فضل الذكر


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي جعل ذكره لذة للمتقين، يتوصلون به إلى خيرَي الدنيا والدين، وجُنة واقية للمؤمنين سهام الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين، من طوائف الخلق أجمعين.

وصلى الله على خير البشر الذي أُنزل عليه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، فبيّن للعباد من فضائل الأذكار، وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار، ما ملأ الأسفار، وتناقلته ألسن الرواة في جميع الأعصار، وعلى من صاحبه ووالاه، وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً لا يدرك منتهاه.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتْ فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم! آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له، فشفاه)، هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه كما ذكرنا عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين)، وهذا فيه استحباب عيادة المريض، ( قد خفت ) أي سكن وسكت، والمقصود أنه ضَعُف وسكن وسكت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هل كنت تدعو بشيء -أي: هل كنت تدعو الله بشيء- أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا) أي: أنه تمنى أن تعجل له العقوبة، فنفس هذا اللسان ونفس هذا الفم الذي خرجت منه هذه الدعوة فاستجيبت كان يمكن أن يخرج منه سؤال الله العافية فتستجاب أيضاً؛ لأنا نهينا عن تمني البلاء، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا)، لكن ليس للإنسان أن يسعى إلى استجلاب البلاء، ولا أن يتمناه، فربما صدر منه الضجر أو الشكوى أو التسخط على قدر الله عز وجل، فإن للبلاء أهلاً كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه حينما دخل عليه، يقول: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك -أي: مريض-، وعليه قطيفة، يقول: فوضعت يدي على جبهته فقلت: ما أشد حماك يا رسول الله! قال: نعم، إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فللبلاء أهل ذكروا في هذا الحديث أو في غيره من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، فللبلاء أهل، فمن لم يكن من أهل البلاء ربما لم يطقه فصدر منه السخط، لكن إذا ازداد يقين العبد وابتلي فإن الله يعينه على الصبر على ذلك، لذلك كان السلف والصالحون -كما جاء في الحديث- كان أحدهم أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء؛ لقوة يقينهم فيما عند الله عز وجل من الثواب، أو لأنهم أمثل الناس وأشدهم تمسكاً بطريق الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلاته زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالعبد إذا ابتلي رغماً عنه بعد أخذه بالأسباب وسعيه حسب الإمكان فإن الله تعالى يعينه حينئذ، وأما إذا استجلب لنفسه البلاء بتقصير أو تراخ في الأخذ بالأسباب فإنه يوكل إلى نفسه ولا يعان إلا أن يشاء الله عز وجل.

ففي هذا الحديث كان هذا الصحابي يدعو الله عز وجل: (اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا) أي: حتى يأتي يوم القيامة وليس عليه شيء يستحق العقوبة من أجله، ويصفو له الثواب بدون كدر، فنفس هذا اللسان الذي دعا هذه الدعوة في وقت الإجابة فاستجيبت له كان بإمكانه أن يدعو بالعافية كما جاء في الحديث الضعيف: (إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي) فهذا حديث ضعيف معروف، لكن المقصود أن العافية أوسع، والذي يستجيب لك في الدعاء بالبلاء يستجيب في الدعاء بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد خفت -أي سكن وسكت وضعف حتى صار مثل الفرخ-: (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم) .

وهذا الحديث من الأحاديث التي تبين خطورة عدم فقه الدعاء، فلابد أن يكون الإنسان محيطاً ومتعلماً فقه الدعاء وغيره من العبادات، فهناك بعض الأمور التي تعين الإنسان على اغتنام أوقات الإجابة، وتحري الأمور التي تجعله مجاب الدعوة، وهناك بعض الأمور التي لابد أن يزيلها قبل أن يدعو، وهناك شروط في نفس الدعاء حتى يستجاب، فهذا الرجل لما لم يكن عنده فقه دقيق بآداب الدعاء وأحكامه وقع في هذا الخطأ، فدعا الله عز وجل وتمنى البلاء، فاستجاب الله له وآتاه هذا البلاء، وهذا كما قال عز وجل: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11]، (فقال: نعم، كنت أقول: اللهم! ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله!) أي: أنه تعجب، وهذا دليل على جواز أن يقول الإنسان إذا تعجب من شيء: سبحان الله، (سبحان الله! لا تطيقه، أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم! آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، وأشهر الأقوال في تفسير حسنة الدنيا أنها العبادة والعافية، وحسنة الآخرة هي الجنة والمغفرة، (قال: فدعا له صلى الله عليه وسلم فشفاه الله عز وجل)

ففي هذا الحديث النهي عن تمني تعجيل العقوبة، وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، فكان المفروض أن يقولوا: اللهم! إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، أو فارزقنا اتباعه، أما أن يتمنى الإنسان البلاء، ويطلب العقوبة فهذا من عدم الفقه في عبادة الدعاء.

