خطب ومحاضرات
مسئولية الرجل عن الأسرة
الحلقة مفرغة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فنعود إلى موضوع القضايا التربوية التي سبق أن شرعنا فيها منذ مدة، وقد توقفنا عند مسئولية الرجل عن حماية الأسرة.
فقد قرر الإسلام مكانة عظيمة للأسرة، ويتجلى ذلك في اهتمام الشريعة الإسلامية بشئون الأسرة سواء في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما تضمن من أحكام الزواج والرضاع والطلاق والإرث ونحو ذلك.
واستطاعت الأجيال المتعاقبة أن ترسخ معاني إسلامية عميقة في الأسرة في مجتمعاتنا، وأحس أعداء المسلمين -وهم يحاولون هدم هذه الأمة- صلابة هذه اللبنات وقوة هذا الحصن، ومن أجل ذلك كان هجومهم في الأزمان الأخيرة مركزاً على الأسرة، فاستخدموا كل القوى التي يمكن أن تصل إليها أيديهم وما أكثرها!
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
فمن هذه الأساليب: سن القوانين التي تفكك الأسرة في كثير من بلاد المسلمين.
ومن ذلك أيضاً: شن الحملات على الأسرة عن طريق الفن، بواسطة وسائل النشر والإعلان من قصص ومجلات وصحف وإذاعة وتلفزيون ومسرح وسينما، وما زالوا في طريقهم ماضين.
احتفل هؤلاء بمرور مائة سنة على تحرير المرأة الذي بدأه قاسم أمين منذ قرن كامل، وبعد قرن كامل من هذه الثورة الانقلابية على دين الله سبحانه وتعالى من هذا الرجل نرى الآن حصادها وشؤمها وثمراتها المريرة، وكيف أنها بدأت ناعمة هادئة يدعي صاحبها أنه يريد تطبيق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المسلمين هم الذين يسيئون فهم النصوص.. إلى آخر هذه الأحابيل والحيل، وانتهت بالاحتفال الذي أقيم بمرور مائة سنة على تحرير المرأة -بزعمهم- وتكلم -لا أقول: ناقصات العقل والدين- ولكن عديمات العقل والدين من التلميذات التاريخيات لـقاسم أمين ودعوته المشئومة.
فامرأة من لبنان تجهر وتقول: أنا ملحدة وأفخر بأني ملحدة! وترفض أن توصف بأنها مسلمة. وتقول نوال السعداوي في رسالة للمؤتمر: ينبغي أن نتحدى إرادة الله والعياذ بالله! ومثل هذا مما لا يسوغ نقله وحكايته، وإن كانت حكاية الكفر ليست كفراً، فهذا من حصاد هذه الدعوة المشئومة للتمرد على أحكام الشريعة فيما يتعلق بالأسرة والمرأة.
وهذه الحملات مصدرها أعداء الدين، وقد يدعم هذه الحملات سيطرة النزعة المادية على سواد الناس، وانشغال الناس بجلب المال والكسب والرزق يجعلهم لا يلتفتون إلى خطر هذه الأشياء؛ لأنهم في شغل شاغل عن إدراك ما يحاك لهم.
الأسرة المسلمة كانت مستهدفة من قبل أعدائها، وأصبحت الآن مهددة من قبل أصحابها المسئولين عنها، فنحن دائماً نلقي اللوم على الآخرين من أعداء الدين الذين بالفعل يحاربون الإسلام، لكن ننسى أن أصابع الاتهام ترتد إلينا نحن أنفسنا في كثير من الأحيان!
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وقال في الحديث نفسه: (والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته)، وكلمة (مسئول) أصبح لها معنىً عرفياً عند الناس، تعني: موظف في مكان معين، أو شخصية رسمية مسئولة، وننسى المعنى الحقيقي لكلمة مسئول، فإن معناها: أنه سوف يسأل أمام الله، فكلمة (مسئول) تشير إلى هذا المعنى العظيم والخطير، وهو: أن العبد مسئول بين يدي الله سبحانه وتعالى ومحاسب.
