شرح كتاب الصيام من منار السبيل [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين!

[ فصل: (ومن جامع نهار رمضان في قبل أو دبر ولو لميت أو بهيمة في حالة يلزمه فيها الإمساك مكرهاً كان أو ناسياً لزمه القضاء والكفارة) لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن رجلاً قال: يا رسول الله وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا، فسكت, فبينا نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق تمر فقال: أين السائل؟ خذ هذا تصدق به، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه, ثم قال: أطعمه أهلك )، متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم للمجامع: ( صم يوماً مكانه )، رواه أبو داود ، ويلزمان المكره والناسي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل].

ذكر المصنف رحمه الله جملة من المسائل في المفطرات، وكذلك أيضاً في شيء من الكفارات، وأشار في هذا الفصل إلى مسألة الجماع في نهار رمضان.

كون الجماع في نهار رمضان كبيرة من كبائر الذنوب

والجماع في نهار رمضان محرم باتفاق العلماء لا يختلفون في ذلك، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك لجملة من القرائن:

أولها: أن الكفارة فيه كفارة مغلظة، والكفارة المغلظة دليل على أن الفعل كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك لأن التحريم جاء في كلام الله، والأصل في المحرمات المنصوص عليها في القرآن أنها محرمات مغلظة، وأما بالنسبة للآثار المترتبة على الجماع في نهار رمضان فثمة مسائل، ومن هذه المسائل ما يتعلق بجماع المتعمد، وجماع المتعمد فيه مسائل:

فطر المجامع في نهار رمضان

أولها: فطر المجامع إذا قلنا بتحريم الجماع في نهار رمضان, فما الحكم في فطره؟ يعني: أنه إذا جامع هل يفطر أم أن الشارع إنما حرم عليه الجماع تحريماً لا يلزمه من ذلك الفطر، كبعض المحرمات التي يأمر الله عز وجل بتركها لكنها لا تفسد العمل، وذلك مثل الحج، يحرم الله عز وجل على عباده شيئاً من المحرمات وتسمى بمحظورات الإحرام، ولكن بمجموعها لا تفسد الحج، كذلك بالنسبة للصيام من المحرمات التي أصلها محرم وغلظها الشارع في رمضان: الجهل، وشهادة الزور، والغيبة, والنميمة وغير ذلك، لكنها لا تفسد الصوم.

وما يأتي أيضاً من هذه الأحكام على قول من قال بعدم التفطير في بعض المنهيات، كالنهي عن المباشرة، وكذلك أيضاً القبلة، ومسألة الحجامة وغير ذلك، أيضاً في قول بعضهم في النهي عن السواك في العشي، هل هذا يلزم من ذلك النهي التفطير أم لا؟

أما مسألة المجامع في رمضان فمنهم من يقول بالتفطير, وهذا قول عامة الفقهاء بل حكي فيه الإجماع، يعني: أن المجامع في نهار رمضان يفطر بجماعه, ويجب عليه مع ذلك القضاء، وهذه المسألة اتفق عليها الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله، أعني: بوجوب القضاء، ولازم ذلك أنهم يقولون بالفطر.

وثمة قول لبعض الفقهاء يقولون بعدم القضاء، والذين يقولون بعدم القضاء اختلفوا في الفطر على قولين: قوم قالوا بأنه أفطر ولكنه أفطر متعمداً, والأصل عندنا أن المتعمد لا يقضي سواء كان أكل أو شرب أو جامع، ويلحقون المجامع بالآكل والشارب متعمداً، قالوا: لا يجب عليه في ذلك القضاء. وذهب إلى هذا جماعة من العلماء, وهذا قول ابن تيمية رحمه الله أنه لا يرى وجوب القضاء من جهة الأصل على تارك الركن المتعمد, وذلك باطراد في مسألة الصلاة، وكذلك أيضاً في مسألة الحج، ويوجب عليه التوبة، وما دل الدليل عليه من الكفارة كمسألة الفطر في نهار رمضان متعمداً.

