم من الآن.

لابد من المضي في عدة خطوط: تربية مستمرة للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى علماً وعملاً، فينبغي أن يكون لك تربية علمية منهجية ومرحلية ويكون فيها العلم بجانب العمل جنباً إلى جنب، ثم تربية أطفال الدعاة والمنتمين إلى الدعوة، فهم يأتون في المرتبة الثانية بعد الدعاة.

فلابد من الاهتمام الشديد بأطفال الدعاة، وليس هذا نوعاً من التمييز العنصري، كلا؛ لأن الغالب أن أطفال الدعاة والمنتمين إلى الدعوة قد توافرت لهم بيئة صالحة غير معادية للإسلام أو جاهلة بالإسلام، بل المفروض أن تكون البيئة التي ربينا نحن أبناءنا فيها أفضل من الأجيال الماضية؛ لأن الأخ الملتزم والأخت الملتزمة صارا ركنين أساسين في الأسرة، ولن يعانيا ما عانته من قبل أسرتاهما، وكذلك الملتزم إذا التحى والتزم بصلاة الجماعة وغير ذلك فإنه لن يتلوث ببعض الأمور التي نشأنا عليها من الاختلاط والمفاهيم الخاربة في مناهج التعليم أو في الأسر، وإنما هذا المفترض أن يكون حظه أسعد من غيره؛ لأن هناك أباً مسلماً وأماً مسلمة يوفران عليه كثيراً من العناء، ويوفران عليه كثيراً من المراحل التي قطعها الجيل السابق.

إن عملية تربية الطفل -كما قال مالك بن نبي رحمه الله تعالى- لا تبدأ بالولادة، وإنما تبدأ بانتقاء الزوجة، وإيثار ذات الدين على غيرها، تبدأ عند إتيان الأهل، وذلك بذكر الله سبحانه وتعالى حتى لا ينالهما الشيطان بسوء، أو الولد إن قدر بينهما ولد لم يمسه الشيطان، تبدأ إذا كان الولد نطفة في رحم أمه أو مضغة، وذلك بالدعاء ليل نهار أن يخرج الله من صلبهما من يجعل عز الإسلام على يديه، كما حصل من الأئمة الأجلاء من قبل، فقد كانوا يستعدون للذرية الصالحة كما حكى الله عن عباد الرحمن: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فإذاً العملية بالفعل تبدأ قبل ذلك وقت اختيار الزوجة.

فالشاهد أن أطفال الدعاة المفترض أن العقبات الموجودة في الأسر الأخرى ليست موجودة أمامهم؛ لأنهم متشبعون بروح الدعوة، ومتشبعون بمفاهيمها، فالمفترض أن يكون هؤلاء أجدر من الآخرين، أن يكونوا امتداداً لآبائهم؛ لأن فرصتهم -كما ذكرنا- أحسن من غيرهم.

المرحلة الثالثة: الاهتمام عموماً بتربية أطفال المسلمين، عن طريق المساجد والمدارس ووسائل الإعلام إن أتيح، فإذا نشأ الطفل منذ الصغر على التربية الإسلامية تغلغلت فيه، وأصبحت جزءاً من كيانه، وشكلت سمات ومميزات شخصيته البارزة والثابتة.

يقول أحد المنصرين: يجب نؤثر وأن يدور التفكير في جانب العمل بين الصغار، ونجعله عمدة عملنا في البلاد الإسلامية.

إذا أردتم أن تفسدوا أولاد المسلمين فخططوا بأن تبدءوا مبكرين جداً. يعني: منذ الصغر.

والحقيقة أن كل هذه المقدمة ليست بعيدة عن الموضوع الأساسي الذي قصدنا الحديث فيه، وهو دور المرأة في التربية والدعوة؛ فإننا جميعاً متهمون -ونحن نستحق هذا الاتهام فعلاً- بالتقصير الشديد جداً في حق الأخوات المسلمات، فأغلب خطط الدعوة تهدر حق الأخوات من الاهتمام اللائق بخطورة منصبهن، هذه الأخت هي التي تمارس العملية التربوية واقعياً وحقيقياً، وفي الغالب تجد الإخوة يشتغلون بالأنشطة الخارجية الكثيرة التي تستهلك طاقتهم، ويتركون الجبهة الداخلية خاوية، وإذا تركت خاوية فإنهم سيدفعون الثمن بلا شك.