فحينما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته)، لا يتصورن الأب أن الزوجة والأولاد يملكهم كما يمتلك العبيد أو كما تمتلك الأشياء، فيظن أن له أن يقصر أو لا يقصر، ويتصرف كما يشاء، يضرب.. يسيء.. يهين.. يفعل ما يشاء، لا، بل عليه أن يدرك أنه ممتحن ومبتلى بهذه الولاية وهذه المسئولية، وأنه سوف يحاسب أمام الله سبحانه وتعالى عن كل سلوك مع أهل بيته من زوجة وأولاد.
فأمر مهم جداً أن يفهم معنى: (مسئول عن رعيته) وهذا هو لب القضية التي نتناولها؛ لأننا بصفة أساسية نخاطب الرجل الوارث باعتبار أن: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34].
ومن أبرز مظاهر هذه القوامة: أن يقوم الرجل بواجباته الأدبية والتربوية والمادية وغيرها نحو هذه الرعية التي ولاه الله سبحانه وتعالى عليها.
معنى (مسئول عن رعيته): أنه سيقف أمام الله سبحانه وتعالى، وكما سيحاسب على الصلاة والزكاة والصيام وغيرها فإنه سيحاسب عن تصرفاته وسلوكه تجاه أهله وأولاده.
ولم يهمل الإسلام الجناح الآخر في العملية التربوية، خاصة وأن المرأة في بعض المراحل تكاد تستبد بالعملية التربوية خاصة في المراحل الأولى في فترة الرضاعة وما بعدها من الحضانة؛ لأن الطفل يكون شديد الالتصاق بها، وهذه المرحلة أخطر، وهناك أحكام شرعية تشير إلى تخصيص الأم بالحضانة عند انفصال الزوجين، وغير ذلك من الأحكام التي تركز في المراحل الأولى على الأم، كما قال الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعدت شعباً طيب الأعراق
فالنبي عليه الصلاة السلام لم يهمل ولم يغفل هذا الركن الرئيس في التربية، فقال عليه الصلاة والسلام في نفس الحديث: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)، فالأم أيضاً مسئولة أمام الله سبحانه وتعالى عن هذه العبادة الخطيرة، وهي: حسن رعاية أولادها وزوجها وبيتها.
فعلى كل أب وأم أن يستشعرا هذه المسئولية نحو الأسرة، وأن ينتقل هذا الموضوع إلى دائرة الاهتمام، فيصبح شيئاً نلفت النظر إليه، وننتبه إلى خطره، وإلى عظيم أثره في مستقبل هؤلاء الأولاد، بل في مستقبلنا نحن حينما نحاسب أمام الله سبحانه وتعالى في الآخرة.
فلفت النظر إلى الاهتمام بهذه القضية وخطرها هو أول خطوة على الطريق الصحيح، ونحن الآن ينطبق علينا قول الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
فالتيار العام في زمن الغربة الثانية يهدم في كل مكان، ونادراً ما تجد شيئاً يبني، فالمدرس يَهدم ويُهدم.. وكذا الأبوان ووسائل الإعلام.. شلة الأصدقاء.. المجلات.. الجرائد.. الأجهزة المرئية والمسموعة.. وهكذا! فمعظم العوامل المؤثرة عوامل هدامة في زمن الغربة الثانية، وقد رجع الإسلام غريباً كما بدأ غريباً.
فلا شك أن هناك خطراً داهماً ماحقاً يهدد كياننا، والأسرة هي القلعة الأخيرة التي يمكن نجاتها من هذه السهام وهذا التهديد، فآخر قلعة يمكن أن يتحصن بها المسلمون ويحافظوا على أولادهم هي الأسرة.
نرجع بذاكرتنا إلى عقود كثيرة من الزمان أكثر من خمسة وسبعين سنة، فالحكم الشيوعي في الجمهوريات الإسلامية انتهبها وسرقها تحت ما يسمى بالاتحاد السوفيتي الهالك المفكك، ونستغرب الآن حينما تحررت نسبياً كثير من هذه الجمهوريات، من هذا الدب الأحمر؛ كيف استطاع هؤلاء أن يحافظوا على هويتهم وعلى عقيدتهم في ظل الحرب الإلحادية المركزة ليل نهار!!
