وغارت الحور


الحلقة مفرغة

الحمد لله لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه سبحانه، خلق النساء والرجال وأكثرهم نسي أنه خلق من صلصال كالفخار، بين لهم الطريق إلى الجنان فأكثرهم آثر الدنيا، وعن الطريق حنف ومال، أطلع نبيه عليه الصلاة والسلام على الجنة وعلى النار فاطَّلع فرآها يأكل بعضها بعضا، ورأى النساء هن أكثر أهل النار.

نساء الجنة قليل، وهن اللاتي صبرن وثبتن يوم تفلتت الكثيرات مع الفجار، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ [العنكبوت:39].

الحمد لله الجليل جعل صبر المتقين في هذه الدنيا وإن طال قليلاً جد قليل، وطريق النكد والكآبة على العاصين وإن تظاهروا بغير ذلك طويلاً جد طويل.

وأصلي وأسلم على أشرف خلقه محمد صلى الله عليه وسلم الهادي بإذن ربه إلى سواء السبيل، معه كتاب فيه للخلد دليل، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

أما بعد:

المرأة المعرضة عن طاعة الله

فموضوع هذه المحاضرة هو حديث واحد، حديث قاله من لا ينطق عن الهوى صلوات ربي وسلامه عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد) انتبهي -يا أخية- مع هذا الحديث (إلا وله منزلان) سبحان العادل (منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا ماتت فدخلت النار ورث قصرها غيرها) حديث أقض مضجعي فلم أنم، وأذرف دمعتي من حرقة الألم، كم تقلبت، وكم فكرت، وطال تفكيري بتلك الأخت الغالية، التي سيسكن قصرها غيرها، ويستمتع بفرشها غيرها، وسيأمر خدمها غيرها، تلك الفتاة التي ما ظلمها ربها، أنعم عليها بسمعها وبصرها، وأكمل لها حسنها وخلقها، ثم أمرها بما ينفعها، ونهاها عما يضرها، زين جنته لنزولها، أمر ببناء قصرها وأجرى من تحته أنهارها، وأنبت على شواطئها أشجارها، الولدان والخدام ينتظرونها، والملائكة الكرام حافين بالقصر يرتقبونها، فسبحان من أمرهم بالسلام عليها حتى إلى قصرها يزفونها.

نعم هم ملائكة خلقوا من نور وهي من طين، ولكن أمرهم سبحانه أن يتهيئوا لاستقبالها، فصاروا يرتقبونها، التاج لها أُعد، والموائد بكل ما تشتهيه تمتد، فإذا بالضعيفة المسكينة تتنكب عن سبيلها، وتقوم خصمة لربها.

كشفت الزينة التي أمرت بسترها، واستمعت الأغاني التي أمرت بهجرها، ربها ينظر إليها ويحلم، ويزيدها من النعيم ويكرم، فإذا بها تغتر بستره عليها، اشترت لعنته بشعرات نتفتها من حاجبيها، لبست البنطال وتشبهت بالرجال، فحلت لعائنه عليها، باعت حرير الجنان بعباءة رخيصة على كتفها فيا لخسرانها، فاستحقت بعصيانها بدلاً عن الجنة ناراً، وعن أساور الذهب قيوداً وأغلالاً، وعن شراب السلسبيل حميماً من الصديد وماءً يشوي الوجوه (جَزَاءً وِفَاقاً [النبأ:26].. وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:33].

فلو رأيتيها بعد ذلك الكبر والغرور وهي تحشر على وجهها يوم البعث والنشور، تحشر مع من أحبتهم وتشبهت بهم من الغرب، وأهل الطرب، والتبرج، والتفسخ، والسفور، فما أذلها وأحقرها حينئذٍ، قال ربنا جل وعلا: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20] تتعرض للعنات ربها بالليل والنهار غدواً وعشيا.

قصة فيها عظة وعبرة

هذه رسالة أتتني بعد برنامج تلفزيوني لي، أتتني تلك الرسالة وكان حبرها الدم، تقول: كنت أنا وأختي متفلتات لا نعلم من هذه الدنيا إلا أننا كنا مفاتيح للشر مغاليق للخير، حتى كانت إحدانا ما تكتفي بذنوبها ومعاصيها، بل وكانت أختي أشد مني إذا رأت فتاة أخرى قالت لها: والله حواجبك جميلة، لكن لو نمصت لكان شكلها أحسن، ولأصبح منظرها أفضل، فكانت مفتاحاً للشر، ما بقيت بنت معنا في الكلية إلا وقد لعبت بعقلها.

ولما نظرت إلى برنامجك في هذا اليوم، علمت أن المسألة ليست سهلة، إذ حقيقة المسألة أن وراءنا حساباً، ووراءنا عقاباً، وأننا مسئولات عن كل شيء نفعله، وربنا ينعم علينا نعماً حتى ظننا أننا من أحبابه.

في يوم من الأيام وأنا وأختي خارجات، سافرات، لم يكن علينا رقيب، كان عندنا ذكور في البيت لم يكونوا رجالاً، تقول: فبينما نحن نتسكع في شوارع المدينة وأسواقها، إذا بأختي تمسك ببطنها وبدأت بالأنين، اعتصر قلبي وذرفت دمعتي، وقلت لها: ما بك؟ قالت: أحس بآلام في بطني.

المهم تقول: عُدنا إلى البيت بسرعة، فأخذنا معنا والدي، ثم ذهبنا إلى المستشفى، تقول: وبعد الفحوصات، التحاليل كنا نظن أننا لا نحتاج أكثر من مسكن ثم تزول الآلام، فإذا بالآلام تشتد عليها وهي تبكي، كانت تعتصر من الألم وقلبي يعتصر ألماً عليها، وعيني حزناً لما بها تدمع.

تقول وإذا بالطبيب يأتي ويقول لأبي: أريد أن أكلمك بكلمة على انفراد، تقول: وأنا أرقب أبي من بعيد، وهو واقف مع الطبيب يتكلم معه، فإذا بوجه أبي يتمعض ويتغير، ويحمر وجهه، أراه يُحرك يديه يخاطب الطبيب ويسأله، ويأخذ ويعطي، فعاد إلينا أبي قد ملأت الدموع عيناه حتى كانت تلمعان، اغرورقت عيناه بالدموع، حاول أن يكفكف عبراته فسألته أبي: ماذا قال لك الطبيب؟ قال: لا شيء، مغص بسيط إن شاء الله، لكن لا بد أن تستكمل الفحوصات، لا بد أن تدخل المستشفى في هذه الليلة حتى يستكملوا الفحوصات، والمسألة بسيطة يا بنيتي، قالت: والله يا أبي إن في عينيك كلاماً وأسراراً، يقول: لا شيء يا بنيتي. المهم أدخلت البنت المستشفى.

تقول: ورجعت أنا وأبي بالسيارة، وقد حاولت أن أرافقها فمنعوني، ألححت على أبي، وشددت عليه بالمسألة حتى قال: إن الطبيب يقول: إنه مشتبه بسرطان عندها بالمعدة، أبيت إلا أن أرافقها، ورجعت من الصباح في اليوم التالي فجلست معها، والله إنها هي التي تتألم وألمي أشد.