الطائفة الثانية: قالوا بأنه لم يفطر أصلاً, وإنما الكفارة هي كفارة لذنبه الذي فعله، ولا يعني ذلك أنه أفطر, وذلك أنهم يقولون أن الفطر يكون مما دخل إلى جوف الإنسان مما في حكم الأكل والشرب وما دل عليه الدليل.

قضاء المجامع في نهار رمضان

بعض العلماء يحكي الاتفاق في هذه المسألة على الفطر، ويحكي الإجماع أيضاً على القضاء، وقد نص جماعة من الأئمة على حكاية الإجماع، والإجماع على ذلك فيه نظر، نعم اتفق الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله تعالى على هذا ، ولكن الدليل أولاً الوارد في ذلك فيه كلام, وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صم يوماً مكانه )، ويأتي الكلام عليه.

إن السلف الصالح عليهم رحمة الله يتكلمون في مسألة الكفارة عليه، وقل ما يذكرون القضاء، فمنهم من يحمل عدم ذكر أكثرهم للقضاء على أنه مفروغ منه، ومنهم من يحمله على المعنى الآخر ويقول: إنهم لا يقولون بالقضاء باعتبار أنه لا تلازم بين وجود الكفارة المغلظة وبين فطر الإنسان بفعله بالجماع.

وأما الدليل الوارد في ذلك وهو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله، والزيادة في ذلك التي عند أبي داود في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صم يوماً مكانه )، والحديث جاء من حديث ابن شهاب الزهري ، وقد رواه عن ابن شهاب الزهري جماعة، رواه مالك بن أنس ، و شعبة بن الحجاج و معمر بن راشد وغيرهم, يروونه عن ابن شهاب ولا يذكرون هذه الزيادة: ( وصم يوماً مكانه ) .

وهذه الزيادة قد رواها أبو داود في كتابه السنن من حديث هشام بن سعد عن ابن شهاب الزهري وذكر هذه الزيادة، و هشام بن سعد يضعف، وقد رد هذه الزيادة غير واحد من العلماء، وقد أنكرها الإمام أحمد عليه رحمة الله، و النسائي وغيرهم، وهذا ظاهر صنيع البخاري ومسلم إذ تركا هذه الزيادة في كتابيهما، وقد توبع على ذلك هشام بن سعد تابعه صالح بن أبي الأخضر وأبو أويس ، وأيضاً متابعتهم في ذلك ليست معتبرة وذلك لنكارتها.

فمن قال بعدم القضاء قال: لا يوجد دليل صريح عن النبي عليه الصلاة والسلام بوجوب القضاء على المجامع، وأما من قال بوجوب القضاء على المجامع وظهور الفطر في ذلك قالوا: لأن الشارع نهى عن ذلك وغلظه، ونهى عنه ابتداء، والنهي في ذلك مغلظ كالنهي عن الأكل والشرب.

ومن قال بعدم القضاء قالوا: إن الجماع يختلف عن الأكل والشرب، وذلك أن الله عز وجل في أول التشريع نهي عن الجماع في ليله ونهاره من جهة التشديد في ذلك, وهو تشديد لا يوازي الأكل والشرب, وإنما هو خاص خصه الله عز وجل بحكم اختباراً وامتحاناً؛ وذلك إظهاراً للتمسك والتعبد والتزام أمر لله سبحانه وتعالى.

والقول بعدم القضاء قال به جماعة كــــابن حزم الأندلسي ، و ابن خزيمة ، و ابن تيمية ، وكذلك ظاهر قول ابن رجب رحمه الله على هذا. وعلى ما تقدم فإنهم يختلفون بينهم في الفطر، منهم من يقول: إنه متعمد, ولكن لا نقول بالقضاء لأننا نجري على قاعدة المتعمد لا يقضي، ومنهم من يقول: إنه لم يفطر أصلاً وإنما فعل فعلاً محرماً.