نجد أن الأسرة هي الكيان الوحيد الذي صمد خلال هذه الفترة سواء في فترات الحكم الشيوعي في هذه الجمهوريات الإسلامية السابقة أو في أوروبا في البوسنة والهرسك وكوسوفو، فالمعقل الوحيد المتبقي على ضعفه هو الأسرة، حتى كانوا يبنون غرفاً تحت الأرض يخفون فيها دينهم، ويعلمون الأولاد الصلاة والقرآن تحت الأرض، ولو علم الشيوعيون بذلك لكان جزاء الأبوين القتل، وأي إنسان يعلم الناس اللغة العربية أو القرآن أو يتكلم بمعنى الإسلام أو يضاد الدعوة إلى الإلحاد وإنكار وجود الله كان جزاؤه القتل في أبشع مجازر وجرائم شهدتها الإنسانية على أيدي هؤلاء الشيوعيين.
فكانت القلعة الحصينة هي الأسرة، فأكثر شعوب العالم الإسلامي غزيت بما يهدد عقيدتها في عدة مجالات، ولا شك أن أخطر المجالات على الإطلاق هي مناهج التعليم، غزينا في الأسواق.. في المتاجر.. في المصانع.. في وسائل الإعلام.. في أدوات تكوين الرأي العام.
ليس هذا فحسب، بل حيل في كثير من بلاد المسلمين بين الدعاة العاملين وبين الناس بعد تشويههم بأنهم متطرفون .. وأنهم رجعيون.. إلى آخر هذه القائمة من المصطلحات التي ما أريد بها إلا أن يصد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى.
فلم يبق لهذه العناصر في كثير من البلاد إلا مجال الأسرة، وبقيت هي المنطلق الوحيد لهؤلاء الدعاة، فلا ينبغي أن نلقي اللوم دائماً على الأعداء ونبرئ أنفسنا، بل كثير منا يتحمل من هذا الأمر أكبر نصيب من المسئولية؛ لأنه باستطاعتنا أن نغير في داخل الأسرة التي لا سلطان لأحد عليها بالإكراه، فإذا تبوأ الأب المسلم والأم المسلمة موقعهما التربوي داخل الأسرة فإنهما ما زالا قادرين على بناء سياج يحمي أولادهم من الأخطار في خارج البيت والأسرة.
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة عدم النظر إلى العواقب
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة روح اللامبالاة
فنحن نتكلم كثيراً عن الحكم بما أنزل الله ثم نقتصر فقط على دائرة الحدود، الحكم بما أنزل الله في كل الأمور الشرعية، أنت إذا رجعت إلى أي كتاب فستجد فصلاً كبيراً اسمه: الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم به والمحكوم عليه.. إلى آخره، فحكم الله في كل شيء، فأنت مطالب أن تحكم بما أنزل الله في بيتك، وأن تدير هذا البيت وفق شريعة الله سبحانه وتعالى، فكثير من الآباء يوجد عندهم روح اللامبالاة بالأولاد، وهذا مضاد للإسلام الذي خاطب الآباء بقوله: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وقال في نفس الحديث: (الرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته)، وقال صلى الله عليه وآله سلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته).
فلا تظن أنك إذا أسأت إلى الأولاد أو إلى الزوجة أن الزوجة ستصبر، وأن الأولاد لجهلهم بحقوقهم ما زالوا صغاراً لا يدركون أنك مقصر، أو يستحيون أن يحاسبوك، لا تظن أنك قد نجوت بهذا، فالسؤال منتظر لك يوم القيامة، فستسأل عن سلوكياتك معهم.
الإسلام نمى في المسلمين الشعور بالمسئولية نحو الأبناء، فليس هناك أمر يحدث في المجتمع ولا يكون له تأثير، وما أروع حديث السفينة الذي يجعل أي عمل من أي فرد له تأثير على المجتمع كله، فهذا الحديث يبين لنا أن روح اللامبالاة تقضي على الأمة كلها.
المسلمون في بلادهم عبارة عن أناس يركبون هذه السفينة، إذ لو أن ذاك الرجل الذي أراد أن يخرق في موضعه من السفينة خرقاً ترك وشأنه، يثقب ثقباً في السفينة ليشرب ولا يؤذي من فوقه، ولم يؤخذ على يده؛ هلك وهلكوا، وآل الأمر من أصغر خرق إلى أوسع خرق، ثم البحر يبتلعهم جميعاً، فإذا استسلمنا جميعاً لروح اللامبالاة فلا شك أن ركاب السفينة جميعاً سيغرقون.