ونحن حينما نتكلم عن حق الأخوات المسلمات في الاهتمام بهن عند التخطيط في التربية والدعوة فإن هذه ليست منة، وليست لأننا نخاف على الأبناء وليس لهن أهمية في المقام الأول، كلا، بل سنرى كيف كرم الإسلام المرأة وأعطاها من الحقوق ما لم تحظ به المرأة في أي شريعة من الشرائع ولا دين من الأديان.

هؤلاء يقولون: إن المرأة نصف الأمة. ونحن لا نقول: المرأة نصف الأمة. بل المرأة هي الأمة بسائرها، من منا ليس له أم أو أخت أو بنت أو زوجة، هذه هي العلاقات بيننا وبين النساء المسلمات.

درج أعداء الدين على أن يسموا كل من لا يسايرهم في أهوائهم وضلالتهم يسمونه (عدو المرأة)، فكل من لا يمشي في ركابهم يعتبر عدواً للمرأة، ويوصم بهذا اللقب المكذوب.

فمن الذي يعادي المرأة؟! كيف للمسلم أن يعادي المرأة والمرأة هي أمه أو أخته أو زوجته أو ابنته؟! فكيف يعاديها؟! وإذا كانوا يقولون: المرأة نصف المجتمع فنحن نقول للمرأة: أنت نصف الأمة، ثم إنك تلدين لنا النصف الآخر، فأنت أمة بأسرها.

ومن ثم تهتم الشريعة هذا الاهتمام بالمرأة، وقد لاحظنا ذلك كثيراً في الشريعة الإسلامية.

فانظر إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة:233]، أي أنه عندما ينفصل الزوجان بالطلاق يحصل تنظيم لعملية الرضاع ويجعل للمرأة دورٌ في موضوع الشورى في مثل هذه العملية؛ لأن عملية الرضيع مسئولية الزوجين معاً.

قال تعالى: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ [البقرة:233] أي: من الأب والأم مع وقوع الطلاق.

كذلك هناك مواقف كثيرة تبين احترام الشرع لرأي المرأة وتعظيم قدرها، كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى فيما بعد، لكن في موضة العصر المرأة تطالب بالحقوق قبل أن تؤدي الواجبات، والمقصود المرأة غير الصالحة وغير الملتزمة التي تعتني غالباً بالمظهر وتهمل الجوهر، أو تعتني بالجسم قبل الروح، أو تعتني بزينتها في الشارع وتهمل ذلك في البيت، ولا يجوز خارج البيت.

خرجت المرأة في الغرب للعمل وزاحمت الرجال وهي مضطرة غير مختارة؛ لأنها إن لم تفعل ذلك في الغرب ستهلك وتموت جوعاً، فلا تجد من يؤويها وينفق عليها، فالبنت في الغرب إذا بلغت سن الثامنة عشرة تطرد من البيت إلى الشارع، ويمكن أن تقيم في البيت، لكن بشرط أن تدفع فاتورة الهاتف، وفاتورة المياه، وتدفع إيجاراً، وتدفع كذا وكذا وكذا، لكن أين هذا من تكريم الإسلام للمرأة؟! وبعبارة أخرى: أين هذا من تفريغ الإسلام المرأة من أجل اشتغالها بالوظيفة التي كلفها الله سبحانه وتعالى بها؟! فالمرأة في الإسلام هي مكفولة الحاجات ليس عليها نفقة، فإما أنها بنت في بيت أبيها، فأبوها يجب عليه أن ينفق عليها، وإما زوجة تحت رعاية زوجها، فالنفقة مسئولية زوجها، ففرغت من كل ما يشغلها عن وظيفتها الأساسية كما سنبين.

ونحن نحتاج قبل أن نستطرد في بحثنا إلى أن نشير إشارات عابرة إلى تكريم الإسلام للمرأة بعد الإهانة التي تعرضت لها في الجاهلية، فمعروف ما كان يحصل من كراهة الجاهليين للبنات، قال عز وجل: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58-59].

ولما أشرقت شمس الإسلام على المرأة ما نظر الإسلام إلى المرأة كما نظر إليها الآخرون، فالنصارى -مثلاً- نظروا إلى المرأة على أنها عبارة عن جرثومة خبيثة.

وفي الديانة اليهودية والنصرانية المرأة عدو لدود للرجل، وهي شيء خبيث ونجس يجب الابتعاد منه، بل بعض الناس كان يتمدح بأنه يهرب من ذل المرأة لأنه لم يتزوج، ويسوغ فعله ذلك بقوله: إن المسيح لم يتزوج، فهذا يدل على أن الزواج دنس ينبغي على الإنسان أن يتطهر منه ويتنزه عنه.