وقوله هنا: (ويلزمان المكره والناسي)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المواقع عن حاله.

الجماع في نهار رمضان مع النسيان أو الجهل أو الإكراه

واختلف العلماء في المجامع نسياناً هل يلحق بالآكل والشارب نسياناً أم لا؟

اختلفوا في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء إلى أنه يلحق بالآكل والشراب نسياناً، قال بذلك الإمام مالك و الشافعي و أبو حنيفة ، وهي رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله.

والرواية الأخرى -وهو ظاهر مذهب المالكية- أن المجامع نسياناً يجب عليه في ذلك القضاء، واختلفوا في أمر الكفارة، وذلك أنهم يطردون، فهم يقولون في الآكل والشارب نسياناً أنه يجب عليه القضاء، ولكنه معذور ومرتفع عنه الإثم، ويلحقون في ذلك المجامع.

والصواب: أن المجامع يلحق الآكل والشارب نسياناً في نهار رمضان على ما تقدم معنا، والآكل والشارب على قول جمهور العلماء نسياناً لا يلزمه القضاء فضلاً عن الكفارة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فإنما أطعمه الله عز وجل وسقاه ) .

وظاهر ذلك أن هذا الحديث جاء في المتعمد, ففي الحديث: ( أن الرجل لما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: هلكت يا رسول الله؟ ) ؛ لأن الهلاك في فعله إنما يقع من المتعمد بخلاف الناسي، فهو يسأل وظاهر سؤاله أنه كان متعمداً، فأنزل النبي صلى الله عليه وسلم حكمه عليه.

وإذا أدخلنا الناسي والمكره, فهل يدخل في ذلك الجاهل؟ نعم يدخل الجاهل من باب أولى؛ وذلك لأن عذره قائم دائم بخلاف العارض وهو الناسي، فالناسي يسبقه علم ويلحقه علم، فعرض عليه النسيان ثم فعل ذلك.

وأما بالنسبة للجاهل فلا يسبقه قبل ذلك علم، فلم يكن عالماً ثم علم بعد ذلك، فهو أقرب إلى عذره وعدم تكليفه، ويستدل لذلك بقول الله عز وجل: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وكذلك ما جاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).

القضاء والكفارة على المرأة

قال المصنف رحمه الله: [ (وكذا من جومع إن طاوع) في وجوب القضاء والكفارة لهتك صوم رمضان بالجماع طوعاً، فأشبهت الرجل؛ ولأن تمكينها منه كفعل الرجل في حد الزنا وهو يدرأ بالشبهة، ففي الكفارة أولى ].

وهذا يلحق المرأة كما يلحق الرجل في باب المطاوعة، وذلك لأن الحكم في ذلك واحد والتكليف واحد، والله عز وجل حرم الجماع على الرجل والمرأة, وإنما يتوجه الحكم في ذلك على الرجل في الحديث؛ لأنه هو الذي سأل فأجيب على سؤاله، ولو سألت المرأة لكان الجواب أيضاً على سؤالها، ولهذا نقول: إن حكم المرأة كحكم الرجل، وهذا على قول جمهور العلماء.

وأما في باب الإكراه فكما عذر الرجل في باب الإكراه كذلك أيضاً تعذر المرأة، ولا يلحقها في ذلك فطر ولا كفارة.

قال رحمه الله: [ وعنه لا تلزمها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر امرأة المواقع بكفارة، قال المصنف: غير جاهل ].

يقول: (وعنه لا تلزمها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر امرأة المواقع بكفارة)، تقدم التعليل أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما وجه الخطاب للسائل, والسائل في ذلك رجل، ثم أيضاً إن عدم ذكر الراوي لأمر النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة لا يدل على العدم.

كفارة المجامع في نهار رمضان

قال المصنف رحمه الله: [ (غير جاهل وناسي) فلا كفارة عليهما رواية واحدة، قاله في الكافي لحديث: ( عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان )، رواه النسائي .