ومظاهر الشعور باللامبالاة كثيرة جداً، وهذا الكلام ينكأ كثيراً من الجراح عند بعض الناس؛ لأن بعض الآباء لم يعرف ابنه في السنة كم ذهب إلى المدرسة، وليس عنده أي خبر على أنه ابنه كثير الغياب، وهو يظن أنه خلق لينفق المال، وهو غير مقصر مع أولاده ما دام أنه يعطيهم مالاً، فيهمل أولاده تماماً حتى أن بعضهم لا يعرف ابنه في أي سنة دراسية بلغ أو في أي مدرسة يدرس، فهناك نوع من اللامبالاة والإهمال يعكس فعلاً تمكن الأمية التربوية في مجتمعنا.
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة لزوم التقاليد الاجتماعية وقلة العلم بالدين
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة تسلط المرأة على إدارة البيت
فمن هو قائم على شيء فهو أفضل منه، فما دام الرجل قواماً على المرأة فهو بلا شك أكمل من المرأة، وأقدر على الإدارة من المرأة، فشأنه أن يكون مطاعاً لا مطيعاً، ومتبوعاً لا تابعاً.
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فإن شاء أعلاها وإن شاء سفلها
وقد استشرى داء تسلط المرأة وطغيانها في أوساطنا بسبب التفلت، وهو من أخطر الأمور وأكثرها إيذاء، وينتج عنه كثير من الاضطرابات النفسية، أو يزيد من الاضطرابات النفسية إن كانت موجودة، وهذه المصيبة يدفع ثمنها غالياً.
فقد تقترح المرأة أن تلبس البنات لباساً لا يقره الإسلام بحجة أنهن صغيرات، وأن الناس هكذا يعملون، وأن المصلحة في مسايرة الزمان، وتظل توسوس لزوجها كما يوسوس الشياطين إلى أن ينهزم الرجل ويستسلم.
قد ترى المرأة تقوم بألوان من الاستقلالات التي لا يقرها الإسلام، ويضعف الرجل ويوافق، ويكون في هذا هدم للأسرة، فهذا انتكاس وقلب للأوضاع، حيث تبقى المرأة هي المسيطرة على الرجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الكلام على أمارات الساعة: (أن تلد الأمة ربتها) يعني: ينقلب المخدوم خادماً، والخادم مخدوماً.
وليست القوامة أن شخصية المرأة تلغى، لكن جعل الله سبحانه وتعالى القوامة في حدود شرعه، فلا شك أن القوامة هي عملية تنظيمية وليست عملية استبدادية أو استعبادية كما يزعم أعداء الله عز وجل وأعداء المرأة الذين يزعمون أنهم أنصارها، فمهما يكن من أمر فلا شك أن إلغاء شخصية الرجل أكبر خطراً وأعظم أثراً.
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة طغيان الحنان والشفقة
فيكون الولد ملكاً في البيت ما يأمر به من أمر إلا يسمع له ويطاع، حتى لو خرب ميزانية المنزل، فمثلاً يريد لعباً من المحل الفلاني رآها وهو يمشي في الطريق، أو يريد يرى قريبه، فينقلب الأب منفذاً، ويتخلى عن التاج الذي وضعه الشرع على رأسه، ويصبح هذا التاج فوق رأس الطفل، وتصبح وظيفة الأب هي تنفيذ أوامر الأطفال الصغار، ويسارع في تحقيق رغباتهم مع أنهم لا يعرفون من الحياة شيئاً، ولا يدرون ما ينفعهم ولا ما يضرهم.
فكثير من أجيال المسلمين اليوم لم يجدوا في والديهم إلا الحنان المحض أو الإهمال اللامبالي، فهذا هو التطرف، وهو الأخذ بأطراف الأمور، إما إغراق في الحنان بصورة فيها تطرف وغلو بحيث إنه يصل إلى أن الولد يمسك زمامه، ويوجهه إلى ما يريد، خاصة في بعض الأسر المترفة التي عندها يسار، فيقول الأب: عندنا أموال فلماذا ننكد عليه؟ فيظل مهما أمر يقول الأبوان: سمعنا وأطعنا يا مولاي!
ويحصل هذا القلب للأوضاع، فالمرءوس يصير هو الرئيس.