تقول: فلما كنت بجانبها، ودموعها تذرف وتعتصر ألماً، ثم تنطوي على بطنها وتقول: ادعي لي الطبيب، تقول: فأسرعت ودمعاتي تنسكب على خدي، فلما جاء الطبيب كلمَتْه وقالت: أحس بآلام شديدة لا أستطيع أن أجلس بهذا الشكل، لا بد أن تعطوني أي مسكن، قال لها: هذه الآلام عندنا لها مسكن، لكن هذه الأدوية لها مضاعفات، قالت: لا توجد أي مشكلة، قال: اسمعي مضاعفاتها قبل أن تقرري، قال لها: مضاعفاتها أنها تسبب تساقطاً في شعر الرأس وشعر الحواجب، وكل شعرة في الجسد، قالت: مادام أن أعراضها هذه فسأتحمل ثم غادر الطبيب الغرفة، فما لبثت أختي دقائق وهي تعتصر من الألم وتئن، فقالت: نادي لي الطبيب بسرعة، فجاء الطبيب، قالت: أعطوني هذا العلاج، قال: سيُسقط شعرك، قالت: أعطونيه لو يُسقط عيوني، الألم هذا لا بد أن يسكن، لا أستطيع أن أتحمله.

وبدأ العلاج، ومرت الأيام، بدأ الشعر من جوانبه يتساقط بأمر من عزيز حكيم، حتى لم يبق في رأسها شعرة، صار شكلها مخيفاً، صارت حالتها النفسية أشد من حالتها المرضية، أنظر إليها فلا أتحمل رؤيتها ثم أخرج وأبكي، حتى أهدأ وأعود إليها.

ثم بدأت الحواجب تتساقط من أطرافها، كم كانت تنمصها؟ وسألت نفسي كم نمصنا الحواجب أنا وهي؟! ورسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: (لعن الله النامصة والمتنمصة) أي: طَرَدَ من رحمته، يوم تقف أمامه ماثلة يوم القيامة.. رسولنا يرجو رحمة الله ولن يدخل الجنة إلا برحمة الله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) تقول: سألت نفسي كيف ندخل الجنة وقد تعرضنا بأنفسنا وبأيدينا للعنة الله عز وجل والطرد من رحمته؟ كيف نعبر الصراط؟

تقول: وأنا أنظر إلى حواجبها تارة، ثم أذهب إلى المرآة وأنظر إلى حواجبي، جاءتني حالة نفسية أظن أن الذي يحصل لها يحصل لي، كم رفعت يدي ألمس شعري؟ كم نظرت إلى حواجبي؟ علمت أن الله عظيم، وأنه يمهل لكنه لا يهمل، فسقطت حواجبها، صار شكلها مخيفاً، ومؤلماً، ومحزناً في نفس الوقت.

تقول: يا ليت الأمر بقي على ذلك، تقول: والله قد جاءتها حالة حار فيها الأطباء، أصبح يدب في جسدها احمرار عجيب، ثم فجأة يزداد ذلك الاحمرار، ثم بعد أيام أصبح نصف الوجه أحمر كأنه محروق، حتى صارت تغطي وجهها، لكن ليس بطوعها، صارت تغطي وجهها حتى لا يبين ذلك التشوه الذي في النصف منه، وتذكرتُ كم أنعم الله علينا بتلك النعم، وذلك الجمال، ثم عصيناه بنعمه!!

تقول: لكني أُحملك المسئولية أن تقول لكل من أظهرت زينتها أنها لو كانت في حال أختي لغطت وجهها ليس ديناً، وإنما رغماً عنها، وعلمت أن الله عز وجل لو أرادها أن تغطي وجهها رغماً عنها لجعلها؛ وأنه تعالى متعنا بذلك الجمال حتى نشكره، ولكننا كفرناه وجحدنا نعمه أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].

فموضوع هذه المحاضرة هو حديث واحد، حديث قاله من لا ينطق عن الهوى صلوات ربي وسلامه عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد) انتبهي -يا أخية- مع هذا الحديث (إلا وله منزلان) سبحان العادل (منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا ماتت فدخلت النار ورث قصرها غيرها) حديث أقض مضجعي فلم أنم، وأذرف دمعتي من حرقة الألم، كم تقلبت، وكم فكرت، وطال تفكيري بتلك الأخت الغالية، التي سيسكن قصرها غيرها، ويستمتع بفرشها غيرها، وسيأمر خدمها غيرها، تلك الفتاة التي ما ظلمها ربها، أنعم عليها بسمعها وبصرها، وأكمل لها حسنها وخلقها، ثم أمرها بما ينفعها، ونهاها عما يضرها، زين جنته لنزولها، أمر ببناء قصرها وأجرى من تحته أنهارها، وأنبت على شواطئها أشجارها، الولدان والخدام ينتظرونها، والملائكة الكرام حافين بالقصر يرتقبونها، فسبحان من أمرهم بالسلام عليها حتى إلى قصرها يزفونها.

نعم هم ملائكة خلقوا من نور وهي من طين، ولكن أمرهم سبحانه أن يتهيئوا لاستقبالها، فصاروا يرتقبونها، التاج لها أُعد، والموائد بكل ما تشتهيه تمتد، فإذا بالضعيفة المسكينة تتنكب عن سبيلها، وتقوم خصمة لربها.

كشفت الزينة التي أمرت بسترها، واستمعت الأغاني التي أمرت بهجرها، ربها ينظر إليها ويحلم، ويزيدها من النعيم ويكرم، فإذا بها تغتر بستره عليها، اشترت لعنته بشعرات نتفتها من حاجبيها، لبست البنطال وتشبهت بالرجال، فحلت لعائنه عليها، باعت حرير الجنان بعباءة رخيصة على كتفها فيا لخسرانها، فاستحقت بعصيانها بدلاً عن الجنة ناراً، وعن أساور الذهب قيوداً وأغلالاً، وعن شراب السلسبيل حميماً من الصديد وماءً يشوي الوجوه (جَزَاءً وِفَاقاً [النبأ:26].. وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:33].

فلو رأيتيها بعد ذلك الكبر والغرور وهي تحشر على وجهها يوم البعث والنشور، تحشر مع من أحبتهم وتشبهت بهم من الغرب، وأهل الطرب، والتبرج، والتفسخ، والسفور، فما أذلها وأحقرها حينئذٍ، قال ربنا جل وعلا: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20] تتعرض للعنات ربها بالليل والنهار غدواً وعشيا.

هذه رسالة أتتني بعد برنامج تلفزيوني لي، أتتني تلك الرسالة وكان حبرها الدم، تقول: كنت أنا وأختي متفلتات لا نعلم من هذه الدنيا إلا أننا كنا مفاتيح للشر مغاليق للخير، حتى كانت إحدانا ما تكتفي بذنوبها ومعاصيها، بل وكانت أختي أشد مني إذا رأت فتاة أخرى قالت لها: والله حواجبك جميلة، لكن لو نمصت لكان شكلها أحسن، ولأصبح منظرها أفضل، فكانت مفتاحاً للشر، ما بقيت بنت معنا في الكلية إلا وقد لعبت بعقلها.