قال المصنف: والكفارة عتق رقبة مؤمنة, فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين, فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً, فإن لم يجد سقطت عنه ].

يقول هنا: (والكفارة عتق رقبة مؤمنة)، وكفارة المجامع في نهار رمضان إنما هي على الترتيب لا على التخيير؛ لظاهر حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يذهب إليه عامة السلف إلى أنه ليس للإنسان أن يختار، وإنما هي على الترتيب، وأول هذه الكفارات هي عتق رقبة.

والرقبة هنا اختلف فيها، هل يشترط في ذلك أن تكون مؤمنة، أم يجوز أن يعتق غير المؤمنة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: ذهب جمهور العلماء إلى وجوب الإيمان في الرقبة عند إعتاقها في الكفارة، وهو قول مالك و الشافعي والإمام أحمد خلافاً لــــأبي حنيفة الذي يرى جواز إعتاق الرقبة، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالعتق, وما حدد نوع الرقبة.

ومعلوم أن الرقاب يكون منها أهل الإيمان، ومنها ما يكون من غير أهل الإيمان، فدل على التخيير في ذلك إلا أنهم يرون إعتاق الرقبة المؤمنة في ذلك أفضل.

وقوله: (فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين)، قوله هنا: (فإن لم يجد) لظاهر قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( هل تجد )؛ وذلك لأنه ليس على التخيير وإلا النبي عليه الصلاة والسلام ما سأله عن الجدة، يعني: الطاقة والسعة والقدرة التي يستطيع معها الإنسان أن يكفر، وإذا لم يكفر الإنسان أو لم يجد قدرة بإعتاق الرقبة فإنه يتوجه إلى ما بعد ذلك, وذلك بصيام شهرين متتابعين.

والتتابع شرط في صيام الشهرين، وإذا قطع التتابع في ذلك هل يجب عليه أن يستأنف أم لا؟ اختلف العلماء عليهم رحمة الله في ذلك على قولين: جمهور العلماء قالوا: إذا قطع الإنسان صيام الشهرين المتتابعين من غير عذر فإنه يجب عليه أن يستأنف الستين ولو كان قطعه للصيام في آخر أيامه؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالشهرين المتتابعين، فإذا صام من غير تتابع يكون صياماً مفرقاً وليس هو المقصود.

وذهب بعض العلماء إلى أنه إن أفطر متعمداً في أثنائها قالوا: لا يقطع ذلك التتابع وإنما هو آثم ويجب عليه أن يبادر به من الغد ويكمل ما نقص في آخر أيامه.

وهذا يبنى على قول أن التتابع في هذه الأيام الستين هل هو شرط للصحة أم أنه واجب منفصل؟ وعلى هذا يختلف العلماء، وإنما يختلف أمر الصلاة عن أمر الصيام؛ لأن الصلاة كل لا يمكن أن يفصل؛ وذلك أن الله عز وجل يأمر عباده بالصلاة أربعاً للظهر والعصر والعشاء، فيجب عليهم أن يصلوا، فإذا صلوا الركعات كل واحدة منفكة عن الأخرى بسلام، فهذا لا يقبل ولو صلى أكثر من ذلك؛ لأن الاتصال مقصود في ذلك.

قالوا: أما بالنسبة للصيام فالصيام يختلف؛ لأنه منفك في ذاته، ولو كان الصيام واحداً ليلاً ونهاراً فأمسك الإنسان لليومين والثلاثة فلم يطعم في ليل ونهار ثم أطعم في أثناء واحد منها فإنه فصل الأول عن الثاني، قالوا: إن الشارع إذاً قد أوجب على الإنسان أمرين: أوجب عليه صيام الستين، وأوجب عليه التتابع، فإذا أخل بواحد منها أثم ووجب عليه أن يتم ذلك.