فهذا الحديث فيه فضل الدعاء: (اللهم! آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) وهذا الدعاء يقال أيضاً عند الكرب، وفيه استحباب عيادة المريض والدعاء له، وفيه كراهية تمني البلاء؛ لئلا يتضجر منه ويسخطه وربما شكى، وكما بينا فإن عدم الاهتمام بفقه الدعاء قد يحول دون استجابة هذا الدعاء، وإذا استجيب له فقد يقع الإنسان في بلاء وكرب، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر بعض أدعيته الطويلة: (وأعوذ بك من دعوة لا يستجاب لها)، إذاً فالدعوة التي لا يستجاب لها دعوة شريرة، وقد بلغ شرها وشؤمها أن النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها.

وقال في حديث آخر: (وأعوذ بك من دعاء لا يسمع) أي: لا يستجاب، فقول المصلي: سمع الله لمن حمده، أي: أجاب الله من حمده، هذا ما تيسر فيما يتعلق بالحديث السابق الذي رواه أنس رضي الله عنه.

ثبت في كثير من الآيات والأحاديث فضل الذكر ودعاء الله عز وجل، فمن هذه الآيات قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]. ومنها أيضاً: قوله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، فالشكر يتعدى باللام تقول: قد شكر الله لك، أو شكرت له، وهذا أبلغ من أن تقول: شكرته أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]. وقال عز وجل: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]. وقال جل ذكره: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]. وقال عز وجل مخاطباً نبيه زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما سأل الله أن يجعل له آية قال: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كثيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، فقد عطل لسانه عليه السلام عن كل كلام إلا ما كان فيه ذكر، (( آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ))، فكان إذا أراد أن يتكلم عطل لسانه، وامتنع عن النطق إلا إذا كان هذا الكلام بذكر الله عز وجل. وسأل موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ربه أن يجعل له وزيراً: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:29-32] لماذا كل هذا؟ كَيْ نُسَبِّحَكَ كثيراً * وَنَذْكُرَكَ كثيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:33-35]. وقال أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً بعد ما أخبره أنه يحبه، فقال له: (لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، فدل هذا على أن الذكر ليس بالسهل، بل يحتاج إلى معونة من الله عز وجل؛ حتى يصرف عن الإنسان الصوارف الشاغلة التي تحوَّل همته من هذه الكنوز العظيمة التي يفوز بها إذا اشتغل بذكر الله عز وجل. وقال سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كثيراً [الأحزاب:21]، وقال عز وجل: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، وقال عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:28-29].

الإكثار من ذكر الله

الآن نقف عند إحدى هذه الآيات، وهي آية سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]. إذا تأملنا القرآن الكريم والسنة الشريفة فإنا نجد أن كل عبادة من العبادات لها وصف محدد أو عدد محدد لا يجوز عنه، فالحج مثلاً يكون مرة واحدة في السنة، والصيام الواجب هو صيام شهر رمضان، والزكاة يشترط فيها مثلاً حولان الحول، وهناك شروط أخرى، فكل عبادة لها وقت، ولها عدد، ولها هيئة مخصوصة وأوقات مخصوصة، فهناك أوقات ينهى عن الصلاة فيها، والعبادة الوحيدة التي أمرنا بالإكثار منها بلا حدود هي ذكر الله عز وجل، فكل أمر أتى فيه الترغيب في الذكر فغالباً ما يقترن بالإكثار والاجتهاد في مضاعفة هذا الذكر كما في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً [الأحزاب:41]، وقوله: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً [الأحزاب:41]: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، فقال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: ((وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)) فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته. وقال سبحانه وتعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، وقال عز وجل: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ [الأحزاب:35] إلى قوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سبق المفردون. قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، فالمفردون: هم الذين عاشوا في قرن معين من الزمان، ثم ذهب هذا الزمان وبقوا وحدهم متفردين يذكرون الله عز وجل. قال ابن الأعرابي : فَرُد الرجل إذا تفقه، واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرت)، فهذه أيضاً من الأعمال التي يستحق صاحبها أن يوصف بأنه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. وهناك رواية أخرى لهذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً كتبا ليلتئذ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).

