أيها الناس: المؤمن الصادق لا يمل كثرة الحديث عن البوسنة والهرسك ؛ لأنها اليوم نقطة الارتكاز في ميدان الجهاد الإسلامي، وقضيتها حديث القضايا الإسلامية، وساحتها محطة امتحان وكسب لقوة المسلمين، وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم، وقصة البوسنة والهرسك الدامية يختلط فيها الشجو بالرضا والتهنئة بالتعزية. رضىً وتهنئة.
حينما يستحضر المسلم مرأى أولئك الأبطال الذين وقفوا في وجه الصليبية الحاقدة فسارعوا إلى ملاقاة ربهم، ودماؤهم على ثيابهم وأبدانُهم لم ترفع؛ لتبقى وساماً فوق صدورهم؛ يلقون به ربهم يوم القيامة.
وشجوٌ وتعزية.
حينما يقع ما يقع على مرأى من أهل القبلة ومسمع؛ فلا يحيرون جواباً، ولا يحيون ألباباً إلا من رحم الله، تقع أمامهم الحوادث، وتدلهم الخطوب فلا يتألمون لمتألم، ولا يتوجعون لمستصرخ، ولا يحنون لبائس.
والمشاهَد مِن أمثال هؤلاء قساة القلوب، غلاظ الأكباد، حكموا على أنفسهم بالذلة، وعلى مجتمعاتهم بالحطة، والمثقفون من هؤلاء يندبون وينقمون ويتلقون المواساة والعزاء، والغرب الكافر الحاقد يخفض جناح الذل من رحمته وعدله -المزعوم- على دعم وتحصين منظمات عالمية لمحبي الكلاب، وأصدقاء الحيوانات الأليفة، فتفتح الصوالين للكلاب ليقوم أخصائيون بقص شعرها، وتزيينها وتعطيرها، فهي على الضد تماماً من صوالينهم الدموية التي يقصون فيها شعور البشر، ويحلقون أديانهم، ويزينونهم بالأشلاء، ويعطرونهم بالدماء، فليت منصفاً يخبرنا أو يسائل الغرب الحاقد: أتكون الكلاب المكلبة أهم وأعظم في قلوب عباد الصليب من قطر إسلامي ضخم؛ تعدو عليها حثالة لئيمة؛ فتقتل شيوخه وترمل نساءه، وتبيح حياءهن في فجور، وتتاجر بأعراضهن في توقح، وتتخذ من عفتهنَّ إناء تلغ فيه الكلاب بلا استحياء؟ ولكن من يدري؟ لعل هناك نسباً وصهراً جمع بين الغرب الكافر وبين الكلاب، فهم يعنون بشئونها عناية منقطعة النظير في حين أنهم لا يقيمون وزناً للملايين من البشر، سبحانك يا رب! رحماك يا رب!
التضامن والتكافل في ظل الإسلام
أيها المسلمون: لقد أقام الإسلام مجتمعات المسلمين على أركان ثابتة، ودعائم راسخة، ومن أهم هذه الدعائم: أن يتحقق بين أبناء المجتمعات المسلمة روح الإخاء والتضامن؛ فيأخذ القوي بيد الضعيف، ويشد المقتدر من أزر العاجز، ويمكن لكل مسلم منصف أن يحكم على المجتمعات بالخير والصلاح؛ إذا رأى الضعفاء من بني ملته تتسلل إليهم المحن، وتتوالى عليهم الأتراح حثيثة، ويرى مع ذلك الأيادي الإغاثية تحميهم عن أن يضيعوا وسط الزحام، أو تسحقهم الأقدام، أو تصبح أعراضهم نهباً مقسماً بين الخونة واللئام من سفلة الناس، وشياطين البشر، إذا رأى المسلم ذلك جلياً في المجتمعات المسلمة فليشهد لها بالخير والصلاح، وإن لم يُرَ ذلك فإن على قلوبهم العفاء.
إنه من الواجب على المسلمين بعامة أن يبحثوا في كل مظنة ضعف عن سبب قوة، ولو أخلص المسلمون المجاهدون في تلمس ذلك وتطلُّبِه لصار الضعف قوة؛ لأن الضعف قد ينطوي على قوة مستورة؛ يؤيدها الله بعنايته ورعايته، فإذا قوة الضعف تهد الجبال، وتحير الألباب وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [الفتح:7].
سمع معاوية رضي الله عنه أن رجلاً من أعدائه شرب عسلاً فيه سم فمات، فقال رضي الله عنه: [[إن لله جنوداً منها العسل ]].
إن الحديث عن القوة النابعة من الضعف ليس دعوة إلى الرضا بالضعف أو السكوت عليه، بل هو دعوة إلى استشعار القوة حتى في حالة الضعف، ودعوة إلى التدثر بالرجاء والأمل وحسن الظن بالله حتى في مواطن الشدة واليأس، ودعوة إلى بذل الجهود في كل حالة وعلى أي وضع كان، ودعوة إلى اليقين بأن الله قادر على أن يجعل من الضعف قوة؛ مادام الإنسان يجاهد قدر استطاعته.