ولما نظرت إلى برنامجك في هذا اليوم، علمت أن المسألة ليست سهلة، إذ حقيقة المسألة أن وراءنا حساباً، ووراءنا عقاباً، وأننا مسئولات عن كل شيء نفعله، وربنا ينعم علينا نعماً حتى ظننا أننا من أحبابه.

في يوم من الأيام وأنا وأختي خارجات، سافرات، لم يكن علينا رقيب، كان عندنا ذكور في البيت لم يكونوا رجالاً، تقول: فبينما نحن نتسكع في شوارع المدينة وأسواقها، إذا بأختي تمسك ببطنها وبدأت بالأنين، اعتصر قلبي وذرفت دمعتي، وقلت لها: ما بك؟ قالت: أحس بآلام في بطني.

المهم تقول: عُدنا إلى البيت بسرعة، فأخذنا معنا والدي، ثم ذهبنا إلى المستشفى، تقول: وبعد الفحوصات، التحاليل كنا نظن أننا لا نحتاج أكثر من مسكن ثم تزول الآلام، فإذا بالآلام تشتد عليها وهي تبكي، كانت تعتصر من الألم وقلبي يعتصر ألماً عليها، وعيني حزناً لما بها تدمع.

تقول وإذا بالطبيب يأتي ويقول لأبي: أريد أن أكلمك بكلمة على انفراد، تقول: وأنا أرقب أبي من بعيد، وهو واقف مع الطبيب يتكلم معه، فإذا بوجه أبي يتمعض ويتغير، ويحمر وجهه، أراه يُحرك يديه يخاطب الطبيب ويسأله، ويأخذ ويعطي، فعاد إلينا أبي قد ملأت الدموع عيناه حتى كانت تلمعان، اغرورقت عيناه بالدموع، حاول أن يكفكف عبراته فسألته أبي: ماذا قال لك الطبيب؟ قال: لا شيء، مغص بسيط إن شاء الله، لكن لا بد أن تستكمل الفحوصات، لا بد أن تدخل المستشفى في هذه الليلة حتى يستكملوا الفحوصات، والمسألة بسيطة يا بنيتي، قالت: والله يا أبي إن في عينيك كلاماً وأسراراً، يقول: لا شيء يا بنيتي. المهم أدخلت البنت المستشفى.

تقول: ورجعت أنا وأبي بالسيارة، وقد حاولت أن أرافقها فمنعوني، ألححت على أبي، وشددت عليه بالمسألة حتى قال: إن الطبيب يقول: إنه مشتبه بسرطان عندها بالمعدة، أبيت إلا أن أرافقها، ورجعت من الصباح في اليوم التالي فجلست معها، والله إنها هي التي تتألم وألمي أشد.

تقول: فلما كنت بجانبها، ودموعها تذرف وتعتصر ألماً، ثم تنطوي على بطنها وتقول: ادعي لي الطبيب، تقول: فأسرعت ودمعاتي تنسكب على خدي، فلما جاء الطبيب كلمَتْه وقالت: أحس بآلام شديدة لا أستطيع أن أجلس بهذا الشكل، لا بد أن تعطوني أي مسكن، قال لها: هذه الآلام عندنا لها مسكن، لكن هذه الأدوية لها مضاعفات، قالت: لا توجد أي مشكلة، قال: اسمعي مضاعفاتها قبل أن تقرري، قال لها: مضاعفاتها أنها تسبب تساقطاً في شعر الرأس وشعر الحواجب، وكل شعرة في الجسد، قالت: مادام أن أعراضها هذه فسأتحمل ثم غادر الطبيب الغرفة، فما لبثت أختي دقائق وهي تعتصر من الألم وتئن، فقالت: نادي لي الطبيب بسرعة، فجاء الطبيب، قالت: أعطوني هذا العلاج، قال: سيُسقط شعرك، قالت: أعطونيه لو يُسقط عيوني، الألم هذا لا بد أن يسكن، لا أستطيع أن أتحمله.

وبدأ العلاج، ومرت الأيام، بدأ الشعر من جوانبه يتساقط بأمر من عزيز حكيم، حتى لم يبق في رأسها شعرة، صار شكلها مخيفاً، صارت حالتها النفسية أشد من حالتها المرضية، أنظر إليها فلا أتحمل رؤيتها ثم أخرج وأبكي، حتى أهدأ وأعود إليها.

ثم بدأت الحواجب تتساقط من أطرافها، كم كانت تنمصها؟ وسألت نفسي كم نمصنا الحواجب أنا وهي؟! ورسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: (لعن الله النامصة والمتنمصة) أي: طَرَدَ من رحمته، يوم تقف أمامه ماثلة يوم القيامة.. رسولنا يرجو رحمة الله ولن يدخل الجنة إلا برحمة الله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) تقول: سألت نفسي كيف ندخل الجنة وقد تعرضنا بأنفسنا وبأيدينا للعنة الله عز وجل والطرد من رحمته؟ كيف نعبر الصراط؟

تقول: وأنا أنظر إلى حواجبها تارة، ثم أذهب إلى المرآة وأنظر إلى حواجبي، جاءتني حالة نفسية أظن أن الذي يحصل لها يحصل لي، كم رفعت يدي ألمس شعري؟ كم نظرت إلى حواجبي؟ علمت أن الله عظيم، وأنه يمهل لكنه لا يهمل، فسقطت حواجبها، صار شكلها مخيفاً، ومؤلماً، ومحزناً في نفس الوقت.

تقول: يا ليت الأمر بقي على ذلك، تقول: والله قد جاءتها حالة حار فيها الأطباء، أصبح يدب في جسدها احمرار عجيب، ثم فجأة يزداد ذلك الاحمرار، ثم بعد أيام أصبح نصف الوجه أحمر كأنه محروق، حتى صارت تغطي وجهها، لكن ليس بطوعها، صارت تغطي وجهها حتى لا يبين ذلك التشوه الذي في النصف منه، وتذكرتُ كم أنعم الله علينا بتلك النعم، وذلك الجمال، ثم عصيناه بنعمه!!

تقول: لكني أُحملك المسئولية أن تقول لكل من أظهرت زينتها أنها لو كانت في حال أختي لغطت وجهها ليس ديناً، وإنما رغماً عنها، وعلمت أن الله عز وجل لو أرادها أن تغطي وجهها رغماً عنها لجعلها؛ وأنه تعالى متعنا بذلك الجمال حتى نشكره، ولكننا كفرناه وجحدنا نعمه أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].

يا معشر النساء الغاليات، من نساء وفتيات: رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أقل ساكني الجنة النساء) فهلا كنت مع القليل؟ لكن كيف؟

يقول عليه الصلاة والسلام -وهو الذي رأى ما لم نره-: (أطلعني ربي على النار) والله ما تكلم إلا وقد رآها عليه الصلاة والسلام، لا ينطق عن الهوى يقول: (أطلعني ربي على النار فاطلعت) لكنه حدثنا عن خبر من الأخبار لا بد أن نقف معه يقول: (اطلعت فرأيتها تأكل بعضها بعضا، ورأيت) ماذا رأيت يا رسول الله؟ قال: (رأيت النساء هن أكثر أهل النار).