والإهمال واللامبالاة بالأولاد غالباً يكون من الأب بسبب انشغاله بالرزق أو سفره إلى الخارج كي يجلب لهم المال، وأحياناً قد يسافر الأب والأم معاً إلى الخارج، ويبقى الأطفال ضحية للضياع ولأصدقاء السوء، وفي ذلك من المفاسد ما لا يخفى.
وبسبب هذا التطرف من ناحية الحنان المحض الزائد أو من ناحية الإهمال واللامبالاة المطلقة رأينا أجيالاً فيها الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة.
يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله تعالى تعليقاً على هذه النقطة: سمعت من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن رجلاً جاء يسترشده لتربية بنت ولدت حديثاً، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار!
قال: وكنت أظن في بادئ الأمر أنني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أنما قلته هو الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، ويظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه!
وبعض الناس يسمع هذا الكلام ويخطئ في تنفيذه، فهذا الكلام له ضوابط، فالطفل لغته الوحيدة التي يستطيع بها التفاهم مع المحاطين به هي البكاء، فبعض الناس يقول: ما دام أن الطفل يبكي إذاً نعاقبه وإن كان رضيعاً ابن شهر أو شهرين، مع أن البكاء هو طريقة الحصول على الطعام، فالطفل لا يستطيع أن يقول للناس: أريد أن أرضع، فالبكاء هي اللغة والوسيلة الوحيدة التي يستطيع الطفل أن يعبر بها عما أراده، والبكاء أنواع:
بكاء بسبب المرض، بكاء بسبب الجوع، بكاء بسبب الحر، بكاء يريد به أن ينظف وتزال عنه القاذورات مثلاً، فأسباب البكاء كثيرة، فاللغة الوحيدة للطفل هي لغة البكاء، لكن دلالاتها تختلف، والأم التي عندها خبرة تربوية عالية تستطيع أن تميز كل نوع من أنواع البكاء، وتعرف أن هذا بسبب المرض، وهذا بسبب الجوع، وهذا بسبب الحر.. وهكذا.
عندما كان الرجل في سابق الأيام مسيطراً على البيت كانت جلادته وصلابته تخففان من لين الوالدة، أما بعد أن استنوق الجمل في كثير من الأوصاف، -استنوق: أي: صار الجمل ناقة-، وأصبح الرجل يتصف بهذه الأوصاف، ولا مهمة له إلا القيام بالخدمات وجلب الأغراض والحاجيات، ودفع المال والنفقات؛ لم يعد يملك من أمر بيته إلا اليسير كما هو شأن هذا الجيل المائع المنهار.
وعلى المرأة المسلمة وظيفة أساسية وهي أن تحافظ على وضعية زوجها وأبي أولادها أمام الأولاد؛ لأنها إذا حاولت هدم هذه الوضعية فالجميع سيدفع الثمن، الزوج والزوجة والأولاد، فحينما تريد أن تنتقم من الأب بأن تشوه صورته أمام أولادها تنقص قدره، وتظن أنها سوف تفوز بانحياز الأولاد إليها؛ فإن هذا يفقدها سلاحاً في غاية الأهمية، وضرورياً لصيانة هؤلاء الأولاد، وإذا غاب سلطان الأب وضعف على الأولاد، فلا شك أن هذا ثمنه فادح.
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة الشغل المتواصل
فالأب إذا كان يأمر بشيء والأم تأمر بعكسه، يحتار الطفل بينهما، أو الأم تعاند الأب أمام الأولاد، وتحاول أن تكسر كلامه، وتخرق توجيهاته، فهذا كله يدفع ثمنه الأولاد، ولا مخرج منه إلا بالاتفاق على أساليب تربوية معينة تدور على التنسيق والتكامل بين الطرفين، والآن الرجل في الصباح يسارع إلى عمله الدنيوي، ولا يعود إلا متأخراً ليأخذ قسطاً من الراحة، وخلال هذه الفترة تمنع الحركات والهمسات، ولا يستطيع أحد أن يتكلم معه، ثم لا يعود في المساء إلا في ساعة متأخرة من الليل ليجد أهل البيت نياماً!