من يوصف بأنه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات

واختلف العلماء فيمن يستحق وصف الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فقال الإمام أبو الحسن الواحدي : قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالذاكرين الله كثيراً والذاكرات: أنهم يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً -وهي أذكار الصباح والمساء-، وفي المضاجع إذا أرادوا النوم، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى. وقال مجاهد : لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وقال عطاء : من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]. وسئل الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله عن القدر الذي يصير به العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فقال -وهو من أجمع الأجوبة في هذا الباب-: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساء، في الأوقات والأحوال المختلفة، ليلاً ونهاراً، وهي مبينة في عمل اليوم والليلة؛ كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، والله أعلم. وبنحوه قال الإمام محمد الجزري رحمه الله تعالى في العدة، وقال شارح (العدة): لا شك أن صدق هذا الوصف أعني كونه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات -على من واظب على ذكر الله تعالى وإن كان قليلاً أكمل من صدقه على من ذكر الله كثيراً من غير مواظبة. وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه). وورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل). وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى: وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أذكار وأدعية عند الأحوال المختلفة، وفي الأوقات المتنوعة كالنوم واليقظة، والأكل والشرب واللباس ونحوها، ووردت بكل حال من هذه الأحوال، وفي كل وقت من هذه الأوقات أذكار متعددة، وكذلك أدعية فوق الواحد والاثنين، فمن أخذ بذكر أو دعاء من الأذكار والأدعية المذكورة وأتى به في ذلك الحال والوقت فقد صدق عليه وصف الإكثار من ذكر الله عز وجل إذا داوم عليه في اليوم والليلة، ولم يُخلّ به في ساعاته من النوم واليقظة. وأما من واظب على جميعها، وأتى بها ليلاً ونهاراً، وجعلها وظيفة دائمة فلا تسأل عنه؛ فإنه قد فاز بالقدح المعلى، وسلك الطريقة المثلى، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى هو به إلا من صنع مثل صنيعه زاد عليه، فعليك أن تكون من أحد هذه الأصناف؛ لتصدق عليك هذه الأوصاف، وإلّا فلا تكن يعني: إما أن تكون مقلاً وإما مكثراً ومداوماً، وإلا فلا تكن، أي: لا تعيش أصلاً، فالإنسان بدون ذكر هو في الحقيقة من الأموات. وعن عطاء بن يسار قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يرد دعاؤهم: الذاكر الله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط -أي: العادل-)، فجعل أولهم الذاكر الله كثيراً، فمن أكثر من ذكر الله فلا يرد الله عز وجل دعاءه؛ بل يستجيب له. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إعطاء الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله) . وصح عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثَل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثَل الحي والميت)، وفي رواية: (مَثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مَثل الحي والميت) أي: أن الفرق بينهما كالفرق بين الحي والميت. وعن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات، ومنها: ذكر الله عز وجل) . وقد جاء في هذا الحديث أن يحيى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل ممتثلاً ما أمره الله به فقال: (وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى). وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه أمر بعض الصحابة رضي الله عنه فقال له: (اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، واعمل لله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله تعالى عند كل حجر وكل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)، وهذه هي المعية الخاصة، وهي غير معية الله عز وجل العامة لكل الخلق بالسمع والبصر والاطلاع على كل أحوالهم، فالمعية الخاصة هي التي جاءت في مثل قوله عز وجل: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] وقوله: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19]، فهذه المعية الخاصة تكون بالنصرة والتأييد والحفظ والكلاءة. يقول الإمام ابن بطّال : معنى الحديث: أنا مع عبدي زمان ذكره لي، أي: أنا معه بالحفظ والكلاءة، لا أنه سبحانه معه بذاته حيث حل العبد. وعن عبد الله بن بسر المازني رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، -وطوبى شجرة في الجنة-، قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)، فذكر الله تعالى أفضل الأعمال.