صفة الحور العين

عندما قل نساء الجنة من أهل الدنيا ما كان ذلك لينقص من نعيم الجنة، أو ليترك القصور خالية، أنشأ الله خلقاً جديداً ما وطأت أقدامهم الأرض، حتى يسكنوا مكان تلك المسكينة الضعيفة التي غرها ستر الله عليها فدخلت النار، أنشأ الله ذلك الخلق وأبدعه، وأعلى مكانه ورفعه، كيف يا رب وصفهن؟ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58] تلك التي حلت مكان المسكينة كيف وصفها يا ترى؟

وصفها: أقض مضاجع المشتاقين، فكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وصفها أظمأ هواجر العاشقين فأصبحوا صائمين، وأمسوا قائمين، يقدمون أرواحهم وأنفسهم وأموالهم مهراً لها وهم مستبشرون..

غادة ذات دلال ومرح     يجد الناعت فيها ما اقترح

خلقت من كل شيء حسن     طيب والليت فيها مطرح

زانهـا الله بوجهٍ جمّعت     فيه أوصاف غريبات الملح

وبعينٍ كحلها من غنجها     وبخد مسكه فيها رشح

ناعمٌ تجري على صفحته     نظرة الملك ولألاء الفرح

ليس هذا فحسب، بل:

تولـد نور النور من نور وجهها     ومازج طيب الطيب من خالص العطرِ

فلو وطأت بالنعل منها على الحصى     لأعشبت الأحجار من غير ما قطرِ

ولو شئت عقد الخصر منها عقدته     كغصنٍ من الريحان ذي ورقٍ خضرِ

ولو بصقت في البحر شَهْد لعابها     لطاب لأهل الأرض شرب من البحرِ

هل يعقل أن يفرط فيها عاقل وهي بهذه الصفات؟ وهل تعتقدين -أخية- أن من كانت بهذه الصفات يمكن أن تغار من أي مخلوقة كائنة من كانت؟! تعالي نتعرض إلى نسمات من صفاتها.

- كيف عطرها؟ يا من غرك إبليس فخرجت متعطرة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (ما من امرأة تعطرت فخرجت فوجد ريحها الرجال؛ إلا وهي زانية تكتب عند الله) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله لا يخلف وعد رسله، عطرها كيف بذلك العطر؟

يقول صلوات ربي وسلامه عليه في الصحيح: (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت -وفي لفظٍ-: أشرفت على الأرض، لملأت ما بين السماء والأرض ريحا) أيّ عطر ينفذ من السماء ويملأ السماء والأرض ما من طائرٍ إلا ويستبشر وينشرح صدره بتلك الرائحة، وما من دابة تدب على الأرض إلا وتشغلها تلك الرائحة، أي عطر ينفذ من السماء إلى الأرض؟

والـريح مسك والجسوم نواعمٌ     واللون كالياقوت والمرجانِ

- كيف عيناها؟ كيف أبدعها صانعها سبحانه؟ وكيف خدها؟

حمر الخدود ثغورهن لآلئ     سود العيون فواتر الأجفانِ

- كيف جسمها؟

والـريح مسك والجسوم نواعمٌ     واللون كالياقوت والمرجانِ

- أما ذلك الشهد الذي حواه ثغرها، فيقول صلوات ربي وسلامه عليه: (لو بصقت في البحر المالح الأجاج لصار عذباً فراتاً بإذن الله).

- أما خلقها:

كملت خلائقها وأكمل حسنها     كالبدر ليل الست بعد ثمانِ

- أما وجهها فلا تسألي عن وجهها:

والشمس تجري في محاسن وجهها     والليل تحت ذوائب الأغصانِ

- والشفاه وذلك الثغر:

والبرق يبدو حين يبسم ثغرهـا     فيضيء سقف القصر بالجدرانِ

التفاضل بين المؤمنات والحور العين

أما أنت -يا أخية- فمن المؤكد ولا يخالط قلبك شكٌ ولا ريب، أنك قد غرت من هذه الحورية ويحق لك ذلك، كيف لا تغارين! ولو اجتمع نساء الدنيا كلهن في كفة بكل ما خلق الله فيهن من الزينة والجمال والحلي والقلائد، ثم أتينا بظفر حورية من أولئك الحور، ووضعناه في الكفة الثانية؛ لطاش جمالهن كلهن، ولرجحت تلك القلامة من ظفرها.

ما هاهنا والله مـا يسوى قـلا     مة ظفر واحدة ترى بجنانِ

كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن أقل ظفر في الجنة بدا لتزخرف له ما بين السماء والأرض).

وكيف لا تغارين وقد غارت قبلك أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد أورد ذلك ابن القيم مما رواه الطبراني ، تعالي بسرعة -أخية- نخترق العصور راجعين إلى الوراء، ونخترق القرون ثم نأت ونقف على تلك الغرفة، وتلك الحجرة الصغيرة، حجرة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو قائم يصلي، وأم سلمة ترقبه في ظلمات الليل، قائم يتهجد وأم سلمة تنظر إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، تعالي ننظر ما الذي حدث هناك.

قام نبينا عليه الصلاة والسلام يقرأ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً [النبأ:31-33] فسكت النبي عليه الصلاة والسلام وصار يحرك شفتيه، ويسأل الله من فضله، علمت أم سلمة أنه وقف عند قوله تعالى: وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً [النبأ:33] ثم دعا، رجف قلبها، ما إن انتهى عليه الصلاة والسلام من صلاته إلا وأم سلمة تبادره وتسأله: يا رسول الله! ما معنى فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70]؟ تسأله عن آيات أخرى، ما معنى خيرات حسان؟ فيجيبها، يا رسول الله! ما معنى عُرُباً أَتْرَاباً [الواقعة:37]؟ فيجيبها.

ثم سألت السؤال الذي تريد أن تصل إليه، قالت يا رسول الله! -موضوع أشغلها، ويحق لها أن يشغلها ذلك الموضوع- إن إحدانا اتقت الله عز وجل، وخافت مقامه، وسارعت إلى أمره، وانتهت عند نهيه، أنحن خير أم الحور خير؟ يعني: هل نحن أجمل أم الحور أجمل؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام، حتى كان وجهه كفلقة القمر، وإذا بها لحظات حاسمة تنتظر الإجابة من تلك الشفاه، فإذا به صلوات ربي وسلامه عليه يقول: (لا. يا أم سلمة ! بل نساء الدنيا خير) فإذا بها تتهلل أسارير وجهها رضوان الله عليها، فيفاجئها قائلاً: (فضل إحداكن على إحداهن كفضل الظهارة على البطانة) ما معنى هذا الكلام فضل الظهارة على البطانة؟ بكم أغلى قطعة قماش؟ أغلى قطعة قماش على الأرض بكم؟ بألف أو بألفين أو بثلاثة آلاف أو بعشرة آلاف؟ وكم أغلى بطانة؟ بعشرين أو بثلاثين ريالاً، ثم لفت انتباهها إلى أمر يريد صلوات ربي وسلامه عليه أن يلتفت كل من يسمع هذا الحديث إليه، وهو لب الموضوع قال: (يا أم سلمة : وهل تعلمين بما فضلتن عليهن؟ بصلاتكن، وقنوتكن، وتقاكن لله عز وجل) يعني: بهذه الخشية، وهذا الحذر من مكر الله عز وجل، وهذه المسارعة بالأعمال الصالحة؛ بهذا تنال إحداكن هذه المنزلة.