بعض الآباء يستعملون البيت مثل الفندق أو (اللوكندة) يأتي ليبيت فيه ثم في الصباح ينصرف، ولا علاقة له بالعملية التربوية، فيعود في المساء ليجد الأولاد نياماً، ويذهب في الصباح أيضاً وهم نائمون، ولا شك أن هذا أمر مستنكر من عموم الناس، وهو من المتدينين أشد استنكاراً؛ لأن هذا الأخ المتدين سيجد نفسه بعد مدة -بمرور الزمن- في واد وزوجته وأولاده في واد آخر، يحلم أن أولاده سيكونون ملتزمين، ومن أين سيأتي الالتزام بهذه الطريقة؟! لا بد أن يكون هناك توجيه وتربية وتخطيط وآداب ومعاونة، أما مجرد الأماني فلا تنفع، قال الله: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [النساء:123].
هذا شيء طبيعي، ويأتي بعد ذلك الأب يشكو أن ابنه منحرف مع الأولاد ويفعل كذا وكذا.. أو لا يصلي أو إلى آخر هذه الشكاوى، فهل ستأتي له من السماء وتنزل عليه هذه الاستقامة أم لا بد من الأخذ بهذه الأسباب؟!
فبمرور الوقت تزداد الهوة والفجوة بين الطرفين، لا شك أنه سيندم ولاة ساعة مندم، وهذا الشغل لم يقتصر على الرجل، بل شمل في بعض الأسر المرأة التي تترك بيتها طوال النهار، وتكل تربية أبنائها وإعداد بيتها للخادمة؛ فيكون من ذلك الضياع التام.
إما الخادمة وأحياناً يكون الشارع، وأحياناً ملاجئ الإيواء التي يسموها الحضانة وغيرها من الأسماء، لكن هي أماكن مجرد إيواء، هل ممكن أن يقدم للطفل من الرعاية في هذه الأماكن عشر معشار ما تقدمه الأم في البيت؟ لا يمكن أبداً.
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة عدم تقدير المستقبل والنظر إلى العواقب
فالآباء يفعلون كثيراً من التصرفات دون أن يدركوا أن هذه التصرفات لها أثرها على أولادهم في المستقبل، وعندما نقول: الآباء ندرج ضمن هؤلاء أيضاً المدرسين؛ لأن الطفل يقضي مع المدرس وقتاً ليس بالهين في المدرسة، ويتلقى العلم على الأساتذة، ويتسرب إليه من رفقائه كثير من المفاهيم، ونحن نتصور أنه شيء هين عادي، لكن هو يترك أثراً في نفسية هذا الطفل خاصة إذا تكرر، فمثلاً الطفل الذي يرسم رسماً ليس فيه روح، فيأتي إلى المدرس أو المدرسة وهو منبهر أنه رسم في حصة الرسم الشيء المطلوب منه حديقة أو بحراً أو كذا، فالمدرسة دائماً ترد على كل طالب مهما كان مجيداً للرسم: سيأتي نفس هذا الرسم! فهذه أكبر كلمة تقال! وهي كلمة عابرة، والمدرسة متصورة أنه شيء سهل هين، لكن الطفل يصطدم صدمة شديدة، ويفقد الثقة بنفسه؛ لأنه قيل له الألفاظ المعروفة، فيبوء بالخيبة والفشل، ولا يجد أملاً!
تصوروا أن هذه حوادث عابرة تترك تأثيراً عظيماً في الطفل حتى الطفل الرضيع والجنين في بطن أمه يتأثرا بكثير من الأشياء كما سنبين.
ومثلاً يرد الطفل على الهاتف، فيسأل المتصل عن أمه أو أخيه أو أبيه فيقول له: قل له: إنه غير موجود، ويتصور أنه حادث عادي، دون أن يدرك أن هذه السلوكيات في المستقبل لها أثر هدام في سلوكيات الأبناء.
فأكبر خطر وأكبر مشكلة أننا نتعامل مع الطفل دائماً بعقلياتنا نحن، فالشيء الذي نراه مساوياً تماماً لعقلنا نكافئه عليه، ونعاقبه إذا قصر في هذا مع أنه لا يد له في ذلك، وأنت لما كنت طفلاً كنت مثله، وكانت إمكاناتك قليلة، وخبراتك قليلة، وإنما تتعلم عن طريق التجربة والخطأ والتلقين والقدوة وغير ذلك من الوسائل، ومن الخطأ الشديد تعذيب الأولاد بالضرب والإهانة والتحقير، ويريدون بذلك أن يتصرف الطفل تصرفاً سليماً صحيحاً.