وأما بالنسبة للمعذور في فطره في أثناء الأيام, وذلك كحال الإنسان الذي يكون في سفر وهو قد وجب عليه صيام الشهرين المتتابعين, وبدأ به في حال الإقامة ثم سافر، أو المرأة تحيض في أثناء الستين فيجب عليها أن تفطر، والمسافر لا حرج عليه أن يفطر؛ لأن الله عز وجل رخص له بالفطر في نهار رمضان وهو آكد، وصيام رمضان آكد من الكفارة؛ لأن الكفارة إنما جاءت لازمة لعظم شهر رمضان.

ومعلوم أن شهر رمضان في صيامه أعظم من صيام يوم الكفارة؛ لأنه ما غلظ ولو كان يوماً واحداً فجعل ما يقابله الستين إلا لمقام اليوم، ولا عبرة بالعدد وإنما العبرة بالفضل، فإذا جاء في الأصل فإنه يجوز في الفرع وما دونه، ويدخل في هذا سائر أهل الأعذار وذلك فيمن كان به مرض أو نحو ذلك من أهل الأعذار فإنه لا حرج عليه، ويجب عليه أن يتم ما نقص من صيامه بعد ذلك، فإذا أفطر يومين في أثنائه سفراً يأتي باليومين بعد تلك الأيام.

وهنا فرق بين صيام شهرين متتابعين، وبين صيام الستين يوماً، فصيام الشهرين متتابعين يصوم فيه الإنسان من بداية الهلال وإذا انصرم الشهر الثاني وظهر الهلال الذي يليه انقضى ولو كان دون الستين فلا حرج عليه.

وإذا صام بدون الهلال, بأن الذي يصوم من نصف الشهر كالذي يصوم مثلاً من اليوم السابع، أو من اليوم الثامن أو نحو ذلك، فالأحوط له أن يصوم الستين؛ لأنه غاية كمال الشهر.

قال المصنف رحمه الله: [ (فإن لم يجد سقطت عنه بخلاف غيرها من الكفارات) للحديث السابق ].

وهنا في قوله: (فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً)، ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه ذلك الرجل بالتمر لم يكن ذلك مقدراً، وإنما هو في غلبة الظن أنه يطعم الستين مسكيناً.

فعلى ما تقدم في مسألة الكفارة أن العلماء عليهم رحمة الله إذا ذكروا الكفارة وفسروها في النصوص فإنهم يفسرونها بالإشباع، وهذا ظاهر كلام المفسرين، ولا يستطيع الإنسان أن يجعلها بطعام معين، سواء كان من الأرز أو كان من الدقيق، أو كان من قوت بلد يأكلون ويقتاتون التمر ونحو ذلك، فيقال حينئذ: أن هذا من طعامهم.

وينظر إلى طعام أهل البلد ويخرج منه، وقد يكون في أهل بلد طعام لكنه ليس في البلد الآخر، بل ذاك يستعمل طعاماً وهذا يستعمل طعاماً آخر، ويفرق بينما يستعمل طعاماً وبينما يؤخذ تفكهاً، وربما يختلف ذلك بالزمان، وربما يختلف ذلك بالمكان.

أما بالنسبة للزمان، فكالتمر مثلاً في هذه البلاد في زمن كانوا يجعلونه طعاماً أساسياً يأكلونه في غداء ويأكلونه في عشاء، وأصبح الناس اليوم يتفكهون به، كذلك أيضاً بالنسبة للمكان يوجد اليوم بلدان لا تأكل الأرز وإنما تأكل الخبز وما في حكمه، ولا تتناول الأرز وإنما هو طعام بيئة أخرى، فينظر إلى ذلك البلد وما هو الطعام الذي لديه.

ولهذا نقول: إنه قد يصح إخراج الكفارة من نوع طعام في بلد ولا يصح في البلد الآخر أو في زمن دون زمن آخر، لهذا ذكر ابن تيمية رحمه الله كما نقل في الفتاوى ونقله عنه أيضاً ابن عبد الهادي رحمه الله إلى أن التمر قد لا يكون طعاماً عند أقوام؛ لأنهم يأخذونه تفكهاً.