لكن هل تعلمين -أخية- أن منكنَّ ومن النساء اللاتي يمشين على هذه الأرض -والله- من سوف تدخل الجنة، وتسكن تلك الجنان، فإذا بالحور مع ما ذكرنا، من جمالهن الذي يسلب الألباب والعقول -والله- سوف تبهر بجمال تلك الغالية المؤمنة الصابرة على طاعة الله.

أما سمعتِ ما قالت عائشة رضي الله عنها في النساء الطاهرات العفيفات المحتشمات المتقيات، الداعيات لله أنهن: يخاطبن الحور، وتعجب الحور من هذا الجمال! فيقُلْنَ: ما هذا الجمال؟ فترد عليهن نساء الدنيا: نحن المصليات فما صليتن، نحن القانتان يعني: دائمات العبادة، كم تركنا من أشياء كانت محببة لقلوبنا، كم صبرنا في الدنيا فما صبرتن، نحن الصائمات وما صمتن، فتغار الحور لأجل هذا النعيم، أعدت الصالحات العدة، لأجل تلك المنزلة، وذلك الموقف، وتلك الوقفة، وتلك اللحظات، أعدت الصالحات العدة من الأعمال الصالحة والقربات.

قلت: الصالحات، لِـمَ؟ لأن الصلاح لا يقيده عمرٌ معين، فمنهن من قد احدودب ظهرها، وشاب شعرها، ومنهن من غض عودها، فالقاسم المشترك هنا هو الصلاح.

هذه الفتاة التي حسبت حساب ذلك اليوم هي تستطيع أن تتفلت، لكنها عن كل هذا تنزهت، وعزت وارتفعت، سليها لِمَ لم تتفلت؟ اسأليها لماذا لا تعاكسين؟ هل عندك هاتف محمول؟

ستقول لك: بلى. والله عندي هاتف محمول.

إذن لماذا؟ هل لأجل قلة الرجال؟

قالت: لا -والله- هم كثير.

ستقولين: حسناً! لماذا لا تسمعين الأغاني؟ ما عندك قيمة الشريط؟

ستقول: بلى عندي قيمة الشريط، ولا أحتاج إلى الشريط، فلو أردت بحركة واحدة في الراديو أسمع أحدث الأغنيات؛ لكن لا أريد سماع الغناء.

سليها: لماذا لا تسمعين إذاً؟ هي لم تسكن في الصحاري، أو الأدغال، أو البراري، بل عاشت في نفس المكان الذي تعيش فيه الرخيصات، المنهزمات، المائلات المميلات، اللاهثات وراء الشهوات، اللاتي هن والله كالأطفال لا يميزون بين الحلوى والمخدرات.

لكنها حين اشتهين اشتهت شيئاً يفوق خيالهن، وحين طمعن طمعت بشيء لا تصل إليه عقولهن، حفظت عرضها يوم دُنست وسُلبت أعراضهن.

قصة مأساة

هذه حادثة لن أنساها ما حييت! هذه الحادثة وقفت عليها بنفسي، ما أخبرني عنها صديق ولا قريب، في أيام التطبيق في المستشفى وبينما نحن نطوف على المرضى، إذا بنظري يقع على مشهد غريب، ما تحركت بعده عيني، رجل أمن عند غرفة من غرف حديثي الولادة، ماذا يفعل هناك، ليس الوقت وقت مرور زوار، وليس وقت زيارة، فأشغل الموضوع فكري حتى دخلنا تلك الغرفة.

ويا ليتنا ما دخلنا!!

رأينا موقفاً بكت له قلوبنا، وسالت دموع القلب قبل أن تبكي أعيننا، دخلنا، إذ بنا ننظر مشهداً وقفت له أنفاسنا، رضيعة في تلك الحضانة لا تدري ما حولها، أنبوب التنفس من الفم إلى الحنجرة، وأنبوب في الأنف إلى المعدة، وإبر قد أثبتت في رأسها، وإبر قد أثبتت في ذراعيها، وفخذيها، نصف الرأس مهشم، وعين واحدة، العين الأخرى قد غارت ودخلت، ما ترى مكانها إلا تجويفاً وسواداً، الأضلاع مكسرة، القلب ينبض ويحرك تلك الأضلاع، الأفخاذ قد نكست، وصارت تتحرك بالجهة المعاكسة باتجاه الرأس، قد نكست أفخاذها.

هذه الرضيعة ما خلقها الله بهذا الشكل، لكن ما ذنبها، ولماذا منظرها مبكٍ؟

هذه الرضيعة ضحية شاب وفتاة قليلة عقل وقليلة دين، ظنت أنها تفهم كل شيء، وظنت أنها تلعب ولا يُلعب عليها، ومكالمات ورسائل وكلمات الحب والغرام، والعشق والهيام بينهما، فاستمرت المكالمات، ثم زرعت الثقة والحب بعد أبيات من الأشعار كان يقولها لها.

المهم أنها خرجت معه أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد:7] خرجا والله يراهما، استخفوا من الناس، لكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فتوالت المواعيد، وطال حلم الله عليهما، حتى كان في ذلك اليوم وأراد الله أن يوقف تلك المعاصي، فتحرك الجنين، قدر الله قدره، وأمر أمره وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب:38] لا يرد وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110] فتحرك ذلك الجنين، ودبت فيه الروح.

بدأا يتشاوران، وكثر الكلام، واضطربت القلوب، وجلت الخطوب، كم فكرا وكم تشاورا على أن يذهبا إلى أي مستشفى خاص علّهما أن يجهضا ذلك المخلوق الذي دب في ذلك الرحم، لكن الله عز وجل أمر وقضى ألا يتعرض أحد ، ولا يتجرأ أحد أن يجهض ما أثبته الله عز وجل.

فلما يئسا بدأا يضربان بطن تلك الفتاة، يضربانه حتى يسقط ويموت ذلك الجنين، ويخرج ميتا، ويستر عليهما، خافا من الناس يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108] فإذا بذلك البطن يكبر، أخذها والدها إلى المستشفى عندنا، ظن أن البطن فيه ورم ويا ليته كان ورما، لكن هناك أمرٌ أراده الله عز وجل أن يثبت، فتخرج تلك الرضيعة مهشمة الرأس بعد الضرب، مكسرة الأضلاع، منكسة الأفخاذ، لكن ما انتهت القصة.

الفتاة خلف القضبان، أتوا بها ونحن نرى -والله- إنها عبرة حتى ننظر إلى آثار تلك الضحكات، وتلك المكالمات، والليالي الحمراء، فخرت أمامنا تبكي فأخذوها، والشاب لا يدرون أين هو الآن، لكن هناك واحد يدري أين هو الآن، ويملك نبض قلبه، وتحركات أطرافه، ويملك آلامه وأوجاعه، ويعلم إذا كان الآن فوق الأرض أو تحتها أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].