فترى الأب يغضب ويعاقب ابنه للتشفي منه في حين أنه ليس عليه ذنب، فالشرع الشريف قد رفع عنه القلم، ولم يؤاخذه حتى على الصلاة إلى سن العاشرة، وقبلها يؤمر فقط بالصلاة إذا بلغ السابعة فما بالك بما دون ذلك؟!
فالشاهد أننا مع الأطفال نتهاون في التصرف أمامهم بتصرفات دون أن نقدر خطرها عليهم في المستقبل، ونتصور أن السكوت على أمر ما هين يسير، ولكن السكوت على هذا الشيء قد يهدم الأسرة هدماً تاماً!
قد يتصور الأب أن أولاده الصغار لا يستحقون أن يخصهم بجزء من وقته الثمين، فهو يضحك ويسخر منهم، ولا يأمر واحداً منهم بخير، ولا ينهاه أو يحذره من شر، ولا يقدر المستقبل، ولا يدري أن هذا الطفل الصغير سيكون بعد مدة وجيزة رجلاً كبيراً، وقد يكون له شأنه في البيت وفي المجتمع كله.
هذا هو الأمر الأول الذي ينبع من أنفسنا، ونسيء به إلى أبنائنا، وهو عدم تقدير المستقبل، ولا نحس بخطورة الإهمال الذي نتمادى فيه تجاه الأولاد، فهذا له ثمن فيما بعد، فهو يراك -مثلاً- حينما تعق أباك أو تعق أمك، فهذا درس عملي له، وسوف يتسرب إليه نفس هذا الشيء فيما بعد، ويفعل نفس الشيء فيعقك أنت، قال تعالى: جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26].
فالسلوكيات التي تمر بصورة عفوية ولا ندرك خطرها في المستقبل، هي تنزرع في أعماق هذا الطفل حينما يشب وينشأ عليها، فهذا هو الأمر الأول: عدم تقدير المستقبل والنظر إلى عواقب سلوكياتنا مع الأبناء.
من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة لزوم التقاليد الاجتماعية المتعفنة وقلة العلم بالدين
وهذه الأمور تختلف من مكان إلى مكان، لكنها في كل مكان تسيء في عملية بناء الأسرة بناءً متيناً أو تؤثر في محاولة الإبقاء عليها أمام هذه الأعراف، فالتقاليد الاجتماعية المتعفنة راسخة وظاهرة وكثيرة ومعروفة مع الجهل بالدين، فتسيطر على الناس التقاليد والأحوال الاجتماعية بسبب الجهل بالشريعة الإسلامية.
أول هذه الأمور التي تعرض الأسر للخطر: عدم تقدير المستقبل، فكثيراً ما يتصرف الناس بعض التصرفات، ثم لا يقدرون أثرها في المستقبل، وهذا أمر خطير في التعامل مع الطفل منذ فترة الولادة مباشرة كما سنبين بالتفصيل، وربما تمتد إلى فترة المرحلة الابتدائية، فنظرة بعض الآباء للطفل أنه عبارة عن لعبة يتلهى بها، وينظر إليه بازدراء، وأنه ما يأتي منه شيء، وهو ما زال صغيراً، فيحرم كثير من الخير الذي كان يمكن أن يحصله، وأيضاً تزرع فيه كثير من الأمور الهدامة لنفسية هذا الطفل، مما يجعله لا يثق بنفسه أو ينشأ مشوهاً نفسياً. فالآباء يفعلون كثيراً من التصرفات دون أن يدركوا أن هذه التصرفات لها أثرها على أولادهم في المستقبل، وعندما نقول: الآباء ندرج ضمن هؤلاء أيضاً المدرسين؛ لأن الطفل يقضي مع المدرس وقتاً ليس بالهين في المدرسة، ويتلقى العلم على الأساتذة، ويتسرب إليه من رفقائه كثير من المفاهيم، ونحن نتصور أنه شيء هين عادي، لكن هو يترك أثراً في نفسية هذا الطفل خاصة إذا تكرر، فمثلاً الطفل الذي يرسم رسماً ليس فيه روح، فيأتي إلى المدرس أو المدرسة وهو منبهر أنه رسم في حصة الرسم الشيء المطلوب منه حديقة أو بحراً