فيقال حينئذ: إنه ينظر إلى الطعام، فربما كان خبزاً، وربما كان دقيقاً، وربما كان حيساً، وربما كان مرقاً وغير ذلك، فإذا شبع الإنسان من ذلك الطعام كفاه، والفقهاء الذين ينصون على تقدير الطعام بنصف صاع لكل مسكين هذا من باب التقريب والتغليب، وأما القطع في ذلك فإذا وجد مسكين يشبعه المد أو المدين فإنه يجب في ذلك، وإذا كان أكثر من ذلك أيضاً فيجب بحسب الحال وبحسب الفقير المدفوع إليه.

ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أتي بعرق تمر وما قال النبي عليه الصلاة والسلام بكيله؛ لأن ظاهره أنه لو جلس عليه هذا العدد لكفاهم، ولهذا يقدر بنوع طعام ونحو ذلك في تقدير الأغلب في هذا، ولو جمع الستين على وليمة واحدة أو مائدة واحدة من الفقراء فطعموا وشبعوا كفاهم ذلك.

وهذا في سائر ما يذكره الله سبحانه وتعالى من أمور الكفارات، بخلاف الإطعام الذي يكون فيه حق التملك لا حق الأكل وذلك كزكاة الفطر، فزكاة الفطر هي حق مالي للفقير يملك إياه, لا يلزم من ذلك أن يكون متعلقاً بالشبع، ولهذا يجب عليه صاع يخرجه للفقير والمسكين؛ ولهذا يفرق العلماء بين الطعام الذي يدفع في ذلك لأجل الإطعام، وبين ما يدفع تملكاً وذلك كحال زكاة الفطر وكذلك أيضاً زكاة المال؛ لأن الله عز وجل قدرها فهي للإنسان.

يقول: (فإن لم يجد سقطت عنه)، وذلك أيضاً على ما ظهر لحديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، ولا تبقى في ذمته، فينظر إلى حاله، إذا لم يجد هذا فإن هذا يسقط عنه، ولو كان الصيام بعد الإطعام ما سقط عنه الصيام، ولكن الذي أسقط الصيام عدم القدرة, وأسقطه كذلك عدم القدرة على الإطعام, وانتهى لأنه آخر ما يجب على الإنسان من أمر الكفارة، وهذا يختلف عن كفارة اليمين، وذلك أن كفارة اليمين يجب عليه أن يعتق رقبة, فإذا لم يجد وجب عليه أن يطعم، وإذا لم يجد وجب عليه أن يصوم، وإذا لم يستطع الصيام حال وجوب الكفارة عليه, هل يسقط عنه الصيام؟

لا يسقط عنه الصيام، بل يقال بأنه باق في ذمته، فإذا استطاع كأن يكون مثلاً فيه مرض عارض أو نحو ذلك صام بخلاف الفقر، فإن الإنسان قد يكون فقيراً اليوم، لكن لا يقال: إنه يبقى في ذمته؛ لأنه سقط عنه في الحال، والذي أسقط الصيام أسقطه الخيار الذي بعده وهو الإطعام, والذي أسقط الإطعام الفقر.

وأما بالنسبة للصيام فإنه آخر الكفارات في أمر كفارة اليمين، فيقال: يبقى في ذمة الإنسان إذا لم يستطع، فإذا صح بعد مرض، أو أقام بعد سفر فيجب عليه أن يصوم.

لا كفارة بغير جماع

قال المصنف رحمه الله: [ (ولا كفارة في رمضان بغير الجماع والإنزال بالمساحقة) بمجبوب أو امرأة قياساً لفساد الصوم وهتك حرمة رمضان ].

يقول: (ولا كفارة في رمضان بغير الجماع والإنزال بالمساحقة من مجبوب أو امرأة قياساً على الجماع لفساد الصوم وهتك حرمة رمضان).