الأدهى من ذلك والأمر أن يأتي والد تلك الفتاة بعد ذلك التسيب، وعدم الاهتمام في رعيته التي ولاه الله عليها، يأتي ويدخل الغرفة، ويخرج مسدساً كان معه يريد أن يفتح الحضانة حتى يقتل تلك الرضيعة، ما ذنبها هل دنست لك عرضا؟ هل شوهت لك سمعة؟ فبحمد الله أتى الممرضون والممرضات وأمسكوه حتى جاء رجال الأمن فأخرجوه، ووضعوا رجل أمن هناك حتى لا يدخل عليها مرة أخرى.

وبعد أيام ماتت تلك الرضيعة، هي الآن تحت الأرض، يراها الله عز وجل، المشهد انتهى عند كثير من الناس، لكن عند الله ما انتهى؛ لأنه يرى الثلاثة، ويرى الأب والأم اللذين فرطا، وسوف ينفخ في الصور، ثم يخرجون من القبور، وتخرج تلك الرضيعة، وسوف تمشي بين الناس فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] فتعرض تلك الفتاة وذلك الشاب، وتأتي الرضيعة، لأن لها حقاً، والله لا يضيع حق أحد، تتعلق في أعناقهما وتقول: رب! سلهما لماذا فقأا عيني؟ رب! أنت خلقتني بعينين لماذا فقئوا عيني؟ ولماذا هشموا رأسي؟ رباه! لماذا كسروا أضلاعي؟ رب! اسألهما لماذا نكسوا أفخاذي؟ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [الصافات:24] لها حق، وسوف تأخذ ذلك الحق، أي وربي سوف تأخذه، فَوَرَبِّكَ [الحجر:92] يقسم بعزته وعظمته فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].فيا أخية: تلك الفتاة يوم كانت في لياليها الحمراء، وفي مكالماتها العذبة، ما كانت تظن أن الله يراها ولو اعترفت بلسانها، ما كانت تظن أن الله عز وجل سوف يعقبها بعد ذلك صغاراً وذلاً، وسؤالاً وجواباً، لكن يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) يطعمه الله فيعصيه وهو يراه، يسقيه فيعصيه وهو يراه، يحفظ عليه قلبه وكلاه وهو يعصيه ثم يراه، إلى متى؟ والله يقول: لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:67].

قال: (حتى إذا أخذه لم يفلته ثم تلى قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]).

عندما قل نساء الجنة من أهل الدنيا ما كان ذلك لينقص من نعيم الجنة، أو ليترك القصور خالية، أنشأ الله خلقاً جديداً ما وطأت أقدامهم الأرض، حتى يسكنوا مكان تلك المسكينة الضعيفة التي غرها ستر الله عليها فدخلت النار، أنشأ الله ذلك الخلق وأبدعه، وأعلى مكانه ورفعه، كيف يا رب وصفهن؟ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58] تلك التي حلت مكان المسكينة كيف وصفها يا ترى؟

وصفها: أقض مضاجع المشتاقين، فكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وصفها أظمأ هواجر العاشقين فأصبحوا صائمين، وأمسوا قائمين، يقدمون أرواحهم وأنفسهم وأموالهم مهراً لها وهم مستبشرون..

غادة ذات دلال ومرح     يجد الناعت فيها ما اقترح

خلقت من كل شيء حسن     طيب والليت فيها مطرح

زانهـا الله بوجهٍ جمّعت     فيه أوصاف غريبات الملح

وبعينٍ كحلها من غنجها     وبخد مسكه فيها رشح

ناعمٌ تجري على صفحته     نظرة الملك ولألاء الفرح

ليس هذا فحسب، بل:

تولـد نور النور من نور وجهها     ومازج طيب الطيب من خالص العطرِ

فلو وطأت بالنعل منها على الحصى     لأعشبت الأحجار من غير ما قطرِ

ولو شئت عقد الخصر منها عقدته     كغصنٍ من الريحان ذي ورقٍ خضرِ

ولو بصقت في البحر شَهْد لعابها     لطاب لأهل الأرض شرب من البحرِ

هل يعقل أن يفرط فيها عاقل وهي بهذه الصفات؟ وهل تعتقدين -أخية- أن من كانت بهذه الصفات يمكن أن تغار من أي مخلوقة كائنة من كانت؟! تعالي نتعرض إلى نسمات من صفاتها.

- كيف عطرها؟ يا من غرك إبليس فخرجت متعطرة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (ما من امرأة تعطرت فخرجت فوجد ريحها الرجال؛ إلا وهي زانية تكتب عند الله) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله لا يخلف وعد رسله، عطرها كيف بذلك العطر؟

يقول صلوات ربي وسلامه عليه في الصحيح: (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت -وفي لفظٍ-: أشرفت على الأرض، لملأت ما بين السماء والأرض ريحا) أيّ عطر ينفذ من السماء ويملأ السماء والأرض ما من طائرٍ إلا ويستبشر وينشرح صدره بتلك الرائحة، وما من دابة تدب على الأرض إلا وتشغلها تلك الرائحة، أي عطر ينفذ من السماء إلى الأرض؟

والـريح مسك والجسوم نواعمٌ     واللون كالياقوت والمرجانِ

- كيف عيناها؟ كيف أبدعها صانعها سبحانه؟ وكيف خدها؟

حمر الخدود ثغورهن لآلئ     سود العيون فواتر الأجفانِ

- كيف جسمها؟

والـريح مسك والجسوم نواعمٌ     واللون كالياقوت والمرجانِ

- أما ذلك الشهد الذي حواه ثغرها، فيقول صلوات ربي وسلامه عليه: (لو بصقت في البحر المالح الأجاج لصار عذباً فراتاً بإذن الله).

- أما خلقها:

كملت خلائقها وأكمل حسنها     كالبدر ليل الست بعد ثمانِ

- أما وجهها فلا تسألي عن وجهها:

والشمس تجري في محاسن وجهها     والليل تحت ذوائب الأغصانِ

- والشفاه وذلك الثغر:

والبرق يبدو حين يبسم ثغرهـا     فيضيء سقف القصر بالجدرانِ

أما أنت -يا أخية- فمن المؤكد ولا يخالط قلبك شكٌ ولا ريب، أنك قد غرت من هذه الحورية ويحق لك ذلك، كيف لا تغارين! ولو اجتمع نساء الدنيا كلهن في كفة بكل ما خلق الله فيهن من الزينة والجمال والحلي والقلائد، ثم أتينا بظفر حورية من أولئك الحور، ووضعناه في الكفة الثانية؛ لطاش جمالهن كلهن، ولرجحت تلك القلامة من ظفرها.

ما هاهنا والله مـا يسوى قـلا     مة ظفر واحدة ترى بجنانِ

كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن أقل ظفر في الجنة بدا لتزخرف له ما بين السماء والأرض).

وكيف لا تغارين وقد غارت قبلك أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد أورد ذلك ابن القيم مما رواه الطبراني ، تعالي بسرعة -أخية- نخترق العصور راجعين إلى الوراء، ونخترق القرون ثم نأت ونقف على تلك الغرفة، وتلك الحجرة الصغيرة، حجرة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو قائم يصلي، وأم سلمة ترقبه في ظلمات الليل، قائم يتهجد وأم سلمة تنظر إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، تعالي ننظر ما الذي حدث هناك.