كذلك عقد في العصر الذي كان يقابل فترة شباب النبي صلى الله عليه وسلم مجلس عن المرأة في فرنسا، كان هذا المؤتمر مجتمعاً كي يناقش: هل المرأة إنسان فيه روح أم ليس فيه روح؟

وإذا كانت فيها روح فهل هي جديرة بالخلاص أم ليست جديرة بذلك؟ ونحو ذلك من الكلام.

وفي آخر المؤتمر قرروا أن المرأة إنسان فيه روح، ولكنها أقل من روح الرجل.

شرع الله سبحانه وتعالى تكريم المرأة بقوله عز وجل: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].

ويقول عمر : (ما كنا في الجاهلية نعد النساء شيئاً، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم) فسوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الإنسانية، فقال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ [الحجرات:13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، و(شقائق): جمع شقيقة.

كذلك سوى الإسلام بينهما في أغلب تكاليف الإيمان، وفي الأهلية كأهلية الوجوب وأهلية الأداء، فهذه ثابتة في حق الرجل وفي حق المرأة.

ويقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10] إلى آخر الآيات.

وقال عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].

ومما يعلم من دين الإسلام بالضرورة أن المرأة عليها ما على الرجل من أركان الإسلام، إلا الصلاة فإنها تسقط عنها في زمن الحيض والنفاس، وتتركها ولا تعيدها لأنها كثيرة، أما الصيام فيسقط عنها في زمنهما فقط كما هو معلوم ثم تقضي، أما الحج فيصح منها في كل حال، إلا الطواف فلا يصح منها حال الحيض.

وكذلك هناك مساواة بين الرجل والمرأة في المسئولية المدنية والحقوق المدنية، قال عز وجل: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32].

ويقول تبارك وتعالى أيضاً: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38] فالمسئولية واحدة.

كذلك هناك مساواة بين الرجل والمرأة في جزاء الآخرة وثواب الآخرة، يقول تبارك وتعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، وقال تبارك وتعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195].

وفي مشاهد القيامة يقول تبارك وتعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد:12].

فالإسلام سوى بين الرجل والمرأة في الإنسانية وفي التكاليف، وفي الجزاء والثواب في الآخرة، فالقضية التي نناقشها اليوم ليست هي قضية المساواة بين الرجل والمرأة وتفاصيل ذلك، وإلا فهناك مجالات ليس فيها مساواة، هناك أحكام تخص الرجل وأحكام تخص المرأة ليس هذا أوان الكلام فيها، لكننا نريد الكلام على موضوع المساواة في قضية بعينها، وهي أن للمرأة حقاً بأن تتعلم وأن تعلم، خصوصاً داخل المنظومة الإسلامية، فلها حق التعليم في ضوء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، فنخص قضية المساوة في الحقوق التعليمية والتربوية والدعوية دون ما عداها؛ لأنها ألصق بموضوعنا، فيقول الله تبارك وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] واضح من هذه الآية أن للمرأة دوراً في الدعوة، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغاية ما في الأمر أن هناك ضوابط لعملها، وأولويات في وظائفها تختص بها عن الرجل.

ونحن عندما نبدأ بهذه القضية يجب أن نطرحها موثقة بأدلتها الشرعية، بأن نزيل عنها ما لحق بها من سوء فهم، ونزيل الشبهات التي أثيرت حولها، فبعض الناس يزعمون أن الدعوة هي واجب الرجال دون النساء، والرد عليهم واضح في قوله تبارك وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71] إلى آخر الآية، ويقول عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

فقوله: (ومن اتبعني) تشمل كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواء أكان من الرجال أم من النساء؛ لأن (من) تشمل كل العقلاء رجالاً كانوا أو نساءً.

كذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وقال أيضاً: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

المرأة المسلمة مارست دوراً في الدعوة، وكان لها أبلغ الأثر في تدعيم هذه الدعوة كما سنبين إن شاء الله تعالى.

فمن هو أول قلب خفق بالإسلام؟

أول قلب خفق بالإسلام واستجاب لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كان قلب خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.

وما أول دم أريق في سبيل الله؟

إنه دم سمية بنت خياط رضي الله عنها.

ومن هي أول فدائية في الإسلام؟

إنها أسماء بنت أبي بكر .

وهكذا فإن للنساء فضائل عظيمة جداً في عامة مسيرة الدعوة.