وبذلك ينتزع المسلمون من ضعفهم قوة؛ تحيل قوة عدوهم ضعفاً، وينصرهم الله نصراً مبيناً لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197].
استشعار مآسي المسلمين
عباد الله:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16] ؟ وتلين أفئدتهم؟ أفَقُدَّت مِن حجر؟ ألا يكلف المرء نفسه تحريك جفنيه وفتح عينيه ليرى صرعى البؤس والتشريد، وضحايا الظلم والعدوان والفاقة ماثلين أمامه في غير ما سبيل؟ ألا يرى ذلك فتأخذه بهم رحمة الإنسان؟ كيف يستطيع أن يهنأ صاحب الترفُّه بطعامه وشرابه؟! بل كيف يدلل صبيانه وبناته؟! وكيف يضاحك عياله ويمازح أهله وهو يرى في
البوسنة والهرسك صبيةً مثل عياله برآءة؛ ما جنوا ذنباً، أطهار؛ ما كسبت أيديهم إثماً، يبكون من الحيف، ويتلمظون من الجوع؟ أفلا يكون للمسلم السهم الراجح، والقدح المعَلَّى في العطف على إخوانه في الدين، وفي كفكفة دموعهم والمسح على رءوسهم؟ أولا ينظر المرء إلى إخوانه تحت سيطرة الصرب الحاقدين؟ أولا ينظر المسلم إلى سقوفهم وقد وكَفَتْ، وإلى الجدران وقد نَزَّتْ، وإلى الغرف وقد اسَّاقَطَتْ، وإلى الجبال وقد سالت حمماً من القنابل والشظايا، وإلى الأودية وقد امتلأت جثثاً وهاماً وغدت أباطح، وإلى اختباء المضطهدين في البيوت، وما تكاد تمنع عنهم برداً ولا بللاً؟ أولا ينظر المسلم إلى مَن خرج من ساكنيها؛ فراراً منها حين لم تعدُ دوراً ولا منازلاً، وإنما صارت جيفاً وأشلاءً؟ يقف البوسنوي أمامها مشدوهاً ولسان حاله يقول:
إن القـرآن الكـريم يعطي الإنسان درساً لا يجحده؛ لأنه معقود من صميم الحياة، ولباب الواقع المتكرر، يقول تعـالى: وَلْيَخْـشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9] إن القرآن هنا يمس شغاف القلوب، ويهز أوتارها هزاً، ويدفع الناس دفعاً إلى تصور ذريتهم الضعيفة المكسورة الجناح تنهشهم أفاعي البشر، وتفتك بهم ذئاب الكفر، فقد تدور عليهم رحى الأيام، والأيام قُلَّب، فيصبحون لا حول لهم ولا قوة! يطمع فيهم الطامع، وما من نصير لهم ولا مدافع، والجزاء من جنس العمل.
وسائل دفع الفساد وقمعه
أيها المسلمون: عندما يستشري الشر، ويطغى الفساد، لا مندوحة للمسلم عن أن يدرأ الشر، ويقمع طغيان الفساد بكل وسيلة، وإن من تلك الوسائل المتاحة: المال المسلم، شريان الحياة، إن المال الإسلامي طاقة مهدرة؛ تحركها بنوك الغرب ومصارفه، مليارات الأموال قابعة في تلك البنوك، ماذا يفعل بها المسلمون؟ الشعب البوسنوي يستغيث ولا مجيب، أكلتهم صروف الحرب المدمرة ولا من يغيث، والبعثات التبشيرية
النصرانية متخصصة في سرقة العقائد من أولئك العراة المفجوعين، وإننا لنتساءل: أين المسلمون؟! أين المسلمون حكومات وشعوباً؟!
جاء الذئب فرعى الغنم؛ لأنها ليس لها حارس، ليس لها راعٍ، ما السبب؟ وما الأمر؟ أمة غافلة، والغرب الحاقد لا يحمي المغفلين.
لقد دقت ساعة الخطر، وبلغ الشر مداه، فلم يبقَ في القوس منزع، ولم يعد للصبر مجال على أمل تسوية سلمية، فتاريخ الغرب سلسلة إجرام، وحملات صليبية لا تعرف السلم ولا الموادعة.
فالبدار البدار -عباد الله- للجهاد في سبيل الله بأموالكم، لتجهيز المضطهدين الذائدين عن حياض الإسلام في أوطانهم، وإن كتاب الله يدل دلالة واضحة على أن الإنفاق والبذل في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله في طليعة أعمال البر التي وعد الله عليها بالجزاء العظيم: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.