قام نبينا عليه الصلاة والسلام يقرأ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً [النبأ:31-33] فسكت النبي عليه الصلاة والسلام وصار يحرك شفتيه، ويسأل الله من فضله، علمت أم سلمة أنه وقف عند قوله تعالى: وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً [النبأ:33] ثم دعا، رجف قلبها، ما إن انتهى عليه الصلاة والسلام من صلاته إلا وأم سلمة تبادره وتسأله: يا رسول الله! ما معنى فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70]؟ تسأله عن آيات أخرى، ما معنى خيرات حسان؟ فيجيبها، يا رسول الله! ما معنى عُرُباً أَتْرَاباً [الواقعة:37]؟ فيجيبها.

ثم سألت السؤال الذي تريد أن تصل إليه، قالت يا رسول الله! -موضوع أشغلها، ويحق لها أن يشغلها ذلك الموضوع- إن إحدانا اتقت الله عز وجل، وخافت مقامه، وسارعت إلى أمره، وانتهت عند نهيه، أنحن خير أم الحور خير؟ يعني: هل نحن أجمل أم الحور أجمل؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام، حتى كان وجهه كفلقة القمر، وإذا بها لحظات حاسمة تنتظر الإجابة من تلك الشفاه، فإذا به صلوات ربي وسلامه عليه يقول: (لا. يا أم سلمة ! بل نساء الدنيا خير) فإذا بها تتهلل أسارير وجهها رضوان الله عليها، فيفاجئها قائلاً: (فضل إحداكن على إحداهن كفضل الظهارة على البطانة) ما معنى هذا الكلام فضل الظهارة على البطانة؟ بكم أغلى قطعة قماش؟ أغلى قطعة قماش على الأرض بكم؟ بألف أو بألفين أو بثلاثة آلاف أو بعشرة آلاف؟ وكم أغلى بطانة؟ بعشرين أو بثلاثين ريالاً، ثم لفت انتباهها إلى أمر يريد صلوات ربي وسلامه عليه أن يلتفت كل من يسمع هذا الحديث إليه، وهو لب الموضوع قال: (يا أم سلمة : وهل تعلمين بما فضلتن عليهن؟ بصلاتكن، وقنوتكن، وتقاكن لله عز وجل) يعني: بهذه الخشية، وهذا الحذر من مكر الله عز وجل، وهذه المسارعة بالأعمال الصالحة؛ بهذا تنال إحداكن هذه المنزلة.

لكن هل تعلمين -أخية- أن منكنَّ ومن النساء اللاتي يمشين على هذه الأرض -والله- من سوف تدخل الجنة، وتسكن تلك الجنان، فإذا بالحور مع ما ذكرنا، من جمالهن الذي يسلب الألباب والعقول -والله- سوف تبهر بجمال تلك الغالية المؤمنة الصابرة على طاعة الله.

أما سمعتِ ما قالت عائشة رضي الله عنها في النساء الطاهرات العفيفات المحتشمات المتقيات، الداعيات لله أنهن: يخاطبن الحور، وتعجب الحور من هذا الجمال! فيقُلْنَ: ما هذا الجمال؟ فترد عليهن نساء الدنيا: نحن المصليات فما صليتن، نحن القانتان يعني: دائمات العبادة، كم تركنا من أشياء كانت محببة لقلوبنا، كم صبرنا في الدنيا فما صبرتن، نحن الصائمات وما صمتن، فتغار الحور لأجل هذا النعيم، أعدت الصالحات العدة، لأجل تلك المنزلة، وذلك الموقف، وتلك الوقفة، وتلك اللحظات، أعدت الصالحات العدة من الأعمال الصالحة والقربات.

قلت: الصالحات، لِـمَ؟ لأن الصلاح لا يقيده عمرٌ معين، فمنهن من قد احدودب ظهرها، وشاب شعرها، ومنهن من غض عودها، فالقاسم المشترك هنا هو الصلاح.

هذه الفتاة التي حسبت حساب ذلك اليوم هي تستطيع أن تتفلت، لكنها عن كل هذا تنزهت، وعزت وارتفعت، سليها لِمَ لم تتفلت؟ اسأليها لماذا لا تعاكسين؟ هل عندك هاتف محمول؟

ستقول لك: بلى. والله عندي هاتف محمول.

إذن لماذا؟ هل لأجل قلة الرجال؟

قالت: لا -والله- هم كثير.

ستقولين: حسناً! لماذا لا تسمعين الأغاني؟ ما عندك قيمة الشريط؟

ستقول: بلى عندي قيمة الشريط، ولا أحتاج إلى الشريط، فلو أردت بحركة واحدة في الراديو أسمع أحدث الأغنيات؛ لكن لا أريد سماع الغناء.

سليها: لماذا لا تسمعين إذاً؟ هي لم تسكن في الصحاري، أو الأدغال، أو البراري، بل عاشت في نفس المكان الذي تعيش فيه الرخيصات، المنهزمات، المائلات المميلات، اللاهثات وراء الشهوات، اللاتي هن والله كالأطفال لا يميزون بين الحلوى والمخدرات.

لكنها حين اشتهين اشتهت شيئاً يفوق خيالهن، وحين طمعن طمعت بشيء لا تصل إليه عقولهن، حفظت عرضها يوم دُنست وسُلبت أعراضهن.

هذه حادثة لن أنساها ما حييت! هذه الحادثة وقفت عليها بنفسي، ما أخبرني عنها صديق ولا قريب، في أيام التطبيق في المستشفى وبينما نحن نطوف على المرضى، إذا بنظري يقع على مشهد غريب، ما تحركت بعده عيني، رجل أمن عند غرفة من غرف حديثي الولادة، ماذا يفعل هناك، ليس الوقت وقت مرور زوار، وليس وقت زيارة، فأشغل الموضوع فكري حتى دخلنا تلك الغرفة.

ويا ليتنا ما دخلنا!!

رأينا موقفاً بكت له قلوبنا، وسالت دموع القلب قبل أن تبكي أعيننا، دخلنا، إذ بنا ننظر مشهداً وقفت له أنفاسنا، رضيعة في تلك الحضانة لا تدري ما حولها، أنبوب التنفس من الفم إلى الحنجرة، وأنبوب في الأنف إلى المعدة، وإبر قد أثبتت في رأسها، وإبر قد أثبتت في ذراعيها، وفخذيها، نصف الرأس مهشم، وعين واحدة، العين الأخرى قد غارت ودخلت، ما ترى مكانها إلا تجويفاً وسواداً، الأضلاع مكسرة، القلب ينبض ويحرك تلك الأضلاع، الأفخاذ قد نكست، وصارت تتحرك بالجهة المعاكسة باتجاه الرأس، قد نكست أفخاذها.

هذه الرضيعة ما خلقها الله بهذا الشكل، لكن ما ذنبها، ولماذا منظرها مبكٍ؟

هذه الرضيعة ضحية شاب وفتاة قليلة عقل وقليلة دين، ظنت أنها تفهم كل شيء، وظنت أنها تلعب ولا يُلعب عليها، ومكالمات ورسائل وكلمات الحب والغرام، والعشق والهيام بينهما، فاستمرت المكالمات، ثم زرعت الثقة والحب بعد أبيات من الأشعار كان يقولها لها.