الآن نقف عند إحدى هذه الآيات، وهي آية سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]. إذا تأملنا القرآن الكريم والسنة الشريفة فإنا نجد أن كل عبادة من العبادات لها وصف محدد أو عدد محدد لا يجوز عنه، فالحج مثلاً يكون مرة واحدة في السنة، والصيام الواجب هو صيام شهر رمضان، والزكاة يشترط فيها مثلاً حولان الحول، وهناك شروط أخرى، فكل عبادة لها وقت، ولها عدد، ولها هيئة مخصوصة وأوقات مخصوصة، فهناك أوقات ينهى عن الصلاة فيها، والعبادة الوحيدة التي أمرنا بالإكثار منها بلا حدود هي ذكر الله عز وجل، فكل أمر أتى فيه الترغيب في الذكر فغالباً ما يقترن بالإكثار والاجتهاد في مضاعفة هذا الذكر كما في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً [الأحزاب:41]، وقوله: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كثيراً [الأحزاب:41]: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، فقال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: ((وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)) فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته. وقال سبحانه وتعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، وقال عز وجل: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ [الأحزاب:35] إلى قوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سبق المفردون. قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، فالمفردون: هم الذين عاشوا في قرن معين من الزمان، ثم ذهب هذا الزمان وبقوا وحدهم متفردين يذكرون الله عز وجل. قال ابن الأعرابي : فَرُد الرجل إذا تفقه، واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرت)، فهذه أيضاً من الأعمال التي يستحق صاحبها أن يوصف بأنه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. وهناك رواية أخرى لهذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً كتبا ليلتئذ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).

واختلف العلماء فيمن يستحق وصف الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فقال الإمام أبو الحسن الواحدي : قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالذاكرين الله كثيراً والذاكرات: أنهم يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً -وهي أذكار الصباح والمساء-، وفي المضاجع إذا أرادوا النوم، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى. وقال مجاهد : لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وقال عطاء : من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كثيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]. وسئل الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله عن القدر الذي يصير به العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فقال -وهو من أجمع الأجوبة في هذا الباب-: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساء، في الأوقات والأحوال المختلفة، ليلاً ونهاراً، وهي مبينة في عمل اليوم والليلة؛ كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، والله أعلم. وبنحوه قال الإمام محمد الجزري رحمه الله تعالى في العدة، وقال شارح (العدة): لا شك أن صدق هذا الوصف أعني كونه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات -على من واظب على ذكر الله تعالى وإن كان قليلاً أكمل من صدقه على من ذكر الله كثيراً من غير مواظبة. وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه). وورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل). وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى: وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أذكار وأدعية عند الأحوال المختلفة، وفي الأوقات المتنوعة كالنوم واليقظة، والأكل والشرب واللباس ونحوها، ووردت بكل حال من هذه الأحوال، وفي كل وقت من هذه الأوقات أذكار متعددة، وكذلك أدعية فوق الواحد والاثنين، فمن أخذ بذكر أو دعاء من الأذكار والأدعية المذكورة وأتى به في ذلك الحال والوقت فقد صدق عليه وصف الإكثار من ذكر الله عز وجل إذا داوم عليه في اليوم والليلة، ولم يُخلّ به في ساعاته من النوم واليقظة. وأما من واظب على جميعها، وأتى بها ليلاً ونهاراً، وجعلها وظيفة دائمة فلا تسأل عنه؛ فإنه قد فاز بالقدح المعلى، وسلك الطريقة المثلى، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى هو به إلا من صنع مثل صنيعه زاد عليه، فعليك أن تكون من أحد هذه الأصناف؛ لتصدق عليك هذه الأوصاف، وإلّا فلا تكن يعني: إما أن تكون مقلاً وإما مكثراً ومداوماً، وإلا فلا تكن، أي: لا تعيش أصلاً، فالإنسان بدون ذكر هو في الحقيقة من الأموات. وعن عطاء بن يسار قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يرد دعاؤهم: الذاكر الله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط -أي: العادل-)، فجعل أولهم الذاكر الله كثيراً، فمن أكثر من ذكر الله فلا يرد الله عز وجل دعاءه؛ بل يستجيب له. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إعطاء الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله) . وصح عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثَل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثَل الحي والميت)، وفي رواية: (مَثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مَثل الحي والميت) أي: أن الفرق بينهما كالفرق بين الحي والميت. وعن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات، ومنها: ذكر الله عز وجل) . وقد جاء في هذا الحديث أن يحيى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل ممتثلاً ما أمره الله به فقال: (وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى). وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه أمر بعض الصحابة رضي الله عنه فقال له: (اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، واعمل لله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله تعالى عند كل حجر وكل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)، وهذه هي المعية الخاصة، وهي غير معية الله عز وجل العامة لكل الخلق بالسمع والبصر والاطلاع على كل أحوالهم، فالمعية الخاصة هي التي جاءت في مثل قوله عز وجل: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] وقوله: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19]، فهذه المعية الخاصة تكون بالنصرة والتأييد والحفظ والكلاءة. يقول الإمام ابن بطّال : معنى الحديث: أنا مع عبدي زمان ذكره لي، أي: أنا معه بالحفظ والكلاءة، لا أنه سبحانه معه بذاته حيث حل العبد. وعن عبد الله بن بسر المازني رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، -وطوبى شجرة في الجنة-، قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)، فذكر الله تعالى أفضل الأعمال.

عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تكثر علي فأنسى) ، وفي رواية: (إن شرائع الإسلام قد كثرت وأنا قد كبرت فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تكثر علي فأنسى، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، فهذا من فقه التجارة مع الله سبحانه وتعالى، فالإنسان قد يشتغل بالعمل المفضول ويترك الفاضل، مع أن المفضول قد يكون أيسر وأسهل، ويعود عليه بربح كثير، وقد يشتغل بهذا الموجود فيضيع فيه عمره، وهذا من مكائد الشيطان أن يشغل الإنسان عن التجارة التي تعطي ربحاً أكثر بما يحصل ثواباً أقل، فينبغي أن يتفطن الإنسان لهذه المسائل الدقيقة، ولا يشتغل بالمفضول عن الفاضل، فضلاً عن ألّا يشتغل بهذا ولا ذاك، فهذا حظ الشيطان وسلطانه عليه أقوى وأكثر، فكثير من الناس وخصوصاً من ينتسبون إلى السنة نجدهم يكثرون الذم والتنفير عن أحوال الصوفية وبدعهم التي يبتدعون في أمور الذكر والدعاء وغيرها حتى ينطبع في نفس بعض الناس -بدون قصد- بغض الذكر، وبعض الناس يفتنون بمظاهر الدنيا وزخرفها، فيصل بهم الأمر إلى أن يقولوا: العمل عبادة، والفعل هذا أفضل من الصلاة، وأفضل من التسبيح، حتى ينشأ في قلوب الناس احتقار الذكر، حتى أن بعض الناس يقول: أنا لا أعترف بشيء اسمه تسبيح أو تهليل، فهذه الأشياء من كلام الصوفية، فينسد هذا الباب العظيم من أبواب الخير، وقد عدّه النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال؛ بسبب عدم الفقه في هذا الأمر.