اختلف العلماء عليهم رحمة الله في هذا, وقد تقدمت معنا الإشارة إلى مسألة من أنزل بغير جماع, وذكرنا أن ذلك على قسمين: أن يكون ذلك بمباشرة، أو بمماسة من غير جماع.

والحالة الثانية: أن يكون ذلك بالنظر والتفكر، وقد تقدم معنا الخلاف في هذه المسألة، وذكرنا شيئاً من أدلة القولين.

والجماع في نهار رمضان محرم باتفاق العلماء لا يختلفون في ذلك، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك لجملة من القرائن:

أولها: أن الكفارة فيه كفارة مغلظة، والكفارة المغلظة دليل على أن الفعل كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك لأن التحريم جاء في كلام الله، والأصل في المحرمات المنصوص عليها في القرآن أنها محرمات مغلظة، وأما بالنسبة للآثار المترتبة على الجماع في نهار رمضان فثمة مسائل، ومن هذه المسائل ما يتعلق بجماع المتعمد، وجماع المتعمد فيه مسائل:

أولها: فطر المجامع إذا قلنا بتحريم الجماع في نهار رمضان, فما الحكم في فطره؟ يعني: أنه إذا جامع هل يفطر أم أن الشارع إنما حرم عليه الجماع تحريماً لا يلزمه من ذلك الفطر، كبعض المحرمات التي يأمر الله عز وجل بتركها لكنها لا تفسد العمل، وذلك مثل الحج، يحرم الله عز وجل على عباده شيئاً من المحرمات وتسمى بمحظورات الإحرام، ولكن بمجموعها لا تفسد الحج، كذلك بالنسبة للصيام من المحرمات التي أصلها محرم وغلظها الشارع في رمضان: الجهل، وشهادة الزور، والغيبة, والنميمة وغير ذلك، لكنها لا تفسد الصوم.

وما يأتي أيضاً من هذه الأحكام على قول من قال بعدم التفطير في بعض المنهيات، كالنهي عن المباشرة، وكذلك أيضاً القبلة، ومسألة الحجامة وغير ذلك، أيضاً في قول بعضهم في النهي عن السواك في العشي، هل هذا يلزم من ذلك النهي التفطير أم لا؟

أما مسألة المجامع في رمضان فمنهم من يقول بالتفطير, وهذا قول عامة الفقهاء بل حكي فيه الإجماع، يعني: أن المجامع في نهار رمضان يفطر بجماعه, ويجب عليه مع ذلك القضاء، وهذه المسألة اتفق عليها الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله، أعني: بوجوب القضاء، ولازم ذلك أنهم يقولون بالفطر.

وثمة قول لبعض الفقهاء يقولون بعدم القضاء، والذين يقولون بعدم القضاء اختلفوا في الفطر على قولين: قوم قالوا بأنه أفطر ولكنه أفطر متعمداً, والأصل عندنا أن المتعمد لا يقضي سواء كان أكل أو شرب أو جامع، ويلحقون المجامع بالآكل والشارب متعمداً، قالوا: لا يجب عليه في ذلك القضاء. وذهب إلى هذا جماعة من العلماء, وهذا قول ابن تيمية رحمه الله أنه لا يرى وجوب القضاء من جهة الأصل على تارك الركن المتعمد, وذلك باطراد في مسألة الصلاة، وكذلك أيضاً في مسألة الحج، ويوجب عليه التوبة، وما دل الدليل عليه من الكفارة كمسألة الفطر في نهار رمضان متعمداً.

الطائفة الثانية: قالوا بأنه لم يفطر أصلاً, وإنما الكفارة هي كفارة لذنبه الذي فعله، ولا يعني ذلك أنه أفطر, وذلك أنهم يقولون أن الفطر يكون مما دخل إلى جوف الإنسان مما في حكم الأكل والشرب وما دل عليه الدليل.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [7] 2186 استماع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [5] 2042 استماع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [2] 1782 استماع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [3] 1341 استماع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [4] 1192 استماع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [1] 1033 استماع