المهم أنها خرجت معه أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد:7] خرجا والله يراهما، استخفوا من الناس، لكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فتوالت المواعيد، وطال حلم الله عليهما، حتى كان في ذلك اليوم وأراد الله أن يوقف تلك المعاصي، فتحرك الجنين، قدر الله قدره، وأمر أمره وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب:38] لا يرد وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110] فتحرك ذلك الجنين، ودبت فيه الروح.

بدأا يتشاوران، وكثر الكلام، واضطربت القلوب، وجلت الخطوب، كم فكرا وكم تشاورا على أن يذهبا إلى أي مستشفى خاص علّهما أن يجهضا ذلك المخلوق الذي دب في ذلك الرحم، لكن الله عز وجل أمر وقضى ألا يتعرض أحد ، ولا يتجرأ أحد أن يجهض ما أثبته الله عز وجل.

فلما يئسا بدأا يضربان بطن تلك الفتاة، يضربانه حتى يسقط ويموت ذلك الجنين، ويخرج ميتا، ويستر عليهما، خافا من الناس يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108] فإذا بذلك البطن يكبر، أخذها والدها إلى المستشفى عندنا، ظن أن البطن فيه ورم ويا ليته كان ورما، لكن هناك أمرٌ أراده الله عز وجل أن يثبت، فتخرج تلك الرضيعة مهشمة الرأس بعد الضرب، مكسرة الأضلاع، منكسة الأفخاذ، لكن ما انتهت القصة.

الفتاة خلف القضبان، أتوا بها ونحن نرى -والله- إنها عبرة حتى ننظر إلى آثار تلك الضحكات، وتلك المكالمات، والليالي الحمراء، فخرت أمامنا تبكي فأخذوها، والشاب لا يدرون أين هو الآن، لكن هناك واحد يدري أين هو الآن، ويملك نبض قلبه، وتحركات أطرافه، ويملك آلامه وأوجاعه، ويعلم إذا كان الآن فوق الأرض أو تحتها أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].

الأدهى من ذلك والأمر أن يأتي والد تلك الفتاة بعد ذلك التسيب، وعدم الاهتمام في رعيته التي ولاه الله عليها، يأتي ويدخل الغرفة، ويخرج مسدساً كان معه يريد أن يفتح الحضانة حتى يقتل تلك الرضيعة، ما ذنبها هل دنست لك عرضا؟ هل شوهت لك سمعة؟ فبحمد الله أتى الممرضون والممرضات وأمسكوه حتى جاء رجال الأمن فأخرجوه، ووضعوا رجل أمن هناك حتى لا يدخل عليها مرة أخرى.

وبعد أيام ماتت تلك الرضيعة، هي الآن تحت الأرض، يراها الله عز وجل، المشهد انتهى عند كثير من الناس، لكن عند الله ما انتهى؛ لأنه يرى الثلاثة، ويرى الأب والأم اللذين فرطا، وسوف ينفخ في الصور، ثم يخرجون من القبور، وتخرج تلك الرضيعة، وسوف تمشي بين الناس فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] فتعرض تلك الفتاة وذلك الشاب، وتأتي الرضيعة، لأن لها حقاً، والله لا يضيع حق أحد، تتعلق في أعناقهما وتقول: رب! سلهما لماذا فقأا عيني؟ رب! أنت خلقتني بعينين لماذا فقئوا عيني؟ ولماذا هشموا رأسي؟ رباه! لماذا كسروا أضلاعي؟ رب! اسألهما لماذا نكسوا أفخاذي؟ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [الصافات:24] لها حق، وسوف تأخذ ذلك الحق، أي وربي سوف تأخذه، فَوَرَبِّكَ [الحجر:92] يقسم بعزته وعظمته فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].فيا أخية: تلك الفتاة يوم كانت في لياليها الحمراء، وفي مكالماتها العذبة، ما كانت تظن أن الله يراها ولو اعترفت بلسانها، ما كانت تظن أن الله عز وجل سوف يعقبها بعد ذلك صغاراً وذلاً، وسؤالاً وجواباً، لكن يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) يطعمه الله فيعصيه وهو يراه، يسقيه فيعصيه وهو يراه، يحفظ عليه قلبه وكلاه وهو يعصيه ثم يراه، إلى متى؟ والله يقول: لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:67].

قال: (حتى إذا أخذه لم يفلته ثم تلى قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]).

أما تلك الفتاة فقد حفظت عرضها يوم سُلبت ودُنست أعراض بعض النساء، وخافت مقام ربها يوم أمن من مكره أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].

ما أرادت أن تخسر، علمت أن تلك النفس التي بين جنبيها غالية، كيف لا وهي نفسها التي إما أن تنعم وتعز وتكرم، وليس ذلك إلا لمن خافت مقام ربها، ونهت النفس عن الهوى؛ وإلا سوف تعذب وتهان، وفي دركات الجحيم تحرق في حميم آن، فعزت عليها نفسها أن تعذب وتسقى الحميم، وفي جهنم تتقلب، فخططت كيف بالنعيم تظفر، وكيف في قصورها تنهى وتأمر، وكيف إذا حشر الكثيرات على وجوههن كيف هي إلى الرحمن مع الوفد المكرم تحشر، وكيف إذا أخذ الناس كتبهم بالشمال كيف تأخذه باليمين وبالجنان تُبشر.

فعملت لذلك اليوم كل عمل مطلوب، واجتنبت كل ما نهى الله عنه ولو كان من المرغوب أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].

هذه الغالية، لو أعطيتها وزنها ذهباً على أن تخرج بعباءة على الكتف، والله لا توافق؛ لأن نفسها عليها غالية، العباءة على الكتف كل واحدة تستطيع أن تشتريها لكن العفة، والحياء، والكرامة، ليست لكل أحد، للغاليات فقط، لبست عباءتها على رأسها، هي تعلم أن كل ما يجذب الأنظار فهو زينة، وكل ما كان في أصله زينة فلبسه حرام..

سترت جميع بدنها امتثالاً لأمر ربها؛ لأن الكثيرات الآن -ووالله إني آسف وأخاف عليهن، وأرجو من الله أن يستيقظن قبل ذلك اليوم الذي تقف فيه أنفاسهن- تلبس إحداهن النقاب وتخرج عينيها وتقول: والله أنا أحسن من غيري، غيري لابسة لثاماً، والتي لبست لثاماً تقول: والله أنا لا زلت أحسن من غيري أنا ما كشفت وجهي، والتي كشفت وجهها تقول: عندي فتوى؛ لأجل هذا قال سبحانه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ [القصص:65] من تجيبون؟ هل أستطيع أن آتي بآية أو فتوى من أي شيخ، هل بإمكاني أن أتصل على أي فضائية فيفتوني في أمري مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] تقول لك: أفتاني الشيخ الفلاني الذي يقول: أن الاستماع لأم كلثوم حلال، ويقول: إن الأغاني إذا كانت لا تلهي عن الصلاة فهي حلال، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: (سيأتي أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والمعازف والطرب) ما معنى يستحلونها؟ هل معناها أنها حلال واستحلوها الآن؟! أم هي حرام فاستحلوها؟ لا شك أنها حرام استحلها الناس، أما أن تأخذ هذه الفتوى وتقول: والله -يا رب- أنا سألت! لا، بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14-15].