أو كذا، فالمدرسة دائماً ترد على كل طالب مهما كان مجيداً للرسم: سيأتي نفس هذا الرسم! فهذه أكبر كلمة تقال! وهي كلمة عابرة، والمدرسة متصورة أنه شيء سهل هين، لكن الطفل يصطدم صدمة شديدة، ويفقد الثقة بنفسه؛ لأنه قيل له الألفاظ المعروفة، فيبوء بالخيبة والفشل، ولا يجد أملاً! تصوروا أن هذه حوادث عابرة تترك تأثيراً عظيماً في الطفل حتى الطفل الرضيع والجنين في بطن أمه يتأثرا بكثير من الأشياء كما سنبين. ومثلاً يرد الطفل على الهاتف، فيسأل المتصل عن أمه أو أخيه أو أبيه فيقول له: قل له: إنه غير موجود، ويتصور أنه حادث عادي، دون أن يدرك أن هذه السلوكيات في المستقبل لها أثر هدام في سلوكيات الأبناء. فأكبر خطر وأكبر مشكلة أننا نتعامل مع الطفل دائماً بعقلياتنا نحن، فالشيء الذي نراه مساوياً تماماً لعقلنا نكافئه عليه، ونعاقبه إذا قصر في هذا مع أنه لا يد له في ذلك، وأنت لما كنت طفلاً كنت مثله، وكانت إمكاناتك قليلة، وخبراتك قليلة، وإنما تتعلم عن طريق التجربة والخطأ والتلقين والقدوة وغير ذلك من الوسائل، ومن الخطأ الشديد تعذيب الأولاد بالضرب والإهانة والتحقير، ويريدون بذلك أن يتصرف الطفل تصرفاً سليماً صحيحاً. فترى الأب يغضب ويعاقب ابنه للتشفي منه في حين أنه ليس عليه ذنب، فالشرع الشريف قد رفع عنه القلم، ولم يؤاخذه حتى على الصلاة إلى سن العاشرة، وقبلها يؤمر فقط بالصلاة إذا بلغ السابعة فما بالك بما دون ذلك؟! فالشاهد أننا مع الأطفال نتهاون في التصرف أمامهم بتصرفات دون أن نقدر خطرها عليهم في المستقبل، ونتصور أن السكوت على أمر ما هين يسير، ولكن السكوت على هذا الشيء قد يهدم الأسرة هدماً تاماً! قد يتصور الأب أن أولاده الصغار لا يستحقون أن يخصهم بجزء من وقته الثمين، فهو يضحك ويسخر منهم، ولا يأمر واحداً منهم بخير، ولا ينهاه أو يحذره من شر، ولا يقدر المستقبل، ولا يدري أن هذا الطفل الصغير سيكون بعد مدة وجيزة رجلاً كبيراً، وقد يكون له شأنه في البيت وفي المجتمع كله. هذا هو الأمر الأول الذي ينبع من أنفسنا، ونسيء به إلى أبنائنا، وهو عدم تقدير المستقبل، ولا نحس بخطورة الإهمال الذي نتمادى فيه تجاه الأولاد، فهذا له ثمن فيما بعد، فهو يراك -مثلاً- حينما تعق أباك أو تعق أمك، فهذا درس عملي له، وسوف يتسرب إليه نفس هذا الشيء فيما بعد، ويفعل نفس الشيء فيعقك أنت، قال تعالى: جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26]. فالسلوكيات التي تمر بصورة عفوية ولا ندرك خطرها في المستقبل، هي تنزرع في أعماق هذا الطفل حينما يشب وينشأ عليها، فهذا هو الأمر الأول: عدم تقدير المستقبل والنظر إلى عواقب سلوكياتنا مع الأبناء.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
قصتنا مع اليهود | 2627 استماع |
دعوى الجاهلية | 2562 استماع |
شروط الحجاب الشرعي | 2560 استماع |
التجديد في الإسلام | 2514 استماع |
تكفير المعين وتكفير الجنس | 2505 استماع |
محنة فلسطين [2] | 2466 استماع |
انتحار أم استشهاد | 2438 استماع |
تفسير آية الكرسي | 2404 استماع |
وإن عدتم عدنا | 2395 استماع |
الموت خاتمتك أيها الإنسان | 2395 استماع |