نحن لا نملك الميزان الذي نوزن به الأعمال، بل يخبرنا به الوحي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث البطاقة الذي رواه ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب! فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء) . فمعرفة مقادير هذه الأعمال العظيمة ليس إلينا، وإنما نعرفه عن طريق الوحي، فالوحي يخبر أن هذه الأذكار ثوابها عظيم جداً، والناس في غفلة عن هذا، فهذه تجارة رابحة، فمن استطاع أن يستثمر أرباحه فيها فليستثمر، فهذا إبراهيم عليه السلام لما قابل الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج قال له: (يا محمد! أقرأ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأخبرهم أن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فهذه نصيحة من أبينا إبراهيم عليه السلام ينصحنا نحن المسلمين بها، ويخبرنا بها نبي سبق المؤمنين إلى الجنة، ويخبرنا عن شيء يقع في الجنة، فلا يحتقر هذا الأمر العظيم أو يزدريه أو يزهد فيه إلا أحمق ناقص العقل. وجاء في الحديث الصحيح: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن) فهي لا تكلفك شيئاً، ويخبرنا الوحي أنها ثقيلة جداً في الميزان، ( ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ). وجاء في الحديث الآخر: (من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بها قصراً في الجنة)، فهذا شيء يسير على ألسنتنا لكنه عند الله عظيم، فالذكر من أشرف العبادات، وإذا تأملنا في المعاني التي تندرج تحت هذه التسبيحات والأذكار لوجدنا معاني عظيمة جداً من تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص، وإثبات الكمالات له عز وجل، واعتراف العبد بالنقص والخطأ والزلل، وهذه المعاني العظيمة الجليلة تستوجب هذا الأجر العظيم وإن رغمت أنوف الذين تقصر عقولهم وهممهم عن فهم هذه الأشياء.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة) والترة هي النقص، قال الله عز وجل في القرآن: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35] أي: لن ينقصكم، ومعنى التره في هذا الحديث: التبعة، وترت الرجل ترة أي: أنقصته نقصاً، ففي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) أي: تَبِعة ونقص وحسرة يوم القيامة. وقد أوجب بعض العلماء على الإنسان ألّا يجلس مجلساً إلا ويذكر الله تعالى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وبعض الذين غرتهم الحياة الدنيا من الذين يقومون بالتدريس أو يجلسون في بعض المجالس التي يعقدونها في الجامعات، أو المحاضرات، أو غيرها يستكبرون عن هذا، أو يزدرون مثل هذه الأعمال العظيمة، فهذا عميد أدب الغرب دخل مرة من المرات محاضرته وهو يريد أن يستهزئ بهذه السنة الشريفة فقال لطلابه: أكثركم قد يضحك مني إذا بدأت محاضرتي كما يبدأ الشيوخ: بالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أنا لا أفعل هذا، وما ذلك إلّا لأنه متمجن ومتحجر، وهو أيضاً محروم من هذا الأجر العظيم، ومستحق لهذه الحسرة التي توعده بها رسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. فمن السنة أن الإنسان إذا كان في مجلس ضيافة، أو يوجد ضيوف عنده في البيت، أو كان في مجلس مذاكرة، أو في محاضرة، أو في أي مجلس يجلسه؛ ألّا يخلو هذا المجلس من ذكر الله عز وجل، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاء في بعض الأحاديث الوعيد على ترك ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) ومعنى ذلك أنه يستحب أن تذكر الله في الطريق وأنت تمشي. وفي رواية: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة -أي: تبعة-، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم)، وخاتمة هذا الحديث تدل على وجوب ذلك؛ لأن الوعيد لا يقع إلا على ترك الواجب أو ارتكاب المحرم، فهنا ينذر النبي صلى الله عليه وسلم من جلس مجلساً ولم يذكر الله فيه، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم،بأنه يكون يوم القيامة تحت المشيئة: إن شاء الله أن يعذبه عذبه، وإن شاء أن يغفر له غفر له، فهذا يدل على وجوب تعطير المجلس بذكر الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة)، أي: كأنهم كانوا مجتمعين على جيفة حمار منتنة، ويكون عليهم ذلك المجلس حسرة يوم القيامة. وصح عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها)، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يَتحسر عليه أهل الجنة؛ أنهم بعد أن يدخلوا الجنة يتحسرون على أي ساعة أو لحظة مرت بهم في الدنيا ولم يعمروها بذكر الله عز وجل. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة).

عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن نفراً من بني عذرة ثلاثة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يكفنيهم؟ -أي: من يقوم بضيافتهم؟- فقال طلحة : أنا، فكانوا عند طلحة -أي: باتوا عند طلحة واستضافهم في بيته رضي الله عنه-، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فخرج فيه أحدهم فاستشهد، ثم بعث بعثاً فخرج فيه آخر فاستشهد، قال: ثم مات الثالث على فراشه، قال طلحة : فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة -أي: رآهم في منامه في الجنة-، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، -أي: أنه تقدمهم في المنزلة في الجنة مع أنه لم يستشهد، وإنما مات على فراشه- ورأيت الذي استشهد أخيراً يليه -أي: أن الثاني كان يلي ذلك الذي مات على فراشه في المنزلة- ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم -أي: في المرتبة- قال: فدخلني من ذلك! فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنكرت من ذلك؟! ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله). فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من فعل طلحة كيف يتعجب لهذا مع أنه أمر طبيعي، فالمؤمن إذا مد له في أجله بعد أخيه فعمر أوقاته بالتسبيح والذكر والتكبير والتهليل، فهذه ترفع درجاته حتى ربما ارتفع فوق مقام من سبقه بالشهادة. ومما ثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ذكر الله عز وجل في الخلوة ما جاء في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، فهذا يدل على فضل ذكر الله عز وجل في الخلوة حيث لا يراه الناس، فإذا اجتمع له ذكر الله في الخلوة مع البكاء من خشية الله عز وجل حتى تفيض عيناه فإنه يكون يوم القيامة في ظل الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2627 استماع
دعوى الجاهلية 2562 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2560 استماع
التجديد في الإسلام 2514 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2505 استماع
محنة فلسطين [2] 2466 استماع
انتحار أم استشهاد 2438 استماع
تفسير آية الكرسي 2404 استماع
وإن عدتم عدنا 2395 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2394 استماع