والتاريخ الإسلامي في هذا الجانب لم يكن مغفلاً أو مهملاً من تاريخ المسلمين الأوائل دور المرأة في الدعوة إلى الله.

يذكر الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه ((ميزان الاعتدال في نقد أحوال الرجال)) آلافاً من الرجال، ثم ختم كتابه بهذه الشهادة، وهي شهادة تزكية للنساء يفخرن بها على طول الزمن.

يقول: ولم أجد من النساء من اتهمت ولا من تركوها.

فالمرأة كان لها دور رائع في بناء الصرح الإسلامي، وانتفعت الأمة من سلاح المرأة، فكان ما كان من المجد والخير.

حتى إذا ما تخلت المرأة عما خلقت له تحول الأمر عما كان عليه، ومصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).

وفّر الإسلام للمرأة كل ما يمكن من الأسباب والظروف التي تؤهلها وتمكنها من القيام بالوظيفة الأساسية بعد عبادة الله سبحانه وتعالى، ألا وهي تربية الأولاد وحسن التبعل للزوج، فرفع عنها مئونة العيش والاكتساب، فلا يجب عليها النفقة والاكتساب والشغل والعمل؛ لأنه فرض على الزوج أن ينفق عليها وعلى أولادها، فلم تعد لها حاجة إلى العمل خارج البيت؛ لأن العمل يقصد به الكسب وتحصيل الرزق، وكفيت هي ذلك لقاء أنها منصرفة ومتفرغة لعمل خطير جليل هو تربية الأولاد في البيت.

كذلك رفع الإسلام عنها إيجاب بعض ما فرضه على الرجال تحقيقاً للغرض ذاته؛ لأن المرأة عبارة عن موظفة متفرغة، وفي الحقيقة هي موظفة كثيراً ما يهدر حقها، وهي ليس لها معاشات ولا مرتبات، وأحياناً كلمة الشكر لا توجد إن لم تكن الأذية والاضطهاد.

فالمرأة تعمل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم والليلة يومياً، فهي تحت أمر أي واحد في البيت، الطفل الصغير ليس له مواعيد، الرضيع يوقظها في أي ساعة من ليل أو نهار، إن كانت نائمة فتستيقظ كي تغذيه وكي ترضعه، وتنظفه وترعاه، بينما الأب قد يتأفف من فعل عشر معشار ما تفعله المرأة، لكن انظر إلى الرحمة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في بيتها، فوفر لها الشرع كل ما أمكن، وذلك لقدسية وظيفتها وخطورة وظيفتها، ولا يصرح لها بالخروج من مكان العمل إلا في أحوال استثنائية، فالأصل أن تظل في مكان العمل مرابطة ليل نهار، ومكان العمل هذا لا يستغني أبداً عنها، ولا يطيق غيابها، وتختل الأمور إذا غابت عنه ساعة من النهار، فلذلك الشرع لأجل هذه الوظيفة الخطيرة رفع عنها كثيراً من الواجبات حتى تظل عاملة في مكان عملها، فهو وفر لها الوقت الكافي للانصراف إلى مهمتها.

فمثلاً: الجهاد في سبيل الله ليس واجباً عليها، فوجوبه على الرجل.

والصلاة في المسجد واجبة على الرجال وليست واجبةً على المرأة.

وصلاة الجمعة غير واجبة على المرأة، إلى غير ذلك من الأحكام التي تدل على أن الإسلام يرغب المرأة في بقائها في بيتها، قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، وفي الحديث: (أما إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن) يعني: عند الحاجة إلى الخروج.

فالمرأة لها أن تخرج من مكان عملها عند الحاجة، كأن تخرج للعلاج، أو لصلة الرحم، أو لدروس العلم، لكن ليس هذا هو الأصل في المرأة تماماً كما يخرج الرجل.

فأعداء الإسلام دائماً يزيفون الحقائق، وذلك بتسمية الأسماء بغير اسمها، عن طريق تسمية الأسماء بأسماء منفرة، أو أسماء ملبسة، فهم يصفون كل ملتزم بدينه بأنه مفرق أو رجعي أو متخلف أو أصولي أو إرهابي، وغير ذلك من الأسماء.

كذلك في هذه القضية نفس الشيء، فيقولون عمن خرجت للعمل: هي المرأة العاملة، ويكتب في البطاقة (تعمل)، أما التي تعمل في بيتها فيكتبون في البطاقة (لا تعمل) وبالتالي يسمونها (ربة بيت) إذاً ربة البيت حسب مفهوم هؤلاء هي التي لا تعمل، وهذا من التدليس الذي أشار إليه بعض العلماء بقوله:

تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير

مدحًا وذمًا وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير

فيخرجون المعاني القبيحة في ألفاظ مقبولة، وبالعكس، ويطلقون على الحق الأسماء المنفرة، فهذه امرأة عاملة، وهذه امرأة عاطلة؛ لأنها ربة بيت، ولأنها متفرغة لرعاية زوجها وأولادها، فهذه مغالطة مكشوفة.

والمرأة في القديم في الحقيقة كان لها عدة وظائف، فالمرأة خياطة، وهي تخدم البيت وتنظفه، والمرأة ممرضة تمارس التمريض وتعالج، وتسهر على راحة أي عضو من أعضاء الأسرة، فهي في حالة رباط دائم ليل نهار، تخدم الجميع، تسهر على المريض، تعد الطعام للجائع، تذاكر لأبنائها التلاميذ، ومع ذلك لا تنتظر جزاءً، وربما حرمت من كلمة الشكر ومن العرفان.

وكانت نهضة المؤمنين أو المسلمين في القرون الأولى سببها المرأة، فنحن ننظر إلى النتائج ونغفل الأسباب، فنفخر بـالشافعي، ونفخر بـسفيان الثوري ، ونفخر بالصحابة ونفخر بالمجاهدين والعلماء والمجددين وننسى من كان وراء هؤلاء.

فهل هؤلاء خرجوا من فراغ؟ لا، بل هؤلاء كان وراءهم من يربيهم، كان وراءهم من يتعاهدهم منذ الصغر وهم أطفال، إنها الأم بصفة أساسية، وكذلك إذا قدر غياب الأب بموت أو غير ذلك كسفر من الأسفار فالأم هي التي تتولى زمام التربية.

وصحيح أننا نتحدث عن عمر بن عبد العزيز وشخصية عمر بن عبد العزيز ، لكن لا ينبغي أن نهمل التربية التي ترباها عمر بن عبد العزيز ، كذلك حينما نتحدث عن الإمام الشافعي -وما أدراك ما الشافعي رحمه الله تعالى- فليس من الإنصاف أن نهمل من صنع الشافعي ، الذي صنع الشافعي ورباه هي أمه التي اجتهدت جداً في تربيته ورعايته ودفعه إلى العلم.

فينبغي حينما نتحدث عن المرأة أن نتذكر الأعمال المهمة الجليلة التي تدور خلف الخدور، أن نتذكر ذلك النشاط المكثف الذي يحصل من المرأة في تربية الأولاد وتغذيتهم بالعقيدة الإسلامية وحمياتهم بها، لا ينبغي أن نغفله ونهمله حتى نعطي المرأة حقها، ونعطيها الآن نفس الدور ونفس الأهمية ونشعر بخطورة موقعها.

فوثب المسلمون الأوائل وثبةً ملئوا بها الأرض قوة وبأساً، وفطنةً وعلماً، فقادوا الأمم، وهابهم الملوك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا، وهامات أفريقيا، وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشرعهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب وتتقلب بها الألسنة، بعد أن كانوا طرائق قدداً، لا نظام، ولا قيام، ولا علم، ولا شريعة.

فمن أين تخرج الجيل الأول؟ في أي المدارس درسوا؟ ومن أي المعاهد خرجوا؟ لقد قطع المسلمون تلك المرحلة التي شهد لها الدهر ووجم لنوعيتها التاريخ ولم يبنوا معهداً ولم يبنوا جامعة، بل كانت دورهم وقصورهم معاهد ومدارس، وتولى أمر هذه المدارس التي تربى فيها الجيل الأول أمهات صدق، أقامهن الله على نشئه، واستخلفهن على صنائعه، وائتمنهن على دعاة حقه ورعاة خلقه، فكن أقوم خلفائه بواجبه، وأثبتهن على عهده، وأمهرهن للفادح الشديد من أمره.

لقد كان الله سبحانه وتعالى أبر بهذه الأجيال من أن يخرجهم مخرجاً سيئاً.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2627 استماع
دعوى الجاهلية 2562 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2560 استماع
التجديد في الإسلام 2514 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2505 استماع
محنة فلسطين [2] 2466 استماع
انتحار أم استشهاد 2438 استماع
تفسير آية الكرسي 2404 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2396 استماع
وإن عدتم عدنا 2395 استماع